النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

* لقد عذلتني أم عمرو ولم أكن

مقالتها ما كنت حيّا لأسمعا

ومثل هذا لا يجوز عند البصريين ، لأن" أن" بعد اللام مضمرة وما بعدها من صلتها إذا تقدم عندهم بإضمار فعل دل عليه وما بعده.

هذا باب ما يعمل في الأفعال فيجزمها

ذكر سيبويه أن الجازم قد يجوز حذفه في الشعر وإعماله مضمرا ـ واحتج لذلك بقول الشاعر :

* محمد تفد نفسك كل نفس

إذا ما خفت من شيء تبالا (١)

أراد : لتفد نفسك.

وكان المبرد ينكر البيت ، ويزعم أنه باطل.

وذكر عن المازني أنه قال : يجوز أن يكون الشاعر أراد تفدي نفسك على الخبر ولكنه حذف الياء كما حذفوا من (دوامي الأيد).

وأجود من هذا الاستشهاد خط المصحف ، وقراءة من قرأ :

(ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) [الكهف : ٦٤]

وأنشد لمتمم بن نويرة :

* على مثل أصحاب البعوضة فاخمشى

لك الويل حر الوجه أو يبك من بكى (٢)

أراد ليبك وأجاز المبرد هذا البيت على أن يعطف (أو يبك من بكى) على معنى" فاخمشي" ، وقدره مجزوما باللام ، فكأنه قال : " فلتخمشي حر الوجه أو تبك" ومعنى فاخمشي : فاخدشي ، ويجوز فاخمشي بكسر الميم.

ومثل هذا في الحمل على المعنى قول الآخر.

* فقلت ادعي وأدع فإن أندى

لصوت أن ينادي داعيان (٣)

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٠٨ ، المقتضب ٢ / ١٣٠ ، شرح النحاس ٢٦٨ شرح السيرافي ٤ / ٣٠١ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٢٥ ، الإنصاف ٢ / ٥٣٠ ، الجنى الداني ١١٣ ، شرح المفصل ٣٥٧ ، مغني اللبيب (١ / ٢٢٧ ، ١ / ٨٤٠) ، حاشية الصبان ٤ / ٥ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٥٩٧ ، الخزانة ٩ / ١١.

(٢) شعر متمم ٨٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٠٩ ، المقتضب ٢ / ١٣٠ ، شرح النحاس ٢٦٨ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٠٢ المسائل البغداديات ٤٦٧ شرح ابن السيرافي ٢ / ٩٨ ، الإنصاف ٢ / ٥٣٢ ، شرح المفصل ٧ / ٦٠ ، مغني اللبيب ١ / ٥٩٧ ، شرح شواهده ٢ / ٥٩٩ ، اللسان (بغض) ٧ / ١٢١.

(٣) ملحقات ديوان الأعشى ٢٦٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٦ ، مجالس ثعلب ٢ / ٤٥٦ ، شرح النحاس ٢٧٩ ، أمالي القالي ٢ / ٩٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٠٣ ، ٤ / ٣٠٨ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٢٦ ، الإنصاف ١ / ٢٥١ ، الرد على النحاة ١٢٨.

٣٦١

كأنه قال : لتدعي ولا أدع.

واعلم أن (لما) معناها (لم) ، وجزمها كجزمها ، إلا أنها تزيد على (لم) بتطويل زمان ، تقول : ندم زيد ولم تنفعه الندامة أي : ما نفعته عقب ندمه وإن قال : ولما تنفعه الندامة ، أي إلى وقته وما بين (لم) و (لما) كما بين" فعل" و" قد فعل" فلم" نفي فعل ، " ولما" : نفي قد فعل تقول : جاءني زيد ، فيقول الراد : لم يجئ ، ويقول : جاء زيد وقد أعتم ، فيقول : جاء زيد ولما يعتم و (قد) و (لما) جميعا في موضع الحال من زيد. فلو قال : ولم يعتم ، لم يحسن كحسن و" لما يعتم" ، ومن أجل زمان" قد" و" لما" جاز حذف الفعل منهما ، كقولك : ندم زيد وقد نفعته الندامة وندم غيره ولما.

وتقول في" قد" : (أزف الشخوص .... وكأن قد)

قال النابغة :

* لما تزل برحالنا وكأن قد

أي : قد زالت.

هذا باب وجه دخول الرفع في هذه

الأفعال المضارعة الأسماء

مذهب سيبويه أن الفعل يرتفع بوقوعه موقع الاسم ، وهو عنده سبب رفعه لأن وقوعه موقع الاسم عامل غير لفظي فمنزلته منزلة الابتداء في أنه عامل غير لفظي لا في أنه واقع يرتفع بالابتداء ورأى أفعالا ترتفع في مواضع لا يقع فيها الاسم ، فبين أن تلك المواضع في الأصل تقع فيها الأسماء ، وأنه عرض فيه معان اختاروا من أجلها لزوم الفعل وترك الأصل.

فمن تلك المواضع : هلا يقول زيد ذاك ، ، والأصل : يقول زيد ذاك ، ثم قال قائل : لا يقول زيد ذاك ، فينفي ثم يقول فيحضض السامع على القول فيجعل مكان" لا"" هلا".

ولما كانت" هلا" وأخواتها للتحضيض ، ومعناهن معنى الأمر ـ ذكر الفعل لئلا يزول معنى التحضيض والأمر ، والموضع موضع الابتداء.

ومثل ذلك : ما أحسن زيدا." ما" : مبتدأة ، وأحسن" : فعل ماضي في موضع الخبر ، وخبر الابتداء في تقديم الاسم لأنه شيء هو المبتدأ.

ونحن لا نقول : ما محسن زيدا ، لأن ، أحسن" فعل ماضي يدل على استقرار يحسن فيه الذي ـ باستقراره فيه ـ يستحق التعجب ، و" محسن" لا يدل على ذلك.

وقوله : " ائتني بعد ما تفرغ"

" ما" موصولة بتفرغ ، ويجوز وصلها بالابتداء والخبر كقولك :

" ائتني بعد ما زيد أمير" ، قبلها الاسم والخبر ، ويليها الفعل فلذلك لم تنصب الفعل كما

٣٦٢

تنصبه" أن" وإنما مثلها سيبويه" بالذي" في أنها لا تعمل شيئا كما يعمل" الذي".

