النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

بين" لن" وما تدخل عليه ، فكذلك" السين" و" سوف".

فاعلم ذلك.

هذا باب الحروف التي يجوز أن يليها

بعدها الأسماء ويجوز أن يليها بعدها الأفعال

قال في الباب : سألت الخليل عن قول العرب : انتظرني كما آتيك

اعلم أن الفعل يرتفع بعد كما من وجوه : منها أن تجعل الكاف التي للتشبيه مع" ما" كشيء واحد يليها الفعل ، فرفع الفعل بعدها كما رفع بعد" ربما" ، وجعلت بمعنى" لعل" والفعل للاستقبال دون الحال وفيه معنى" كي" وإن ارتفع الفعل كقولك للرجل :

" ائتني لعلي أذهب معك" وإنما صار كذلك ، لأن ، " لعل" فيها طمع والذي يفعل الفعل ملتمسا لكون الشيء كثيرا في الألفاظ.

ومنها : أن يكون" ما" في" كما" وما أبعدها من الفعل بمنزلة المصدر كقولك : " أزورك كما تزورني" ، أي" أزورك كزيارتك إياي" ، ومن هذا قوله :

* لا تشتم الناس كما لا تشتم

أي : أترك شتمهم كتركهم شتمك إن تركت شتمهم.

والوجه الثالث : أن يكون" كما" وقتا ، كقولك : " ادخل كما يسلم الإمام" أي : في ذلك الوقت.

والوجه الرابع : أن تفيد التشبيه خاصة ، تقول : " أنا عندك كما أنت عندي" ، " فكما" بجملتها مفيدة للتشبيه ، وعلى هذا تجعل" ربما" بجملتها بمعنى" رب" غير أنها لا تخفض.

وأجاز الكوفيون النصب" بكما" على معنى" كيما" ، ولم يجز البصريون ذلك ، ووافق الكوفيون المبرد واستحسن قولهم وأظهر وجوه معاني" كما" في ما أنشده سيبويه في آخر الباب.

معنى" لعل" كأنه قال : " لا تشتم الناس لعلك لا تشتم" ، وكذلك قول أبي النجم :

* قلت لشيبان : ادن من لقائه

كما تغدي الناس من شوائه (١)

معناه : ادن من لقائه لعلنا نغدي القوم من شوائه إذا دنوت من لقائه وصدته وشيبان : ولد أبي النجم.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦١ ، المسائل البغداديات ٢٩٠ ، مجالس ثعلب ١ / ١٥٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٠٤ ، الإنصاف ١ / ٥٩١.

٤٠١

هذا باب نفي الفعل

اعلم أن حق نفي الشيء وإيجابه أن يشتركا في مواقعهما ، وأن لا يكون بينهما فرق في أحكامهما إلا أن أحدهما إيجاب ، والآخر نفي ، وعلى هذا ساق سيبويه ما ذكره في الباب ، وقد فصل جميع ذلك.

هذا باب ما يضاف إلى الأفعال من الأسماء

ذكر سيبويه في هذا الباب أشياء تضاف إلى الأفعال ، فمنها قولهم : " ما رأيته مذ كان عندي"." فمذ" يحتمل أن يكون هاهنا اسما وحرفا ، فإن كان اسما ، فهو كإضافة الزمان إلى الأفعال.

و" مذ" من الزمان وإن كان حرفا ، فهو حرف جر مختص به الزمان ، وعمله في ما بعده كعمل الاسم المضاف ، فجاز إدخاله على الفعل إذا كان في معناه ، وعمله كزمان إلى فعل يتلوه.

وذكر إضافة" آية" إلى الفعل ، ومعناها : علامة ، ومنزلتها منزلة الوقت ، لأن أصل الوقت هو فعل وجد ، فجعل وقتا لفعل آخر في كونه معه أو كونه قبله أو بعده ، فإذا جعلت قيام زيد علامة لفعل يحدث بعده ، فقد صيرته كالتاريخ لما قبله ، وبعده ، ومعه. ألا ترى أن قائلا لو قال لآخر : " علامة خروجي أذان المؤذن" ، علم المخاطب بوجود الأذان وقت خروجه ، كما أنه إذا قال : " خروجي يوم الجمعة" ، علم خروجه بوجود يوم الجمعة.

وأنشد :

* بآية تقدمون الخيل شعثا

كأن على سنابكها مداما (١)

فأضاف آية إلى الفعل ، لأن معناها علامة من الزمان ، فأضيف إلى الفعل كما يضاف الزمان إليه. والشعث : المتغبرة من الجهد والمشقة والسنابك : أطراف الحوافر. وشبه ما تصبب من العرق عليها ـ ممتزجا بالدم ـ بالمدام ، وهي : الخمر.

وأنشد لزيد بن عمرو بن الصعق :

* ألا من مبلغ عني تميما

بآية ما تحبون الطعاما (٢)

فالشاهد في هذا ، إذا جعلت" ما" لغوا وليس بلازم ، جعلها لغوا ؛ لأنه يحتمل أن يجعل

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٠ ، الكامل ٣ / ٤٠٨ ، شرح السيرافي (٤ / ٥١٠ ، ٥١٢) ، شرح المفصل ٤ / ١٨ ، مغني اللبيب ٢ / ٤٤٩ ، ٨٣٦ شرح شواهد المغني ٢ / ٨١١.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٠ ، الكامل ١ / ١٧١ ، شرح السيرافي ٤ / ٥١٤ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٨٢ ، معجم الشعراء ٤٩٤ ، مجمع الأمثال ١ / ٣٩٤ ، مغني اللبيب (٢ / ٥٤٩ ، ٨٣٦) ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٦ ، الخزانة ٦ / ٥١٨.

٤٠٢

" ما" و" تحبون" مصدرا ، كأنه قال : بآية محبتكم ، هذا مذهب المبرد وإنما قال : ما تحبون الطعام ؛ لأن تميما تنسب إلى حب الطعام ، وتعير بذلك لقصة شهرت عنهم ، وهي معروفة في كتب الأخبار.

ومما ذكر سيبويه قولهم : " اذهب بذي تسلم".

ومعنى هذا الكلام : دعاء ، كأنه قال في المعنى : والله يسلمك وتقدير سيبويه في هذا ونحوه من المضاف ، أن الفعل يقام مقام مصدره في الإضافة كأنه قال : " بذي سلامتك" وهو قول المبرد وشرحه في" يوم يقوم زيد" ونحوه.

وقال : " ذو" لا تقع مفردة أبدا ، فجازت إضافتها إلى ما لا يضاف إليه غيرها فوقعت على الفعل.

ووجه آخر في" ذي تسلم" ، كأنه قال : في زمان" ذي تسلم" ، و" ذي" : نعت لزمان والنعت هو المنعوت ، فأضيف إلى الفعل ؛ لأنه في معنى زمان ، كأنه قال : " ليوم تسلم".

ووجه آخر : أن يكون : " ذي" بمعنى" الذي" ، وخولف بين لفظها في هذا المثل وبين لفظها في سائر المواضع ، فإنها تستعمل في هذا الباب" بالياء" وفي غيره" بالواو" في الرفع والنصب والجر ، وهذه اللغة في طيئ كثيرة ، فيكون المعنى : اذهب بالزمان الذي تسلم فيه.

