النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

فلما احتاج الشاعر إلى" إما" وكانت النون تكسر البيت ، جعل مكانها" إذ ما".

وأنشد سيبويه للعباس بن مرداس :

* إذا ما أتيت على الرسول فقل له

حقّا عليك إذا اطمأن المجلس (١)

فجازى ب" إذ ما" والفعل الماضي بعدها في معنى المستقبل والفاء جوابها وأنشد لعبد الله بن همام السلولي :

* إذ ما تريني اليوم مزجى ظعينتي

أصعد سيرا في البلاد وأفرع

فإني من قوم سواكم وإنما

رجالي فهم بالحجاز وأشجع (٢)

فجازى" بإذ ما" وجوابها قوله : " فإني من قوم" ، وقوله :

" مزجى" : من أزجيت البعير إذا سقته. وفهم وأشجع : قبيلتان.

وأنشد للبيد :

* فأصبحت أنى تأتها تستخربها

كلا مرفقيها تحت رجلك شاجر (٣)

فجازى" بأني" ، وفي معنى هذا البيت بعض اللبس ، ومعناه أنه يخاطب رجلا قد وقع في معضلة وقصة صعبة يعسر التخلص منها ، فيقول : كيف أتيت هذه المعضلة؟ من قدام أو من خلف تلتبس بها ، أي : تدخل فيها ولا تتخلص منها وهو جواب الشرط وكلا مركبيها تحت رجلك شاجر : يعني مركبها من قدام ومن خلف ، وشاجر : أي داخل تحت الرجل ، ويروى" تحت رحلك" ، وإذا دخل الشيء تحت الشيئين ففرجهما : فقد شجرهما.

وأنشد لابن همام السلولي :

* أين تضرب بنا العداة تجدنا

نصرف العيس نحوها للتلاق (٤)

فجازى" بأين" ، ويروى : " أين تصرف" ـ والعيس : الإبل البيض.

وأنشد لذي الرمة :

* تصغي إذا شدها بالرحل جانحة

حتى إذا ما استوى في غرزها تثب (٥)

__________________

(١) ديوانه ٧٢ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٢ ، المقتضب ٢ / ٤٧ ، الكامل ١ / ٢٩٠ ، شرح النحاس ٢٨٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩١ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٩٣.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٢ ، شرح النحاس ٢٨٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩١ ، المسائل البغداديات ٥٩٤ ، شرح المفصل ٧ / ٣٧ ، الخزانة ٩ / ٣٣.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٢ ديوانه ٢٢٠ ، المقتضب ٢ / ٤٧ ، شرح النحاس ٢٨٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩٢ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٤٣.

(٤) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٢ ، المقتضب ٤٧ / ٢ ، شرح النحاس ٢٨٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩٢ ، شرح المفصل ١٠٥ / ٤ ، حاشية الصبان ١٠ / ٤.

(٥) ديوانه ص ٩ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٣ ، شرح النحاس ٢٨٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩٤ ، شرح ـ

٣٨١

استشهد به على أن" إذا" لا يجزم الفعل بعدها وإن كان فيها معنى الجزاء للعلة التي ذكرها عن الخليل.

يصف ناقته فيقول : إذا شدها بالرحل جنحت إليه وأصغت نحوه ، ولا تتعصب عليه ، لأنها قد ذلت وتأدبت ، فإذا استوى غرزها جعلت تثب وتسرع في سيرها. (والغرز) للرحل مثل : الركاب للسرج.

وأنشد في مثل هذا :

* إذا ما الخبز تأدمه بلحم

فذاك أمانة الله الثريد (١)

فرفع ما بعد" إذا" ولم يجازيها.

وأنشد لقيس بن الخطيم الأنصاري :

* إذا قصرت أسيافنا كان وصلها

خطانا إلى أعدائنا فنضارب (٢)

فجازى" بإذا" ضرورة ، و" قصرت" : في موضع جزم" بإذا" ، وكان جوابها وموضعها جزم ، فعطف" فنضارب" على موضعها ، وكسر للوصل بعد الوقف على ما يجب في القوافي ، ولو أن القافية مرفوعة لرفع" نضارب" ولم يكن في البيت ضرورة.

يصف أنهم يقدمون على الأقران في القتال ، فسيوفهم ـ وإن قصرت عن حد المضاربة بها ـ فخطاهم لها كالوصل الزائد فيها المطول لها.

وأنشد للفرزدق في مثل هذا :

* ترفع لي خندف والله يرفع لي

نارا إذا خسرت نيرانهم تقد (٣)

فجزم" تقد" على الجزاء. وخندف : قبيلة.

يقول : ورثتني خندف شرفا باقيا مشهورا كشهرة النار المرفوعة للطارق ، فإذا ذهب شرف هؤلاء وخفي ، ظهر شرفي وتبين.

وأنشد لبعض السلوليين في مثل هذا :

* إذا لم تزل في كل دار عرفتها

لها واكف من دمع عينك يسجم (٤)

__________________

ـ ابن السيرافي ٢ / ١١٩ ، شرح المفصل (٧ / ٤٧ ، ٤ / ٩٧).

(١) الكتاب وشرح الأعلم ٤٣٤ / ١ ، شرح النحاس ٣٢٤.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٤ ، المقتضب ٢ / ٥٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩٥ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٣٧ ، شرح الحماسة للأعلم ١ / ٤٨.

(٣) ديوان الفرزدق ٢١٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٤.

(٤) ديوان جرير ١ / ٢٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩٦ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٣١ ، الخزانة ٧ / ٢٢.

٣٨٢

فجزم" يسجم" على المجازاة" بإذا".

قال الجرمي : المعنى : إذا لم تزل المرأة في كل دار عرفتها لها يسكب واكف من دمع عينك ، وخبر" لم تزل" : " في كل دار" ، وجواب" إذا" : تسكب المضمرة قبل واكف ، ويفسره" يسكب" الذي في آخر البيت.

وقال الأخفش : معناه : إذا لم تزل عينك في هذه الدار لها واكف سجمت ، وجعل" لها واكف" خبر" لم تزل" ، و" تسجم" جواب" إذا".

والبيت يروى على وجهين : " تسكب" و" تسجم" ، والرواية الصحيحة" تسكب" لأنه في قصيدة لجرير يهجو فيها الأخطل أولها :

عجبت لهذا الزائر المرتقب

وإدلاله بالصرم بعد التخبب

وأنشد لكعب بن زهير :

* وإذا ما تشاء تبعث منها

مغرب الشمس ناشطا مذعورا (١)

فلم يجاز" بإذا" وهو الجيد فيها. والناشط : الثور الوحشي ، ومعنى تبعث منها : تثيره من مريضه. والمذعور : المفزع.

وأنشد للأسدي :

* بني ثعل لا تنكعوا العنز شربها

بني ثعل من ينكع العنز ظالم (٢)

أي : فهو ظالم. ومعنى تنكعوا : تمنعوا.

وأنشد لجرير بن عبد الله البجلي :

* يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنك إن يصرع أخوك تصرع (٣)

التقدير عنده : " إنك تصرع إن يصرع أخوك" ، وهو عند المبرد على حذف الفاء.

