النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

فيهما زمانا محصلا (أو نفيا) أو انتقالا أو دواما وهي كان وأخواتها.

فأما كان فلها ثلاثة معان :

أحدهما : أن تفيد زمانا محصلا ، كقولك : كان زيد عالما وكذلك : يكون زيد منطلقا.

وقد تكون دالة على انقطاع ما وقعت عليه ، وغير دالة على ذلك.

ـ فأما ما لم ينقطع : فقول الله عز وجل (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً*) [النساء : ٥] ، وهو في كل حال موصوف بذلك.

ـ وأما ما انقطع : فقولك : «قد كنت غائبا وأنا الآن حاضر».

ـ والمعنى الثاني : أن تكون في معنى حدث ووقع ، كقولك : «كان الأمر» أي : وقع.

ـ والوجه الثالث : أن تكون زائدة لتدل على زمان دون أن يكون لها اسم ولا خبر ، أو تقع على شيء مذكور ، وذلك قولك : «زيد كان قائم» ، وفاعلها مصدرها ، فدلت ههنا على الزمان الماضي ؛ لأنك لو قلت : «زيد قائم» لوجب أن يكون ذلك في الحال.

ويجوز أن تكون واقعة على ضمير «زيد» ، ويحذف خبرها لدلالة المبتدأ عليه ، فيكون التقدير : زيد قائم كان كذلك ، أي : كان قائما.

ويشهد لهذا التقدير قول الفرزدق :

* فكيف إذا مررت بدار قوم

وجيران لنا ـ كانوا ـ كرام (١)

فزاد «كان» بين النعت والمنعوت كما ترى ، وبين المبتدأ والخبر ، وأتى باسمها وحذف خبرها لعلم السامع كما ترى وكان التقدير : وجيران لنا كرام كانوا كذلك ، أي : كانوا لنا جيرانا ، أو كانوا كراما.

فإن قلت : خبرها هنا : المجرور الذي قبلها فلم يحذف لها بخبر كما ذكرنا.

فالجواب : أن المجرور قبلها صلة للخبر المحذوف المقدر ، وهو الإخبار عنهم بالجوار ، ولا يجوز أن يكون المجرور هو الخبر بعينه ؛ لأنك لو قلت : «كان لي زيد» ، لم يجز إلا أن يكون لك ملكا على حد قولك : كان لي الغلام والمال إلا أن يكون على حذف شيء معلوم كقول القائل : من كان لك جارا أو صديقا؟ ونحو ذلك ، فتقول : كان لي زيد : كان لي جارا أو صديقا أو نحوه.

فعلى هذا يخرج قول الفرزدق ، ولا يجوز أن يتأول فيه غيره.

فأما «صار» : ففيها معنى الانتقال وهي تدخل على جملة لم يكن لها مثل تلك الحال من قبل كقولك : «صار زيد عالما» أي : انتقل إلى هذه الحال ، وقد تدخل على غير جملة لما فيها

__________________

(١) ديوان الفرزدق ٢ / ٨٥٣ ، شرح الأعلم ١ / ٢٨٩ ، شرح النحاس ٢٤ ، الصاحبي ٢٤٧ ، أوضح المسالك ٤ / ١٨٢.

٦١

من معنى الانتقال كقولك : صار زيد إلى عمرو ، وأنت لا تقول زيد إلى عمرو ، وأنت لا تقول زيد إلى عمرو ، ولكنه بمعنى انتقل عمرو.

فأما أصبح وأمسى وبات وأضحى وظل : فهن أوقات مخصوصة دخلت على جمل. فإذا قلت : أصبح زيد عالما ، فكأنك قلت : دخل وقت الصباح وهو عالم ، وكذلك أخواتها.

وبينهن وبين «كان» فرق ، وذلك أن «كان» لما انقطع وأضحى وأخواتها لما لم ينقطع ، ألا ترى أنك تقول : أصبح زيد غنيا ، فهو غني في وقت إخبارك غير منقطع غناه.

وربما توسعت العرب في بعض هذه الأفعال ، فاستعملوها في معنى كان وصار ، فيقولون : «أصبح غنيا» ولا يقصدون إلى وقت الصباح دون غيره.

وأما «ليس» : فإنما تدخل على جملة فتنفيها في الحال. والأصل فيها : «ليس» فخففوا وألزموها التخفيف ؛ لأنه لا يتصرف للزومه حالة واحدة ، وإنما تختلف أبنية الأفعال باختلاف الأوقات التي تدل عليها ، وجعلوا البناء ماضيّا لأنه أخف الأبنية ، واختلفوا في تقديم خبرها عليها.

والذي دل عليه قول سيبويه في باب ستقف في عليه ، أن تقديم الخبر عليها جائز.

وبعض النحويين يأباه. ولا خلاف بينهم في تقديم خبرها على اسمها.

وأما «ما زال» ف «ما» ، و «زال» للنفي ، فصار المعنى بدخول النفي على النفي إيجابا.

ولا تستعمل «زال» إلا بحرف النفي.

وأما «ما دام» : فليست «ما» فيها مثلها في قولك : «ما زال» ؛ لأنها في «ما زال» للنفي ، وهي هنا مع الفعل بتأويل المصدر ، يراد به الزمان فإذا قلت : أنا أقوم ما دام زيد قاعدا ، فمعناه : أقوم دوام زيد قاعدا ، تريد : وقت الدوام.

(قوله) «وتقول إذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم».

ومعنى يكون هنا على وجهين :

ـ أحدهما : إذا لم نشبههم تقول : أنت زيد في معنى : أنت مشبه له.

ـ الآخر : أن يقول قائل : من كان الذي رأيتهم أمس؟

فيقول المجيب : نحن كناهم ، إذا كان السائل قد رآهم ولم يعلم أنهم المخاطبون.

قال أبو الأسود :

* فإلا يكنها أو تكنه فإنه

أخوها غذته أمه بلبانها (١)

يصف الزبيب والخمر. وقبل هذا :

دع الخمر يشربها الغواة فإنني

رأيت أخاها مغنيا بمكانها

__________________

(١) ديوان أبي الأسود ، المقتضب ٣ / ٩٨ ، شرح النحاس ٢٢ ، شرح السيرافي ٢ / ٣٠٠ ، الإنصاف ٢ / ٨٢٣.

٦٢

ثم قال :

فإلا يكنها ...

يعني : إن لم يكن الزبيب : الخمر ، أن تكن الخمر : الزبيب ، فإنه أخوها يعني : الزبيب أخو الخمر لأنهم من شجرة واحدة.

قوله : «فهو كائن ومكون».

أما كائن : فهو اسم الفاعل من كان.

وأما مكون : فهو لما لم يسم فاعله ، غير أنه كان لا يجوز نقلها إلى ما لم يسم فاعله بأن يقام الخبر مقام الاسم ؛ لأنك لو حذفت الاسم لبقي الخبر منفردا. وهذا لا يجوز ؛ لأنهما بمنزلة الابتداء والخبر ، ولكن الوجه الذي يصح منه «مكون» ، أن تحذف الاسم والخبر جميعا ، وتصوغ كان لمصدرها ، فينوب ذلك المصدر مناب الاسم والخبر ، ويكون الاسم والخبر تفسيرا له. فتقول : «كين الكون زيد منطلق» فالكون اسم ما لم يسم فاعله لكين ، والجملة تفسير الكون ، فتقول على هذا : كين زيد منطلق ، فتضمر الكون في كين لدلالتها عليه إذا كان مصدرا وكون زيد منطلقا على هذا التفسير.

