تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٦

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي

تفسير كنز الدّقائق وبحر الغرائب - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّد بن محمّد رضا القمّي المشهدي


المحقق: حسين درگاهى
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٥

فلمّا طلعت الشّمس ، نوديت من تلقاء العرش : يا جبرئيل ، اقلب القرية على القوم. فقلبتها عليهم ، حتّى صار أسفلها أعلاها. وأمطر الله عليها (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) «مسوّمة عند ربّك وما هي [يا محمّد] (١) من الظّالمين» من أمّتك «ببعيد».

قال : فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : يا جبرئيل ، وأين كانت قريتهم من البلاد؟

فقال جبرئيل : كان موضع قريتهم في موضع بحيرة طبرية اليوم ، وهي في نواحي الشّام.

قال : فقال رسول الله : أرأيتك حين قلبتها عليهم خرّ (٢) في أي موضع من الأرضين وقعت القرية وأهلها؟

فقال : يا محمّد ، وقعت فيما بين بحر الشّام إلى مصر ، فصارت تلولا في البحر.

وبإسناده (٣) إلى الحسن بن محبوب : عن سالم ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : قيل له : كيف كان يعلم قوم لوط أنّه قد جاء لوطا رجل؟

قال : كانت امرأته تخرج ، فتصفر. فإذا سمعوا التّصفير ، جاءوا. فلذلك كره التّصفير.

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) ، أراد : أولاد مدين بن إبراهيم ، أو أهل مدين.

وهو بلد بناه ، فسمّي باسمه.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٤) : ثمّ ذكر ـ عزّ وجلّ ـ هلاك أهل مدين ، فقال : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ ـ إلى قوله ـ مُفْسِدِينَ).

قال : بعث الله شعيبا إلى مدين ، وهي قرية على طريق الشّام ، فلم يؤمنوا به.

(قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) : أمرهم بالتّوحيد أوّلا ، فإنّه ملاك الأمر ، ثمّ نهاهم عمّا اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخلّ بحكمة التّعاوض.

(إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) : بسعة تغنيكم عن البخس ، أو بنعمة حقها أن تتفضّلوا

__________________

(١١) ب : رفعتها. أ : أوقعتها.

(١) من المصدر.

(٢) ليس في المصدر.

(٣) العلل / ٥٦٤.

(٤) تفسير القمّي ١ / ٣٣٧.

٢٢١

على النّاس شكرا عليها لا أن تنقصوا حقوقهم. أو بسعة ، فلا تزيلوها بما أنتم عليه. وهو في الجملة علّة النّهي.

وقال ـ عليه (١) السّلام ـ وقوله (٢) : (إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ).

قال : كان سعرهم رخيصا.

(وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) (٨٤) : لا يشذّ منه أحد منكم.

وقيل (٣) : عذاب مهلك ، من قوله : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ). والمراد : عذاب يوم القيامة ، أو عذاب الاستئصال.

وتوصيف اليوم بالإحاطة ، وهي صفة العذاب ، لاشتماله عليه.

(وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) : صرح بالأمر بالإيفاء بعد النّهي عن ضدّه ، مبالغة ، وتنبيها على أنّه لا يكفيهم الكفّ عن تعمّدهم التّطفيف ، بل يلزمهم السّعي في الإيفاء ولو بزيادة لا يتأتّى دونها.

(بِالْقِسْطِ) : بالعدل والسّويّة.

وفي أصول الكافي (٤) : عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه وعدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد جميعا ، عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، عن أبان ، عن رجل ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : خمس إن أدركتموهنّ فتعوّذوا بالله منهنّ.

إلى أن قال : ولم ينقصوا المكيال والميزان ، إلّا أخذوا بالسّنين وشدّة المؤنة وجور السّلطان.

عليّ بن إبراهيم (٥) ، [عن أبيه] (٦) وعدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد جميعا ، عن ابن محبوب ، عن مالك بن عطيّة ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال : وجدنا في كتاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : فإذا طفّف المكيال والميزان ، أخذ [هم] (٧) الله بالسّنين والنّقص.

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ / ١٥٩ ، ح ٦١ عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ.

(٢) المصدر : «في قول الله» بدل «وقوله».

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٧.

(٤) الكافي ٢ / ٣٧٣ ، ضمن ح ١.

(٥) الكافي ٢ / ٣٧٤ ، ضمن ح ٢.

(٦) من المصدر.

(٧) من المصدر.

٢٢٢

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) : تعميم بعد تخصيص. فإنّه أعمّ من أن يكون في المقدار أو في غيره. وكذا قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٨٥) : فإنّ العثوّ يعمّ تنقيص الحقوق ، وغيره من أنواع الفساد.

وقيل (١) : المراد بالبخس : المكس ، كأخذ العشور في المعاملات. و «العثوّ» السّرقة وقطع الطريق والغارة. وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح ، كما فعله الخضر ـ عليه السّلام ـ.

وقيل (٢) : معناه (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : أمر دينكم ومصالح آخرتكم.

وفي الكافي (٣) : محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد [عن محمّد] (٤) بن خالد البرقيّ ، عن سعد بن سعد ، عن أبي الحسن ـ عليه السّلام ـ قال : سألته عن قوم يصغّرون القفيزان يبيعون بها.

قال : أولئك الّذين يبخسون النّاس أشياءهم.

(بَقِيَّتُ اللهِ) : ما أبقاه لكم من الحلال بعد التّنزّه عمّا حرّم عليكم.

(خَيْرٌ لَكُمْ) : ممّا تجمعون بالتّطفيف.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : بشرط أن تؤمنوا. فإنّ خيريّتها باستتباع الثّواب مع النّجاة ، وذلك مشروط بالإيمان. أو إن كنتم مصدّقين لي في قولي لكم.

وقيل (٥) : «البقيّة» الطّاعة ، كقوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ).