وأنشد سيبويه :

* هذا سراقة للقرآن يدرسه

والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب (٤)

التقدير عنده : والمرء ذيب إن يلق الرشا. وعند المبرد على حذف الفاء والهاء في

__________________

(١) ديوانه ١٦١ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٤ ، إعراب القرآن ٣ / ٨٨٥.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٦ ، شرح النحاس ٢٨٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩٨ ، حاشية الصبان ٤ / ٢١ المقاصد النحوية ٤ / ٤٤٨ ، اللسان (نكع) ٨ / ٣٦٤.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٦ ، الكامل ١ / ١٣٤ ، المقتضب ٢ / ٧٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٩٩ ، المسائل البغداديات ٤٥٤ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٢١ فرحة الأديب (١٠٦ ، ١١) ، الإنصاف ٢ / ٦٢٣ ، شرح المفصل ٨ / ١٥٨ ، مغني اللبيب ٢ / ٧١٧ ، شرح ابن عقيل ٤ / ٣٦.

(٤) الكتاب ١ / ٤٣٧ ، شرح النحاس ٢٨٧.

٣٨٣

" يدرسه" كناية عن المصدر ، كأنه قال : يدرس درسا وتعدى" يدرس" إلى القرآن باللام ، كما تقول لزيد اضرب. وإنما جاز هذا لأن الفعل بدل على المصدر ، والمصدر مما يتعدى باللام كثيرا فحمل الفعل عليه.

وأنشد لذي الرمة :

* وإني متى أشرف على الجانب الذي

به أنت من بين الجوانب ناظر (١)

فتقديره عند سيبويه : " إني ناظر متى أشرف". وعند أبي العباس على حذف الفاء.

وأنشد للفرزدق :

* دست رسولا بأن القوم إن قدروا

عليك يشفوا صدرا ذات توغير

فأولى" إن" الفعل الماضي ، وأتى بالجزاء مستقبلا فجزمه.

والتوغير : الحقد والغضب ، وهو مشتق من وغرت القدر إذا غليت.

واعلم أن" كيف" لا يجازي بها لعلتين : إحداهما : أنه لما كان أخواتها معارف ونكرات ـ نحو : " من" و" ما" و" أي" ـ وقصرت هي على أحد الأمرين ، فلم تقع إلا على النكرة خاصة لأنها سؤال عن الحال ، ضعفت على التصريف لها في المجازات.

والعلة الأخرى : أنه لما لم يخبر عنها ولا عاد إليها ضمير كما يكون ذلك في : " من" و" ما" و" أي" ، ضعفت عن تصريفها في مواضع نظائرها من المجازاة ، وجعلوا قولهم : على أي حال يغني عنها.

وأما كم فلم يجازوا بها لأن : " ما" و" من" يغنيان عنها ، لأنهما في المجازاة لقليل ما يقعان عليه وكثيره ، ألا ترى أنك إذا قلت : " ما تسر أسر" فمعناه : إن تسر قليلا أو كثيرا أسر مثله. وليس المتكلم بعالم كم يسير ، ولا هو بمستودع من المخاطب تعريفه مقدار سيره ، وإنما وضعت" كم" ليتعرف بها المتكلم مقدار ما يسأل عنه ليقف عليه.

وقوله : " إن تأتني لأفعلن فيه وجهان :

أحدهما : تقدير الفاء ، أي : إن تأتني فلأفعلن.

والآخر : على نية التقديم كأنه قال : لأفعلن إن تأتني. وكلاهما غير حسن إنما يجوز في الشعر. فإن قلت : " والله لئن أتيتني لأكرمنك" ، حسن ، لأن جواب اليمين يغني عن جواب الشرط ويبطل جزمه ، ويصير بمنزلة ما ذكر قبله ، كأنه قال : والله لأكرمنك إن أتيتني ، وإنما

__________________

(١) ديوانه ١ / ٢٤١ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٧ ، المقتضب ٢ / ٦٩ ، شرح النحاس ٢٨٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٠٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٩٢.

٣٨٤

صارت" إن" إذا جزمت اقتضت مجزوما بعدها ، لأنها بجزمها ما بعدها يظهر أنها تجزم : وجزمها يتعلق بفعلين ، فإذا لم يظهر جزمها في الثاني صارت بمنزلة حرف جازم لا يؤتى بعده بمجزوم ، فاعلم ذلك.

هذا باب الأسماء التي يجازى بها

وتكون بمنزلة الذي

اعلم أن هذه الأسماء التي يجازى بها المذكور في هذا الباب إنما يجازى بها إذا كانت مبتدأة في اللفظ غير واقع عليها عامل قبلها لأنها متضمنة لأن ، وأن تكون صدرا إذا جوزي بها ولا يدخل عليها عامل خافض ولا غيره ل (أن) إلا أن هذه الأسماء إذا جوزي بها قد تدخلها الأشياء الخافضة إذا كانت في صلة ما بعدها ، أو كانت مبتدأة في اللفظ ، وذلك للضرورة المؤدية إلى ذلك فيها ، تقول : " بمن تمرر أمرر به" ، و" على أيهم تنزل أنزل" ، " فالباء" و" على" ، موصولتان بفعل الشرط إلى الاسمين ، لأنهما فعلان متعديان بحروف الجر ، وحروف الجر لا تكون إلا قبل الأسماء متصلات بها فدعت الضرورة إلى تقديمها لذلك.

وأنشد سيبويه للفرزدق :

* ومن يميل أمال السيف ذروته

حيث التقى من حفافي رأسه الشعر (١)

" فمن" بمعنى" الذي" ، والفعل من صلتها ، وفيها معنى الشرط لإبهامها وإن لم يجزم بها. وذروة الشيء : أعلاه ، وحفافا الرأس : جانباه.

وأنشد للهذلي :

* فقلت : تحمل فوق طوقك إنها

مطبعة من يأتها لا يضيرها (٢)

في رفع يضيرها وجهان :

أحدهما : بإضمار الفاء وهذا الوجه لا خلاف في جوازه.

والوجه الآخر : يرتفع على التقديم كأنه قال : لا يضيرها من يأتها.

وقد خالف المبرد سيبويه في هذا وما أشبهه من التقديم وحجته أن المرفوع إذا وقع بعد الشرط ، فقد وقع في موضعه فلا ينوي به التقديم الذي ليس بموضعه كما لا يقال : " ضرب غلامه زيدا" ، و" زيدا" على نية : ضرب زيدا غلامه.

والجواب عن هذا أن الشرط على وجهين :

أحدهما : أن يكون المعتمد المقصود تقديم الشرط وإتباع الجواب له كقولك : " إن تأتني

__________________

(١) ديوانه ١ / ١٤٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٨ ، شرح النحاس ٢٨٨ ، شرح السيرافي ٤ / ٤١٣ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٨٢.

(٢) ديوان الهذليين ١ / ١٥٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٨ ، المقتضب ٤ / ٧٠ ، شرح النحاس ٢٨٨.

٣٨٥

آتك" ، و" إن تأتيني فأنا مكرم لك" ، فلا يجوز تقديم الجواب على الشرط.