هذا باب إنّ وأنّ

اعلم أن" أنّ" وما بعدها بتأويل المصدر ، كما تكون (أن) المخففة وما بعدها بمنزلة المصدر ، إلا أن المثقلة لا تقع مبتدأة في اللفظ ، فإن تقدمها شيء ، جاز ابتداؤها ، كقولك : " عندي أن زيدا راحل" ، معناه : عندي رحيله ، وإنما امتنعت" أن" من التقديم لأن" إن" و" أن" من حيز واحد في الأصل ، فاختاروا الابتداء للفظ" إن" المكسورة وجعلوها بمنزلة الفعل المبتدأ به. ومن الدليل على أنهما بمعنى واحد أنك تقول : (ظننت إن زيدا لمنطلق) ، فإذا أسقطت اللام قلت : (ظننت أن زيدا منطلق) ، فالمكسور هي المفتوحة كما أنك إذا قلت : علمت زيدا منطلقا ثم قلت : علمت لزيد منطلق ، فالمبتدأ والخبر هما المفعولان في المعنى.

وهذا معنى قول سيبويه في الباب الذي يلي هذا في حسن تقديم" أن" الخفيفة" لأنها لا تزول عن الأسماء والثقيلة تزول" يعني أن المفتوحة تقع مكانها المكسورة.

ومما يمنع من تقديم" أن" المفتوحة في اللفظ ، أنها إذا تقدمت ارتفعت بالابتداء ، وكل مبتدأ ليس قبله شيء يتعلق به ، يجوز دخول" إن" المكسورة عليه وأن يليها في اللفظ ، فيلزم في هذا أن يقال : " إن أن زيدا منطلق بلغني" ، وهذا لا يجوز لاجتماعهما في اللفظ ، فاعلم ذلك.

هذا باب من أبواب أنّ

شبه سيبويه ـ في هذا الباب ـ وقوع" أن" بعد" لو" وهي في تقدير الاسم ،

٤٠٣

ولا يستعملون الاسم بعدها لوقوع" تسلم" بعد" ذي" ، " وتسلم" في موضع اسم ، ولا يستعملون الاسم بعد" ذي" في هذا الموضع ، وهذا عنده بمنزلة ما لا يقاس عليه.

وقد تقدم القول في موضع" أن" من الإعراب بعد" لو" في صدر الكتاب والحجة لسيبويه وغيره ، فأغنى ذلك عن ذكره هاهنا.

وقوله : " أما إنه منطلق"

يجوز فيه كسر" إن" وفتحها ، فمن كسرها جعل" أما" استفتاحا وتنبيها للمخاطب ليسمع الكلام المقصود ولم يعتد بها ومن فتحها فهو بمنزلة : " حقّا أنه منطلق" ، فحقا ، في مذهب الظرف ، و" أنه منطلق" في موضع مبتدأ ، كأنه قال : في حق انطلاقه ، وأما قول الله عز وجل : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٦] ففيه قراءتان : كسر" إن" وفتحها. فمن كسرها ، فقد تم الكلام بقوله : (وما يشعركم) ثم أخبر الله أنهم لا يؤمنون.

ومن فتحها : فقد تم الكلام أيضا عند قوله : (وما يشعركم) ثم استأنف الكلام وأبهم أمرهم ، ولم يخبر عنهم بإيمان ولا غيره ، فقال : " أنها" على معنى" لعلها" ، وهذا قول النحويين : الخليل والكسائي والفراء وغيرهم ، وقد حكى سيبويه عن الخليل ما حكاه عن العرب مما يدل على هذا المعنى.

وإنما كرهوا أن يجعلوا" أنها" في صلة يشعركم" لأن" ذلك يصير : كالعذر لهم والإخبار بأنهم يؤمنون. ألا ترى أنك إذا قلت لإنسان : ما يدريك أن زيدا ليس بمحسن؟ فالأظهر في قصد قائله : أنه يغلب له الإحسان ، فلذلك عدلوا إلى تفسيرها" بلعل" ـ والعرب تقول : علك وعنك ، ولعلك ولعلهم ، العين في" عنك" همزة لأنها من مخرجها كما أبدلوا اللام نونا.

ومعنى قول سيبويه : " ألا ترى أنك لا تقول : إن أنك ذاهب في الكتاب".

مثل بهذا فساد الجمع بين" إن" وأن" ، ولو فصل بينهما فقال : (إن في الكتاب أنك ذاهب) ، لجاز وحسن الفصل بينهما.

ومعناه : أن الكتاب انطوى واشتمل معناه على أنه ذاهب ، كما يقول القائل لصاحبه : في اعتقادي أنك راحل ، وليس يريد حكاية لفظ الكتاب وإنما يريد به معنى ما في الكتاب.

قوله : " ويقول الرجل للرجل : لم فعلت ذلك؟ فيقول : لم أنه ظريف؟.

فتح" أن" لتقدير اللام ، وإعادة" لم" لا يعتد بها ، لأن المسئول كأنه أعاد سؤال السائل ، وحكى لفظه ثم حدث عنه.

وأما قوله : " أي إني نجد"

كأن إنسانا تكلم بشيء عرض فيه أنه شجاع كرجل قال : " أنا أسير بالليل وحدي لي المفاوز" بمنزلة من قال : إني نجد.

٤٠٤

وإذا قال : أي : أني نجد ، ففتح" أن" فكأنه قال : أي : لأني نجد فاعرف ذلك.

وأنشد في ما أتى محمولا على الفعل ففتحت" أن" لذلك ـ لساعدة بن جؤية :

* رأته على شيب القذال وأنها

تواقع بعلا مرة وتئيم (١)

ففتح" أن" على تقدير : رأته ، ورأت أنها تواقع ، ولو كسرها على القطع لجاز ، ومعنى تئيم : تصير أيما لا زوج لها.

هذا باب آخر من أبواب أنّ

تقول ذاك وأن لك عندي ما أحببت.

اعلم أن هذا الكلام إنما يتكلم به المتكلم لقصة يقدمها ثم يؤكدها بالذكر ليعطف عليها قصة أخرى زيادة على القصة الأولى ، كقولك للرجل : أنا أكرم من قصدني من أمثالك ، ذلك وأن لك عندي ما أحببت على ذلك. وإن استأنفت" إن" فكسرتها فهو جيد ، لأنها جملة معطوف على الجملة التي قبلها.

وأنشد للأحوص :

* عودت قومي إذا ما الضيف نبهني

عقر العشار على عسري وإيساري

إنّي إذا خفيت نار لمرملة

ألفي بأرفع تل رافعا ناري

ذاك ولأنّي على جاري لذو حدب

أحنو عليه بما يحني على الجار

فكسر قوله : وإني على جاري لذو حدب من أجل اللام.

قال سيبويه : " فهذا أيضا يقوي ابتداء إن في الأول" يعني : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا) [طه : ١١٨ ـ ١١٩] بالابتداء والقطع.

يصف في الأبيات أنه مكرم للضيف ، وإن أتاه في أصعب الأوقات ووافقه على أشد الأحوال أو أصلحها ، من عسر أو يسر ، وأنه يوقد ناره بالليل في أرفع موضع لتتبين للطارق فيقصد إليها إذا كان غيره مخفيا لناره لئلا يشعر بمكانه فيتعرض لمعروفه ، ثم قال : " ذاك" ، أي : أمري" ذاك" وإني لذو حدب : أي عطف على الجار وميل إليه بما يجب عليّ من مشاركته وحق جواره.

هذا باب آخر من أبواب أنّ

تقول : جئتك أنك تريد المعروف على معنى جئتك لأنك تريد.

اعلم أنه إذا تقدمت" أن" مفتوحة وقبلها حرف جر مقدم فقول الخليل : أنها في موضع

__________________

(١) ديوان الهذليين ٢ / ٢٢١ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٢ ، شرح النحاس ٣٠١ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٢١ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٩١.