وأما" كدت أفعل" وما أشبهه ، فإنما لزموا فيه الفعل ، لأنه أريد بها الدلالة بصيغة الفعل على زمانه ومداناته وقرب مواقعته.

فإذا قلت : كدت أفعل كذا ، فلست بمخبر أنك فعلته ولا أنك عريت منه عري من لم يرمه ، ولكنك رمته وتعاطيت أشياء منه حتى لم يبق بينك وبينه إلا مواقعته لفعله ، أو على حد فعله. ولفظ : " كدت أفعل" ، أدل على حقيقة المعنى وأحضر في اللفظ.

ومثله : عسى زيد أن يقوم ، ومعناه عسى زيد القيام ، إلا أن القيام لا يدل على زمان محصل فلزموا اللفظ الذي يدل على زمان بعينه ، وإذا قلت : " عسى الغوير أبؤسا".

ومعنى قوله : " فتركوا الفعل حين خزلوا أن ولم يستعملوا الاسم لئلا ينقضوا هذا المعنى".

أي : حذفوا" أن" في قولهم : جعل يقول ، وأخذ يقول ، ولم يستعملوا المصدر لئلا ينقضوا مقاربة الحال كما فعلوا في : " كاد يفعل" لأن لفظ الفعل مجردا يدل على الحال ولا يدل عليه المصدر ومعنى" تركوا الفعل" أي : أبقوه ولم يحذفوه.

هذا باب إذن

مذهب سيبويه أن" إذن" هي العاملة الناصبة ، وذكر أن مذهب الخليل ذلك في ما سمعه هو منه ، وذكر عن غيره الخليل أن (أن) بعدها مضمرة ، واحتج عليه بما ذكره آخر الباب.

واعلم أن" إذن" تلغى من بين حروف النصب وجاز ذلك لأنها جواب يكفي من بعض كلام المتكلم ، كما تكفي" نعم" و" لا" من كلامه. يقول القائل : إن تزرني أزرك ، فيجاب : إذن أزورك والمعنى : أزورك للشرط الذي شرطت فنابت" إذن" عن الشرط ، وكفت من ذكره. ويقول : أزيد في الدار؟. فيقال له : نعم أو لا فينوب" نعم" و" لا" عن قوله : زيد في الدار ، وما زيد في الدار ، فلما كانت" إذن" جوابا ، قويت في الابتداء لأن الجواب لا يتقدمه كلام ، ولما وسطت وأخرت ، زايلها مذهب الجواب فبطل عملها.

وأنشد لابن عنمة الضبي :

* أردد حمارك لا تنزع سويته

إذن يرد وقيد العير مكروب (١)

فأعلم" إذن" لأنها جواب مبتدأ ، والمعنى : يرد إن لم تردده فنابت" إذن" عن هذا المعنى ، وقدمت فأعملت. والسوية : البرذعة ، وقيل هو شيء يكون تحت البرذعة.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤١١ ، المفضليات ٣٨٣ ، المقتضب ٢ / ١٠ ، شرح النحاس ٢٦٩ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٠٠ ، شرح الحماسة للأعلم ١ / ٢٦.

٣٦٣

والمكروب : المشدود بالكرب وهو الحبل.

وأنشد لكثير عزة :

* لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذن لا أقيلها (١)

فالمعنى : " إذن" ، لأن الكلام معتمد على القسم ، والمعنى :

والله لئن (عاد لي بمثلها لا أقيلها إذن). وعبد العزيز بن مروان أخو عبد الملك ، والضمير في قوله : بمثلها يعود على مذكور قبل هذا البيت وهو قوله :

فإن ابن ليلي نالني بمقالة

ولو سرت فيها كنت ممن ينيلها (٢)

فالضمير في قوله : بمثلها ، يعود على : المقالة المذكورة في هذا البيت والمعنى : ممن ينيلهوها أي : ينيله إياها ، أي : ممن ينيلها ابن ليلي.

ومعنى لو سرت فيها : لو سرت في طلبها.

فإن قيل : كيف ينيله المقالة؟

فإن المعنى ينيله المقولة فيه ، كقولك : الخلق في معنى المخلوق.

وباقي الباب مفهوم.

باب حتى

مذهب سيبويه أن حتى من الحروف الخافضة ، وأنها إذا نصبت الفعل نصبته بإضمار" أن" كاللام لأن ما بعدها في الأسماء مخفوض إذا كانت غاية ، فلما وقع الفعل بعدها وكانت حروف الجر لا تعمل في الأفعال ، أضمرت" أن" بعدها فنصبت الفعل ، وكانت مع الفعل بمنزلة اسم تعمل فيه" حتى".

ومما يدل على أنها خافضة للأسماء دون أن يقدر بعدها" إلى" قولهم حتى م؟ وحتى مه؟ كما تقول : إلى م؟ ، وإلى مه؟ ، فسقطت الألف من" ما" كما تسقط مع سائر حروف الجر إذا دخلت عليها في الاستفهام.

واعلم أن (أن) لا تظهر بعد" حتى" ، كما تظهر بعد" إلى" لأن (إلى) لا تدخل إلا على الأسماء ، فألزموا (إلى) دخول (أن) لتظهر إسمية ما دخلت عليه ، قوة لزومها الخفض ، ومن أجل ذلك حسن ظهور (أن) بعد اللام المكسورة ، ولا يحسن ظهورها بعد حتى لأن عملها يبطل في أحواله فتدخل على الأسماء بمعنى حروف العطف. وتدخل على الأفعال في مواضع ،

__________________

(١) ديوان كثير ٧٨ / ٢ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤١٢ ، شرح النحاس ٢٧٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٣١٧ ، المسائل البغداديات ٢٣٦ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٤٤ شرح المفصل ٩ / ١٣ ، حاشية الصبان ٣ / ٢٨٨ ، أوضح المسالك ٣ / ١٦٩ ، شرح شواهد المغني ١ / ٦٣ ، الخزانة ٨ / ٤٧٣.

(٢) ديوان كثير ٢ / ٧٨ ، شرح السيرافي ٤ / ٣١٧ ، الخزانة ٨ / ٤٧٧.