والآخر : أن يكون الاعتماد على فعل وفاعل ، أو مبتدأ وخبر يبتدئه المتكلم ويعلقه بشرط كما يعلقه بظرف ، فيقول : " أكرمك إن أتيتني" ، أو" أنا مكرمك إن زرتني" كما تقول : " أكرمك يوم الجمعة". فإذا قال : فإن أتيتني أكرمك". فليس أكرمك بجواب ، فيكون تقديمنا له على غير موضعه ، وإنما هو الفعل الذي يقصد فيه التقديم ، ألا ترى أنك تقول : " والله لئن جفوتني لا أزورك" فترفع" لا أزورك" لأنه جواب لقسم معلق بالشرط ، وقد أغنى عن جواب الشرط ، فإن كان" لا أزورك" مجازاة ، فينبغي أن يكون مجزوما ، وإن كان ينوي به غير المجازاة ، فقد وقع ما ينوي به غير الجزاء ، موقع الجزاء.

وذكر مبرمان عن المبرد أنه قال : إذا قلت : لئن أتيتني لأكرمنك ، إنما هو : " والله لئن أتيتني والله لأكرمنك" ، وأضمرت" قال" ، ولا يكون هذا إلا على قسمين.

وهذا غلط من المبرد ، لأن الشرط إذا أفرد عن الجواب فليس بخبر ، والقسم إنما يقع على خبر يصح فيه التصديق والتكذيب.

ورد بعض النحويين على سيبويه تقديم لا يضيرها ؛ لأنه لا فاعل معه إذا قدم ، لأن قوله : من يأتنا مبتدأ لا يعمل فيه ما قبله ، فلا يكون فاعلا ليضير.

والجواب عن سيبويه : أن يكون ضمير الفاعل على شرط (التفسير) كأنه قال : لا يضيرها أحد إن أتاها أحد لأن معنى : " من يأتها" : " إن يأتها أحد" ، فأضمر في" يضيرها" لأن الكلام الذي بعدها فيه ذكر المضمر الذي أضمر على شرط التفسير.

وبين سيبويه في آخر الباب أن" مهما" وإن كانت اسما بمنزلة" ما" فلا يخبر عنها كما يخبر عن" ما" ، تقول : في الكتاب ما تقول ، بمعنى : مكتوب عندي الذي تقول ، ولا يجوز : " في الكتاب مهما تقول" ، إذا جعلت" تقول" صلة" لمهما" ، كما يجعلها صلة" لما" فاعرف ذلك.

هذا باب ما تكون فيه الأسماء التي

يجازى بها بمنزلة الذي

قد تقدم أن الاسم الذي يجازى به لا يعمل فيه إلا فعل الشرط أو ما يتصل بفعل الشرط من حروف الإضافة فإذا دخل عليها ما ينصبها ويرفعها ويخفضها مما تقدم بينها لم يجاز لها ، وبطل عملها.

وأنشد سيبويه في ما جوزي به على إرادة الفاء :

* إن من لام في بني بنت حسا

ن ألمه وأعصه في الخطوب (١)

__________________

(١) ديوانه ٢١٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٤١٩ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٨٦ ، الإنصاف ١ / ١٨٠ ، شرح المفصل ٣ / ١١٥ ، مغني اللبيب ٢ / ٧٨٩ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٩٢٤ ، الخزانة ٥ / ٤٢٠.

٣٨٦

أراد : " إنه" ، فأضمر الهاء في" إن" وجازى" بمن".

وأجاز الزيادي : " إن من يأتنا نأته" على غير إضمار في" إن" وهذا لا يجوز لامتناع الجزاء من أن يعمل فيه ما قبله.

وأنشد سيبويه لأمية بن أبي الصلت :

* ولكن من لا يلق أمرا ينوبه

بعدته ينزل به وهو أعزل (١)

أراد : " ولكنه" ، فحذف الهاء وجازى" بمن".

يقول : من لم يعد لنوائب الزمان قبل نزولها ، ضعف عن دفعها إذا نزلت به. والأعزل : الذي لا سلاح معه.

وأنشد للراعي :

* فلو أن حق اليوم منكم إقامة

وإن كان سرح قد مضى فتسرعا

استشهد بالبيت لحذف الهاء في ما تقدم من الأبيات ، وأراد فلو أنه حق ، ولو لم يرد الهاء كان محالا لأن" أن" لا تعمل في الفعل.

والمعنى : أنه تمنى أن تكون منهم إقامة ، وإن كان" السرح" الذي يحمل على" الإقامة" قد ذهب مسرعا.

وأنشد في مثل هذا من الحذف :

* أكاشره وأعلم أن كلانا

على ما ساء صاحبه حريص (٢)

أراد : أنه كلانا حريص ـ ومعنى أكاشره : أضاحكه.

وباقي الباب مفهوم.

هذا باب يذهب فيه الجزاء من

الأسماء كما ذهب في إن وكان

وذلك قولك : أتذكر إذ من يأتينا نأتيه ، وما من يأتينا نأتيه.

أنكر المبرد على سيبويه منعه من الجزاء هنا وكراهيته له.

ولفظ سيبويه يدل على أن من قبله كره ذلك ، إما من النحويين وإما من العرب ، ولعلهم كرهوا ذلك من أجل أن" إذ" اسم للوقت ، وكان حقه أن يضاف إلى اسم واحد لا يقع بعده مجازاة ؛ لأنه يجر ما بعده ، وموضع المجازاة لا يكون مجزوما بما قبله ، ثم أجازه في

__________________

(١) ديوانه ٤٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٤١٩ ، الإنصاف ١ / ١٨١ ، مغني اللبيب ١ / ٣٨٤.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٠ ، المقتضب ٣ / ٢٤١ ، شرح النحاس ٢٨٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٢٠ ، الإنصاف (١ / ٢٠١ ، ٢ / ٤٤٣) ، شرح المفصل ١ / ٥٤.

٣٨٧

الشعر لوقوع الاسم المبتدأ والخبر بعده ، وبعد ما كان في معناه من أسماء الزمان.

وأنشد للبيد :

* على حين من تلبث عليه ذنوبه

يرث شربه إذ في المقام تدابر (١)

فجازى" بمن" ، وأضاف" حين" إلى جملة الشرط.

يصف مجلسا فاخر فيه القبائل بين يدي بعض الملوك فظهر عليهم ، وقوله : على حين من تلبث عليه ذنوبه : أراد شدة الكلام في ذلك المجلس وأن من أبطأت عليه الحجة في الافتخار فقد غلب. والذنوب : الدلو ضربها مثلا للحجة. والتدابر : التقاطع ، لأن ما هم فيه من الشدة يحملهم على أن يتقاطعوا. ويروى تداثر : أي : تزاحم وتكاثر.

وكان المبرد يجيز المجازاة في جميع هذا الباب وينكر على سيبويه مذهبه.