٤٠٥

نصب بالفعل الذي بعدها.

فإذا قلت : جئتك أنك تريد المعروف ، " فأنك" في موضع نصب" بجئتك" ، لما حذفت اللام ، وصل الفعل إلى ما بعدها ، وكانت اللام في موضع ، نصب وكذلك سائر ما ذكره في الباب.

وكان الكسائي يقول : إنها في موضع جر.

وقد قوى سيبويه ذلك من غير أن يبطل قول الخليل.

وكان المبرد يراه منصوبا والزجاج يجوز الأمرين جميعا. والأقوى : أن موضعه جر لأن حروف تحذف من" أن" و" أن" مخففة ومشددة ، لأنهما وما بعدهما بمنزلة اسم واحد وقد طال فحسن الحذف منه كما يحسن حذف الضمير العائد إلى" الذي" ، فحرف الجر وإن لم يذكر فكأنه موجود في الحكم كما أن الضمير وإن حذف ، فهو كالمثبت في التقدير.

وأنشد سيبويه للفرزدق :

* منعت تميما منك أني أنا ابنها

وشاعرها المعروف عند المواسم (١)

ففتح" أن" على معنى : " لأني أنا ابنها" ، وكسرها على القطع جائز ، وحكاه سيبويه عن العرب.

وشبه سيبويه حذف حرف الجر وإعماله مضمرا بحذف" رب" وإعمالها مضمرة.

وأنشد :

* وبلد تحسبه مكسوحا

أراد : ورب بلد.

والمبرد يخالفه في هذا ويجعل" الواو" بدلا من رب مغنية عنها ، فما بعدها ينخفض" بما" كما ينخفض" برب"

والمكسوح : المكنوس ، وصفه بالخراب وقلة العمارة ، فهو لا ينبت شيئا ولا ترى به أثرا فكأنه مكنوس.

قوله في آخر الباب بعد أن ذكر الخليل : " إلا أنه" الهاء للخليل ـ وقوله : " موصولا إليه" : الهاء : " لأن" ، والهاء في" تقديمه وتأخيره"" لأن" أيضا.

وقوله : " ليس هو الذي عمل فيه".

يعني : ليس الفعل الذي عمل في" أن"

هذا الباب مفهوم إن شاء الله.

__________________

(١) ديوانه ٢ / ٥٨٧ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٣١.

٤٠٦

هذا باب إنما

بين سيبويه في هذا الباب أن" إنما" بمنزلة" أن" في أنها مع ما بعدها بمنزلة المصدر ، ولا فرق بينهما إلا امتناع" إنما" من العمل بدخول" ما" كافة عليها ، وهو معنى قول الخليل : " أنها بمنزلة فعل ملغى" ، أي : إن منزلتها منزلة فعل إذا نصبت اسمها ، فإذا كفت" بما" عن العمل صارت بمنزلة فعل ملغي كقولك : " أشهد لزيد خير منك" وما أشبهه.

وأنشد لابن الإطنابة :

* أبلغ الحرث بن ظالم المو

عد والناذر النذور عليا

أنما تقتل النيام ولا تقتل

يقظان ذا سلاح كميّا (١)

ففتح" أنما" حملا على" أبلغ" ولو كسر على معنى : " قل له : إنما تقتل النيام" ، لجاز وأبلغ في معنى" قل له".

ومعنى قوله : أنما تقتل النيام أن الحارث بن ظالم المري قتل خالد بن جعفر بن كلاب وهو نائم ، وسببه أن الحارث بن ظالم دخل على النعمان بن المنذر ، وخالد جالس معه يأكل تمرا ، فلما رآه النعمان ، قال : ادن يا حار فقال له خالد بن جعفر : من ذا الذي أراك تدني أبيت اللعن؟ قال : هذا الحارث بن ظالم.

قال خالد للحارث : ما أراني إلا حسن البلاء عندك ، قال : وما بلاؤك؟ قال : قتلت أشراف قومك فتركتك سيدهم قال : سأجزيك ببلائك.

وجلس يأكل معهم فلما خرج الحارث ، قال النعمان لخالد : ما أردت إلا أن تحرش هذا الكلب وأنت ضيف لي. قال خالد : إنما هو عبد من عبيدي ، ولو كنت نائما ما أيقظني ، فلما أمسى النعمان بعث إلى الحارث بن ظالم بظرف من خمر ليعتقه وأراد أن يشغله بذلك فصبه بينه وبين جيبه في كثيب ، فلما أمسى الحارث خرج بالسيف حتى أتى خالدا وهو في قبة من أدم فوضع السيف في بطنه ثم اتكأ عليه حتى قتله ، ثم تحمل من تحت ليلته حتى لحق بقريش.

فلما قال ابن الإطنابة هذا الشعر : أتاه الحارث متنكرا وهو نائم ، فأنبهه وهو لا يعرف الحارث ، فلما انتبه قال له :

البس سلاحك فإني مستنصرك ، فلبس سلاحه ومشى معه حتى تنحى عن البيوت فقال له الحارث : ألست يقظان ذا سلاح؟

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٣٤ ، شرح النحاس ٣٠٢ ، شرح ابن السيرافي ٤ / ١٩١ ، شرح المفصل ٨ / ٥٦.

٤٠٧

قال : بلى ، قال : فأنا الحارث بن ظالم أريد قتلك. فذل له ابن الإطنابة حتى كف عنه.

وأنشد أيضا لكثير :

* أراني ولا كفران لله وإنما

أواخي من الأقوام كل بخيل (١)

فهذا لا يجوز فيه فتح إنما لأن إن لو رفعت هاهنا كانت مكسورة لدخولها على جملة ابتداء وخبر وقوعها موقع المفعول الثاني كما تقول : أرى زيدا صاحبه كل بخيل ولو دخلت" إن" هنا لكسرت. فاعلم ذلك.

هذا باب تكون فيه" أن" بدلا من شيء هو الآخر

وذلك قولك : بلغتني قصتك أنك فاعل

ففتحت أن لأنها بدل من القصة ، وهذا وما أشبهه بين إن شاء الله.

هذا باب تكون فيه أن بدلا من شيء ليس بالآخر

ذكر في هذا الباب آيات من القرآن تحتاج إلى التبيين والفرق بين بعضها وبعض فمنها قول الله عز وجل : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الأنفال : ٧] " فأنها" بدل من" إحدى الطائفتين"

وهو بدل الاشتمال كما تقول : وعدتك إحدى الثوبين ملكه ، " فملكه" : بدل من إحدى الثوبين.

وقوله عز وجل : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) [يس : ٣١] : أنهم بدل من معنى جملة (كم أهلكنا).

لا من لفظ" كم" ، لأن لفظ" كم" في التقدير منصوب" أهلكنا" ، فلو أبدلنا" أنهم" من لفظ" كم" صار العامل فيها" أهلكنا" فيكون تقديره" أهلكنا أنهم إليهم لا يرجعون" ، وهذا لا معنى له ، ولكن" كم" وما بعدها إذا جعلت اسما غير استفهام ، فتقديرها : " ألم يروا الذين أهلكناهم من القرون" ، ومعنى" يروا" : يعلموا فإذا قدرناه هذا التقدير ، وأبدلناه ، صار المعنى : ألم يعلموا أن القرون التي أهلكناهم من قبلهم لا يرجعون.

وفيه وجه آخر : وهو أن تجعلها في صلة" أهلكناهم" ، أي : أهلكناهم بهذا الضرب من الهلاك.