٣٦٤

فلا تعمل شيئا. وتكون كحروف الابتداء ، فلم يكن لها قوة الخفض فمنعوها ـ من ظهور" أن" بعدها ما أعطوه (إلى) لقوتها في الخفض.

واعلم أن رفع الفعل بعد" حتى" على وجوه : أصلها : وجه واحد في المعنى ، وذلك أن يكون ما قبلها موجبا لما بعدها ومؤديا إليه. ولكن بما يوجبه ما قبلها فقد يجوز أن يكون عقيبا له ، ومتصلا به ، وقد يجوز أن يكون متصلا به ، ولكن يكون موطأ مسهلا بالفعل الأول متى اختاره صاحبه أوقعه.

ومن هذا قوله : لقد سرت حتى أدخلها ما أمنع ، لأن السير مكن له أن يدخلها كيف شاء في المستقبل.

وكذلك : " رأى مني عاما أول شيئا حتى لا أستطيع أن أكلمه العام بشيء ـ لأن الذي رأى منه العام الأول هو الذي أصاره في عامه إلى الضعف عن كلامه ، وسائره محمول على ما ذكرنا. و" حتى" في رفع الفعل بمنزلة حروف الابتداء وسبيلها في بطلان عملها في الفعل كسبيلها في بطلان عملها في الاسم إذا كانت عاطفة.

ومعنى تقدير سيبويه حتى إذا رفعت ما بعدها تقدير الفاء إنما أراد أن يشبه كون الفعل في ما مضى مع" حتى" بكونه مع" الفاء" في ما مضى ، ولم يرد أن يوجب أن عمل (حتى) ومعناها ، كعمل" الفاء" ومعناها لأن" الفاء" ، لم يكن قيام زيد من أجل خروجه.

واحتج سيبويه على أن رفع الفعل بعد حتى كرفع الاسم بقول الفرزدق :

* فيا عجبا حتى كليب تسبني

كأن أباها نهشل أو مجاشع (١)

فرفع ما بعد حتى بالابتداء والخبر.

ومعنى البيت : أنه تعجب من مهاجاة جرير له ، وكليب رهط جرير وهم لا يقاومون في الشرب نهشلا ومجاشعا ، وهم رهط الفرزدق.

وهذا كقوله :

* ولكن نصفا لو سببت وسبني

بنو عبد شمس من مناف وهاشم

فلم يرض أن يساب إلا من كان شريفا مثله. وفي البيت الأول استعظم لجرير أن يسابه وهو في الشرف دونه. والمعنى : فيا عجبا يسبني الناس حتى كليب تسبني على تحقير كليب وتصغير شأنهم.

واحتج في رفع الفعل بعد حتى بقول حسان بن ثابت :

* يغشون حتى ما تهر كلابهم

لا يسألون عن السواد المقبل (٢)

__________________

(١) ديوان الفرزدق ٢ / ٥١٨.

٣٦٥

فرفع ما بعد" حتى" على معنى : حتى أنهم لا تهر كلابهم ، أي حتى هذه حالهم. والمعنى : أن هؤلاء القوم يكثر التردد عليهم والغشيان لهم طلبا لمعروفهم حتى إن كلابهم لا تنكر من أتاهم ولا تنبحه.

وقوله : " لا يسألون عن السواد المقبل ، أي : قد عرفوا أن كل من يفد عليهم ويغشى فناءهم طالب لمعروف ، فيستغنون عن السؤال عنه لمعرفتهم به. والسواد ها هنا : الشخص ، ويكون أيضا معظم القوم.

وأنشد أيضا ـ في اتصال الفعل بعد حتى بما قبلها كاتصاله بالفاء ـ لعلقمة بن عبدة :

* تراد على دمن الحياض فإن تعف

فإن المندّى رحلة فركوب (١)

فاتصل الركوب بالرحلة هنا في ما مضى كاتصال الفعل بعد حتى بما قبلها في قولك : سرت حتى أدخلها ، أي : كان مني سير فدخول. يصف أنه سائر متعجل ، فإذا عرض ناقته على دمن الحياض وهو ما بقي من الماء فيها فتغير لقلته ، فإن عافته وامتنعت من شربه لم يقم عليها ولا نداها. والتندية : أن تشرب شيء ثم تعف ثم تعاد إلى الشرب ، ولكن يرحلها أي يجعل الرحل عليها فيركبها ، وقوله : فإن المندى رحلة ، أي : الذي يقوم لها مقام المندى رحلة ، كقولهم : " عتابك السيف.

هذا باب الرفع في ما اتصل بالأول كاتصاله بالفاء

وما انتصب لأنه غاية. تقول سرت حتى أدخلها

وقد سرت حتى أدخلها

اعتمد بهذا الباب ذكر ما قد كان بعد" حتى" متصلا بما قبلها ، وذلك ما كان من المرفوع ، وقد أوجبه ما قبله ، وما كان من المنصوب غاية وهما يتقاربان في اشتراكهما في اتصال ما قبلهما بما بعدهما ، فاتصل المرفوع بما قبله كاتصال ما بعد" الفاء" بما قبله.

وكل فعل كان مبناه على الإيجاب فهو مما يرتفع به الفعل بعد" حتى" وإن اتصل به تشكك ، كقولك : سار عبد الله حتى يدخلها وسار حتى يدخلها ، أرى وبلغني وما أشبهه.

ويجوز أن يكون ما قبل" حتى" المرفوع وما بعدها من أفعال الظن ، لأن القلوب تنعقد على ذلك ، وإن كان من فيه بعض عوارض الشك ، كانعقادها على العلم واليقين ، ويكون اللفظ عليه كما يكون ذلك في الخبر واليقين ، وذلك قولك : أظن عبد الله سار حتى يدخلها.

__________________

(١) ديوان حسان ٣٠٩ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤١٣ ، شرح النحاس ٢٧١ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٢٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٦٩.

(٢) ديوان ١٣٢ من قصيدة في مدح الحارث بن جبلة الغساني ، الكتاب (١ / ٤١٤ ، ٤١٦).