وقرئ (٦) : «تقيّة الله» بالتّاء. وهي تقواه الّتي تكفّ عن المعاصي.

(وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦) : أحفظكم عن القبائح. أو أحفظ عليكم أعمالكم ، فأجازيكم عليها ، وإنّما أنا ناصح مبلّغ وقد أعذرت حين أنذرت. أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.

وفي أصول الكافي (٧) : محمّد بن يحيى ، عن حفص (٨) بن محمّد قال : حدّثني إسحاق بن إبراهيم الدّينوريّ ، عن عمر بن زاهر ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قال : سأله رجل عن القائم ، يسلّم عليه بإمرة المؤمنين؟

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٧.

(٣) الكافي ٥ / ١٨٤ ، ح ٣.

(٤) من المصدر.

(٥ و ٦) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٨.

(٧) الكافي ١ / ٤١١ ـ ٤١٢ ، ح ٢.

(٨) المصدر : جعفر بن محمد.

٢٢٣

قال : لا ، ذاك اسم سمّى الله به أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ. لم يسمّ به أحدا قبله ، ولا يتسمّى (١) به بعده إلّا كافر.

قلت : جعلت فداك ، كيف يسلّم عليه (٢)؟ قال :

يقولون : السّلام عليك ، يا بقيّة الله. ثمّ قرأ : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

الحسين بن محمّد (٣) ، عن معلّى بن محمّد ، عن عليّ بن أسباط ، عن صالح بن حمزة ، عن أبيه ، عن أبي بكر الحضرميّ قال : لمّا حمل أبو جعفر ـ عليه السّلام ـ إلى الشّام إلى هشام بن عبد الملك وصار ببابه ، قال لأصحابه ومن كان بحضرته من بني أميّة : إذا رأيتموني [قد وبّخت محمّد بن عليّ ثم رأيتموني] (٤) قد سكتّ ، فليقبل عليه كلّ رجل منكم فليوبّخه. ثمّ أمر أن يؤذن له.

فلمّا دخل عليه أبو جعفر قال ـ عليه السّلام ـ بيده : السّلام عليكم. فعمّهم جميعا بالسّلام ، ثمّ جلس.

فازداد هشام عليه حنقا بتركه السّلام عليه بالخلافة ، وجلوسه بغير إذن. فأقبل يوبّخه ، ويقول فيما يقول له : يا محمّد بن عليّ ، لا يزال الرّجل منكم قد شقّ عصى المسلمين ودعا إلى نفسه ، وزعم أنّه الإمام سفها وقلّة علم. ووبّخه بما أراد أن يوبّخه. فلمّا سكت ، أقبل عليه القوم رجل بعد رجل يوبّخه حتّى انقضى آخرهم.

فلمّا سكت القوم ، نهض ـ عليه السّلام ـ قائما. ثمّ قال : أيّها النّاس ، أين تذهبون ، وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أوّلكم ، وبنا يختم آخركم. فإن يكن لكم ملك معجّل ، فإنّ لنا ملكا مؤجّلا. وليس بعد ملكنا ملك ، لأنّا أهل العاقبة. يقول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٥).

فأمر به الى الحبس. فلمّا صار إلى الحبس ، تكلّم فلم يبق في الحبس رجل إلّا ترشّفه وحنّ إليه (٦). فجاء صاحب الحبس إلى هشام فقال له : يا أمير المؤمنين ، إنّي خائف

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : لم يتسمّ.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : «نسلّم» بدل «يسلّم عليه».

(٣) الكافي ١ / ٤٧١ ـ ٤٧٢ ، ح ٥.

(٤) من المصدر.

(٥) الاعراف / ١٢٥.

(٦) في هامش الكافي : ترشّفه ، أي : مصّه. وهو كناية عن المبالغة في أخذ العلم عنه. وحنّ إليه :

٢٢٤

عليك من أهل الشّام أن يحولوا بينك وبين مجلسك هذا. ثمّ أخبره بخبره.

فأمر به فحمل على البريد هو وأصحابه ، ليردّوا إلى المدينة. وأمر أن لا يخرج لهم الأسواق ، وحال بينهم وبين الطّعام والشّراب. فساروا (١) ثلاثا لا يجدون طعاما ولا شرابا ، حتّى انتهوا إلى مدين فأغلق باب المدينة دونهم ، فشكا أصحابه الجوع والعطش.

قال : فصعد جبلا يشرف عليهم ، فقال بأعلى صوته : يا أهل المدينة الظّالم أهلها ، أنا بقيّة الله. يقول الله : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ).

قال : وكان فيهم شيخ كبير فأتاهم ، فقال لهم : يا قوم ، هذه والله دعوة شعيب النّبيّ ـ عليه السّلام ـ. والله ، لئن لم تخرجوا إلى هذا الرّجل بالأسواق ، لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت أرجلكم. فصدّقوني في هذه المرّة وأطيعوني ، وكذّبوني فيما تستأنفون (٢) فإنّي ناصح لكم.

[قال :] (٣) فبادروا فأخرجوا إلى محمّد بن عليّ وأصحابه بالأسواق. فبلغ هشام بن عبد الملك خبر الشّيخ ، فبعث إليه فحمله فلم يدر ما صنع به.

وفي عيون الأخبار (٤) ، في باب ذكر مولد الرّضا ـ عليه السّلام ـ : حدّثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : حدّثني أبي ، عن أحمد بن عليّ الأنصاريّ ، عن عليّ بن ميثم ، عن أبيه قال : سمعت أمّي تقول : سمعت نجمة ، أمّ الرّضا ـ عليه السّلام ـ تقول : لمّا حملت بابني ، عليّ ، لم أشعر بثقل الحمل. وكنت أسمع في منامي تسبيحا وتهليلا وتمجيدا من بطني ، فيفزعني ذلك ويهولني. فإذا انتبهت ، لم أسمع شيئا. فلمّا وضعته ، وقع إلى الأرض واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه إلى السّماء يحرّك شفتيه ، كأنّه يتكلّم. فدخل إليّ (٥) أبوه ، موسى بن جعفر ـ عليهما السّلام ـ.