وقوله عز وجل : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] فيه وجهان :

__________________

(١) ديوانه ٢ / ٢٤٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٦ ، شرح النحاس ٣٠٢ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٣٥ ، الخصائص ١ / ٣٣١ ، شرح المفصل ٥ / ٥٨٨ ، الهمع ١ / ٢٤١.

٤٠٨

أحدهما : أن تجعل" أنكم" الأولى المفعول الثاني من" يعدكم" واسم" أن" الكاف والميم وخبرها : " مخرجون"" وإذا متم" : ظرف لقوله : (مُخْرَجُونَ ،) و" أنكم" الثانية معادة وهي الأولى ، لتقرب من الخبر لما تراخى ما بينها وبين الخبر ، كقوله عز وجل : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ،)" فهم" الثانية إعادة للأولى وتوكيد لها وهو قول الجرمي في هذا ونحوه ويحتج له في ذلك ، بأنها تقع بعد الفاء مفتوحة كقوله عز وجل : (أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) [يوسف : ٣٧] أنما هو" فله" ، ثم كررها توكيدا.

والوجه الثاني : أن تجعل" أنكم" الأولى المفعول الثاني" ليعدكم" و" أنكم مخرجون" في موضع اسم مبتدأ ، وخبره" إذا متم" وهو ظرف له. وتقديره : " أيعدكم أنكم إذا متم إخراجكم" ، وهو قول المبرد.

وعلى هذين الوجهين قولهم : " زعم أنه إذا فعل أنه سيمضي".

وظاهر كلام سيبويه أنه جعل" أنكم" الثانية بدلا من" أنكم" الأولى في قوله : (أيعدكم).

وفي هذا الكلام خلل ؛ لأنه لا يجوز البدل من الاسم حتى يتم ، وقوله : (أنكم إذا متم) ليس باسم تام لأنه لم يأت" لأن" بخبر.

وأنشد سيبويه لابن مقبل :

* وعلمي بأسدام المياه فلم تزل

قلائص تخدي في طريق طلائح

وأني إذا ملت ركابي مناخها

فإني على حظي من الأمر جامح (١)

استشهد به على كسر" إن" بعد الفاء في قوله : " فإني" ولو فتحها على التكرير والتوكيد الأول لجاز.

الأسدام : المياه القليلة المتغيرة بقلة الواردة عليها. ومعنى تخدي : تسير سيرا سريعا ، والطلائح : المعبية لطول السفر.

والجامح : الماضي على وجهه لا يرده شيء عن مراده.

هذا باب من أبواب أنّ تكون فيه أنّ مبنية على ما قبلها

وذلك قولك : أحقّا أنك ذاهب؟ ... وأكبر ظنك أنك منطلق

هذا يجوز فيه وجهان : الرفع والنصب ، فالرفع : على الابتداء ، وتقديره : أحق ذهابك ، وأكبر ظنك ذهابك.

__________________

(١) ديوانه ٤٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ٤ / ٤٦٧ ، الكامل ٤ / ٤٢ ، شرح النحاس (٣٠٢ ، ٣٠٣) ، شرح السيرافي ٤ / ٥٤٤ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١١٦.

٤٠٩

والنصب : على تقدير الظرف ورفع" أن" بالابتداء ، ويكون التقدير : أفي زمن حق أنك ذاهب؟ ، ثم حذف" زمن" كما قيل : " سير عليه مقدم الحاج".

وذهب المبرد إلى أن الخليل رفع" أنك" بالظرف في هذا الموضع للضرورة كما ترفع بالظرف المضمر في قولك : " زيد في الدار وعمرو عندك" ورفع المضمر بالظرف صحيح ، وأما رفع الظاهر ، فليس بمذهب سيبويه والخليل. والذي دعا المبرد إلى حكاية هذا عن الخليل ، أنه لما ذكر : أفي حق أنك ذاهب؟ " ، قال عقيبه : " فصارت أن مبنية عليه كما يبني الرحيل على غد إذا قلت : غدا الرحيل".

وقد استعمل سيبويه لفظ البناء في الشيء الذي ليس بعامل في ما يبنى عليه كما قال : " أن" مبنية على" لولا" ، وإنما ذلك على جهة تقدمها وحاجة ما بعدها إليها.

وذكر سيبويه قولهم : " لا محالة أنك ذاهب" ، والظاهر من كلامه أن ـ " أن" في موضع خفض" بمن" المحذوفة وهو على القلب من خفض أن بعد حذف الخافض منها في الباب الذي ذكر فيه ذلك.

وقال المبرد : إذا قلت : " لا محالة أنك ذاهب" ، فإنه في موضع رفع بخبر

الابتداء كما تقول : " لا رجل أفضل من زيد" وكذلك : " لا بد أنك ذاهب". فإن قال قائل : " لا" الناصبة هي جواب" هل من؟ " ، فما المسألة التي جوابها" لا محالة" ، ولا بد؟ وما معنى ذلك؟ ومن أي شيء أخذ؟

قيل له : أما" لا محالة" فالمحالة والحيلة معناهما واحد ، وأصل المسألة : هل من محالة من كذا؟ وهل من حيلة؟ ومعناه : هل من محالة في تركه أو في التخلص منه.

فيقول المجيب : " لا محالة منه" أي في الخلاص.

وأما" بد" ، فأصلها : من مفارقة الشيء ، ومنه قيل : تبدد الشيء أي تفرق ، وقولهم : رجل أبد وامرأة بداء إذا تفرق ما بين فخذيه.

فإذا قال : " لا بد منه" ، فكأنه قال : لا مفارقة ولا تباعد منه.

وقال المبرد : معنى" بد" : موسع ، فإذا قلت : " لا بد أنك ذاهب" فكأنك قلت : " غير موسع عليك أنك ذاهب" ، وحقيقته : غير موسع عليك تركك الذهاب". وأصل هذا من المعنى الأول ؛ لأن تفرق ما بين الشيئين : سعة ما بينهما.

ومعنى قول سيبويه : " أما جهد رأيي فأنك ذاهب لأنك لم تضطر إلى أن تجعله ظرفا كما اضطررت في الأول.

يعني أنك مضطر قبل دخول" أما" أن تفتح" أن" إذا قلت : " جهد رأيي أنك ذاهب" فتجعل" أن" مبتدأ وما قبلها ظرفا لها كقولك : " خلفك زيد" ، لأنك إن كسرتها انقطع الظرف

٤١٠

منها لأن ما بعد" أن" لا يعمل في ما قبلها قبل دخول" أما" فصرت مضطرّا إلى فتحها ، وإذا أدخلت" أما" جاز فيها الكسر ، فلم تضطر إلى فتحها وابتدأتها.

وذكر سيبويه قولهم : " أما بعد ، فإن الله عز وجل قال في كتابه" ثم قال : " ولا تكون بعد وقبل خبرين إذا لم يكونا مضافين".

ولم يذكر غيره أن بينهما ـ مضافتين ومفردتين ـ فرقا ، وإنما لم يخبر عنهما في مذهبه لنقصانهما وهما في حال الإضافة غير متمكنين ، فإذا منعا الإضافة ، ازدادا بعدا عن التمكن ، فمنعا بذلك أن يكونا خبرين.

وأما في حال الإضافة ، فالإخبار بهما جائز كقولك : " زيد قبلك" و" عمرو بعدك".

وقولهم : " لا جرم" ، هي عند الخليل وسيبويه ومن تبعهما من البصريين فعل ماض ، ويجعلون" لا" داخلة عليها ، فمنهم من يجعلها جوابا لما قبلها وهم : الخليل ومن تابعه ، ومثلوه بقول الرجل : كان كذا ، وفعلوا كذا ، فتقول : " لا جرم أنهم سيندمون".