هذا تقدير السيرافي وغيره ، وهو مدخول لأن الجملة التي هي تفسير الأمر المضمر في كان خبر في الحقيقة على حد قولك : كان الأمر هذا ، وكان الكون هذا.

فإذا كان تقدير الجملة تقدير الخبر المنصوب المفرد بطل أن يقوم لكان مقام الفاعل كما يبطل أن يقوم الخبر المفرد مقامه.

والذي يصح عليه مكون : أن يكون منقولا من كان التامة التي يكتفى بفاعلها في قولك : كان الأمر ، أي : حدث ووقع ، ثم تحذف الأمر ويقام المصدر ـ الذي في قولك : كان الأمر كونا ـ مقامه ، فيقول : كين ، فهو مكون أي : كين الكون فهو مكون ، فتضمر الكون في كين لدلالته عليه ، كما تقول : قعد وضحك أي : قعد القعود ، وضحك الضحك ، فهذا بين إن شاء الله.

فإن قلت : «كان» تلك ليست هذه الداخلة على المبتدأ والخبر فكيف جاز لسيبويه أن يحتج لشيء بما ليس فيه؟

فالجواب : أن تلك أصل هذه ؛ لأن أصل «كان» أن تكون عبارة عن الزمان المحصل ثم تعلق على ضربين :

ـ أحدهما : تعليق الفعل الصحيح بفاعله.

ـ والآخر : على التشبيه به ، فجاز له أن يحتج لهذه الناقصة بتلك التامة لذلك فاعلمه.

فتضمر الكون في كان بدلالتها عليه إذا كان مصدرا ومكون زيد منطلق على هذا التفسير.

٦٣

وأنشد سيبويه قول مقاس العائذي :

* فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كان يوم ذو كواكب أشهب (١)

واستشهد به على أن «كان» بمعنى وقع.

ومقاس لقب واسمه : مسهر بن النعمان وسمي مقاسا بقوله :

مقست بهم ليل التمام مسهرا

إلى أن بدا ضوء من الفجر ساطع

وأنشد لعمرو بن شأس :

* بني أسد هل تعلمون بلاءنا

إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا (٢)

يريد : إذا كان اليوم يوما ، فأضمر لعلم السامع ،

ومعناه : إذا كان اليوم الذي يقع فيه القتال.

قال : وبعض العرب يقول : «إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا»

فيجعل «كان» بمعنى وقع ، ويجعل «أشنع» على الحال ، إلا أنها حال لا تفيد إلا توكيدا.

وقد يجوز أن يكون «أشنعا» خبرا.

قوله : «وقد يجوز في الشعر» إلى قوله : «على ضعف من الكلام».

اعلم أن الذي حملهم على أن يجعلوا المعرفة خبرا عن النكرة في باب «كان» : أنهم قد جعلوا «كان» فعلا بمنزلة : ضرب. وقد يجوز أن يكون فاعل ضرب منكورا ومفعوله معروفا ، وسوغ ذلك أيضا في «كان» أن الاسم فيها هو الخبر فتعرف الاسم بمعرفتك الخبر إذ كان لشيء واحد. وضعف ذلك لأنك لم تعرفه بنفسه ثم يستفاد خبره.

واستشهد سيبويه على ذلك بقول خداش بن زهير.

* فإنك لا تبالي بعد حول

أظبي كان أمك أم حمار (٣)

وبقول حسان بن ثابت وما بعده من الأبيات.

فأما البيت الأول فقد رد على سيبويه الاستشهاد به ؛ لأنه جعله شاهدا لجعل النكرة اسما والمعرفة خبرا. واسم كان في هذا البيت ضمير ظبي والضمير معرفة.

وليس الأمر على ما ظنه الرادون عليه ، وذلك أن الذي أحوج إلى أن يكون الاسم معروفا تبين المخبر عنه للمخاطب حتى لا يلتبس عليه ، ويستفيد خبره بعد ذلك وضمير النكرة لا يستفيد به المخاطب أكثر من النكرة.

__________________

(١) شرح الأعلم ١ / ٢١ ، المقتضب ٤ / ٩٦ ، إعراب القرآن ١ / ١٨٩ ، شرح النحاس ٢٣ ، المسائل البغداديات ٥٤٧

(٢) شرح الأعلم ١ / ٢٢ ، المقتضب ٤ / ٩٦ ، شرح النحاس ٢٤ ، شرح السيرافي ٢ / ٣٠٦.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣ ، المقتضب ٤ / ٦٣ ، شرح النحاس ١٩ ، مغتي اللبيب ٢ / ٧٦٨.

٦٤

ألا ترى أن قائلا لو قال : مررت برجل فكلمته ، لم تكن الهاء بموجبة لتعريف شخص بعينه ، وإن كانت الهاء معرفة من حيث علم المخاطب أن الهاء تعود إلى ذلك الرجل المذكور من غير أن يكون ميزه من بين الرجال. فلا فرق بين أن يقول : قائم كان زيدا ، وبين كان زيدا قائم في باب معرفة المخاطب بالمخبر عنه.

ووجه آخر : أن قوله : «ظبي» اسم لكان أخرى مضمرة ، والثانية تفسير لها ، ويكون اسم «كان» الذي أراد سيبويه : «ظبي».

وهذا الشاعر إنما يصف إضراب الناس عن التشرف بالأنساب وتقارب ما شرف منها ووضع فقال : لا أبالي بعد هذا الوقت إن دام ما نحن فيه إلى من نسبت من الأمهات.

وأما بيت حسان ، فهو مطابق لما استشهد به سيبويه من غير اعتراض عليه ، غير أن فيه ما سهّل جعل النكرة اسما من جهة المعنى ؛ وذلك أن الذي يستفيده المخاطب بعسل وماء منكورين ، هو الذي يستفيده بهما معروفين.

ألا ترى أن قائلا لو قال : شربت الماء والعسل ، أو قال ماء وعسلا ، كان معناهما عندك واحدا لعلمك أنه إذا قال : العسل والماء ، أن غرضه من ذاك البعض ؛ لأن العسل والماء : يقال لما قل منه أو كثر : عسل وماء ، فالمعرفة والنكرة مستويتان في هذا.

ومما سهل ذلك أيضا أن الضمير في «مزاجها» يعود إلى منكور وهي «سلافة». وقد بينا ما في ذلك.

وكان المازني ينشد :

* يكون مزاجها عسلا وماء

فيحمل و «ماء» على المعنى ؛ لأن ما مازج الشيء فقد مازجه الشيء فكأنه قال : ومازجها ماء.

وباقي الأبيات مثل البيت الأول ومعانيها بينة إن شاء الله.

قال سيبويه : «وإذا كان معرفة فأنت بالخيار».

إن قال قائل : إذا كان الاسم والخبر جميعا معروفين كقولك : كان زيد أخاك فما الفائدة؟

قيل له : الاسم المعروف قد يعرف بأنحاء مفردة ، وقد يعرف بها مركبة. «فزيد» معروف بهذا الاسم مفردا ، و «أخوك» معروف بهذا الاسم منفردا.

غير أن الذي عرفهما بهذين الاسمين منفردين ، قد يجوز أن يجهل أن أحدهما هو الآخر.