واحتج الزجاج لسيبويه ، فقال : قبحت المجازاة بعد" إذا" لأن حق" إذا" أن يقع بعدها الفعل والفاعل والمبتدأ وخبره ، فلما وقع الشرط وجوابه بعدها ، وهما جملتان ، قبح ذلك من جهة اللفظ ، فإذا قلت : (أتذكر إذ نحن من يأتنا نأته) حسن لأنه وقع بعدها مبتدأ وخبر.

واستحسن سيبويه المجازاة بعد (لا) لأن" لا" لا تفصل بين العامل والمعمول فكان دخولها في الكلام كخروجها.

وأنشد لابن مقبل :

* وقدر ككف القرد لا مستعيرها

يعار ولا من يأتها يتدسم (٢)

فجازى" بمن" بعد" لا" ومعنى قوله : ككف القرد ، أي : هي حقيرة. وصفهم بصغر القدر لقلة خيرهم.

وأنشد لطرفة :

* ولست بحلال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد (٣)

أراد ولكن أنا متى يسترفد القوم أي : يسألوني الرفد.

وأنشد للعجير السلولي :

* وما ذاك أن كان ابن عمي ولا أخي

ولكن متى ما أملك الضر أنفع (٤)

__________________

(١) ديوانه ٢١٧ ، الكتاب وشرح الأعلم ٤ / ٤٤١ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٢٥ ، ٤٢٨ ، المقتصد ١٢ / ١١٠ ، الإنصاف ١ / ٢٩١ ، الهمع ٢ / ٦٢ ، الخزانة ٩ / ٦١.

(٢) ملحقات ديوانه ٣٩٥ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤١ ، مجالس العلماء ٨٩.

(٣) شرح المعلقات ٤٢ ، الشعراء الستة للأعلم ٢ / ٤٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٢ ، شرح النحاس ٢٩٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٢٦ ، الخزانة ٩ / ٦٦ ، المقاصد النحوية ٤ / ٤٢٢.

(٤) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٢ ، شرح النحاس ٢٩١ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٢٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٥٣.

٣٨٨

أراد : ولكن أنا أنفع متى ما أملك الضر ، وفيه قبح لأنه جزم الشرط وليس بعده جواب.

وهو في مذهب المبرد على حذف الفاء ، وقد تقدم مثله.

ولو روي بالجزم والكسر للقافية لجاز على الإقواء.

هذا باب إذا ألزمت فيه الأسماء

التي تجازى بها حروف الجر لم تغيرها عن الجزاء

قد تقدم القول في جواز هذا والعلة فيه.

وأنشد لابن همام السلولي :

* لما تمكن دنياهم أطاعهم

في أي نحو يميلوا دينه يمل (١)

فجازى" بأي" وجعل في وصلة للفعل المجزوم لها على الشرط ولم يجعلها وصلة للجواب ، لأن اسم الشرط لا يعمل فيه الجواب.

وأنشد لبعض الأعراب :

* إن الكريم وأبيك يعتمل

إن لم يجد يوما على من يتكل (٢)

في هذا وجهان : أحدهما : يعتمل على من يتكل عليه ، معناه أنه يحترف ويعمل بيديه على محتاج إليه أو عيال يتكل عليه إن لم يصب ما لا يعولهم به وينفق عليهم منه ، فكرمه يحمله على أن يعمل بيديه حتى ينفق عليهم منه.

والآخر : ما ذكره الزجاج وهو أنه جعل" عليه" بمعنى" عنده" وجعل الذي يعتمل إنما يعتمل على نفسه ، فإذا لم يجد عند من يتكل عليه شيئا ينفقه على نفسه وعياله اعتمل حتى ينفق ، والمعتمل في هذا هو المتكل وفي الأول هو المتكل عليه والقول الأول أصح.

وذهب المبرد إلى أن الكلام قد تم عند قوله : إن لم يجد يوما ـ وقوله : على من يتكل كلام مستأنف على جهة الاستفهام وليس في هذا القول محذوف يقدر.

وقول سيبويه أولى ، لأن الظاهر أنه كلام واحد فلا يرد بعضه عن بعض إلا بدلالة.

وحكى عن المبرد قول آخر ، وهو أن يكون قوله : إن لم يجد بمعنى : إن لم يعلم ويكون المعنى إن لم يعلم أعلى هذا يتكل أو على هذا؟

وباقي الباب مفهوم.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٢ شرح النحاس ٢٩١ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٣١ ، حاشية الصبان ٤ / ١٠ ، اللسان (مكن) ١٣ / ٤١٤.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٢ ، إعراب القرآن ٢ / ٤٤٠ ، مجالس العلماء ٦٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٣٢ اللسان (عمل).

٣٨٩

هذا باب الجزاء إذا أدخلت فيه ألف الاستفهام

اعلم أن ألف الاستفهام تدخل على الجمل وتدخل على العامل والمعمول فيه ، فلا تعمل شيئا ، فأشبهت واو العطف وفاءه.

فإذا قال القائل : مررت بزيد ، فقيل له : أزيد؟

فهذا الخفض محمول على الكلام الأول ، كما يحمل ما بعد حرف العطف على ما قبله.

وقوله : " ألا ترى أن الألف لغو".

يريد : دخولها بين العامل والمعمول فيه كدخول" ما" و" لا" في قوله عز وجل : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [النساء : ١٥٥] وقوله : " فإن هذا الكلام معتمد لها".

يعني : ما بعد ألف الاستفهام من الشرط والجزاء معتمد لها كما يعتمد على الابتداء والخبر في قولك : أزيد منطلق؟ وكما يعتمد" الذي" في صلتها على الشرط والجزاء والابتداء والخبر ، فاعلم ذلك.

هذا باب الجزاء إذا كان القسم في أوله

اعلم أنك إذا أقسمت على المجازاة ، فالقسم إنما يقع على الجواب ؛ لأنه إخبار ووعد يقع فيه التصديق والتكذيب ، والقسم إنما يؤكد الإخبار الذي يقع فيها الصدق والكذب ، فلما كان القسم معتمدا به على الجواب بطل الجزم فيه ، وصار لفظه كلفظه لو كان في غير مجازاة ، فتقول : " والله إن أتيتني لا أفعل" ، كأنك قلت : " والله لا أفعل إن أتيتني" ، فإذا تقدم القسم شيء ثم أتى بعده المجازاة ، اعتمدت المجازاة على ذلك الشيء وألغي القسم كقولك : " أنا والله إن تأتني لا آتك" ، فاعتمد الجزاء على" أنا" ، كأنه ليس بعده القسم ، ألا ترى أنك تقول : " زيد والله منطلق" ، ولو قدمت القسم لقلت : " والله لزيد منطلق" فلزمته اللام.

وأنشد للفرزدق :

* وأنتم لهذا الناس كالقبلة التي

بها أن يضل الناس يهدي ضلالها (١)

قال سيبويه : " فلا يكون الآخر إلا رفعا"

يعني : " يهدي" ، لأن" أن" لا يجازى بها ، والتقدير : التي بها يهدي الضال عنها ، والهاء في ضلالها ترجع إليها ، وأن يضل الناس هو السبب الذي جعل الهدى من أجله.

وباقي الباب مفهوم.