واختلفوا في معنى : " جرم" إذا كان فعلا ماضيا.

قال سيبويه : " حقّ أن لهم النار" واستدل على ذلك بقول المفسرين : هي بمعنى" حقّا".

ويقول الشاعر :

* جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا (١)

أي : حققتهم للغضب.

وقال غيره : " جرم" بمعنى : " كسب" ، من قوله تعالى : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي) [هود : ٨٩](وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ) [المائدة : ٢] وعلى هذا تأول : جرمت فزارة ، أي : كسبت فزارة الغضب.

واختلفوا في فاعل" جرم" ، فقال المبرد" أن" في موضع رفع" بجرم" ، كأنه قال : حق كون ذلك.

و" جرم" عند الفراء وأصحابه اسم منصوب" بلا" على التبرئة وهي عندهم بمعنى : " حقّا" ومجراها في اللفظ مجرى" لا بد" و" لا محالة"

وأما : " شد ما أنك ذاهب ، وعزما أنك ذاهب" ، فقد جعله سيبويه على وجهين :

أحدهما : أن يكون بمعنى : حقّا أنك ذاهب فيكون في تأويل ظرف و" أنك ذاهب" مبتدأ ، و" شد" و" عز" فعلان في الأصل ـ دخلت" ما" عليهما فأبطل عملها ، وهما وإن جعلا

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٩ المقتضب ٢ / ٣٥٢ ، شرح النحاس ٣٠٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٥٦ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٣٦ ، الخزانة ١٠ / ٢٨٣ ، اللسان (جرم) ١٢ / ٩٣.

٤١١

في موضع حقّا ، فلا تدخل عليهما" في" كدخولها على" حقّا" ، لأنهما في الأصل فاعلان.

والوجه الآخر : أن يكون" شد" وعز فعلين ماضيين" كنعم" و" بئس" ووقوع" ما" بعدهما كوقوعها بعد" نعم" و" بئس" في قولك : نعما صنيعك وبئسما عملك. وتقديره : " نعم الصنيع صنيعك" ، و" بئس العمل عملك".

وقوله : " كما أنه لا يعلم ذلك فتجاوز الله عنه"

دخلت الفاء على" تجاوز" لأنه دعاء ، ودخولها عليه كدخولها في فعل الأمر إذا تقدم المفعول ، كقولك : " زيدا فاضرب" ، وإن شئت أسقطت الفاء ، و" ما" عند سيبويه : لغو ، ولا يجوز إسقاطها وإن كانت لغوا ؛ لأنهم أرادوا بزيادتها : الفرق بين مشتبهين ، فإذا أدخلوا" ما" على حرف التشبيه ، أرادوا : أن أحد الشيئين وجوده حق كما أن وجود الآخر حق ، وإن كان الشيئان في أنفسهما مختلفين ، كقولك : " زيد عندنا كما أن عمرا عندك" ، أي : هذا موجود صحيح كما أن هذا موجود صحيح.

وإن أردت تشبيه أحدهما بالآخر ، قلت : " زيد عندنا كأن عمرا عندنا" ، أي مشتبهان في كونهما عندنا ، وإن لم ترد أن هذا حق كما أن هذا حق.

وكان المبرد يجيز أن تكون" ما" مع كاف التشبيه لغوا ، وأن تكون مبنية معها.

وقد بين سيبويه الدلالة على أن" ما" لغو دون أن تبنى مع الكاف ولم يقم دليل على غير ذلك.

ومما احتج به على أنها لغو ، أن الشاعر إذا اضطر أسقطها ، وأنشد للنابغة الجعدي :

* قروم تسامى عند باب دفاعه

كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا (١)

التقدير عنده : كما أنه يؤخذ ، فحذف" ما" وخفف" أن" وقد نسب سيبويه في هذا التقدير إلى السهو ؛ لأنه لم يشبه جملة بجملة لأن قوله : " دفاعه" اسم واحد وليس بجملة.

وقوله : " كأن يؤخذ" ليس من الأسماء الواضحة الوجود ، فشبه به تحقيق وجود شيء آخر ، وإنما يصف النابغة خصومة جرت بين رجل من عشيرته يناظر عنها ، وبين خصوم له من قبائل أخر ، بحضرة ملك ، وأن ذلك الملك كان ميله على عشيرته ، وأن المناظر عنهم ثبت لهم في المناظرة ومعنى قوله" دفاعه" : أي : دفاع الباب هو رده وحجبه لمن يريد الدخول وطرده ، وهو مثل القتل في شدته ، لأنه إذلال للمطرود والمحجوب.

وقال المازني : " أنا لا أنشده إلا : (كأن يؤخذ المرء الكريم فيقتلا) لأنها" أن" التي تنصب الأفعال ، دخلت عليها كاف التشبيه".

__________________

(١) ديوانه ١٣١ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٥٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٥٨ المسائل البغداديات ٣٣٤.

٤١٢

وأنشد سيبويه للأسود بن يعفر :

* أحقّا بني أبناء سلمى بن جندل

تهددكم إياي وسط المجالس (١)

فنصب" حقّا" على الظرف ، وتهددكم" مبتدأ وخبره في الظرف ، فهذا بمنزلة : " حقّا" أنك ذاهب" لأن" أن" مع ما بعدها بمنزلة" الذهاب"

قال : ونظير : أحقّا أنك ذاهب ، قول العبدي :

* أحقّا أن جيرتنا استقلوا؟

فنيتنا ونيتهم فريق (٢)

فأن مبتدأة ، وخبرها في الظرف قبلها وقوله : فنيتنا ونيتهم فريق.

أفرد لأن" الفريق" ، قد يستعمل في لفظ الواحد للواحد والاثنين والجميع كما تقول هو صديق ، و" هما صديق". وهم" صديق" يصف أن جيرتهم المرتبعين معهم رحلوا عنهم وأخذوا في جهة غير جهتهم ، والنية : الجهة التي نووها وهي مثل النوي.

وأنشد لابن أبي ربيعة :

* أألحق أن دار الرباب تباعدت

أو انبت حبل أن قلبك طائر؟ (٣)

فنصب" الحق" على الظرف وجعله خبرا ، لأن. ومعنى قوله : " أن قلبك طائر". أي : يضطرب ويخفق جزعا لتباعدها وانقطاع حبلها. ويكون أيضا في معنى : " أن عقلك زائل" ، وكنى على" العقل"" بالقلب" لأنه مستقره وموضع ثباته ، وكنى عن" الزوال"" بالطيران".

وأنشد للنابغة الجعدي :

* ألا أبلغ بني خلف رسولا

أحقّا أن أخطلكم هجاني (٤)

القول فيه كالقول في ما قبله. وبنو خلف حي من بني تغلب ، وهم رهط الأخطل ، وكانت بينه وبين النابغة مهاجاة.

هذا باب من أبواب إن

جميع هذا الباب في ما أتى محكيّا وهو مفهوم مستغن عن التفسير إن شاء الله.

__________________

(١) ديوانه ٤٢ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٨ ، إعراب القرآن ٢ / ٥٢٥ ، شرح السيرافي ١ / ٥٥٢ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٧٨ فرحة الأديب ١٩٧ ، الخزانة ١ / ٤٠١.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦١ ، الأصمعيات ٢٠٠ ، شرح النحاس ٢٠٣ شرح السيرافي ٤ / ٥٤٧ ، ٥٥٣ ، المسائل البغداديات ٤٢٣ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٢٠٨ ، الجنى الداني ٣٩١.