٣٦٦

وكذلك إن كان مبنى الكلام على الجحد وعقيبه إيجاب ، فهو كالإيجاب كقولك : " ما سرت إلا قليلا حتى أدخلها ، لأنه بمعنى : سرت قليلا حتى أدخلها ، والقليل قد يؤدي إلى الدخول كما يؤدي الكثير إليه.

وحكي سيبويه عن بعض النحويين أنهم لا يجيزون الرفع بعد" حتى" في ما لا يصلح فيه القلب ، وضعف قولهم واحتج عليهم أيضا بأنه لا فرق بين قولنا : " كنت سرت حتى أدخلها" ، وبين : سرت مرة الزمان حتى أدخلها لأنه يحسن فيه القلب ، تقول : سرت حتى أدخلها مرة في الزمان الأول.

وذكر سيبويه : إنما سرت حتى أدخلها ، فأجاز الرفع والنصب في موضع ، ولم يجزه في موضع ، وذلك أن" إنما" تكون على وجهين :

أحدهما : تحقير الشيء ، والآخر : الاقتصار عليه.

فأما الاقتصار عليه : فأن تقول في رجل ادعي له شجاعة وكرم وغير ذلك : " إنما هو شجاع" ، فعلى هذا الوجه ترفع الفعل بعد" حتى" لأنك قد أثبت قبلها فعلا يؤدي إلى ما بعدها.

وأما تحقير الشيء : فقولك لمن تحقر صنيعه : إنما تكلمت فسكت لم تعتد بكلامه.

فعلى هذا الوجه نصب سيبويه : إنما سرت حتى أدخلها ، لأنه لم يعتد بسيره سيرا ، فصار بمنزلة المنفي وقبح الرفع ، لأنك لم تجعل السير مؤديا إلى الدخول فيكون منقطعا بالدخول ، ولا نصبت" يدخل" فيكون غاية السير. وهذا معنى قول سيبويه" ليس في اللفظ دليل على انقطاع السير يعني : إذا رفعت مع التحقير.

واعلم أنك إذا قلت : كثر ما سرت حتى أدخلها ، وطال ما سرت حتى أدخلها ، لم يجز فيه غير النصب لأنك لم تذكر فعلا يؤدي إلى الدخول ، وإنما نفيت فعلا ولم تثبت فعلا آخر ولهذا نصب سيبويه بعد قل ما سرت حتى أدخلها ، ولما كان نفيا لكثر ما سرت كما أن" ما سرت" نفي لقوله : سرت.

وقوله بأنه قبيح أن تقول : قلما سرت فأدخلها .. كقبح ما سرت فإذا أنا داخل. لأن الفاء تقتضي أن ما بعدها وقع عقب فعل اتصل به ، وأنت قد نفيت ما قبل الفاء. ولو قلت قل ما سرت فأدخلها فنصبت ، كان جيدا للنفي ، كما تقول : " ما أتيتنا فنكرمك". ولا يحسن : كثر ما سرت فأدخلها ، لأنه موجب.

والذي يعتبر القلب بنصب : ربما سرت حتى أدخلها ، لأنه لا يحسن أن تقول : " سرت حتى أدخلها ربما" ، وطال ما وكثر ما.

ثم قال سيبويه : فإن احتجوا ـ يعني في نصبها ـ بأنه غير سير واحد ، فرد كلامهم بأنه

٣٦٧

يقال : " سرت غير مرة حتى أدخلها" ، وهذا يعرفونه ، لأنه يحسن في القلب ، ومعناه معنى : " ربما سرت" و" طال ما سرت" ، فأبطل احتجاجهم في النصب إذا تعلقوا بغير القلب.

وقوله : ولكنهم اعتزموا على النصب في ذا كما اعتزموا عليه في قد.

يريد أن نصب العرب لما ينصبونه من : ربما سرت حتى أدخلها ، وكنت سرت أدخلها ، وغير ذلك ، لم يكن من أجل قبح القلب ، ولكن لأن كل ما يرفع بعد" حتى" يجوز فيه النصب على الغاية ؛ لأن ما بينهما متقارب في المعنى ، لأن" السير" ينقطع عند" الدخول" رفعت أو نصبت ؛ لأنهم ذهبوا به مذهب الغاية.

ويجوز في الرفع كما جاز بعد : " قد سرت" ، والنصب أيضا عنده جائز.

وقوله : " أن أسير" بمعنى" سرت إذا أردت" بأسير" معنى" سرت".

اعلم أن هذا إنما يستعمل إذا كان الفاعل قد عرف منه ذلك الفعل خلقا وطبعا ، وينكر منه في المضي والاستقبال. ولا يكون لفعل فعله مرة من الدهر ، من ذلك ما أنشد لبعض السلوليين :

* ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمة قلت : لا يعنيني (١)

يريد : " ولقد مررت" ، ولم يرد أن ذلك كان منه مرة وأنه لا يعود إليه ، وإنما أراد أن ذلك كان منه سجية أبدا يصف في البيت أنه يكرم نفسه عن معارضة من سبه من اللئام برد الجواب عليه ، لأن ذلك مما يغض منه.

ومثل هذا قول حاتم :

* وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

وقوله : فمضيت ثمة قلت : لا يعنيني أي : أنزلته منزلة من لم يعنيني بالسب فلم أجبه.

وقال الأخفش : ما سرت حتى أدخلها ، معنى الرفع فيه صحيح إلا أن العرب لم ترفع غير الواجب في باب" حتى" ، ألا ترى أنك لو قلت : " ما سرت فأدخلها" ، كان حسنا.

وغلط الأخفش ، وذلك أن الدخول في" حتى" إذا رفع إنما يقع بالسير ، فإذا نفى السير لم يكن دخول. وكأن الأخفش أراد أن" ما" تدخل على قولك : سرت حتى أدخلها بعد وجوب الرفع فتنفي جملة الكلام ، فلذلك رآه صحيحا في القياس ، وإن كانت العرب لا تتكلم به.

هذا باب ما يكون العمل فيه من اثنين

وذلك قولك : " سرت حتى يدخلها زيد" وكذلك : " سرت حتى يدخلها ثقلي".

__________________

(١) الأصمعيات ١٣٧ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤١٦ ، الكامل ٣ / ٨٠ ، شرح السيرافي (٤ / ٣٢٩ ، ٣٣٤) ، الخصائص ٣ / ٣٣٠ ، دلائل الإعجاز ٢٠٦.