__________________

(١) ديوان الفرزدق ٢ / ٦٢٣ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٣٨ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٨١.

٣٩٠

النّكت

الجزء الثاني

باب ما يرتفع بين الجزمين وينجزم بينهما

اعلم أن ما يقع بين فعل الشرط والجزاء المجزومين من الفعل على قسمين :

أحدهما : معناه مخالف لمعنى فعل الشرط.

والآخر : معناه كمعنى فعل الشرط. فإذا كان مخالفا لفعل الشرط لم يجز فيه غير الرفع ، ووقع موقع الحال. وإذا كان في معنى فعل الشرط وتأويله جاز فيه الرفع والجزم على البدل وقد مثل سيبويه المسائل في ذلك.

وأنشد لزهير :

* ومن لا يزال يستحمل الناس نفسه

ولا يغنها يوما من الدهر يسأم

فرفع يستحمل لأنه في موضع خبر يزال. ويروى : ولا يعفها ، ويسأم جواب الشرط.

وأنشد :

* متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

فجزم" تلمم" على البدل من" تأت" لأنه في معناه.

وقوله : " تأججا" فيه ثلاثة أوجه :

أحدهما : أن تجعل الألف للتثنية وهي للحطب والنار وذكرت لتذكير الحطب.

والثاني : أن يكون للحطب.

والثالث : أن تجعل النار في تأويل الشهاب فتذكر.

وفيه وجه رابع : أن يكون تتأججن ، فحذف التاء استخفافا وعوض الألف في الوقف من النون الخفيفة ، وفيه على هذا التقدير ضرورة لدخول النون في الواجب.

وأنشد :

* إن يبخلوا أو يجبنوا

أو يغدروا لا يحفلوا

٣٩١

يغدوا عليك مرجلين

كأنهم لم يفعلوا (١)

وزاد الزيادي :

كأبي براقش كل لو

ن لونه يتنقل

فجعل" يغدوا" بدلا من موضع" لا يحفلوا". ولا يجوز أن يكون بدلا من" يحفلوا" وحدها ، والتقدير : أن يبخلوا أو يجبنوا أو يغدروا. ويغدوا عليك مرجلين ، وغدوهم مرجلين : ترك الحفل بذلك ، وقلة المبالاة به ، ولو جعلت يغدوا بدلا من يحفلوا وحدها دون" لا" لكان التقدير : لا يغدوا مرجلين ، وهذا خلاف ما أراد من المعنى. وأبو براقش : طائر يتلون ألوانا مختلفة في اليوم ، فضربه مثلا للقوم في فعلهم ذلك. وهذه الأبيات أنشدها الأصمعي عن أبي عمرو لبعض بني أسد.

وأنشد لابن زهير :

* ومن لا يقدم رجله مطمئنة

فيثبتها في مستوى الأرض يزلق (٢)

فنصب" يثبتها" كما ينصب : " لا ما تأتينا فتحدثنا" ، بمعنى : " لا تأتينا إلا لم تحدثنا" كأنه قال : ومن لا يقدم إلا لم يثبت زلق.

وأنشد للأعشى :

* ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى

مصارع مظلوم مجرا ومسحبا

وتدفن منه الصالحات وإن يسئ

يكن ما أساء النار في رأس كبكبا (٣)

فنصب" تدفن" لأنه حمل على المعنى كأنه قال : لا يزل يرى مصارع مظلوم ، يعني : نفسه ، وأن تدفن منه الصالحات.

ومعنى قوله : يكن ما أساء النار ، أي مثل النار في الشهرة والظهور للناس. وكبكب : اسم جبل ، وجعل النار في رأسه لأن ذلك أشهر لها. والمعنى : أن من اغترب عن قومه. لم يزل مظلوما متهضما لا ناصر له وإن أتى بصالحة سترت عليه ولم يخبر بها عنه وإن فعل سيئة حدث بها عنه ونقمت عليه.

وإذا قلت : " إن تأتيني آتك فأحدثك فالنصب ضعيف وهو على ضعفه أحسن منه في

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٦ ، شرح النحاس ٢٩٢ ، أمالي القالي ٨ / ٨٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٤٢ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٢٠٦ ، الإنصاف ٢ / ٥٨٣ ، شرح المفصل ١ / ٣٦ ، الخزانة ٩ / ٩١.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٧ ، المقتضب ٢ / ٢٢ ، شرح النحاس ٢٩٣ ، شرح السيرافي (٤ / ٤٤٤ ، ٤٥١) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١١٣.

(٣) ديوان الأعشى ٨٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٤٩ ، المقتضب ٢ / ٢١ ، إعراب القرآن ٣ / ٩٠٦ ، شرح النحاس ٢٩٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٤٧.

٣٩٢

قولك : " آتيك فأحدثك" ، لأن الخبر واجب أن تفعله على كل حال ، وجواب الشرط ليس بواجب أن تفعله إلا أن تريد الشرط ، وقد يوجد ولا يوجد ، فأشبه الاستفهام ونحوه وشبهه سيبويه بقولك : " أفعل إن شاء الله" لأن أفعل موضعه وأصله إخبار حقه الوفاء به ، وقوي بذلك النصب بعد جواز الشرط إذا كان تعليقه بالشرط يخرجه عن الأفعال المجردة.

هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل

إذا كان جوابا لأمر أو نهي أو استفهام أو عرض أو تمن

اعلم أن جواب هذه الأشياء ينجزم بإضمار شرط ، والدليل على ذلك أن الأفعال التي تظهر بعد هذه الأشياء إنما هي ضمانات يتضمنها الآمر والناهي والمستفهم والعارض بوقوع أفعال قبلها ، وليست بضمانات مطلقة ، إنما هي متعلقة بمعنى : إن كان ووجد ، وجب الضمان والعدة. وإن لم يوجد ، لم يجب. ألا ترى أنه إذا قال : " ائتني آتك" ، لم يلزم الآمر أن يأتي المأمور إلا بعد أن يأتيه المأمور ، فوجب أن يكون التقدير : ائتني إن تأتي آتك ، وهكذا التقدير في جميع ما يجزم جوابه من هذا الباب ، وإن كان لا يتكلم بهذا ، لأن لفظ الأمر والنهي وما أشبههما يغني عن ذكر الشرط بعده ويكفي منه.

وأنشد لجابر بن حني التغلبي :

* ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي

محارمنا لا يبوء الدم بالدم (١)

هذا وإن كان لفظه لفظ الاستفهام ، فإن معناه معنى الأمر كأنه قال : لتنته عنا ملوك إن تنته عنا لا يبوء الدم بالدم. ومعنى لا يبوء الدم بالدم : لا يقتل واحد بآخر ، يريد أن الملوك إذا قتلوا منا قتلنا منهم ، ولو حمل هذا على حقيقة الاستفهام فسد المعنى على لفظ الجواب ، وحقيقة لفظ الاستفهام لأن" الألف" للاستفهام ، و" لا" للجحد ، فيكون الشرط المقدر بحرف الجحد ، فيصير التقدير : ألا تنته عنا لا يبوء ، وهذا ضد المعنى المراد. وإنما لم يجز : لا تدن منه يأكلك وهذا محال لأنه يصير تباعده سببا لأكله ، ولا يستقيم أن تضمر : " إن تدن منه" لأن" تدن" لا يدل على ذلك ولا فيه معناه كما كان في قوله :

إلا تنته ، معنى لتنته. فإن قلت : لا تدن من الأسد فيأكلك بالفاء والنصب جاز وحسن ، لأن الجواب بالفاء تقديره تقدير العطف كأنه قال : لا يكون دنو فأكل. وإن لم تدخل الفاء رفعت على الاستئناف ، أي : هو مما يأكلك فاحذره.