(٣) ديوانه ١٠١ وبه (أحقا لئن) و (إذا انبت) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٨ شرح النحاس ٣٠٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٤٤ ، حاشية الصبان ٤ / ٤٧٤.

(٤) ديوانه ١٦٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٦٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٤٨ حاشية الصبان ٥ / ١٨٥ ، الخزانة ١ / ٢٧٣.

٤١٣

هذا باب آخر من أبواب إنّ

إن قال قائل : ذكر سيبويه في هذا الباب أن" إذا" تكسر بعدها" إن" وتفتح ، فإذا كسرت" إن" فما موضع" إذا"؟ وما العامل فيها؟ وقد علمتم أنه لا يعمل خبر إن في ما قبل" إن"؟.

قيل له : " إذا" حرف دخل لمعنى المفاجأة ولا عمل لها ، وهي في مذهب حروف العطف ، فمن حيث دخلت" إن" المكسورة بعد حروف العطف ، كان دخولها بعد" إذا" ، ومن أجل ذلك جاز دخول" الفاء" عليها وخروجها منها.

ـ أما دخولها فلأن" الفاء" للعطف ، وما بعدها معطوف على ما قبلها كعطف جملة على جملة ، وإذا للمفاجأة ، واختصت بالدخول عليها" الفاء" من بين حروف العطف ، لأن ترتيب الثاني أن يكون بعد الأول في المعنى.

ـ وأما إسقاط" الفاء" فلأن حرف المفاجأة لما ورد بعد الفعل الأول دل على أنه عقيبه فأغنى عن الفاء.

وأنشد :

* وكنت أرى زيدا كما قيل سيدا

إذا إنه عبد القفا واللهازم (١)

فكسر" إن" بعد" إذا" على معنى : " فإذا هو عبد القفا واللهازم" ولو فتحها على معنى : " فإذا العبودية أمره وشأنه" ، لجاز.

ومعنى قوله : " عبد القفا واللهازم" أي : إذا نظرت إلى قفاه ولهازمه تبينت أنه لئيم كالعبد.

هذا باب آخر من أبواب إن

أنشد ـ في هذا الباب ـ لكثير مستشهدا بكسر" إن" بعد" إلا" :

* ما أعطياني ولا سألتهما

إلا وإنّي لحاجزي كرمي (٢)

فقوله : " إلا وإني لحاجزي" ، " إن" ما بعده ، جملة في موضع الحال ، ولذلك دخلت عليها واو الابتداء.

وكان المبرد يرد البيت على سيبويه ، ويقول : تقدير سيبويه في العربية صحيح ولكنه

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٢ ، المقتضب ٢ / ٣٥٠ ، شرح النحاس ٣٠٤ ، المسائل البغداديات ٣٤٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٦٤ ، الجنى الداني ٣٧٨ ، ٤١١ ، شرح المفصل ٤ / ٩٧ ، أوضح المسالك ١ / ٢٤٣ ، حاشية الصبان ١ / ٢٧٦ ، الخزانة ١٠ / ٢٦٥.

(٢) ديوانه ٢ / ٦٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٢ ، المقتضب ٢ / ٣٤٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٦٧ ، حاشية الصبان ١ / ٢٧٥ ، المقاصد النحوية ٢ / ٣٠٨.

٤١٤

غلط في معنى الشعر ، ويرويه : ألا وإني لحاجزي ، يذهب إلى أنهما ما أعطياه وأنه ما سألهما ، ثم ابتدأ يصف نفسه بأنه يحجزه عن سوء الهمة كرمه ، ويجعل ألا للتنبيه.

والصحيح" إلا" ، لأنهما يوجب أنهما أعطياه وأنه سألهما وحجزه كرمه عن أن يعيب إعطاءهما ، وأن يلح عليهما في مسألته ، وشعره يدل على ذلك ، وبعد هذا البيت :

مبدى الرضا عنهما ومنصرف

عن بعض ما قد سألت لم ألم (١)

فهذا وما يتصل به من الأبيات يدل على الإعطاء والسؤال.

وأراد بالشعر : عبد العزيز وعبد الملك ابني مروان بن الحكم ، وكانا يعطيانه ويسألهما ، مشهور ذلك من فعله وفعلهما.

هذا باب آخر من أبواب إن

ذكر في هذا الباب أن بعض العرب يقول : لهنك لرجل صدق في حال اليمين. وفيها ثلاثة أقوال :

أحدهما : قول سيبويه وهو أن أصلها" إن" أبدلوا همزتها" هاء" كما أبدلوا الهاء من هرقت مكان الألف ، ولحقت اللام التي قبل الهاء لليمين كما لحقت بعدها في قوله : إن زيدا لما لينطلقن ، فاللام الأولى في" لهنك" لام اليمين ، والثانية لام إن. وفي : " لما لينطلقن" ، اللام الأولى" لإن" ، والثانية لليمين وشبه سيبويه دخول اللام على إن لليمين وإن كان بعدها إن وهي للتوكيد ـ بدخولها لام اليمين في آخرها وإن كان قبلها" لما" وهي للتوكيد. وقد يجتمع الحرفان في معنى واحد فيؤكد أحدهما الآخر. كقولهم : (ما إن زيد منطلق) ، وهما حرفا جحد.

والثاني : قول الفراء ، قال : هي كلمتان كانتا تجتمعان ، فيقولون :

والله إنك لعاقل ، فخلطتا فصار فيهما اللام والهاء من" الله" والنون من" إن" المشددة ، وحذفوا ألف" إن" كما حذفوا الواو من أول و" الله".

والثالث : معناه : لله إنك لمحسن ، ثم حذف وغير. وهذا أسهل في اللفظ وأبعد في المعنى. والذي قال الفراء أصح في المعنى لأن قول القائل : " والله إنك لقائم" ، أصح من : " لله إنك لقائم" ، لأن قولهم : " لله" : تعجب ، والتعجب لا تدخل معه إن ؛ لأن التعجب وضع لما هو قائم ثابت ، ولما قد مضى و" إن" للاستقبال لا غير ، وضعت ثم كثرت حتى صارت للواجب على معنى الجواب ، وهذا القول ـ في الوجه الثالث ـ حكاية المفضل بن سلمة.

وقوله : " وأجاز سيبويه في الشعر أشهد إن زيدا ذاهب بالكسر. ورد عليه المبرد فقال : ليس للضرورة في" أن" و" إن" عمل ، لأن وزنهما واحد والقافية بهما سواء.

__________________

(١) ديوان كثير ، ٢ / ٦٦ ، وشرح السيرافي ٤ / ٥٦٩.

٤١٥

ووجه الضرورة ـ على مذهب سيبويه ـ أن تريد اليمين ولا تدخل في خبرها اللام ، ولا تفتحها وأنت تريد اليمين ؛ لأن فتحها ، إنما يكون إذا أردت بها معنى" الياء" ـ فاعلمه.

وأنشد سيبويه :

* ألم تر إني وابن أسود ليلة

لنسري إلى نارين يعلو سناهما؟ (١)

فكسر" إن" من أجل اللام وألغى قوله : " ألم تر" ، وعلقه بالجملة ومعناه : " ألم تعلم" ، ولا يجوز أن يكون من رؤية العين لأنها فعل مؤثر لا يجوز إلغاؤه.