٣٦٨

قد تقدم أن رفع الفعل بعد حتى بإيجاب ما قبله له وتأديته إليه ، فإذا قلت : (سرت حتى أدخلها) جاز أن يدخلها أيضا من يتبعك ومن يسير بسيرك من أجير وصاحب وثقل ونحو ذلك ؛ لأنك تؤدي بسيرك إلى دخولهم إذا ساروا معك كما تؤدي به إلى دخولك.

ومنع سيبويه جواز : " سرت حتى أدخلها وتطلع الشمس".

أما امتناع الرفع : فلأن السير لا يؤدي إلى الطلوع ، وأما امتناع النصب : فلأن" حتى" التي ترفع ما بعدها ليست هي التي تنصب الفعل ، فبطل إضمارها ، فإن أردت النصب ذكرت" حتى" قبل" تطلع" فجاز.

وأنشد لامرئ القيس :

* سريت بهم حتى تكلّ مطيّهم

وحتى الجياد ما يقدن بأرسان (١)

فنصب" تكل" ولو رفع لجاز ، ولكنه نصب ليريك جواز عطف" حتى" على" حتى" وهما مختلفان في النصب والرفع لأن الأولى :

نصبت" تكل" ، والثانية : بعدها مبتدأ وخبر ، ولو وقع موقع المبتدأ فعل لكان مرفوعا.

يصف أنه أطال السير بهم حتى كلت إبلهم وانقطعت خيلهم حتى لم تحتج إلى أن تقاد بأرسان.

ومثل هذا قول زهير :

حتى يؤوب بها عوجا معطلة (٢)

أي : قد عطلت من الأرسان وغيرها.

هذا باب الفاء

اعلم أن" الفاء" في الأصل في جميع أماكنها عاطفة ، وإن اختلفت معانيها ، وقد يتناول العامل الشيئين بإعراب واحد على وجهين مختلفين ، كقولك : " لو ترك زيد وعمرو لضربه" ، وكذلك : " لو ترك أخواك لظلم أحدهما الآخر" ، بلفظ" الترك" قد وقع عليهما وهما مختلفان ؛ لأن أحدهما ممنوع ، والآخر ممنوع منه.

والعطف" بالفاء" على وجهين : أحدهما : عطف ظاهر ، والآخر : عطف متأول.

فالعطف الظاهر : أن تدخل الثاني في إعراب الأول وفي معناه ، ويجوز مكان ذلك : ثم.

وأما العطف المتأول المحمول على المعنى : فهو أن يكون ما قبل" الفاء" غير موجب ، ويكون معلقا بما بعد" الفاء" شرطا على وجوه مختلفة أخرت إلى التغيير وإضمار أن لتدل على تلك الوجوه.

__________________

(١) ديوانه ١٦٥ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤١٧ ، معاني القرآن ١ / ١٣٣ ، المقتضب ٢ / ٣٩ ، شرح النحاس ٢ / ٢٧٢.

(٢) شعر زهير ، صنعة الأعلم ٧٣.

٣٦٩

فمن ذلك : " ما تأتيني فتحدثني" ، بالنصب من وجهين :

أحدهما : أن يكون الإتيان منفيّا نفيا مطلقا ، والحديث ممتنع من أجل عدم الإتيان ، ولو وجد الإتيان لوجد الحديث.

الوجه الآخر معناه : " ما تأتيني أبدا إلا لم تحدثني ، أي : منك إتيان كثير ولا حديث منك. فالإتيان المنفي هو الإتيان الذي معه الحديث.

فهذان الوجهان المقصودان في النصب هما معنا عطف" تحدثني" على" تأتيني" في الرفع. لأنه إذا رفع الفعلين ، فليس أحدهما شرطا في الآخر. والرفع بعد" الفاء" على وجهين :

أحدهما : أن تعطف الثاني على الأول" بالفاء" كما تعطفه" بثم" فيكون النفي مشتملا عليهما.

والوجه الآخر : أن يكون الإتيان منفيّا ، والحديث موجبا ، ويكون عطف جملة على جملة ، كأنه قال : " ما تأتيني ثم أنت تحدثني الآن" ، وليس يتعلق أحدهما بالآخر ، ولا هو شرط فيه. فلما لم يكن عطفه على ظاهر لفظه ـ لئلا يبطل المعنى المقصود به ـ ردوه في التقدير إلى ما لا يبطل معناه. فجعلوا الأول في تقدير مصدر ، وإن لم يكن لفظه لفظ المصدر الظاهر ، وجعلوا الثاني مقدرا بمصدر ليس بظاهر ، فلذلك قدرت" أن" ـ فعلمت ، ولم تظهر ، وكان هذا التقدير والتغير والعدول عن الظاهر دلالة على المعنى المقصود ولو أظهرت (أن) لكان المصدر قد ظهر ولم يظهر في المعطوف عليه فجعل التغير لهما كالمشاكلة بينهما ، واكتفي بذلك.

وقد قوى سيبويه هذا بما ذكره من تقدير ما لا يتكلم به ولكنه محمول على المعنى والفاء ـ وإن نصبت ما بعدها بإضمار" أن" في جميع الأجوبة ، فحكمها مختلف في المعنى واختلافها : أن جواب النفي على وجهين مختلفين قد تقدم ذكرهما.

وجواب الاستفهام والأمر والنهي والتمني على المعنى ، وليس ذلك المعنى الذي في وجهي النصب الجحد لأن قولك : " لا تأتيني فتحدثني ، على معنى : " ما تأتيني فكيف تحدثني ، أو على : " ما تأتيني إلا لم تحدثني ، وهذان المعنيان ليسا في جواب الاستفهام ولا في جواب الأمر واتفاق العامل في ذلك مع اختلاف المعاني كقولك :

" يعلم الله" ، " ويذهب زيد" فقد اختلفا في المعنى وعملهما واحد.

وأما قوله : " ما أتيتنا فتحدثنا".

وجها النصب في تحدثنا جيدان وإن كان الفعل الأول ماضيا والثاني مستقبلا. فأما الرفع : فأحد وجهيه جيد والآخر ضعيف.

فأما الجيد : فعلى معنى : فأنت تحدثنا الساعة.