ومثله ما حكاه سيبويه عن بعض الأعراب : " لا تذهب به تغلب عليه" وقوله : " مره يحفرها".

__________________

(١) المفضليات ٥١١ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٠ ، شرح النحاس ٢٩٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٥٧.

٣٩٣

يجوز فيهما وجهان في ما ذكر :

أحدهما : على الابتداء والاستئناف كأنه قال : مره فإنه يحفرها ولا يخالف ألبتة.

والوجه الآخر : مره أن يحفرها ، فأسقط" أن" ورفع ، فتقديره على هذا تقدير اسم فاعل واقع موقع الحال كأنه ظهرت فيه أمارة التيه في حفرها ، والعزم عليه ، فصار كأنه حافر ، ومثله قوله عز وجل : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] أي : مقدرين الخلود.

وقول الله عز وجل (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] أصح ما يقال فيه ما ذكره سيبويه عن الخليل ، وهو : نصب" غير" بأعبد ، و" تأمروني" غير عامل كما تقول : هو يفعل ذلك بلغني ، أي : في ما بلغني قال سيبويه : وإن شئت كان بمنزلة :

* ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغي (١)

وهو ضعيف لأنه يؤدي إلى أن يقدر" أعبد" بمعنى : عابدا غير الله ، وفيه فساد لأن أعبد في تقدير أن أعبد ، ولو أظهرت ، لم يجز تقديم" غير" عليها ، لأنه في صلتها ، ولكن لما حذفت" أن" وناب الفعل مناب الحال المقدرة جاز التقديم على ضعف ، والذي عليه هو الوجه الأول.

وأنشد للراجز :

* متى أنام لا يؤرقني الكري

ويتصل بهذا :

ليلا ولا أسمع أجراس المطي (٢)

كان قائل هذا الشعر مكار يكري الإبل. والكري : المكترى منه ، ومتى استفهام. وفي يؤرقني وجهان :

أحدهما : أنه جزم جواب الاستفهام. وتقدير الشرط فيه : " إن أنم لا يؤرقني" كأنه لم يعد نومه نوما ، وجعل النوم هو الذي لا ينبهه منه الكرى.

والوجه الآخر : أن يؤرقني مرفوع تركت ضمته استثقالا كما قال :

* وقد بدا هنك من المئزر (٣)

__________________

(١) صدر بيت لطرفة بن العبد وعجزه (وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي) شرح المعلقات العشر ٤٦ ، شرح الأشعار الستة للأعلم ٢ / ٥٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٢ ، المقتضب (٢ / ٨٣ ، ١٣٤) مجالس ثعلب ١ / ٣١٧ ، معاني القرآن ٣ / ٢٦٥ ، شرح النحاس ٢٩٥ ، شرح السيرافي (٤ / ٤٦١ ، ٤٦٨ ، ٤٦٩) ، المسائل العسكرية ٢٠٢.

(٢) شرح السيرافي (٤ / ٤٥٧ ، ٤٦٥) والخصائص ١ / ٧٣ ، المنصف ٢ / ١٩١.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ٢ / ٢٩٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٦٥ ، المسائل البغداديات ٤٣١ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٣٩١ ، تفسير عيون الكتاب ٢١٠ ، الخصائص ١ / ٧٤ ، شرح المفصل ١ / ٣٨ ، الخزانة ٤ / ٤٨٤.

٣٩٤

ومعناه : متى أنام غير مؤرق. كأنه تمنى النوم الذي لا ينبه منه ولا يكون فيه سهر ، وفي هذا المعنى : أشم الرفع من أشمه على ما حكاه سيبويه.

وأنشد للأخطل :

* وقال رائدهم أرسوا نزاولها

فكل حتف امرئ يمضي لمقدار (١)

فرفع" نزاولها" على معنى : نحن نزاولها ، أي : نخاتلها ونعالجها.

وأنشد للأنصاري :

* يا مال والحق عنده فقفوا

تؤتون فيه الوفاء معترفا (٢)

فرفع" تؤتون" على معنى : فإنكم تؤتون ، ولم يجعله جوابا ونصب" الحق" بإضمار فعل يفسره : فقفوا ، كأنه قال : الحق ما لزموا ، وعطف جملة (و" الحق" بالواو على جملة النداء لأن حروف النداء بدل من اللفظ بالفعل) ودخلت الفاء لأنها تدخل زائدة في الأمر كقولك : " بزيد فامرر". ويروى : " معترفا" بكسر الراء وفتحها ، فمن كسر صير الحق معترفا لهم ، ومن فتحه فهو بمعنى اعترافا.

وأنشد في مثله لمعروف :

* كونوا كمن واسى أخاه بنفسه

نعيش جميعا أو نموت كلانا (٣)

فرفع" نعيش" على الاستئناف.

قوله : " أو نموت كلانا" لفظ" كلانا" كلفظ رجلين لأنه أراد الحيين والجمعين فأنزلهما منزلة اثنين فقال : " كلانا".

وحكى عن الخليل أنه قدر" نعيش" محمولا على" كونوا" وخبرا له وظاهر الكلام يمنع من ذلك ، لأن الواو في" كونوا" اسم المخاطبين ، والمتكلم خارج عنها.

وقوله : " نعيش" : للمتكلم. إذا كان مع غيره فكيف يكون ما للمتكلم خبرا عن المخاطب من غير ضمير عائد؟ فهذا في اللفظ فاسد ، ولكن إذا حمل على معناه صح ، وذلك أن يكون قوم اجتمعوا فتواصوا بالتآلف وترك الفرقة ، فمتكلمهم إذا أوصاهم بشيء فهو داخل معهم فيه ، ولا فرق بين أن يأمرهم ، وهو في المعنى داخل معهم وبين أن يكون لفظ الأمر لنفسه وهم معه فيصير قوله : " كونوا" ، كقولهم : " لنكن نعيش جميعا" ، " فنعيش" خبر

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٠ ، شرح النحاس ٢٩٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٥٨ ، المقتصد ٢ / ١١٢٦ ، الخزانة ٩ / ٨٧.

(٢) شرح السيرافي ٤ / ٤٥٨ ، ٥٦٦.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥١ ، الكتاب ٣ / ٩٦ ، شرح النحاس ٢٩٤ ، السيرافي ٤ / ٤٥٩ ، ٤٦٦ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٠٤.

٣٩٥

فهذا محمول على معناه.