فقال لي : هنيئا لك ، يا نجمة ، كرامة ربّك.

فناولته إيّاه في خرقة بيضاء. فأذّن في أذنه الأيمن ، وأقام في الأيسر. ودعا بماء الفرات ، فحنّكه به ثمّ ردّه إليّ.

وقال : خذيه ، فإنّه بقيّة الله ـ عزّ وجلّ ـ في أرضه.

__________________

اشتاق.

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : فصاروا.

(٢) كذا في المصدر. وفي النسخ : تشاءون.

(٣) من المصدر.

(٤) العيون ١ / ٢٠ ، ح ٢.

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : عليه.

٢٢٥

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (١) : حدّثنا عليّ بن عبد الله الورّاق قال : حدّثنا سعد بن عبد الله ، عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعريّ قال : خرج أبو محمّد ، الحسن بن عليّ ـ عليه السّلام ـ علينا ، وعلى عاتقه غلام ، كأنّ وجهه القمر ليلة البدر ، من أبناء ثلاث سنين.

فقال : يا أحمد بن إسحاق ، لو لا كرامتك على الله ـ عزّ وجلّ ـ وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا. إنّه سميّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ.

إلى أن قال : فنطق الغلام ـ عليه السّلام ـ بلسان عربيّ فصيح.

فقال : أنا بقيّة الله في أرضه ، والمنتقم من أعدائه. فلا تطلب أثرا بعد عين.

والحديث طويل أخذت منه موضع الحاجة.

وبإسناده (٢) إلى محمّد بن مسلم الثّقفيّ : عن أبي جعفر ، محمّد بن عليّ الباقر ـ عليه السّلام ـ حديث طويل ، يذكر فيه القائم ـ عليه السّلام ـ : فإذا خرج ، أسند ظهره إلى الكعبة ، واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا. فأوّل ما ينطق به هذه الآية : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ثمّ يقول : أنا بقيّة الله [في أرضه] (٣) وحجّته وخليفته عليكم. فلا يسلّم عليه مسلم ، إلّا قال : السّلام عليك ، يا بقيّة الله في أرضه.

وفي كتاب الاحتجاج (٤) للطّبرسيّ ـ رحمه الله ـ : عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. يقول فيه ـ عليه السّلام ـ وقد ذكر الحجّج : هم بقيّة الله ، يعني : المهديّ ـ عليه السّلام ـ. الّذي يأتي بعد انقضاء هذه النّظرة ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا وظلما.

(قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) : من الأصنام. أجابوا به بعد أمرهم بالتّوحيد ، على الاستهزاء به والتّهكّم بصلاته ، والإشعار بأنّ مثله لا يدعو إليه داع عقلي ، وإنّما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان كثير الصّلاة ، ولذلك جمعوا وخصّوا الصّلاة بالذّكر.

__________________

(١) كمال الدين / ٣٨٤ ، ضمن ح ١ بتصرّف في صدر المنقول هنا.

(٢) كمال الدين / ٣٣١ ، ضمن ح ١٦.

(٣) من المصدر.

(٤) الاحتجاج ١ / ٣٧٥.

٢٢٦

وقرأ (١) حمزة والكسائيّ وحفص ، على الإفراد. والمعنى : أصلواتك تأمرك بتكليف أن نترك. فحذف المضاف ، لأنّ الرّجل لا يؤمر بفعل غيره.

(أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) : عطف على «ما» ، أي : وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا.

وقرئ (٢) ، بالتّاء ، فيهما. على أنّ العطف على «أن نترك». وهو جواب النّهي عن التّطفيف ، والأمر بالإيفاء.

وقيل (٣) : كان ينهاهم عن تقطيع الدّراهم والدّنانير ، فأرادوا به ذلك.

(إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧) :

قيل (٤) : تهكّموا به ، وقصدوا وصفه بضدّ ذلك. أو علّلوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنّه موسوم بالحلم والرّشد المانعين من المبادرة إلى أمثال ذلك.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٥) : قالوا : إنّك لأنت السّفيه الجاهل. فحكى (٦) الله ـ عزّ وجلّ ـ قولهم [فقال] (٧) : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ).

(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) : إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنّبوّة.

(وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً) :

إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال. وجواب الشّرط محذوف ، تقديره : فهل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع للسّعادات الرّوحانيّة والجسمانيّة أن أخون في وحيه ، وأخالفه في أمره ونهيه. وهو اعتذار عمّا أنكروا عليه من تغيير المألوف والنّهي عن دين الآباء.

والضّمير في «منه» لله ، أي : من عنده وبإعانته ، بلا كدّ منّي في تحصيله.

(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) : أي : وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه من شهواتكم ، لأستبدّ به دونكم.

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٨.

(٢) نفس المصدر والموضع.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٨.

(٤) نفس المصدر والموضع.

(٥) تفسير القميّ ١ / ٣٣٧.

(٦) المصدر : فكنّى.

(٧) من المصدر.

٢٢٧

يقال : خالفت زيدا إلى كذا : إذا قصدته ، وهو مولّ عنه. وخالفته عنه : إذا كان الأمر بالعكس ، أي : قصده وأنت مولّ عنه.

(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) : ما أريد إلّا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ، ما دمت أستطيع الإصلاح. فلو وجدت الصّلاح فيما أنتم عليه ، لما نهيتكم عنه.

ولهذه الأجوبة الثّلاثة عن هذا النّسق شأن ، وهو التّنبيه على أنّ العاقل يجب أن يراعي في كلّ ما يليه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمّها وأعلاها حقّ الله ، وثانيها حقّ النّفس ، وثالثها حقّ النّاس. وكلّ ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به ، وأنهاكم عمّا نهيتكم عنه. و «ما» مصدريّة واقعة موقع الظّرف.