ألا ترى أنك لو سمعت بزيد وشهر أمره عندك من غير أن تراه لكنت عارفا به ذكرا أو شهرة.

٦٥

ولو رأيت شخصه لكنت عارفا به عيانا ، غير أنك لا تركب هذا الاسم الذي سمعته على الشخص الذي رأيته إلا بمعرفة أخرى بأن يقال لك : هذا زيد.

قوله : «ومثل قولهم : من كان أخاك؟ قول العرب : ما جاءت حاجتك».

اعلم أن الأصل في «جاء» أن يكون فعلا كسائر الأفعال متعديا وغير متعد ، كقولك : جاء زيد عمرا ، وجاء زيد إلى عمرو. إلا أنهم أجروها في هذا المثل مجرى صار ، وجعلوا الهاء اسما وخبرا هو الاسم كما كان ذلك في باب : كان وأخواتها ، فجعلوا اسمها مضمرا فيها ، وجعلوا «حاجتك» خبرها. وأنثوا «جاءت» لتأنيث معنى «ما».

فكأنه قال : أية حاجة جاءت حاجتك؟

وجعل «جاء» بمعنى «صار» ، ولم يسمع إلا بتأنيث «جاءت» وإنما أجروها مجرى «صار» لضرب من الشبه بينهما ، وذلك أنك تقول : صار زيد إلى عمرو ، كما تقول : جاء زيد إلى عمرو. ففي «جاء» من الانتقال ما في «صار» فحملوا «جاءت حاجتك» ـ في جعل الاسم والخبر ـ بمنزلة صار ـ إذا قلت : صار زيد منطلقا ـ لما بينهما من الاشتراك.

وإنما يقوله الرجل للرجل إذا أتاه في معنى : قوله ما جاء بك ويقال : إن أول ما شهرت هذه الكلمة من قول الخوارج لابن عباس حين أتاهم ليستدعي منهم الرجوع إلى الحق من قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قوله : «كما جعلوا عسى بمنزلة كان في قولهم عسى الغوير أبؤسا».

يعني أنهم جعلوا لها اسما وخبرا ، كما جعلوا ل «كان» ولو قلت في الكلام : «عسى زيد أخاك» لم يجز ، فإنما جاز في «عسى» هنا لأنه مثل.

ويقال : إن الزباء الرومية هي التي قالت هذا لما أتاها قصير بصناديق فيها رجل طالبا لثأر جذيمة منها فأخذ في طريق الغار مريدا للإيقاع بها ، ولم يكن الطريق الذي يسلكه إليها ذلك الطريق ، فلما أحست بذلك قالت : عسى الغوير أبؤسا.

«وأبؤسا» جمع بأس. فكأنها قالت : صار الغوير أبؤسا ، إلا أن «عسى» فيها معنى الشك والتوقع ، و «صار» لليقين : فعسى ههنا ، وإن أجريت مجرى صار وكان ، ففيها معنى الشك.

والغوير تصغير الغار ، وفي الناس من يقول : المعنى عسى الغوير أن يكون أبؤسا ، ولا وجه لهذا الإضمار كله.

ثم ذكر سيبويه : «لدن غدوة» احتجاجا بأن الشيء قد يكون على لفظ في موضع ، ولا يطرد القياس في غيره ؛ لأنك لا تقول : لدن عشية ، ولا لدن زيدا ، وإنما نصبت العرب «غدوة» على ضرب من التأويل والتشبيه ، وذلك أنهم يقولون : «لد». فيحذفون النون و «لدن» فيثبتون النون. فشبهوا هذه النون بالنون الزائدة في : عشرين وضاربين ، فنصبوا ما بعدها كما ينصب

٦٦

ما بعد العشرين والضاربين.

قوله : «وربما قالوا في بعض الكلام : ذهبت بعض أصابعه» إلى قوله : «ولو قلت : ذهبت عبد أمك لم يحسن» أي لم يجز.

اعلم أن المذكر الذي يضاف إلى المؤنث على ضربين :

أحدهما : تصح العبارة عن معناها بلفظ المؤنث التي أضيف إليها لو أسقطته ، كقولك : أضربي مر السنين وذهبت بعض أصابعي. ألا ترى أنك لو قلت : أضرت بي السنون ، وذهبت أصابعي ، لكان المعنى واحدا.

ـ وأما الآخر (الذي لا) تصح العبارة عن معناه بلفظ المؤنث فقولهم : ذهب عبد أمك. فلو قلت : ذهبت عبد أمك لم يجز ؛ لأنك لو قلت : ذهبت أمك لم يكن معناه معنى قولك : ذهبت عبد أمك ، كما كان في معنى أضرت بي مر السنون ، كمعنى أضرت بي السنون.

ـ وأنشد سيبويه للأعشى :

* وتشرق بالقول الذي قد أذعته

كما شرقت صدر القناة من الدم (١)

كأنه قال : شرقت القناة : لأنه يجوز أن تقول : شرقت القناة وإن (كان) شرق صدرها.

ومعنى تشرق : تغص.

وأنشد لجرير :

* إذا بعض السنين تعرقتنا

كفى الأيتام فقد أبي اليتيم (٢)

وهو مثال الأول : ويقال : تعرقت العظم : إذا أكلت ما عليه من اللحم.

وأنشد لجرير أيضا.

* لما أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشع (٣)

فأنث «السور» ؛ لأنه من المدينة. ألا ترى أنه لو قال تواضعت المدينة لصح المعنى الذي أراده بذكر السور.

وزعم أبو عبيدة أن «السور» جمع سورة ، وهي كل ما علا ، وبها سمي سور المدينة ، فزعم أن تأنيث تواضعت لتأنيث «السور» إذ كان جمعا بينه وبين واحده الهاء كنخلة ونخل.

وقوله : والجبال الخشع ؛ من الناس من يرفع الجبال الخشع بالابتداء والخبر كأنه قال : والجبال خشع ، لأنه إن رفعها بتواضعت ، ذهب معنى المدح ؛ لأن الخشع : هي المتضائلة ،

__________________

(١) ديوان الأعشى ٩٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥ ، معاني القرآن (١ / ١٨٧ ، ٢ / ٣٧) ، الخصائص ٢ / ٤١٧.

(٢) ديوان جرير ٢ / ٥٠٧ ، شرح الأعلم (١ / ٢٥ ـ ٣٢) ، المقتضب ٤ / ١٩٨ السيرافي ١ / ٥٦.

(٣) ديوان جرير ٢ / ٥٠٧ ، الكتاب وشرح الأعلم (١ / ٢٥ ـ ٣٢) ، المقتضب ٤ / ١٩٨ ، السيرافي ٢ / ٣٣٣.

٦٧

وإنما حكمه أن يقول : الجبال الشوامخ.

ومعنى تواضعت : تهدمت.

وقال بعضهم : الجبال مرتفعة بتواضعت ، والخشع نعت لها ، فكأنه قال : تواضعت الجبال الخشع لموته ، أي : التي خشعت لموته.

وأنشد لذي الرمة :

* مشين كما اهتزت رماح تسفهت

أعاليها مر الرياح النواسم (١)

فأنث فعل المر ؛ لأنه لو قال : تسفهت أعاليها الرياح لجاز.

ومعنى تسفهت : استخفت. والنواسم : التي تهب هبوبا ضعيفا.