وأنشد للأخطل :

* كروا إلى حرّتيكم تعمرونها

كما تكر إلى أوطانها البقر (١)

فجعل" تعمرونها" حالا من الضمير في" كروا" كأنه قال : كروا عامرين لهما ، وأجاز فيه القطع والابتداء. والحرة : الأرض ذات الحجارة السود ، ولا ينزلها إلا الضعيف الذليل يتحصن بها ، فلذلك أمرهم بالكر إليها والإقامة فيها.

هذا باب الحروف التي تنزل منزلة

الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر والنهي

وذلك قولك : " حسبك ينم الناس" ، وكذلك كفيك وشرعك ، ومثل ذلك : " اتقى الله امرؤ وخيرا يثب عليه".

اعلم أن" حسبك وكفيك" و" شرعك" : أسماء مبتدأة وأخبارها محذوفة لعلم المخاطب بها وذلك أنه لا يقال شيء من هذا إلا لمن كان في عمل قد بلغ منه الكفاية ، فيقال له هذا ليكف ويكتفي بما قد عمله منه ، فتقديره : حسبك هذا ونحوه ، وفيه معنى الأمر لأنه يراد : اكتف بما قد عملت ونحوه ، و" ينم الناس" : جواب لأن معناه معنى الأمر ، وإن كان مبتدأ ، وكذلك كفيك وشرعك ومعناهما حسبك.

وقوله : " اتقى الله امرؤ" ، وإن كان لفظه لفظ الخبر فمعناه الأمر ، لأن هذا يقوله الواعظ لمن يسمع كلامه وليس قصده أن يخبر عن إنسان أنه قد اتقى الله.

ومثله : " غفر الله لزيد ورحمه" ، لفظه لفظ الخبر ومعناه : الدعاء.

وقوله : " آتي الأمير لا يقطع اللص".

رفع" يقطع" لأن الذي قبله كلام موجب وإخبار مطلق ، ولو اضطر شاعر فجزم" يقطع" لجاز على معنى : إن آته لا يقطع اللص ، وقد اعتقد أن إتيانه إياه هو سبب لا يقطع اللص من أجله.

وأنشد لعمرو بن عمار الطائي :

* فقلت له صوّب ولا تجهدنّه

فيدنك من أخرى القطاة فتزلق (٢)

عطف" فيدنك" و" تزلق" على قوله : " ولا تجهدنه" ، ولو كان في غير الشعر لجاز

__________________

(١) ديوانه ١٠٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥١ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٦٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٨٧ ، شرح المفصل ٧ / ٥٠ ، حاشية الصبان ٣ / ٣٠٩.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٢ ، معاني القرآن ٢ / ٢٢٩ ، المقتضب ٢ / ٢١ ، مجالس ثعلب ٢ / ٣٦٨ ، شرح النحاس ٢٩٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٧٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٦٢.

٣٩٦

نصبها على الجواب ، ويروى : فيذرك يقال أذراه عن فرسه : إذا رمى به.

والقطاة : مقعد الردف ، وأخراها : آخرها. يقول لغلامه : صوب الفرس وارفق به ولا تحمل عليه بالجهد والمشقة.

وأنشد للشماخ :

* ودوية قفر تمشّي نعامها

كمشي النصارى في خفاف اليرندج (١)

المعنى : ورب دوية ، والدوية : الفلاة. واليرندج : الجلود السود. شبه سوق النعامة بها لسوادها ، واستشهد به على أنه لم يأت" لرب" بجواب. وقد خولف سيبويه في هذا ، وأنشد المخالف له بيتا فيه جوابها وهو قوله :

* قطعت إلى معروفها منكراتها

وقد خب آل الأمعز المتوهج (٢)

والعلة للخليل وسيبويه في ما زعما من حذف الجواب ، أن جواب" رب" جائز عند جميع النحويين أن يحذف إذا عرف معناه ، فيجوز أن يكونا حملا هذا البيت على ما يجوز وإن لم يكونا عرفا ما بعده ، أو يكونا أنشداه وحده.

وحذفه مشهور في القرآن وفي كلام العرب.

هذا باب الأفعال في القسم

اعلم أن" النون" دخلت مع" اللام" وحدها ، أن تدخل على الفعل في خبر إن للتأكيد ، وقد تدخل في خبر إن ومعها القسم فألزموها النون للفصل بين اللام الداخلة لجواب القسم والداخلة لغير القسم وبين هذه اللام وبين التي معها النون فصل من وجهين :

أحدهما : أن" اللام" التي معها" النون" لا تكون إلا للمستقبل ، والتي بغير نون تكون للحال. وقد يجوز أن يراد بها المستقبل.

والوجه الآخر من الفصل بينهما : أن المفعول به لا يجوز تقديمه على الفعل الذي فيه النون ، ويجوز تقديمه على الذي لا نون فيه ، لأن نية اللام فيه التقديم. ولا يجوز أن تقول : إن زيدا عمرا ليضربن ، ويجوز : إن زيدا عمرا ليضرب.

فإن قال قائل : إذا أردنا القسم على فعل الحال فكيف السبيل إليه؟ قيل له : يقع جواب القسم" بإن" ، ويكون الفعل المستقبل خبرا له ويراد به الحال ، كقولك : والله إن زيدا ينطلق ، وإن شئت أدخلت اللام فقلت : لينطلق ، والمعنى : واحد ، وإن شئت قلت : إن زيدا لينطلق ، فيستغني بدخولها على الاسم عن دخولها على الفعل المقسم عليه كقولك : أقسمت عليك إلا

__________________

(١) ديوانه ١١ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٤ ، شرح النحاس ٢٩٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٧٣ شرح عيون الكتاب ١٥٥.

(٢) ديوان الشماخ ١١ ، انظر شرحه ١ / ٤٥٤ وانظر حواشي شرح عيون الكتاب ١٥٥.

٣٩٧

فعلت و" لما فعلت".

وقولهم : " أقسمت عليك لتفعلن" ، بينهما فرق ، فإذا قال : أقسمت عليك إلا فعلت ولما فعلت ، فهو طالب منه سائل ، ولا يلزمه فيه تصديق ولا تكذيب.

وإذا قال : " أقسمت عليك لتفعلن" ، فهو مخبر عن فعل المخاطب أنه يفعله ، ومقسم عليه ، فإذا لم يفعله فهو كاذب ؛ لأنه لم يوجد خبره على ما أخبر به. فللفرق بين المعنيين ، فرق بين اللفظين.

وقوله عز وجل : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [هود : ١١١] اللام الأولى : التي تدخل في اسم" إن" إذا قلت : إن في الدار لزيد. أو في خبرها إذا قلت : إن زيدا ليقوم ، ولا تدخل معها النون.

واللام الثانية : هي جواب قسم يقدر بعد اسم" إن" وقبل خبرها وذلك في نحو قولك : إن زيدا ليقومن ، ولا تجتمع هاتان اللامان.

فإذا فرق بينهما جاز ، و" ما" زائدة للتوكيد.

وأنشد في حذف المنفي من جواب القسم :

فحالف فلا والله تهبط تلعة

من الأرض إلا أنت للذل عارف (١)

أراد : " لا تهبط" وقوي حذف" لا" لذكرها أول البيت.