وأما الضعيف : فأن تريد : ما أتيتنا فتحدثنا ، فتنفيهما جميعا.

٣٧٠

وحد الكلام في ذلك أن تعطف الماضي ، ولكن الذي رفعه ، حمله على أن ما إذا وقع بعدها فعل معرب رفع فصار موضع الماضي موضع الرفع ، فلذلك رفع المستقبل بعده.

ومعناه معنى" ما كنت تأتينا فتحدّثنا".

والإتيان والحديث منفيان في ما مضى.

وقوله : " لا يسعني شيء فيعجز عنك.

ليس في هذا إلا وجه واحد ، كأنك قلت : " لا يسعني شيء إلا لم يعجز عنك". ولو حملته على الوجه الآخر من النصب فسد الكلام لأن تقديره:

" لا يسعني شيء فكيف يعجز عنك ذلك الشيء؟ ".

ومن المحال أن لا يسعه شيء ومن المحال أن كل ما لا يسعه لا يعجز عن المخاطب.

والرفع في الوجهين أيضا فاسد ؛ لأنه ينتقل معناه إلى أنه : " لا يسعه شيء" ، وهو محال.

وأنشد مستشهدا للحمل على المعنى قول الفرزدق :

* وما زرت سلمى أن تكون حبيبة

إليّ ولا دين بها أنا طالبه (١)

فعطف قوله : " ولا دين" على تقدير اللام في قوله : " أن تكون حبيبة" ، أي" ما زرتها لأن تكون حبيبة". وحقيقته : وما تركت زيارة سلمى لامتناع أن تكون حبيبة ولا أن تطالبني بدين ولكن خوف العيون والوشاة ، هكذا فسره أبو جعفر النحاس عن أبي الحسن الأخفش.

وظاهر البيت لا يدل على هذا التفسير وإنما يدل على أنه : زارها لغير محبة فيها ولا دين يطلبه عندها إلا لمعنى أراده.

وأنشد لبعض الحارثيين :

* غير أنّا لم تأتنا بيقين

فنرجى ونكثر التأميلا (٢)

كأنه قال : " فنحن نرجى على كل حال وإن لم تأتنا بيقين ، ولم يجعل الثاني واقعا بسبب الأول.

وأنشد للفرزدق :

* وما قام منا قائم في ندينا

فينطق إلا بالتي هي أعرف (٣)

__________________

(١) ديوانه ١ / ٩٣.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤١٩ ، شرح النحاس ٢٧٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٤٥ ، الرد على النحاة ١٢٧ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٨٧٢ ، الخزانة ٨ / ٥٣٨.

(٣) ديوانه ٢ / ٥٦١ ، جمهرة أشعار العرب ٧٠٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٩ ، شرح النحاس (٥ / ٢٧٤) ، شرح السيرافي ٤ / ٣٤٥ ، المقتصد ١ / ٣٨٥ ، الرد على النحاة ١٢٤ ، حاشية الصبان ٣ / ٣٠٤ ، الخزانة ٨ / ٥٤٠ ، المقاصد النحوية ٤ / ٣٩٠.

٣٧١

فنصب الفعل لأنه جعل ما قبله سببا له والمعنى : وما قام منا قائم إلا ناطقا بالمقالة التي هي معروفة بالصواب لا ينكرها أحد ولا يردها.

وأنشد ـ للعين ـ في مثل هذا :

* وما حل سعديّ غريبا ببلدة

فينسب إلا الزبرقان له أب (١)

يريد أن الزبرقان : سيد قومه المشهور فيهم وهو من بني سعد ، فإذا تعرف رجل من قومه فيسأل عن نسبه انتسب إلى الزبرقان كما ينتسب الرجل إلى أبيه.

وأنشد للفرزدق :

* فما أنت من قيس فتنبح دونها

ولا من تميم في اللها والغلاصم (٢)

فنصب تنبح ولو رفعه على القطع لجاز أي : فأنت تنبح على كل حال. والمعنى : فما أنت من قيس فتهاجي عنها ولا تذب عن أعراضها ولا أنت من تميم في موضع الشرف منها وضرب اللها والغلاصم مثلا للشرف لأنها في الرأس ، والرأس أشرف ما في الإنسان وأرفعه ، وكثيرا ما يضربون به المثل لهذا المعنى.

وأنشد لأمية بن أبي الصلت :

* ألا رسول لنا منا فيخبرنا

ما بعد غايتنا من رأس مجرانا (٣)

فنصب" يخبرنا" على الجواب ، ولو قطعه لجاز.

وأنشد أيضا :

* ألم تسأل فتخبرك الرسوم

على فرتاج والطلل القديم؟ (٤)

فنصب على الجواب. وفرتاج : اسم موضع.

وأنشد لأبي النجم :

* يا ناق سيري عنقا فسيحا

إلى سليمان فنستريحا (٥)

نصب" نستريح" على جواب الأمر بالفاء. والعنق : سير سريع والفسيح : المكان الواسع.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٠.

(٢) ديوانه ٢ / ٨٥٦ ، الكتاب ١ / ٤٢٠.

(٣) ديوانه ٦٢ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٠ ، شرح النحاس ٢٧٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٤ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٦٦ ، الرد على النحاة ١٢٥ ، المقاصد النحوية ٤ / ٤١٢.

(٤) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢١ ، شرح النحاس ٢٧٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٤٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٥٣ ، الرد على النحاة ١٢٥.

(٥) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢١ ، معاني القرآن ٢ / ٧٩ ، المقتضب ٢ / ١٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٤٨ ، المقتصد ٢ / ١٠٦٩ ، الرد على النحاة ١٢٣ ، شرح المفصل ٧ / ٢٦ ، أوضح المسالك ٣ / ١٧٦.

٣٧٢

وأنشد لرجل من بني دارم :

* كأنك لم تذبح لأهلك نعجة

فيصبح ملقى بالفناء إهابها (١)

تقديره : لم تذبح فيصبح ، فلما دخلت" كأن" أوجبت أنه ذبح لأهله نعجة فأصبح إهابها ملقى بالفناء. الإهاب : الجلد.

وأنشد.