قال سيبويه : «ومثله يا طلحة أقبل» إلى قوله : «يا تيم تيم عديّ».

اعلم أن الاسم الذي في آخره هاء التأنيث ينادى بأربعة ألفاظ :

ـ بالضم من الهاء ، كقولك : يا طلحة.

ـ وبحذف الهاء وفتح الحاء كقولك يا طلح ، وبهذا أكثر ما ينادى.

ـ ويا طلح بالضم.

ـ ويا طلحة بفتح الهاء.

ونفسر هذا الوجه الرابع من أجل أنه مفتوح ، ولم يلحقه ترخيم في اللفظ. وإنما جاز لأن كثيرا ما تنادي العرب هذا الاسم بحذف الهاء وفتح الحاء.

فإذا أدخلوا الهاء فتحوها على حسب ما تكون الحاء مفتوحة اتباعا لها ، فكان فتحهم آخر المنادي كفتحهم يا طلح ، وجعل هذا شاهدا لقولهم : اجتمعت أهل اليمامة ، ولم يحفل بدخول أهل كما لم يحفل بدخول الهاء.

ومعنى قوله في هذا الفصل : «فتركوا الحاء مفتوحة على حالها».

يريد في قولك : يا طلحة والخاء لا يمكن فيها إلا أن تكون مفتوحة إذا جئت بالهاء وأقحمتها عليها وهو يريد الترخيم ، وفتح الهاء.

فلما أقحم توكيدا للتأنيث الموجود في قولك : يا طلح بصيغة الاسم مفتوحا ترك تلك الفتحة في الحاء على حالها قبل لحاق الهاء ، ولو لم يتركها على حالها لضمها ، ثم نقل حركتها إلى الهاء بعدها ، فقال يا طلحة ؛ لأن هاء التأنيث لا تكون إلا بعد حرف متحرك بالفتح أو بعد الحرف من الفتحة نحو : سعلاة وقطاة وما أشبهه فاعلمه.

__________________

(١) شرح الأعلم ٨٠ ، شرح السيرافي ٢ / ٣٣٦ ، الخصائص ٢ / ٤١ ، الخزانة ٤ / ٢٢٥.

٦٨

باب ما تخبر فيه بالنكرة عن النكرة

قال في هذا الباب : «لا يجوز في أحد أن تضعه موضع واجب».

إن قال قائل : كيف جاز أن يقع في النفي ما لا يصح وقوعه في الإيجاب؟

قيل له : النفي قد يصح لأشياء متضادة في حال واحدة لا يصح إيجابها ، تقول : ليس زيد بقائم ولا قاعد ، فتنفي قيامه وقعوده معا.

ولا يصح أن تقول : هو قائم قاعد ، وتقول : ليس هو في الدار ولا في المسجد ، ولا يصح أن تقول : هو في الدار والمسجد.

وإذا قلنا : ما جاءني أحد وما بالدار أحد ، فقد نفينا أن يكون بها كل من يعقل ، ونفينا أن يكون بها واحد منهم فقط ، وأن تكون بها جماعة دون غيرها ، أو صغير أو كبير ، أو ضعيف أو قوي.

ولا يصح إيجاب هذا على طريق نفيه لأنا إذا قلنا جاءني أحد وسلكنا به مسلك نفي الجنس ، فقد أوجبنا مجيء كل من يعقل ومجيء واحد منهم فقط ، ومجيء جماعة دون جماعة ، وهذا محال.

قوله : «ولو قلت : ما كان مثلك أحدا» إلى قوله : «إلا من الناس».

اعلم أن الفائدة إنما تكون في الخبر دون الاسم ، فإذا قلت : ما كان مثلك أحدا ، «فمثلك» هو الاسم و «أحد» هو الخبر ، والنفي واقع على «أحد» ، ومعناه : إنسان. كأنك قلت : ما كان مثلك إنسانا ، فهذا محال إلا أن تريد معنى الوضع منه أو الرفعة له وإن كنت تعتقد أنه إنسان.

قوله : «إلا أن تقول : ما كان زيد أحدا ، أي : من الآحدين».

معناه : من المستقيمي الأحوال

قوله : إذا جعلت فيها مستقرّا.

يريد أنك إذا جعلت الظرف والمجرور واقعين موقع الخبر فهما بمعنى : استقر ، فيسمى كل واحد منهما مستقرّا لذلك ، فإذا كان من صلة الخبر سمي كل واحد منهما ملغى ؛ لأنه يستغنى عنه إذ كان الخبر في غيره.

قوله : فمن ذلك قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤].

يريد أنه قدم له ، وجعل «كفؤا» الخبر ، والاسم «أحد» ولم يكن له مستقرّا ، وقد قدمته.

فإن قال قائل : فقد اختار سيبويه أن لا يقدم الظرف إذا لم يكن خبرا ، وكتاب الله أولى بأفصح اللغات.

قيل له : قوله : «له» وإن لم يكن خبرا ، فإن سقوطه يبطل معنى الكلام ، فلما كانت

٦٩

كذلك ، صارت بمعنى الخبر الذي لا يستغنى عنه وإن لم تكن خبرا.

قال : وأهل الجفاء يقولون (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤].

يعني الأعراب الذين لا يعلمون كيف هو في المصحف لقوة التأخير في أنفسهم إذا لم يكن خبرا.

قال الشاعر :

* لتقربن قربا جلذيّا

ما دام فيهن فصيل حيّا (١)

فقد دنا الليل فهيا هيا

الشاهد في أنه قدم فيهن (على) فصيل ، وجعله لغوا ، ومما سوغ التقديم أنك لو حذفت فيهن انقلب المعنى إلى معنى الأبد.

وقوله : لتقربن أي : لتردن. والقرب : الورود. والجلذى : يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون نعتا «لقربا» ومعناه شديدا.

ويحتمل أن يكون اسم ناقته : جلذية ، فرخم.

هذا باب ما أجري مجرى ليس في بعض المواضع

بلغة أهل الحجاز ... وذلك الحرف «ما»

اعلم أن «ما» حرف نفي يليه الاسم والفعل. وقد كان من حكمه أن لا يعمل شيئا في واحد منهما مثل ألف الاستفهام ، و «هل». غير أن أهل الحجاز حملوا «ما» على «ليس» فأعملوها وهي مع ذلك عندهم أضعف من «ليس» ؛ لأن «ليس» فعل و «ما» حرف ، ولذلك لم يجروها مجرى «ليس» في كل المواضع.

وجعل سيبويه شذوذها عن بابها وخروجها إلى باب «ليس» بمنزلة «لات» إلا أنه جعلها أقوى من لات : للزومها العمل في الحين خاصة.

وعملها في الحين على وجهين :

ـ أجودهما : أن تنصب الحين بعدها على الخبر وتضمر اسمها فيها.

ـ والوجه الثاني : أن ترفع الحين بعدها وتحذف الخبر ، والتاء في لات زائدة كما زيدت في «ثم» إذ قالوا : «ثمت» ، وهي تاء التأنيث.

وزيدت لأحد وجهين :

إما أن يكونوا زادوها على معنى الكلمة ؛ لأن «لا» كلمة و «ثم» كلمة.

وإما أن يكونوا زادوها للمبالغة في معناها من نفي وغيره ، كما قالوا علامة ورواية.