يقول : حالف من تقوى به وتعز بمعاقدته ، فإن لم تفعل ذلك ، لقيت الذل وعرفته حيث كنت من الأرض.

والتلعة : المسيل في ما ارتفع من الأرض ، وهي أيضا ما انحدر.

وأنشد أيضا :

* فأقسم أن لو التقينا وأنتم

لكان لكم يوم من الشر مظلم (٢)

جعل سيبويه ههنا" أن" توكيدا كاللام ، ألا ترى أن اللام لا تدخل ههنا لو قلت : " فأقسم لأن لو التقينا" لم يجز ، لأن اللام إنما تدخل في المقسم عليه أو في ما كان من سببه كقولك : " والله لئن قمت لأقومن ، فدخلت في : " لأقومن ، لأنه المقسم عليه. ودخلت في" لئن" لأن" أن" من سببه ، ودخول" أن" مع" أو" توكيدا بدلا من اللام.

وأنشد للبيد :

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٤ ، شرح النحاس ٢٩٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٨٣ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٣٣ ، الكتاب ٣ / ٥ الطبعة المحققة ، دلائل الإعجاز ٢٠ ، (تحقيق محمود شاكر).

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٥ ، شرح النحاس ٢٩٧ وبه (لكان لنا) شرح السيرافي ٤ / ٤٨٥ ، ٤٨٩) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٨٥ ، شرح المفصل ٦ / ٩٤.

٣٩٨

* ولقد علمت لتأتين منيتي

إن المنايا لا تطيش سهامها (١)

أراد : والله لتأتين ، فحذف القسم لدلالة اللام والنون عليه.

وقوله : لا تطيش سهامها : أي لا تخطئ من بلغ أجله ، يقال : طاش السهم إذا عدل عن الرمية.

هذا باب الحروف التي لا تقدم فيها الأسماء

هذا الباب كلام سيبويه فيه واضح

وقوله : " وصار الفصل في الجزم والنصب أقبح منه في الجر لقلة ما يعمل في الأفعال من العوامل وكثرة ما يعمل في الأسماء منها".

يعني : أن الأسماء تعمل فيها الأفعال والحروف ، والأسماء والأفعال إنما تعمل فيها حروف معلومة قليل عددها.

وأجاز سيبويه تقديم الاسم في الجواب ورفعه بإضمار ، كما أجازه في الشرط وذلك قولك : " إن يأتني زيد يقل ذلك" ، فزيد : مرفوع بفعل مضمر يفسره ما بعده ، كأنه قال : " إن يأتني يقل زيد ذاك يقل" ، ولا يجوز أن يرتفع زيد بالابتداء إلا على إرادة الفاء ، ولا بد مع ذلك من رفع يقول.

وأنشد في إضمار فعل الشرط بعد" إن" :

* عاود هراة وإن معمورها خربا (٢)

وهراة : اسم موضع وهذا جائز في الكلام إذا كان الفعل ماضيا مع إن خاصة لأنها أصل الجزاء.

وأنشد في ما جاء مجزوما في غير" إن" ـ لعدي بن زيد :

* فمتى واغل ينبهم يحيو

ه وتعطف عليه كأس الساقي (٣)

أراد : فمتى ينبهم واغل ينبهم ، وهذا من أقبح الضرورات.

والواغل : الداخل على القوم يشربون ، ولم يدع. ومعنى ينبهم : ينزل بهم ويحل عليهم.

وأنشد في مثل هذا :

__________________

(١) شرح المعلقات العشر ٧٧ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٦ ، شرح النحاس ٢٩٨.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٩٥ ، المقتضب ٢ / ٧٢ ، شرح المفصل ٩ / ١٠ اللسان (هرا) ١٥ / ٣٦١.

(٣) ديوانه ١ / ١٥٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٨ ، المقتضب ٢ / ٧٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٩٥ ، المسائل البغداديات ٤٥٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٨٨ ، المقتصد ٢ / ١١٢٢ ، الإنصاف ٢ / ٦١٧ ، شرح المفصل ٩ / ١٠ ، الخزانة ٣ / ٤٦ ، اللسان (وغل) ١ / ٧٣٢.

٣٩٩

* صعدة نابتة في حائر

أينما الريح تميلها تمل (١)

الصعدة : القناة والحائر : موضع السيل حيث يستقر ، كأن الماء قد حار فيه.

وأنشد لهشام المري :

* فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن

ومن لا نجره يمس منا مفزعا (٢)

أراد : فمن نؤمنه نحن نؤمنه. يقول : من أمناه وأخبرناه بات آمنا من غيرنا ، ومن لم نجره وأجاره غيرنا أمسى مفزعا منا.

وقوله في آخر الباب : " ومثل الأول قول هشام" يعني بالأول : فمتى واغل وأينما الريح اعلمه

هذا باب الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل

فمن تلك الحروف : " قد" و" سوف" وما أشبه ذلك.

اعلم أن المانع ل" قد" من أن يفصل بينها وبين الفعل ، أنها من الفعل بمنزلة الألف واللام من الاسم ، لأنها تدخل على فعل متوقع أو مسئول عنه ، فأشبهت العهد في قولك : " جاءني الرجل" ، لمن عهده المتكلم أو جرى ذكره عنده قبل ذلك. ومما يوجب ـ أيضا ـ أن لا يفصل بينها وبين الفعل ، أنها نقيض" لما" و" لما" حرف جازم لا يفصل بينه وبين الفعل.

وقد أجازوا الفصل بين" قد" والفعل وقد ذكر ذلك سيبويه في أول الكتاب وجعله من المستقيم القبيح.

وأكثر ما يقع الفصل بينها وبين الفعل ، بالقسم. كقولك قد ـ لعمري ـ فعلت كذا".

و" قد ـ والله ـ أحسنت إليه" ، وحسن الفصل في" قد" ولم يحسن في الألف واللام ، لأن" قد" تنفرد ولا يذكر بعدها شيء فقويت بذلك ، واحتمل الفصل فيها كقول النابغة :

* لما تزل برحالنا وكأن قد

والقول في الامتناع من الفصل في" السين" و" سوف" كالقول في" قد" أنهما بمنزلة الألف واللام.

ووجه آخر في" السين" و" سوف" : أنهما إثبات" لن" ، و" لن" ـ نقيضتهما ولا يفصل

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٥٨ ، المقتضب ٢ / ٧٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٩٥ المسائل البغداديات ٤٥٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٩٦ شرح ابن عقيل ٢ / ٣١٠ ، الخزانة (٣ / ٤٧ ، ٣٨) ، اللسان (صعد) ٣ / ٢٥٥ ، (حير) ٣ / ٢٢٣.

(٢) الكتاب ١ / ٤٥٨ ، المقتضب ٢ / ٧٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٩٦ ، المسائل البغداديات ٣٥٩ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٨٢ ، الإنصاف ٢ / ٦١٩ ، مغني اللبيب ٢ / ٥٢٦ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٢٩ ، همع الهوامع ٢ / ٥٢ ، الخزانة ٩ / ٣٨.

٤٠٠