وقيل (١) : خبريّة بدل من الإصلاح إلى المقدار الّذي استطعته ، أو إصلاح ما استطعته ، فحذف المضاف.

(وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) : وما توفيقي لإصابة الحقّ والصّواب ، إلّا بهدايته ومعونته.

(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) ، فإنّه القادر المتمكّن من كلّ شيء ، وما عداه عاجز في حدّ ذاته.

وفيه إشارة إلى محض التّوحيد الّذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ.

في نهج البلاغة (٢) : من كتاب له ـ عليه السّلام ـ إلى معاوية جوابا ، قال فيه ـ عليه السّلام ـ بعد أن ذكر عثمان وقتله : وما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم (٣) عليه أحداثا.

فإن كان الذّنب إليه (٤) إرشادي وهدايتي له ، فربّ ملوم لا ذنب له.

وقد يستفيد الظنّة المتنصح (٥)

وما أردت إلّا الإصلاح ما استطعت. «وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت [وإليه أنيب] (٦)».

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٨.

(٢) نهج البلاغة / ٣٨٨ ، ضمن كتاب ٢٨.

(٣) أ ، ب : أهم.

(٤) أ ، ب : «الذنوب» بدل «الذنب إليه».

(٥) كذا في المصدر. وفي النسخ : المظنة المستنصح.

(٦) من المصدر.

٢٢٨

(وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨) :

إشارة إلى معرفة المعاد. وهو أيضا يفيد الحصر بتقديم الصّلة على «أنيب».

وفي هذه الكلمات طلب التّوفيق لإصابة الحقّ فيما يأتي ويذره من الله ، والاستعانة في مجامع أمره ، والإقبال عليه بشراشره ، وحسم أطماع الكفّار ، وإظهار الفراغ عنهم ، وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم ، بالرّجوع إلى الله للجزاء.

وفي كتاب التّوحيد (١) بإسناده إلى عبد الله بن الفضل الهاشميّ ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ حديث طويل. وفيه : فقلت : قوله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ) وقوله (٢) ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ). فقال : إذا فعل العبد ما أمره الله ـ عزّ وجلّ ـ به من الطّاعة ، كان فعله وفقا لأمر الله ـ عزّ وجلّ ـ وسمّي العبد به موفّقا. وإذا أراد العبد أن يدخل في شيء من معاصي الله ، فحال الله ـ تبارك وتعالى ـ بينه وبين تلك المعصية ، فتركها ، كان تركه لها بتوفيق الله ـ تعالى ذكره ـ. ومتى خلّى بينه وبين المعصية ، فلم يخلّ بينه وبينها (٣) حتّى يرتكبها ، فقد خذله ولم ينصره ولم يوفّقه.

(وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ) : لا يكسبنّكم (شِقاقِي) : خلافي ومعاداتي.

(أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) : من الغرق ، (أَوْ قَوْمَ هُودٍ) من الرّيح (٤) ، (أَوْ قَوْمَ صالِحٍ) من الرّجفة.

و «أن» بصلتها ثاني مفعولي «جرم» فإنّه يعدّى إلى واحد وإلى اثنين ، ككسب.

وعن ابن كثير (٥) : «يجرمنّكم» بالضّمّ. وهو منقول من المتعدّي إلى مفعول واحد.

والأوّل أفصح. فإنّ «أجرم» أقلّ دورانا على ألسنة الفصحاء.

وقرئ (٦) : «مثل» ـ بالفتح ـ لإضافته إلى المبنيّ ، كقوله :

__________________

(١) التوحيد / ٢٤٢ ، ذيل ح ١.

(٢) آل عمران / ١٦٠.

(٣) كذا في المصدر. وفي النسخ : لم يخلّ بينها بينه وبينها.

(٤) أ ، ب : الهلاك.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٩.

(٦) نفس المصدر والموضع.

٢٢٩

لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال

(وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٨٩) زمانا ومكانا. فإن لم تعتبروا ممّن قبلهم ، فاعتبروا بهم. أو : ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوئ ، فلا يبعد عنكم ما أصابهم.

وإفراد البعيد ، لأنّ المراد : وما إهلاكهم ـ أو وما هم ـ بشيء بعيد. ولا يبعد أن يسوّي في أمثاله بين المذكّر والمؤنّث لأنّها على زنة المصادر كالصّهيل والشّهيق.

(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) عمّا أنتم عليه.

وفي أصول الكافي (١) : عليّ بن إبراهيم ، عن [أبيه ، و] (٢) عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، ومحمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمّد ، جميعا عن ابن محبوب ، عن محمّد بن نعمان الأحول ، عن سلام بن المستنير ، عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : حديث طويل ، يقول فيه لأصحابه :

ولو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون الله ، لخلق الله خلقا حتّى يذنبوا ثمّ يستغفروا الله فيغفر (٣) لهم. إنّ المؤمن مفتّن توّاب. أما تسمع (٤) قول الله (٥) ـ عزّ وجلّ ـ : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) وقال (٦) : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ).

وفي كتاب الخصال (٧) : عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ : أربع خصال من كنّ فيه ، كان في نور الله الأعظم ـ إلى أن قال ـ : ومن إذا أصاب خطيئة ، قال : أستغفر الله ، وأتوب إليه.

(إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ) عظيم الرّحمة للتّائبين (وَدُودٌ) (٩٠) فاعل بهم من اللّطف والإحسان ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه.

وهو وعد على التّوبة ، بعد الوعيد على الإصرار.

(قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ) : ما نفهم (كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ) ، كوجوب التّوحيد وحرمة البخس. وما ذكرت دليلا عليهما.

__________________

(١) الكافي ٢ / ٤٢٤ ، ذيل ح ١.

(٢) من المصدر.

(٣) المصدر : فيغفر [الله] لهم.

(٤) المصدر : سمعت.

(٥) البقرة / ٢٢٢.

(٦) هود / ٣.