__________________

(١) شرح الأعلم (١ / ٢٧ ـ ٢٨) ، نوادر أبي زيد ١٩٤ ، المقتضب ٤ / ٩٤ ، الخزانة ٩ / ٢٧٢.

٧٠

وتقديرها إذا حذفت اسمها : لات الحين حين مناص.

وإذا حذفت الخبر : لات حين مناص لك.

قوله : «تضمر فيها مرفوعا»

يعني : تضمر في الجملة بعد «لات» في قلبك الحين غير مستكن في «لات» ؛ لأن «لات» حرف. وإنما يستكن الضمير في الفعل لقوته.

قال الأخفش : «لات لا تعمل شيئا في القياس لأنها ليست بفعل» فنصب «حين» بعد «لات» عند الأخفش بإضمار فعل ، كأنه قال : لا أرى حين كذا ، والرفع بالابتداء وإضمار الخبر.

وقال المحتج عن سيبويه : ليس كون «لات» حرفا بمانعها أن تعمل عمل «ليس» تشبيها بها كما عملت «ما» في لغة أهل الحجاز.

قوله : «كما أن التاء لا تجر في القسم وغيره إلا في الله إذا قلت : تالله لأفعلن».

يعني أن التاء لا تدخل إلا في قولك : تالله ، لا تقول : تالرحمن. ولا تدخل في غير القسم.

فهذا معنى قوله : «وغيره».

ولدخول التاء على اسم الله عز وجل ـ خاصة ـ احتجاج ستراه في موضعه إن شاء الله.

قال سيبويه : «وزعموا أن بعضهم قال : وهو الفرزدق»

* فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم إذ

هم قريش وإذ ما مثلهم بشر (١)

حكى سيبويه أن بعض الناس نصب «مثلهم» وجعله على وجه الخبر في هذا البيت ثم استبعده.

وقد رد هذا التأويل على سيبويه ، فقيل له : قد علمنا أن الفرزدق من بني تميم ، وهم يرفعون الخبر مؤخرا ، فكيف ينصبونه مقدما؟

فقال المحتج عن سيبويه : يجوز أن يكون الفرزدق سمع أهل الحجاز ينصبونه مؤخرا.

وفي لغة الفرزدق لا فرق بين التقديم والتأخير ؛ لأنه يرفع مقدما ومؤخرا. فاستعمل لغتهم وأخطأ.

وفي نصب «مثلهم» وجهان آخران :

ـ أحدهما : أن يكون منصوبا على الحال كقولك : في الدار قاعدا رجل.

والثاني : أن يكون «مثلهم» منصوبا على الظرف ، كأنه قال : وإذا ما في مثل حالهم وفي

__________________

(١) ديوان الفرزدق ١ / ٢٣٣ ، شرح الأعلم ١ / ٢٩ ، المقتضب ٤ / ١٩١ ، شرح النحاس ٧٧.

٧١

مكانهم من رفعة «بشر» ، كما تقول : ما فوقهم بشر ؛ أي فوق منزلتهم بشر ، وإذا ما دونهم على الظرف.

قال سيبويه : «وليس قولهم : لا يكون في ما إلا الرفع بشيء ، لأنهم يحتجون بأنك لا تستطيع أن تقول : ولا ليس ولا ما».

يعني بذلك : أن قوما من النحويين يزعمون أنه لا يجوز : ليس ذاهبا ولا معن منطلقا.

وكذلك في «ما» ، وذلك أنه لا يصح عندهم عطف الثاني على الأول إلا بتقدير إعادة العامل بعد حرف العطف ، كقولك : قام زيد وعمرو. والتقدير عندهم : وقام عمرو فلا يجيزون : ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا ؛ لأنه لا يصلح إعادة العامل وهو «ما» ، لا تقول : ولا ما عمرو منطلقا.

ومذهب سيبويه : أن المعطوف لا يقدر له إعادة العامل ، بل يجعل العامل الأول عاملا فيهما ويجعل حرف العطف كالتثنية فيصير المعطوف والمعطوف عليه كالمثنى. ألا ترى أن قولنا : قام الزيدان بمنزلة قام زيد وزيد ، وقام زيد وعمرو بمنزلة : قام الزيدان غير أنه لم يمكن تثنية زيد وعمرو بلفظ واحد ففصل بينهما بالواو ، وصارت الواو كالتثنية فيما اتفق لفظه.

ولو قدمت ذكر زيد وعمرو ، ثم كنيت عنهما ، لم تحتج إلى عطف ، وثنيت كنايتهما لاتفاق الكنايتين ، وإن كان الاسمان مختلفين ، فقلت. زيد وعمرو قاما.

والذي منع من إعادة العامل في مسائل «ما» و «ليس» أنك لا تجمع بين حرفي نفي ، فلم يجز إعادة «ما» و «ليس» بعد «لا» ثم أراهم سيبويه المناقضة في ما أصلوه.

فقال : «فأنت تقول : ليس زيد ولا أخوه ذاهبين».

يعني أنهم يعطفون «الأخ» على «زيد» ، والعامل فيه «ليس» ، ولا يحسن إعادة «ليس» فقد ناقض.

قوله : «وإن شئت قلت : ما زيد ذاهبا ولا كريم أخوه» إلى قوله : «حين بدأت بالاسم».

يعني أنه يجوز أن تقول : ولا كريم أخوه ، على أن تجعل «أخوه» مرفوعا بالابتداء لا «بكريم» وتجعل «كريما» مرفوعا بخبر الابتداء وإن كان متقدما.

ويكون التقدير : ولا أخوه كريم ، كما قلت : ما زيد ذاهبا ولا عمرو منطلقا ، ولا عمرو منطلق إذا بدأت بالاسم قبل الخبر.

قوله : «وتقول ما زيد ذاهبا ولا محسن زيدا» إلى قوله : «واستؤنف على حياله وحيث كان ضعيفا».

اعلم أن الاسم الظاهر متى احتيج إلى تكرير ذكره في جملة واحدة ، كان الاختيار أن يذكر ضميره ؛ لأن ذلك أخف وأنفى للشبهة واللبس ، كقولك : زيد ضربته وإن أعدت ذكره

٧٢

مظهرا لجاز ، ولم يكن وجه الكلام كقولك : زيد ضربت زيدا.

وإذا أعدت ذكره في غير تلك الجملة حسن إعادة ظاهره كقولك : مررت بزيد وزيد رجل صالح. فإذا قلت : ما زيد ذاهبا ولا محسن زيد ، جاز الرفع والنصب. وإذا نصبت جعلت زيدا بمنزلة كنايته ، فكأنك قلت : ما زيد ذاهبا ولا محسنا هو ، كما تقول : ولا محسنا أبوه.

وإذا رفعت جعلت «زيدا» كالأجنبي وابتدأته ، وجعلت «محسنا» خبرا مقدما.

واختار سيبويه الرفع ؛ لأن العرب لا تعيد لفظ الظاهر إلا أن تكون الجملة الثانية مستأنفة ، واستشهد سيبويه ـ لجواز النصب وجعل الظاهر منزلة المضمر ـ بقول سوادة بن عدي :

* لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١)

ويقول الجعدي :

* إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها

سواقط من حر وقد كان أظهرا (٢)

وذلك أن قوله : لا أرى الموت يسبق الموت شيء.

الموت الأول : مفعول «لأرى» ، و «يسبق الموت شيء» المفعول الثاني ، وهما في جملة واحدة ، فكان ينبغي أن يقول : «يسبقه شيء» فيضمر.