هذا باب" أن" و" إن"

بين سيبويه في هذا الباب أن دخول" إن" بعد" ما" يبطل عمل" ما" في قول أهل الحجاز ، وهو يرد قول المبرد لأن" إن" وحدها لو دخلت على اسم لعملت كعمل" ما" : " إن زيد قائما" ، ولو كانت تعمل وحدها ما أبطلت عمل" ما" ، بل كانت تؤكد عملها.

وأنشد سيبويه لفروة بن مسيك :

* وما إن طبنا جبن ولكن

منايانا وطعمة آخرينا (٢)

فألغى" ما" لدخول : " إن" عليها.

ومعنى البيت : أنه أخبر أنهم لم ينهزموا من جبن ، ولكن حضرت مناياهم فقتلوا ، وغنم قوم آخرون فصارت طعمة لهم.

هذا باب من أبواب" أن" التي تكون والفعل بمنزلة مصدر

أنشد سيبويه في هذا الباب.

* إني رأيت من المكارم حسبكم

أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا (٣)

" رأيت" هنا : من رؤية القلب. و" حسبكم" : المفعول الأول ، ومعناه : كافيكم. و" أن تلبسوا" ، المفعول الثاني ، والتقدير : إني عملت الكافي لكم لبس الثياب.

وقوله : " من المكارم" : تبيين ، وليس من المفعولين في شيء ، ولو قدرته في موضع

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٤ ، شرح السيرافي (٤ / ٥٧١ ، ٥٧٥) شرح ابن السيرافي ٢ / ١٤٠ ، حاشية الصبان ١ / ٢٧٥ ، المقاصد النحوية ٢ / ٢٢٢ ، اللسان (سنا) ١٤ / ٤٠٣.

(٢) الكتاب ١ / ٤٧٥ ، ٢ / ٣٠٥ ، الكتاب ٣ / ١٥٣ ، المقتضب (١ / ٥١ ، ٢ / ٣٦١) الكامل ١ / ٣٤١ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٨١ ، المسائل البغداديات ٢٨٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٠٦ ، المنصف ٢ / ١٢٨ ، الخصائص ٣ / ١٠٨ ، فرحة الأديب ٢٠٢ ، شرح ملحة الإعراب ١٢٧٤ ، شرح المفصل ٥ / ١٢٠ ، الجنى الداني ٣٢٧ ، مغني اللبيب ١ / ٣٨ ، شرح شواهد المغني ١ / ٨١ ، الخزانة ٤ / ١١٢ ، اللسان (طبب) ١ / ٥٥٤.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٥ ، شرح النحاس ٣٠٥ ، شرح السيرافي (٤ / ٥٨٤ ، ٤٩١) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٦٨ ، الهمع ٢ / ٣ ، الخزانة ٤ / ٧١.

٤١٦

المفعول الثاني لكان مدحا لهم ، وإنما يهجوهم بالبيت ويصف أنهم لا يسعون في شيء من المكارم ولا يجهدون أنفسهم في طلب ، ولكن يكفيهم من ذلك التنعم بلبس حر الثياب والشبع من الطعام كقول الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد فأنت لعمري طاعم كاسي (١)

وأنشد للأعشى :

* أأن رأت رجلا أعشى أضربه

ريب المنون ودهر تابل خبل (٢)

" فأن" مع ما بعدها بمنزلة المصدر وهي مخففة من الثقيلة وموضعها نصب على المفعول له ، والتقدير : " ألأن رأت رجلا".

واللام متصلة بفعل مضمر دل عليه ما قبله وهو قوله :

صدت هريرة عنا ما تكلمنا

فتقديره : " ألأن رأت رجلا أعشى صدت"؟

وأنشد لأبي حية النميري :

* وإنا لمما نضرب الكبش ضربة

على رأسه تلقي اللسان من الفم (٣)

استشهد به على أن مما بمنزلة" ربما" ، وهي مركبة من : " من" و" ما".

وذكر سيبويه عن الفصحاء من العرب أنهم يقولون :

" لحق أنه ذاهب" بإضافة" حق" إلى" أنه". وإضافته إليه توجب أنهما اسم واحد مبتدأ وخبره محذوف ، ومثله : ليقين ذلك أمرك وأبعده الأخفش لحذف الخبر ثم أجازه على ضعف.

وإنما مثله سيبويه : بيقين ذلك ، لأن قولك : زيد منطلق حقّا ويقينا يتقارب معناه ، و" حق أنه ذاهب" ، في التقدير : " حق ذهابه" ، ومعناه : ذهابه حق صحيح حسن حذف خبره لتضمن الأول الاسم والخبر ، كما حسن حذف خبر : " حسبت أن زيدا قائم" لتضمن : أن الاسم والخبر.

وذكر سيبويه" عسى" وبين أن وجهها أن تستعمل" بأن" ، وإنما كان ذلك لأنها

__________________

(١) ديوان الحطيئة ٥٠. شرح الشواهد ١ / ٤٧٥.

(٢) ديوانه ٤٢ ، الكتاب وشرح الأعلم (١ / ٤٧٦ ، ١٦٧) المقتضب ١٥٥ ، شرح النحاس ٣٠٥ ، شرح / السيرافي ٤ / ٥٨٥ ، ٥٩٢ ، / شرح ابن السيرافي ٢ / ٧٥ ، الإنصاف ٢ / ٧٢٧ ، شرح المفصل ٣ / ٨٣ ، اللسان (تبل) ١١ / ٧٦ ، (منن) ١٣ / ٤١٦.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٧ ، المقتضب ٤ / ١٧٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٨٦ ، المسائل البغداديات ٢٨٧ ، ومغني اللبيب (٤٠٩ / ١ ، ٤٢٤) ، شرح شواهد المغني ٢ / ٧٣٨ ، الهمع ٢ / ٣٥ ، الخزانة ١٠ / ٢١٤.

٤١٧

موضوعة لفعل يتوهم كونه في الاستقبال فاحتاجت إلى ذكر" أن" للدلالة على المستقبل.

وقال المبرد عند ذكر سيبويه اتصال الضمائر بعسى وحذفها :

واتصالها هو الوجه الجيد. واحتج بقوله عز وجل : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) [محمد : ٢٢] وذهب عليه قوله تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) وقوله : (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً) [البقرة : ٢١٦].

وأما" كاد" ، فالباب فيه إسقاط" أن" لأنك إذا قلت : " كاد يفعل" فإنما تقوله لمن هو على حد الفعل كالداخل فيه لازمان بينه وبين دخوله فيه ، وسبيل المستقبل أن يكون في كونه مهملة ، وقد يجوز في كاد إدخال" أن" تشبيها بعسى.

كما قد يجوز إسقاط" أن" من عسى تشبيها" بكاد".

ومما يحتج به لإسقاطها من" عسى" ، أنها وإن كانت للمستقبل فقد يكون بعض المستقبل أقرب إلى الحال من بعض ، فإذا قال : عسى زيد يقوم فكأنه قرب ، حتى أشبه قرب" كاد" ، وإذا أدخل" أن" في" كاد" فكأنه بعد عن الحال التي أشبه" عسى". وكرب يفعل ، مثل كاد يفعل.

وأما : " أخذ يفعل" ، " وجعل يفعل" وما أشبه ذلك ، فإنهم ذهبوا بالأفعال بعدها مذهب اسم الفاعل. ولم يذهبوا بها مذهب المصادر ، لأن قولك : " أخذ يفعل" ، و" جعل يفعل" ، هو داخل في الفعل فصار بمنزلة : زيد يفعل إذا كان في حال فعل وهذا معناه.