* ألم تسأل الربع القواء فينطق؟

وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق؟ (٢)

فرفع" ينطق" لرفع القوافي ، ورفعه على تقدير : فهو ينطق على كل حال ، ثم استدرك ذلك وأبعد أن ينطق ، فقال : وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق ، والبيداء : الفلاة المقفرة ، والسملق : التي لا شيء بها. والقواء : القفر الخالي الذي لا ينبت.

وأنشد للأعشى :

* لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضى لبانات ويسأم سائم (٣)

حكى سيبويه عن الخليل رفع" ويسأم" ، ولم يعرف غير هذا.

وقد روي : " تقضى لبانات ويسأم" : بالنصب على إضمار" أن" والعطف على تقضى.

وأنشد :

* سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

فنصب" أستريحا" بإضمار" أن" في الواجب ضرورة ، وقد قيل الرواية : " لأستريحا".

وأنشد للأعشى في مثل هذا :

* ثمت لا تجزونني عند ذاكم

ولكن سيجزيني الإله فيعقبا (٤)

فنصب" يعقب" في الواجب

وأنشد لطرفة :

* لنا هضبة لا ينزل الذل وسطها

ويأوي إليها المستجير فيعصما (٥)

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ٤٢١ / ١ ، المقتضب ٢ / ١٧ ، شرح النحاس ٢٧٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٤٩ ، شرح ابن السيرافي (١ / ٣٠٢ ، ٢ / ١٥٠) الرد على النحاة ١٢٤.

(٢) ديوان جميل ١٤٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٢ ، معاني القرآن ١ / ٢٧ ، شرح النحاس ٢٧٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٥٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٢٠١ ، الرد على النحاة ١٢٧.

(٣) ديوانه ٢٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٣ ، شرح النحاس ٢٧٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٥ ، شرح المفصل ٣ / ٦٥ ، مغني اللبيب ٢ / ٦٥٨ ، شرح شواهده ٢ / ٨٧٩.

(٤) ديوان الأعشى ٩٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٣ ، شرح السيرافي (١ / ٤٦٦ ، ٢ / ١٨٥ ، ٤ / ٣٥٢ ، ٣٦٤) ، الرد على النحاة ١٢٥.

(٥) ديوانه : ٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٣ ، المقتضب ٢ / ٢٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٥٢ ، شرح ابن ـ ـ

٣٧٣

فنصب في الواجب ، ويروى : " ليعصما" ولا ضرورة فيه على هذا. الهضبة : ما ارتفع من الأرض ، ضربها مثلا لعزة قومه ومنعتهم.

هذا باب الواو

اعلم أن الناصب بعد الواو (أن) كما أن الناصب بعد الفاء (أن) ، ومعناهما مختلف وإن كان الناصب فيهما واحدا.

ومعنى الواو في كل أحوال نصبها : الجمع بين الشيئين ، فإذا قلت" لا تضرب زيدا وتكرم عمرا" ، فمعناه : لا تجمع بين ضربك لزيد وإكرامك لعمرو ، ولو حملت تكرم على تضرب فجزمته لكنت قد نهيته عن ضرب زيد على حدة وإكرام عمرو على حدة ، وكل واحد منهما غير معلق بالآخر ، وكأنك قلت : " لا تضرب زيدا ولا تكرم عمرا".

ومنع سيبويه جزم الثاني في قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. لأن المقصود في كلام الناس والمعتاد أن لا يجمع بينهما للضرر الذي يعتقد في الجمع بينهما ، ولو أراد مريد أن ينهى عن الأكل والشرب على كل حال لقال : " لا تأكل السمك وتشرب اللبن".

وأنشد للأخطل :

* لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم (١)

معناه : لا تجمع بين نهيك عن الشيء وبين إتيانك إياه ، ولو جزمت" تأتي" لاستحال المعنى لأنه كان ينهاه أن ينهى عن شيء ، وينهاه عن أن يأتي شيئا من الأشياء. فلما كان هذا محالا ، رد الأول والثاني في التقدير إلى غير ظاهر الكلام ، ليدل على أنه يريد : لا تجمع بينهما.

وذكر عن الأصمعي أنه قال : لم أسمعه إلا وتأتي مثله مرفوع على القطع.

وهذا لا يصح ، إلا أن تكون الواو في معنى الحال كأنه قال : " لا تنه عن خلق وأنت تأتي مثله" ولو أدخلت الفاء هنا لأفسدت المعنى.

وكان التقدير : متى نهيت عن خلق أتيت مثله ، وهذا غير المقصود.

وأنشد لجرير :

* ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته

فإنك إن تفعل تسفه وتجهل

وهذا محمول على الأول داخل في النهي كأنه قال : لا تشتم ولا تبلغ ، لو نصب فسد المعنى.

__________________

ـ السيرافي ٢ / ١٥٩ ، الرد على النحاة ١٢٦.

(١) ديوان أبي الأسود ١٣٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٤ ، المقتضب والمختلف ١٧٩ ، معجم الشعراء ٤١٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٨٨ ، فرحة الأديب ١٣٥ ، المقتصد ٢ / ١٠٧٦ ، مجمع الأمثال ٢ / ٢٣٨ ، الرد على النحاة ١٢٧ ، مغني اللبيب ١ / ٤٧٢ ، أوضح المسالك ٣ / ١٧٥.

٣٧٤

وأنشد للحطيئة :

* ألم أك جاركم وتكون بيني

وبينكم المودة والإخاء؟ (١)

أراد : ألم يجتمع الجوار وكون المودة يؤكد الحرمة بينه وبينهم والوسيلة.

وأنشد لدريد بن الصمة :

* قتلت بعبد الله خير لداته

ذؤابا فلم أفخر بذاكا وأجزعا (٢)

أي : ألم أجمع الفخر والجزع؟ أي : فخرت غير جازع.

يصف أنه قتل بأخيه عبد الله بن الصمة خير لداته. واللدة : الذي على سنه ، كأنه ولد معه في حين واحد. ثم قال : فلم أفخر بقتله وأنا جازع أن أقتل بقتله لعزتي ومنعتي.

وأنشد للأعشى :

* فقلت ادعي وأدعو إن أندى

لصوت أن ينادي داعيان

فنصب" وأدعو" لأنه جواب الأمر. ويروى : " وادع" عطف على معنى لتدعي ولأدع.