وقوله : «إذا الوحش ضم الوحش».

الوحش الأول مرفوع بفعل مضمر هذا الظاهر تفسيره ، كأنه قال : إذا ضم الوحش ضمه سواقط ، فهما في جملة واحدة ؛ لأن الأول لا يستغنى بنفسه ، فكان ينبغي أن يضمر ولا يظهر.

ومعنى البيت : أن الوحش تفزع إلى مواضع الظل لشدة فيح الحر. وقوله : وقد كان أظهرا ، يعني : نصف النهار. والظهر والظهيرة بمعنى. والظّللات جمع ظلل. وظلل : جمع ظليل.

وذهب أبو العباس إلى أن الموت والوحش جنسان ، فالإظهار والإضمار فيهما سواء ؛ لأنهما جنسان ، وقال : إنما كره : زيد قام زيد ، لئلا يتوهم أن الثاني خلاف الأول. وهذا لا يتوهم في الأجناس.

واستشهد سيبويه ـ لاختيار الرفع فيما تقدم ـ بقول الفرزدق :

* لعمرك ما معن بتارك حقه

ولا منسيء معن ولا متيسر (٣)

ومعن الثاني هو الأول ، بمنزلة قولك : ما زيد ذاهبا ولا محسن زيد.

__________________

(١) ديوان عدي ٦٥ ، شرح الأعلم ١ / ٣٠ ، إعراب القرآن ٣ / ٩١٣ ، شرح النحاس ٧٨ ، الخصائص ٣ / ٥٣.

(٢) ديوان النابغة الجعدي ٧٤ ، شرح الأعلم ١ / ٣١ ، شرح النحاس ٧٨.

(٣) ديوان الفرزدق ١ / ٣٨٥ ، شرح النحاس ٧٩ ، ذيل الأمالى ٣ / ٧٣.

٧٣

ومعنى البيت : أنه أخبر أنه لا يؤخر أحدا بدينه ، يقال : أنسأته : أي أخرته. ومعنى متيسر ، أي لا يتسهل في معاملة.

قوله : «فإذا قلت : ما زيد منطلقا أبو عمرو» إلى قوله : «لأنك لم تجعل له سببا».

يعني أن «أبا زيد» إذا كانت كنيته : «أبا عمرو» لم يجز أن تقول : ما زيد منطلقا أبو عمرو ، كما جاز منطلقا أبوه ؛ لأن في «أبوه» هاء تعود إلى زيد ، ولا يشبه هذا قولك : ما زيد منطلقا زيد ؛ لأن زيدا الثاني هو الأول ، فكأنه ضمير ، ولا يجوز أن يكون خبر الأول إلا ما كان فيه ضميره ، أو كان الظاهر معادا بعينه.

وقوله : «لأنك لم تعرفه».

يعني أنك لم تعرف الأب بزيد ، فتقول أبوه ، أو أبو زيد.

«ولم تذكر له إظهارا ولا إضمارا».

يعني لم تذكر لزيد.

واستشهد سيبويه ـ على الرفع فيما كان الثاني فيه أجنبيا غريبا من الأول ـ بقول الأعور الشني.

* هون عليك فإن الأمور

بكف الإله مقاديرها

فليس بآتيك منهيها

ولا قاصر عنك مأمورها (١)

قوله : «منهيّها» : اسم ليس : والضمير الذي فيها ضمير «الأمور» ، فكأنه قال : ليس يأتيك منهي الأمور. وخبر «ليس» قوله «بآتيك» وقوله : «ولا قاصر عنك مأمورها». «مأمور» مضاف إلي الأمور إلى اسم «ليس» فهو أجنبي منه.

فإن قال قائل : لم اسشهد سيبويه بهذا الإبطال النصب في ما كان أجنبيا في باب «ما» ، والنصب في البيت جائز ؛ لأنه ليس يقدم خبرها على اسمها؟

ففي ذلك جوابان :

ـ أحدهما : أنه أنشد البيت ليرينا كيف حكم «ما» لو كانت مكان ليس في البيت الذي أنشده ، وهو يحكى عن أبي العباس.

ـ والجواب الثاني : أنه أنشد البيت ليرينا أن الجملة الثانية غريبة من الجملة الأولى لما لم يكن الضمير الذي في الجملة الثانية ضمير الاسم الأول ، وإنما هو ضمير ما أضيف إليه كما كان ذلك في المسألة الأولى.

قوله : «وجره قوم» إلى قوله : «فهو بعضها».

اعلم أنه سيبويه لا يجيز : ليس زيد بقائم ولا قاعد عمرو ، ويجيز : ليس زيد بقاعد ولا

__________________

(١) المقتضب (٤ / ١٩٦ ـ ٢٠٠) ، شرح النحاس ٨٠ ، شرح السيرافي ٢ / ٣٨٧.

٧٤

قائم أبوه.

وأما إبطاله : ولا قاعد عمرو ؛ فلأنه لا يرى العطف على عاملين ، ومتى أجازه عطف على عاملين ، ومعنى ذلك أنك إذا قلت : ليس زيد بقاعد ، فزيد مرتفع بليس وقاعد مجرور بالباء ، وليس والباء عاملان.

فإذا قلت : ولا قائم عمرو ، عطفت قائما على قاعد وعطفت عمرا على اسم ليس ، فقد عطفت على شيئين مختلفين.

ومثل ذلك في الفاسد : «قام زيد في الدار والقصر عمرو» والذي أبطل العطف على عاملين ، أن حرف العطف يقوم مقام العامل ، ويغني عن إعادته.

فلما كان حرف العطف كالعامل ، والعامل لا يعمل رفعا وجرّا ، لم يجز أن يعطف بحرف واحد على عاملين ، فإن أعدت أحد العاملين مع حرف العطف جاز ؛ لأن العطف حينئذ على عامل واحد.

وقد أجاز الأخفش وغيره من البصريين العطف على عاملين ، واحتج الأخفش بقول الله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [الجاثية : ٣ ، ٤].

ولا حجة للأخفش في الآية ، لأن أحد العاملين ، وهو «في» قد أعيد مع حرف العطف.

وقد بينا ذلك.

واحتج أيضا بقول الله عز وجل : (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] ، فقال : فعطف على خبر إن وعلى اللام.

وهذا لا حجة له فيه ؛ لأن قوله تعالى : (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ليس فيه معمول «إن» فيكون عطفا على «إن» واللام في قوله (لَعَلى هُدىً) غير عاملة.

فاحتجاجه بهذا بعيد.

قال أبو العباس : غلط أبو الحسن في الآيتين جميعا ، في أنهما عطف على عاملين ، ولكن ذلك في قراءة من قرأ : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الجاثية : ٥] ، ثم قرأ «آيات» فجره ، فقد عطف على عاملين ، ومذهبه إبطال العطف على عاملين. فلم يجز نصب الآيات ورفعها ليتخلص من العطف على عاملين فلزمه في الرفع مثل ما فر منه ، وذلك أنه جر (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الجاثية : ٥] بالعطف على المجرور «بفي» ورفع «الآيات» ، فلا يخلو في رفعها من وجهين :

ـ إما أن يكون عطفها على موضع «إن» وموضعها الابتداء ، فيكون قد عطف على عاملين ، هما الابتداء وحرف الجر.