وقوله : " أخذ" و" جعل" : تحقيق لدخوله فيه ، ولا يجوز فيها" أن". ويوشك معناه يسرع ، وهو ضد يبطئ ، ومعنى أن فيه صحيح لأنه بمنزلة : " يقرب" ، ويبطئ بمنزلة : " يبعد".

والذي يحذف أن بعدها كالذي يحذفها بعد عسى.

وقول سيبويه عند ذكر كرب وكاد : " لما ذكرناه في الكراسة التي تليها يعني ما ذكره في هذا في : (باب وجه دخول الرفع ، بعد ابتداء إعراب الأفعال بيسير).

وأنشد في إسقاط" أن" بعد عسى لهذبة بن خشرم :

* عسى الكرب الذي أمسيت فيه

يكون وراءه فرج قريب (١)

خاطب بهذا رجلا من معارفه كان قد أسر.

وأنشد أيضا :

* عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر

بمنهمر جون الرباب سكوب (٢)

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٨ ، الكامل ١ / ١٩٦ ، المقتضب ٣ / ٧٠ ، شرح النحاس ٢٦٩ ، أمالي القالي ١ / ٧١ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٨٨ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٤٣.

(٢) الكامل ١ / ١٩٦ ، المقتضب ٣ / ٤٨ ، ٦٩ ، شرح النحاس ٣٠٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٨٨ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٤١ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٣٥ ، شرح المفصل ٣ / ١١٧.

٤١٨

فحذف" أن" من" يغني". والمنهمر : المنصب ، والجون : الأسود ، والرباب : سحاب دون سحاب. والسكوب : الصبوب.

وأنشد :

* فأما كيّس فنجا ولكن

عسى يغترّ بي حمق لئيم (١)

فحذف" أن" ويقال : أحمق وحمق ، كما يقال أشعث وشعث ، وله نظائر كثيرة.

والكيس : ضد الأحمق.

وأنشد في استعمال" كاد" بأن ـ لرؤبة :

* قد كاد من طول البلى أن يمصحا (٢)

يصف منزلا قدم عهده وأبلاه الزمان حتى كاد يعفو رسمه ويخفى أثره.

وأنشده ـ في حذف" أن" بعد" يوشك" ـ لأمية بن أبي الصلت :

* يوشك من فر من منيته

في بعض غراته يوافقها (٣)

أراد : يوشك أن يوافق منيته في بعض غراته من فر منها ، والغرات : جمع غرة وهي الإعراض عن الشيء والغفلة عنه.

قال : " وسألت الخليل عن قول الفرزدق :

* أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا

جهارا ولم تغضب لقتل ابن خازم (٤)

فقال : لأنه قبيح أن تفصل بين أن والفعل فلما قبح ذلك ، حملوه على إن لأن الأسماء قد تقدم فيها ، فحكى هذا سيبويه عن الخليل ولم يخالفه فيه.

وقد رده المبرد وتوهم أنه إذا كسر" إن" ، فلا يجوز أن تكون أذناه محزوزتين لأن : " إن" توجب الاستقبال ، وقد أحاط العلم أن الفرزدق قال هذا الشعر بعد قتل قتيبة وحز أذنيه.

وليس الأمر ما ظنه ، وذلك أن العرب قد تضع المستقبل مكان الماضي كقوله عز وجل : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) [الرعد : ٥].

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٨. شرح السيرافي ٢ / ٦٣ ، الخزانة ٩ / ٣٢٨.

(٢) ديوانه ١٧٢ ، الكتاب وشرح الأعلم ١٧٢ ، الكامل ١ / ١٩٥ ، المقتضب ٣ / ٧٥ ، شرح النحاس ٣٠٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٨٨ ، المقتصد ١ / ٣٦٠. الإنصاف ٢ / ٥٦٦ ، شرح المفصل ٧ / ١٢١ ، الخزانة ٩ / ٣٤٧ ، اللسان (مصح) ٢ / ٥٩٨.

(٣) ديوان أمية ٤٢ ، الكتاب وشرح الأعلم ٢ / ٤٧٩ ، الكامل ١ / ٧١ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٩٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٦٧ ، شرح المفصل ٧ / ١٢٦ ، أوضح المسالك ١ / ٢٢٥ ، شرح ابن عقيل ١ / ٣٣٣ ، الهمع ١ / ١٢٩ ، حاشية الصبان ١ / ٢٦٢ ، اللسان (كأس).

(٤) ديوانه ٢ / ٨٥٥ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧١ ، شرح النحاس ٣٠٨ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٩٠ ، الجنى الداني ٢٢٤ ، مغني اللبيب (١ / ٣٩ ، ٥٤ ، ٥٥) شرح شواهد المغني ١ / ٨٦ ، همع الهوامع ٢ / ١٩.

٤١٩

وقال الشاعر :

* إن يقتلوك فقد هتكت بيوتهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب (١)

والقتل واقع بالتخاطب ، وقد كسر" إن". وهذا ونحوه يحمل على فعل غير هذا الظاهر ، كأنهم افتخروا بقتله فقال : إن يفخروا بقتلك فإن الأمر كذا وكذا.

وذهب المبرد إلى أن (إن أذنا) بمعنى المشددة.

ووجه الكلام في" يغضب" وفي" يرضى". بإن الخفيفة.

ومعنى البيت : أتغضب قيس قتل قتيبة بن مسلم ، ولم تغضب من قتل عبد الله بن خازم السلمي ، وهما جميعا من قيس وقاتلاهما من بني تميم.

إنما يريد الفرزدق : هذا علو بني تميم على قيس ، والوضع من قيس في العجز عن الانتصار وطلب الثأر.

وأنشد في الإضافة إلى" أن" :

* تظل الشمس كاسفة عليه

كآبة أنها فقدت عقيلا (٢)

فأضاف" كآبة. إلى" أن" وهي مصدر كئيب ، والمعنى : تظل الشمس متغيرة النور حزنا لفقد عقيل.

وباقي الباب مفهوم إن شاء الله.

هذا باب ما تكون فيه" أن" بمنزلة" أي"

اعلم أنّ أن إذا كانت بمعنى" أي" للعبارة ، فهي محتاجة إلى ثلاثة شرائط :

أولها : أن يكون الفعل الذي تفسره وتعبر عنه فيه معنى القول وليس بقول في اللفظ.

والثاني : أن لا يتصل به شيء من صلة الفعل الذي تفسره ؛ لأنه إذا اتصل به شيء منه صار في جملته ولم يكن تفسيرا له ، كالذي قدره سيبويه من قوله :

" أو عزت إليه بأن أفعل".

والثالث : أن يكون ما قبلها كلاما تاما لأنها وما بعدها جملة تفسر جملة قبلها.

وأنشد سيبويه في تخفيف" كأن" وإعمالها.

* كأن وريديه رشاء خلب (٣)

__________________

(١) أمالي القالي ٢ / ٧٥ ، والمؤتلف والمختلف ١٢٦ وشرح السيرافي ٤ / ٦٠٠ ، وشرح الأعلم ١ / ٤٧٩.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٧٧ ، شرح النحاس ٣٠٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٨٤ ، المقاصد النحوية ٢ / ٢٤١

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٨٠ ، المقتضب ١ / ٥٠ ، شرح السيرافي ٢ / ٦٠٣ ، ٦٠٥. شرح ابن السيرافي ٢ / ٧٢ ، الإنصاف ١ / ١٩٨. وبه (رشاءا خلب) ، (الجنى الداني ٥٧٥ ، ٥٧٦) شرح المفصل ٧ / ٨٢ ، أوضح المسالك ١ / ٢٦٨ ، الخزانة ١٠ / ٣٩١.

٤٢٠