(٧) الخصال ١ / ٢٢٢ ، ح ٤٩.

٢٣٠

وذلك لقصور عقلهم ، وعدم تفكّرهم.

وقيل (١) : قالوا ، ذلك استهانة بكلامه. أو لأنّهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدّة نفرتهم عنه.

(وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) لا قوّة لك فتمتنع منّا ، إن أردنا بك سوء أو مهينا لا عزّة لك.

وقيل (٢) : أعمى ، بلغة حمير.

قيل (٣) : وهو مع عدم مناسبته يرده التّقييد بالظّرف.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٤) : وقد كان ضعف بصره.

ومنع بعض النّاس (٥) المعتزلة استنباء الأعمى ، قياسا على القضاء والشّهادة. والفرق بيّن.

(وَلَوْ لا رَهْطُكَ) : قومك وعزّتهم عندنا ، لكونهم على ملّتنا ، لا لخوف من شوكتهم. فإنّ الرّهط من الثّلاثة إلى العشرة.

وقيل (٦) : إلى السّبعة.

(لَرَجَمْناكَ) : لقتلناك برمي الحجارة ، أو بأصعب وجه.

(وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) (٩١) فتمنعنا عزّتك عن الرّجم.

قيل (٧) : وهذا ديدن السّفيه المحجوج يقابل الحجج والآيات بالسّبّ والتّهديد.

وفي إيلاء الضّمير حرف النّفي ، تنبيه على أنّ الكلام فيه ، لا في ثبوت العزّة ، وأنّ المانع لهم من إيذائه عزّة قومه.

ولذلك (قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) : وجعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظّهر بإشراككم به ، والإهانة برسوله ، فلا تبقون عليّ لله وتبقون عليّ لرهطي.

وهو يحتمل الإنكار والتّوبيخ والرّدّ والتّكذيب. و «ظهريّ» منسوب إلى الظّهر ،

__________________

(١) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٩.

(٢ و ٣) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٩.

(٤) تفسير القمّي ١ / ٣٣٧.

(٥) ليس في أنوار التنزيل ١ / ٤٧٩.

(٦) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٩.

(٧) أنوار التنزيل ١ / ٤٧٩.

٢٣١

والكسر من تغييرات النّسب.

(إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٩٢) فلا يخفى عليه شيء منها ، فيجازي عليها.

(وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) : سبق مثله في سورة الأنعام (١). والفاء في «فسوف تعلمون» ، ثمّة (٢) للتّصريح بأنّ الإصرار والتّمكّن فيما هم عليه سبب لذلك. وحذفها ها هنا ، لأنّه جواب سائل قال : فما ذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل.

(وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) :

عطف على «من يأتيه» ، لا لأنّه قسيم (٣) له ـ كقولهم : ستعلم الكاذب والصّادق ـ بل لأنّهم لمّا أوعدوه وكذّبوه ، قال : سوف تعلمون من المعذّب والكاذب منّي ومنكم.

وقيل (٤) : كان قياسه : «ومن هو صادق» لينصرف الأوّل إليهم ، والثّاني إليه ، لكنّهم لمّا كانوا يدعونه كاذبا ، قال : «ومن هو كاذب» على زعمهم.

(وَارْتَقِبُوا) : وانتظروا ما أقول لكم.

(إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) (٩٣) : فعيل بمعنى الرّاقب ، كالصّريم. أو : المراقب ، كالعشير. أو : المرتقب ، كالرّفيع.

وفي تفسير العيّاشيّ (٥) : محمّد بن الفضيل ، عن الرّضا ـ عليه السّلام ـ قال : سألته عن انتظار الفرج ، [فقال : أو ليس تعلم أنّ انتظار الفرج] (٦) من الفرج؟ ثمّ قال : إنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ يقول : (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ).

وفي كتاب كمال الدّين وتمام النّعمة (٧) ، بإسناده إلى أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : قال الرّضا : ما أحسن الصّبر وانتظار الفرج! أما سمعت قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) [وقوله] (٨) : (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٩). فعليكم

__________________

(١) الأنعام / ١٣٥.

(٢) أي : هناك.

(٣) أ ، ب : قسم.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٠.

(٥) تفسير العياشي ٢ / ١٥٩ ، ح ٦٢.

(٦) من المصدر.

(٧) كمال الدين ٢ / ٦٤٥ ، ح ٥.

(٨) ليس في المصدر.

(٩) الأعراف / ٧١.

٢٣٢

بالصّبر! فإنّه إنّما يجيء الفرج على اليأس (١). فقد كان الّذين من قبلكم أصبر منكم.

وفي مجمع البيان (٢) : وروي عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : شعيب ـ عليه السّلام ـ خطيب الأنبياء.

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) :

إنّما ذكره بالواو ـ كما في قصّة عاد ـ إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السّبب له ، بخلاف قصّتي صالح ولوط ، فإنّه ذكر بعد الوعد. وذلك قوله : (وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) (٣). وقوله : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) (٤). فلذلك جاء بفاء السّببيّة.

(وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) :

قيل (٥) : صاح بهم جبرئيل ، فهلكوا.

وفي عيون الأخبار (٦) ، في باب ما جاء عن الرّضا ـ عليه السّلام ـ [من خبر الشّاميّ وما سأل عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ] (٧) في جامع الكوفة حديث طويل. وفيه : ثمّ قام إليه [رجل] (٨) آخر فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن يوم الأربعاء وتطيّرنا منه وثقله. وأيّ أربعاء هو. قال : آخر أربعاء في الشّهر (٩). وهو المحاق. وفيه قتل قابيل أخاه ـ إلى أن قال عليه السّلام ـ : يوم الأربعاء أخذتهم الصّيحة.

وفي الجوامع (١٠) : روي أنّ جبرئيل ـ عليه السّلام ـ صاح بهم صيحة ، فزهق روح كلّ واحد منهم حيث هو.

(فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) (٩٤) : ميّتين.

وأصل الجثوم : اللّزوم في المكان.

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) : كأن لم يقيموا فيها أحياء.

(أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥) :

__________________

(١) كذا في المصدر. وفي النسخ : البأس.

(٢) المجمع ٣ / ١٨٨.

(٣) هود / ٦٥.

(٤) هود / ٨١.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٠.

(٦) العيون ١ / ٢٤٧.

(٧) ليس في أ ، ب ، ر.

(٨) من المصدر.

(٩) المصدر : الشهور.

(١٠) الجوامع / ٢١٠.

٢٣٣

قيل (١) : شبّههم بهم ، لأنّ عذابهم كان أيضا بالصّيحة ، غير أنّ صيحتهم كانت من تحتهم ، وصيحة مدين كانت من فوقهم.

وقرئ (٢) : «بعدت» ـ بالضّمّ ـ على الأصل. فإنّ الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك ، والبعد مصدر لهما ، والبعد مصدر المكسور.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) : بالتّوراة ، أو المعجزات.

(وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٩٦) :

قيل (٣) : هو المعجزات القاهرة أو العصا واليد (٤) وإفرادها لأنّها أبهرها.

ويجوز أن يراد بهما واحد. أي : ولقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وسلطانا له على نبوّته ، واضحا في نفسه ، أو موضّحا إيّاها. فإنّ «أبان» جاء لازما ومتعدّيا. والفرق بينهما أنّ الآية تعمّ الأمارة والدّليل القاطع ، والسّلطان يخصّ بالقاطع ، والمبين يخصّ بما فيه جلاء.

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) : فاتّبعوا أمره بالكفر بموسى. أو : فما اتّبعوا موسى الهادي إلى الحقّ المؤيّد بالمعجزات القاهرة الباهرة ، واتّبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضّلال والطّغيان ، الدّاعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل ، لفرط جهالتهم وعدم استبصارهم.

(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٩٧) : مرشد ، أو ذي رشد ، وإنّما هو غيّ محض وضلال صريح.

(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) إلى النّار ، كما كان يقدمهم في الدّنيا إلى الضّلال. يقال : قدم ، بمعنى : تقدّم.

(فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) :

ذكره بلفظ الماضي ، مبالغة في تحقيقه. ونزّل النّار لهم منزلة الماء ، فسمّى إتيانها موردا. ثمّ قال :

(وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (٩٨) ، أي : بئس المورد الّذي وردوه (٥) ، فإنّه يراد

__________________

(١ و ٢) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٠.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٠.

(٤) ب : زيادة «واليد».

(٥) كذا في أنوار التنزيل ١ / ٤٨٠. وفي النسخ : يوردونه.

٢٣٤

لتبريد الأكباد وتسكين العطش ، والنّار بالضّدّ.

والآية كالدّليل على قوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ). فإنّ من هذا عاقبته ، لم يكن في أمره رشد. أو تفسير له ، على أنّ المراد بالرّشيد ما يكون مأمون العاقبة وحميدها.

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي : يلعنون في الدّنيا والآخرة.

(بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩) : بئس العون المعان ، أو العطاء المعطى.

وأصل الرّفد : ما يضاف إلى غيره ليعمده. والمخصوص بالذّم محذوف. أي : رفدهم ، وهو اللّعنة في الدّارين.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (١) : (فِي هذِهِ لَعْنَةً) ، يعني : الهلاك والغرق. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ [بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) ، أي :] (٢) يرفدهم الله بالعذاب.

(ذلِكَ) ، أي : ذلك النّبأ (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) المهلكة.

(نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) : مقصوص عليك.

(مِنْها قائِمٌ) : من تلك القرى باق ، كالزّرع القائم (وَحَصِيدٌ) (١٠٠) : [ومنها] (٣) عافي الأثر ، كالزّرع المحصود.

والجملة مستأنفة.

وقيل (٤) : حال من الهاء في «نقصّه» وليس بصحيح ، إذ لا واو ولا ضمير.

وفي تفسير العيّاشيّ (٥) عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ قرأ : «فمنها قائما وحصيدا» ـ بالنّصب ـ ثمّ قال : يا أبا محمّد ، لا يكون حصيدا (٦) إلّا بالحديد.

وفي رواية أخرى (٧) : «فمنها قائما وحصيدا» ـ بالنّصب ـ ثمّ قال : يا أبا محمّد ، لا يكون (٨) الحصيد إلّا بالحديد.

(وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إيّاهم.

(وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن عرّضوها بارتكاب ما يوجبه.

__________________

(١) تفسير القمّي ١ / ٣٣٧.

(٢) من المصدر.

(٣) ليس في ب.

(٤) أنوار التنزيل ١ / ٤٨١.

(٥) تفسير العياشي ٢ / ١٥٩ ، ح ٦٣.

(٦) كذا في المصدر. وفي النسخ : الحصيد.

(٧) تفسير العياشي ٣ / ١٥٩ ، ح ٦٤.

(٨) المصدر : «فمنها قائم وحصيد أيكون» بدل «فمنها قائما ... لا يكون».

٢٣٥

(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) : فما نفعتهم ، ولا قدرت أن تدفع عنهم (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) حين جاءهم عذابه ونقمته.

(وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١) : إهلاك ، أو تخسير (١).

(وَكَذلِكَ) : ومثل ذلك الأخذ (أَخْذُ رَبِّكَ) :

وقرئ (٢) : «أخذ ربّك» (٣) بالفعل. وعلى هذا يكون محلّ الكاف النّصب على المصدر.

(إِذا أَخَذَ الْقُرى) ، أي : أهلها.

وقرئ (٤) : «إذ» لأنّ المعنى على المضيّ.

(وَهِيَ ظالِمَةٌ) :

حال من «القرى». وهي في الحقيقة لأهلها ، لكنّها لمّا أقيمت مقامه ، أجريت عليها. وفائدتها الإشعار بأنّهم أخذوا بظلمهم ، وإنذار كلّ ظالم ظلم نفسه أو غيره من وخامة العاقبة.

(إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢) : وجيع غير مرجوّ الخلاص عنه.

وهو مبالغة في التّهديد والتّحذير.

وفي مجمع البيان (٥) : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) ـ إلى قوله ـ : (أَلِيمٌ شَدِيدٌ). وفي الصّحيحين عن النّبيّ ـ صلّى الله عليه وآله ـ أنّه قال : [إنّ الله] (٦) يمهل الظّالم (٧) حتّى إذا أخذه لم يفلته (٨).

(إِنَّ فِي ذلِكَ) ، أي : فيما نزل بالأمم الهالكة. أو : فيما قصّه (٩) الله من قصصهم (لَآيَةً) لعبرة. (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) يعتبر به عظمته ، لعلمه بأنّ ما حاق بهم أنموذج ممّا أعدّ الله للمجرمين في الآخرة. أو : ينزجر به عن موجباته ، لعلمه بأنّها من إله مختار يعذّب من يشاء ، ويرحم من يشاء. فإنّ من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم ، لم

__________________

(١) أ ، ب ، ر : تحير.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٤٨١.

(٣) ليس في ب.

(٤) نفس المصدر والموضع.

(٥) المجمع ٣ / ١٩١.

(٦) ليس في أ ، ب.

(٧) كذا في المصدر. وفي النسخ : الظالمين.

(٨) كذا في المصدر. وفي النسخ : لم يمهله.

(٩) أ ، ب : قصّهم.

٢٣٦

يقل (١) بالفاعل المختار ، وجعل تلك الوقائع لأسباب فلكيّة اتّفقت في تلك الأيّام ، لا لذنوب المهلكين بها.

(ذلِكَ) :

إشارة إلى يوم القيامة. وعذاب الآخرة دلّ عليه.

(يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) ، أي : يجمع له النّاس. والتّغيير للدّلالة على ثبات معنى الجمع لليوم ، وأنّه من شأنه لا محالة ، وأنّ النّاس لا ينفكّون عنه. فهو أبلغ من قوله (٢) :

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ).

ومعنى الجمع له : الجمع لما فيه من المحاسبة والمجازاة.

(وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) (١٠٣) :

قيل (٣) : أي مشهود فيه أهل السّموات والأرضين. فاتّسع فيه بإجراء الظّرف مجرى المفعول به ، كقوله :

في محفل من نواصي النّاس مشهود

أي : كثير شاهدوه.

ولو جعل اليوم مشهودا (٤) في نفسه ، لبطل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه. فإنّ سائر الأيّام كذلك.

وفي تفسير عليّ بن إبراهيم (٥) : يشهد عليه الأنبياء والرّسل.

وفي كتاب معاني الأخبار (٦) : حدّثنا أبي ـ رحمه الله ـ قال : حدّثنا أحمد بن إدريس ، عن محمّد بن أحمد بن يحيى ، ومحمّد بن عليّ بن محبوب ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن صفوان بن يحيى ، عن إسماعيل بن جابر ، عن رجاله ، عن أبي عبد الله ـ عليه السّلام ـ في قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : (ذلِكَ يَوْمٌ) ـ إلى قوله ـ : (يَوْمٌ مَشْهُودٌ) قال : المشهود يوم عرفة. والمجموع له النّاس يوم القيامة.

وبإسناده (٧) إلى محمّد بن هاشم ، عمّن روى عن أبي جعفر ـ عليه السّلام ـ قال :

__________________

(١) ب : لم يقبل.

(٢) التغابن / ٩.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٤٨١.

(٤) ب: من.

(٥) ب : زيادة فيه.

(٦) تفسير القمّي ١ / ٣٣٨.

(٧) المعاني / ٢٩٨ ، ح ١.

(٨) المعاني / ٢٩٩ ، ح ٥.

٢٣٧

سأله الأبرش الكلبيّ عن قول الله (١) ـ عزّ وجلّ ـ : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ). فقال أبو جعفر ـ عليه السّلام ـ : ما قيل لك؟ فقال : قالوا : الشاهد يوم الجمعة. والمشهود يوم عرفة.

فقال أبو جعفر ـ عليه السّلام ـ : ليس كما قيل لك. الشّاهد يوم عرفة. والمشهود يوم القيامة. أما تقرأ القرآن!؟ قال الله ـ عزّ وجلّ ـ : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

وفي روضة الكافي (٢) في كلام لعليّ بن الحسين ـ عليهما السّلام ـ في الوعظ والزّهد في الدّنيا ، وفيه : واعلم ـ يا ابن آدم! ـ أنّ من وراء هذا أعظم وأفضع (٣) وأوجع للقلوب يوم القيامة.

وفي تفسير العيّاشيّ (٤) : عن أحدهما ـ عليهما السّلام ـ في هذه الآية : فذلك يوم القيامة. وهو اليوم الموعود.

ويمكن الجمع بين الأخبار الدّالّ بعضها على أنّ اليوم (٥) المشهود يوم (٦) عرفة ، وبعضها على أنّه يوم القيامة ، بأنّ كلا اليومين مشهود. واليوم المجموع له النّاس مخصوص بيوم القيامة.

(وَما نُؤَخِّرُهُ) ، أي : اليوم (إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (١٠٤) : إلّا لانتهاء مدّة معدودة متناهية. على حذف المضاف ، أو على إرادة مدّة التأجيل. كلّها بالأجل لا منتهاها ، فإنّه غير معدود.

(يَوْمَ يَأْتِي) ، أي : الجزاء المدلول عليه بالفحوى. أو : اليوم ـ كقوله (٧) ـ : (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) ـ على أنّ «يوم» بمعنى حين. أو : الله ـ تعالى ـ ، كقوله (٨) : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) ونحوه. وإتيان الله إتيان أمره أو شيء منسوب إليه.