ـ وإما أن يستأنف الآيات ، ويعطف جملة على جملة فيلزمه أن يعيد حرف الجر في

٧٥

الجملة المستأنفة ، ألا ترى أنك لا تقول : «الدار عمرو» على معنى : في الدار عمرو.

وأجاز سيبويه الجر في قوله : «ولا قاصر عنك مأمورها» وذلك أنه جعل منهى الأمور بمنزلة الأمور ، إذ كان البعض قد يجوز أن يجري مجرى ما أضيف إليه ، فجعل منهي الأمور إذا كان بعضها بمنزلة الأمور ، كأنه قال : وليس يأتيك الأمور ولا قاصر عنك مأمورها.

واستشهد على جعله منهي الأمور كالأمور بقوله :

* إذا بعض السنين تعرقتنا

كفى الأيتام فقد أبي اليتيم (١)

وقد مر البيت قبل هذا.

قال سيبويه : «ليس معروف لنا ردها ولا مستنكر».

أي : يكون الرفع والنصب في «مستنكر» مثلهما في «ولا قاصرا».

وأما الخفض على مذهب سيبويه ، فعلى تأويل أن يجعل الثاني من سبب الأول.

قوله : «لنا ردها» يريد : ردها ، أي : رد الخيل.

فإذا قال : ليس بمعروف لنا رد الخيل ، جاز أن يجعل رد الخيل بمنزلة : الخيل ، فكأنه قال : ليس بمعروفة لنا الخيل صحاحا ولا مستنكر عقرها.

قول سيبويه ـ رحمه الله ـ فسره شارح الكتاب.

والقول عندي أن مذهب سيبويه ومذهب من اتبعه عليه فاسد مختل ؛ لأن المأمور ضد المنهي ، فلا يصح تبعضه منه ، وكذلك العقر لا يصح وقوعه «بالرد» بوجه من الوجوه ، وأن الآخر في البيت أجنبي عن الأول. وأن «غير» خبر الآخر جائز على رواية سيبويه ـ رحمه الله ـ على تقدير حذف حرف الجر من الجملة الأخيرة لدلالة الباء في الجملة الأولى عليه حملا على قول العرب : «ما كل سوداء ثمرة ولا بيضاء شحمة» ، و «ما مثل زيد يقول ذلك ولا أخيه يكرهه» ، فيجوز على هذا : ليس بقائم زيد ولا خارج عمرو ، يريد : ولا بخارج : فإن قلت :«ليس زيد بقائم ولا خارج عمرو» لم يجز.

والفرق بين الجملتين أن قولك : «ليس بقائم زيد ولا خارج عمرو» جار على رتبته من تقديم المجرور الذي هو الخبر على المرفوع المخبر عنه ، فوقع المجرور الآخر متصلا بحرف يعطف لفظا ومعنى يحسن حذفه لقيام حرف العطف عليه. فإن قلت : «ليس بقائم عمرو ، بطل الجر ؛ لأنك أخرت المجرور في الجملة الأولى ، فوجب أن تقدره مؤخرا في الجملة الثانية لاستواء أجزاء الكلام ، فكما لا يجوز : «ليس زيد بقائم ولا عمرو بخارج» حتى تقول : ولا عمرو بخارج لا يجوز : ولا خارج عمرو حتى تقول : ولا بخارج عمرو.

__________________

(١) النكت ١٥٢.

٧٦

ونظير هذا في كلام العرب ، وعليه مخرج الآية في قوله عز وجل : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ...) [الجاثية : ٥].

وآيات إنما هو لاتصال المحذوف بحرف العطف ، وتقدمه لفظا ومعنى كما تقدم في الآية.

وأما قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ) [يونس : ٢٧] أراد : وللذين فحذف حرف الجر ، فهو كقولك : في الدار زيد والحجرة عمرو.

فهذا بين لا اعتراض فيه. فقد تبين أن مخرج البيتين اللذين أنشد سيبويه على هذا فاعلمه إن شاء الله.

وتقول : (ما كل سوداء ثمرة ولا بيضاء شحمة) ، وإن شئت أظهرت" كل" فقلت : ولا كل بيضاء.

واحتج بعض النحويين بأن هذا عطف على عاملين وذلك أن بيضاء جر عطفا على سوداء ، والعامل فيها «كل» وشحمة منصوبة على خبر «ما».

وجعله سيبويه على غير ذلك وتأوله تأويلا أخرجه عما قاله القائل ، فقال : بيضاء مجرورة «بكل» أخرى محذوفة مقدرة بعد «لا» ، وليست بمعطوفة على «سوداء» فلم يحصل العطف على عاملين.

قال أبو دؤاد :

* أكل امرئ تحسبين امرءا

ونار توقد بالليل نارا (١)

أراد : وكل نار توقد ، فاستغنى عنه تثنية كل بذكره إياه في أول الكلام ولقلة التباسه على المخاطب ، وجعله سيبويه بمنزلة قولك : «ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه».

فهذا يحتمل أن يكون مثل مقدرا بعد «لا» ويجوز أن «لا يكون» مقدرا ، ويكون مثل الأول فاعلا في الاسمين ، وإن شئت قلت : ولا مثل أخيه.

فإن قلت : «ما مثل عبد الله يقول ذاك ولا أخيه يكرهه».

فهذا لا محالة تقدر فيه مثل بعد «لا» ، فلما جاز حذف «مثل» بعد الثاني ـ اكتفاء في هذه المسألة ـ جاز في التي قبلها.

ومثل هذه المسألة : «ما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك» فلا بد من تقديره «مثل» ؛ لأنه لو كان «أبيك» معطوفا على «أخيك» ، والعامل مثل الأول ، ما جاز أن يثنى يقولان ، فلما ثناه علمنا أن تقديره : ما مثل أخيك ولا مثل أبيك يقولان ذاك ، و «مثل» الأول غير الثاني.

__________________

(١) ديوان أبي دؤاد ٢٥٣ ، الأصمعيات ١٩١ ، الكامل ١ / ٢٨٧ ، شرح النحاس ٨١.

٧٧

وهذا كله يؤكد ما ذكرناه في البيتين إن شاء الله تعالى.

باب ما يجري على الموضع لا على الاسم الذي قبله

اعلم أنك إذا قلت : ليس زيد بجبان ولا بخيلا ، جاز النصب في بخيل والجر ، غير أن الجر أجود ؛ لأن معناهما واحد ، ولفظ الآخر مطابق للفظ الأول ، فإذا تطابق اللفظان مع تساوي المعنيين كان أفصح من تخالف اللفظين ، والعرب تختار ذلك وتحرص عليه وتختار حمل الشيء على ما يجاوره حتى قالوا : هذا جحر ضب خرب فجروا «خربا» وهو نعت للجحر لمجاورة الضب.

فلما كان هذا من كلامهم في ما لا يصح معناه جائزا كان فيما يصح معناه كاللازم ، فلهذا كان الاختيار «بخيل» على «جبان» لقربه منه ، وبعده عن «ما» و «ليس» مع صحة المعنى.

وأنشد لعقيبة الأسدي :

* معاوى إننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (١)

فحمله على موضع الباء لو لم تكن.

وهذا البيت يروى مع أبيات سواه على الجر منها :

أكلتم أرضنا فجردتموها

فهل من قائم أو من حصيد

وخالف سيبويه في هذا جماعة من أهل اللغة فقالوا :

الرواية ولا الحديد عطفا على اللفظ ، واستدلوا على ذلك بالبيت الذي ذكرناه وغيره.