وقرأ (٩) ابن عامر وعاصم وحمزة : «يأت» بحذف الياء ، اجتزاء عنها بالكسرة.

(لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) ، لا تتكلّم نفس بما ينفع وينجي ، من جواب أو شفاعة.

__________________

(١) البروج / ٣.

(٢) الكافي ٨ / ٧٣ ، ضمن ح ٢٩.

(٣) ب : أفزع.

(٤) تفسير العياشي ٢ / ١٥٩ ، ح ٦٥.

(٥) أ ، ب ، ر : يوم.

(٦) ليس في ب ، أ ، ر.

(٧) يوسف / ١٠٧.

(٨) البقرة / ٢١٠.

(٩) أنوار التنزيل ١ / ٤٨١.

٢٣٨

وهو النّاصب للظّرف. ويحتمل نصبه بإضمار اذكر ، أو بالانتهاء المحذوف.

(إِلَّا بِإِذْنِهِ) : إلّا بإذن الله ، كقوله (١) : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ).

وهذا في موقف ، وقوله (٢) : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) في موقف آخر.

وقيل (٣) : أو المأذون فيه هي الجوابات الحقّة ، والممنوع عنه هي الأعذار الباطلة.

والأوّل هو المرويّ عن أمير المؤمنين ـ عليه السّلام ـ في كتاب التّوحيد (٤).

(فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) وجبت له النّار ، بمقتضى الوعيد (وَسَعِيدٌ) (١٠٥) : وجبت له الجنّة ، بمقتضى الوعد.

والضّمير لأهل الموقف ، وإن لم يذكر. لأنّه معلوم مدلول عليه بقوله : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ). أو للنّاس.

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) (١٠٦) :

الزّفير : إخراج النّفس. والشّهيق : ردّه ، واستعمالهما في أوّل النّهيق وآخره.

والمراد بهما الدّلالة على شدّة كربهم وغمّهم ، وتشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه ، وانحصر فيه روحه. أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير.

وقرئ (٥) : «شقوا» بالضّمّ.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) :

قيل (٦) : ليس لارتباط دوامهم في النّار بدوامهما ـ فإنّ النّصوص دالّة على تأبيد دوامهم وانقطاع دوامهما ـ بل التّعبير عن التّأبيد والمبالغة بما كانت العرب يعبّرون عنه ، على سبيل التّمثيل. ولو كان للارتباط ، لم يلزم ـ أيضا ـ من زوال السّموات والأرض زوال عذابهم ، ولا من دوامه دوامهما ، إلّا من قبيل المفهوم ، لأنّ دوامهما كالملزوم لدوامه.

وقد عرفت أنّ المفهوم لا يقاوم المنطوق.

وقيل (٧) : المراد سموات الآخرة وأرضها. ويدلّ عليه قوله (٨) ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تُبَدَّلُ

__________________

(١) النبأ / ٣٨.

(٢) المرسلات / ٣٥ ـ ٣٦.

(٣) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٢.

(٤) التوحيد / ٢٦٠.

(٥) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٢.

(٦) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٢.

(٧) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٢.

(٨) إبراهيم / ٤٨.

٢٣٩

الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) ، وأنّ أهل الآخرة لا بدّ لهم من مظلّ ومقلّ.

واعترض عليه بأنّه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه. ومن عرفه ، فإنّما (١) يعرفه بما يدلّ عليه دوام الثّواب والعقاب. فلا يجدي له التّشبيه.

والتّحقيق أنّ هذا في نار الدّنيا في البرزخ ، قبل يوم القيامة. وسيأتي من الأخبار ما يدلّ عليه. وحينئذ لا إشكال في الارتباط.

(إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) :

قيل (٢) : استثناء من الخلود في النّار. لأنّ بعضهم ـ وهم فسّاق الموحّدين ـ يخرجون منها. وذلك كاف في صحّة الاستثناء. لأنّ زوال الحكم عن الكلّ يكفيه زواله عن البعض. وهم المراد بالاستثناء الثّاني. فإنّهم مفارقون عن الجنّة أيّام عذابهم. فإنّ التّأبيد من مبدأ معيّن ينتقض باعتبار الابتداء ، كما ينتقض باعتبار الانتهاء. وهؤلاء ، وإن شقوا بعصيانهم ، فقد سعدوا بإيمانهم. قال (٣) : ولا يقال : فعلى هذا لم يكن قوله : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تقسيما صحيحا. لأنّ من شرطه أن يكون صفة كلّ قسم منتفية عن قسيمه. لأنّ ذلك الشّرط حيث التّقسيم لانفصال حقيقيّ ، أو مانع من الجمع. وها هنا المراد أنّ أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين ، وأنّ حالهم لا يخلو عن السّعادة والشّقاوة. وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين. أو لأنّ أهل النّار ينقلون منها إلى الزّمهرير وغيره من العذاب أحيانا. وكذلك أهل الجنّة ينعمون بما هو أعلى من الجنّة ، كالاتّصال بجناب القدس والفوز برضوان الله ولقائه. أو من أصل الحكم. والمستثنى زمان توقّفهم في الموقف للحساب. لأنّ ظاهره يقتضي أن يكونوا في النّار حين يأتي اليوم ، أو مدّة لبثهم في الدّنيا والبرزخ ، إن كان الحكم مطلقا غير مقيّد باليوم. وعلى هذا التّأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت.

وقيل (٤) : هو من قوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ).

وقيل (٥) : «إلّا» ها هنا بمعنى سوى ـ كقولك : عليّ ألف إلّا الألفان القديمان ـ والمعنى : سوى ما شاء ربّك من الزيّادة الّتي لا اخر لها على مدّة بقاء السّموات والأرض.

__________________

(١) ب : فإنّه.

(٢) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٢.

(٣) ليس في المصدر.

(٤ و ٥) أنوار التنزيل ١ / ٤٨٢.

٢٤٠