والحجة لسيبويه أنه لا يدفع عن الثقة والصدق ، فيجوز أن يكون الذي أنشده إياه نقل هذا إلى النصب ، ويجوز أن يكون من قصيدة منصوبة.

وأكثر أحواله أن يكون أراد أن يريك أنه جائز عنده وعند جميع النحويين ، ومعنى أسجح : سهل وأرفق.

قال : «ومثل ذلك قول لبيد» :

* فإن لم تجد من دون عدنان والدا

ودون معدّ فلتزعك العواذل (٢)

وكان الوجه دون «معد» عطفا على «من» ولكنه نصبه على الموضع ،

ومعنى وزعه : كفه. يقول : انتسب إلى آخر أجدادك ، فإن لم تجد بينك وبينهم أبا إلا ميتا فلتزعك العواذل على ما أنت عليه من الزهد في الدنيا ، ولتتبع هواهن وهذا منه على طريق الوعيد لنفسه ، أي : لا ينبغي لك أن تطيعهن.

ويجوز أن تكون العواذل : مواعظ الدهر ، وما يزجره عن الرغبة في الدنيا والاستكثار منها.

__________________

(١) شرح الأعلم (١ / ٣٤ ـ ٣٥٢) ، معاني القرآن ٢ / ٣٤٧ ، المقتضب (٢ / ٣٣٧ ، ٣ / ٢٨١ ، ٤ / ١١٢).

(٢) ديوان لبيد ٢٥٥ ، شرح الأعلم ١ / ٤٣ ، المقتضب ٤ / ١٥٢ ، شرح السيرافي ٢ / ٤٠٥.

٧٨

قال : «ومن كلامهم أخذتنا بالجود وفوقه ؛ لأنه ليس من كلامهم : وبفوقه».

معنى هذا الكلام : أخذتنا السماء بالجود من المطر وهو الغزير وبمطر فوق الجود ، ولم يجز جر «فوق» عطفا على الجود ؛ لأنهم لا يكادون يقولون : أخذتنا بفوق الجود إنما يقولون : بمطر فوق الجود.

وقد يجوز جره وهو بعيد.

وأنشد بيتين في مثل معنى البيت المتقدم.

قال كعب بن جعيل :

* ألا حي ندماني عمير بن عامر

إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدا (١)

فنصب غدا ولم يعطفه على اليوم.

وقال العجاج :

* كشحا طوى من بلد مختارا

من يأسة اليائس أو حذارا (٢)

فحمل «حذارا» على موضع «من» كأنه قال يأسة اليائس وهذا مفعول له كقولك : انصرفت عن زيد يائسا.

ويجوز أن يكون «حذارا» عطفا على قوله : مختارا ، كأنه قال مختارا أن محاذرا.

يصف ثورا أو حمارا ، والكشح : ناحية الجنب ، ونصبه بطوى.

باب الإضمار في ليس

اعلم أن كل جملة فهي : حديث وأمر وشأن.

والعرب قد تقدم قبل الجمل ضمير الأمر والشأن ثم تأتي بالجملة فتكون الجملة خبر الأمر والشأن. وهذا الذي يسميه الكوفيون المجهول.

ومثل سيبويه الإضمار في «كان» إذا قلت : «كان زيد قائم» بالإضمار في «إن» إذا قلت : «إن زيد قائم» وهما سواء في ظهور علامة المضمر المنصوب في «إن» واستكان ضمير الرفع في «كان» فمثل ما لم يظهر بما يظهر تقريبا وبيانا

وأنشد سيبويه على الإضمار في ليس قول حميد الأرقط :

* فأصبحوا والنوى عالي معرسهم

وليس كل النوى تلقي المساكين (٣)

__________________

(١) شرح الأعلم ١ / ٣٥ ، المقتضب (٤ / ١١٢ ، ١٥٤) ، إعراب القرآن ٢ / ٧٠٩.

(٢) ديوان العجاج ٢١ ، شرح الأعلم ١ / ٣٥ ، شرح النحاس ٥٨ ، شرح السيرافي ٢ / ٤٠٧.

(٣) شرح الأعلم (١ / ٣٥ ـ ٧٣) ، المقتضب ٤ / ١٠٠ ، شرح النحاس ٨٢ ، شرح السيرافي ٢ / ٤١٤.

٧٩

فنصب «كل» «بتلقي» وأضمر في «ليس» ضمير الأمر ، وجعل الجملة خبر ليس.

وقبل هذا البيت :

باتوا وجلتنا الصهباء بينهم

كأن أظفارهم فيها السكاكين

الجلة : القفة من التمر والعنب. يصف قوما ضعفاء.

وأنشد في مثل ذلك :

* إذا مت كان الناس صنفان : شامت

وآخر مثن بالذي كنت أصنع (١)

أضمر في كان الأمر ، وجعل الجملة تفسيرا له وخبرا عنه.

وأنشد لهشام أخي ذي الرمة :

* هي الشفاء لدائي لو ظفرت بها

وليس منها شفاء الداء مبذول (٢)

أضمر في ليس ، أي : ليس الداء المتولد منها شفاؤه مبذول.

وأنشد لمزاحم العقيلي :

* وقالوا تعرفها المنازل من منى

وما كل من وافى منى أنا عارف (٣)

فنصب «كل» بعارف ، وجعل ما تميمية.

ويجوز رفع «كل» بما وأنا عارف خبر ما.

وسئل أبو إسحاق الزجاج عن معنى هذا البيت فقيل له : الإنسان يسأل عن الشيء من يعرفه ومن لا يعرفه ، فما معنى هذا؟

فقال : هذا يذكر امرأة تعشقها ، فليس يسأل عن خبرها إلا من يعرفه ويعرفها.

هذا باب ما عمل عمل الفعل ولم يجر مجراه ـ وهو باب التعجب ـ

اعلم أن التعجب من الشيء أن يكون زائدا في معنى ما تعجب منه على غيره نادرا في بابه ؛ لأن فيه تفضيلا. ولا يجوز أن يقال : لزيد إذا كان في أول مراتب الحسن : ما أحسن زيدا ؛ لأنه تفضيل فيه.

ولا يجوز أن يقال : لزيد إذا كان في أول مراتب الجن : ما أجن زيدا ؛ لأنه لا تفضيل فيه.

ومثل الخليل «ما» بشيء في قولك : «ما أحسن زيدا ، كأنك قلت : شيء أحسن زيدا».

ومعنى أحسن ، أي حسن ، أي حسنه وأصاره إلى هذا الحسن ، وخصت «ما» بالتعجب

__________________

(١) شرح الأعلم ١ / ٣٦ ، شرح النحاس ٨٣ ، شرح السيرافي ٢ / ٤١٧ ، شرح ابن السيرافي ١ / ١٤٤.

(٢) الكتاب ١ / ٣٦ ـ ٧٣ ، المقتضب ٤ / ١٠١ ، مجالس العلماء ٢٤٢ ، شرح النحاس ٨٣ ، شرح السيرافي ٢ / ٤١٨.

(٣) شرح الأعلم ١ / ٣٦ ، ٧٣ ، شرح النحاس ٨٣ ، شرح السيرافي ٢ / ٤٢٠ ، الخصائص (٢ / ٣٥٤ ، ٣٧٦).

٨٠