والندى : بعد الصوت.

يقول : ليجتمع مني ومنك الدعاء ، فذلك أبعد للصوت وأشد له.

وأنشد :

* للبس عباءة وتقر عيني

أحب إلي من لبس الشفوف (٣)

لا بد من نصب وتقر ، لأن قوله : للبس عباءة : مبتدأ ، وتقر : عطف عليه ، بمعنى : وأن تقر عيني وأحب خبر لهما وفضلهما مجتمعين على لبس الشفوف ولو انفرد أحدهما بطل المعنى المراد ، لأنه لم يرد للبس عباءة أحب إلي من لبس الشفوف ، وهي الرقاق من الثياب ، وإنما المعنى : للبس عباءة مع قرة العين والسرور ، أحب إلي من لبس الناعم الرقيق ، فلما كان المعنى يضطر إلى ضم" تقر" إلى" لبس" ليكون أحب لها ، اضطر إلى إضمار" أن" والنصب.

وأنشد لكعب الغنوي :

* وما أنا للشيء الذي ليس نافعي

ويغضب منه صاحبي بقؤول (٤)

__________________

(١) ديوانه ٢٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٥ ، المقتضب ٢ / ٢٩ ، شرح النحاس ٢٧٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٦٦ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٧٣ ، المقتصد ٢ / ١٠٧٣ ، الرد على النحاة ١٢٨ ، مغني اللبيب ٢ / ٨٧٧ ، شرح ابن عقيل ٤ / ١٦ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٩٥٠.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٥ ، الكامل ٤ / ٤٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٦٧ ، المقتصد ٢ / ١٠٧٢ ، الرد على النحاة ١٢٨ ، شرح المفصل ٣٤ / ٧ ، اللسان (قتل) ١١ / ٥٤٧.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٦ ، المقتضب ٢ / ٢٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٦٨ ، الرد على النحاة ١٢٨ ، الجنى الداني ١٥٧ ، شرح المفصل ٧ / ٢٥ ، أوضح المسالك ٣ / ١٨٠.

(٤) الأصمعيات ٧٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٦ ، المقتضب ٢ / ١٧ ، شرح النحاس ٢٧٩.

٣٧٥

الأجود في يغضب : الرفع ، وهو في صلة الذي عطفا على موضع ليس ، وتقديره : الذي لا ينفعني ويغضب منه صاحبي ، وعطفه على موضع" لا" ، وهذا قريب التناول صحيح المعنى.

والنصب متأول ، ومعناه في الظاهر : غير صحيح ، لأنك تقدره معطوفا على الشيء وليس الشيء بمصدر ظاهر فيسهل عطفه عليه وعطفه عليه يوجب حمله على اللام ، واللام في صلة" قؤول" ، فيصير التقدير : ما أنا بغضب صاحبي بقؤول ، والغضب لا يكون مقولا ، ولكن حمله على الجواز ، وتقديره وما أنا للقؤل الذي يوجب غضب صاحبي بقؤول.

ورد المبرد على سيبويه تقديمه النصب على الرفع.

ولم يقدم سيبويه النصب من أجل أنه مختار عنده ، ولكن الباب للنصب دون الرفع ، فإنما قدم ما يقتضيه الباب وما القصد إلى ذكره فيه.

وأنشد لقيس بن زهير :

* فلا يدعني قومي صريحا لحرة

لئن كنت مقتولا ويسلم عامر (١)

فرفعه على أن الواو واو حال كأنه قال : وعامر هذه حاله.

والنصب في يسلم أجود ؛ لأن معناه : لئن كنت مقتولا مع سلامة عامر ، فلا ينسبني قومي إلى حرة. والصريح : الخالص النسب.

هذا باب أو

اعلم أن أصل (أو) العطف حيث كانت ، ومعناها : أحد الأمرين وهذا وجهها المعروف. ولها وجه آخر : وهو أن يخالف ما بعدها ما قبلها ، ويكون معناها ـ مع ما بعدها ـ معنى : " إلا أن" ، ويكون الفعل الذي قبلها كالعام في كل زمان والثاني كالمخرج من عمومه ، ولذلك صارت ـ بمعنى" إلا أن".

ألا ترى أن قولك : لألزمنك ، متضمن للأوقات المستقبلة ، فإذا قلت : " أو تقضيني حقي" فقد أخرجت بعض الأوقات المستقبلة من ذلك التضمن ، صار التقدير ، لألزمنك إلا الوقت الذي أوله قضاؤك لحقي. واجتمعت" أو" و" إلا" في هذا المعنى للشبه الذي بينهما في العدول كما أوجبه اللفظ الأول ، وذلك أنا إذا قلنا" جاء القوم إلا زيدا" ، فاللفظ الأول قد أوجب دخول زيد في القوم لأنه منهم.

فإذا قلت : " إلا" فقد بطلت ما أوجبه الأول. فإذا قلت : " جاءني زيد أو عمرو" ، فقد وجب المجيء لزيد في اللفظ قبل دخول" أو" فلما دخلت بطل ذلك الوجوب ، ولهذا المعنى

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٧ ، شرح النحاس ٢٨٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٦٩ ، ٤ / ٣٧٣ ، شرح ابن السيرافي (٢ / ٢٠٣ ، ٢٠٤) الرد على النحاة ١٢٩ ، همع الهوامع ٢ / ١٦.

٣٧٦

احتيج إلى تقدير الفعل مصدرا ، وعطف الثاني عليه. وكذلك التقدير على ما مضى في الفاء.

وأنشد لامرئ القيس :

* فقلت له : لا تبك عينك إنما

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا (١)

فنصب على معنى : إلا أن نموت.

وأنشد لذي الرمة :

* حراجيج لا تنفك إلا مناخة

على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا (٢)

الحراجيج : الطوال من الإبل ، واحدتها حرجوج ، والخسف : الإذلال والهوان. والخسف أيضا : أن تبيت على غير علف.

وكان الأصمعي يخطئ ذا الرمة في قوله : " إلا مناخة ، لأنه لا يقال : ما انفك زيد إلا قائما" ، كما لا يقال : " ما زال زيد إلا قائما. لأن معنى ما زال : الإيجاب ، فلا يدخل عليه إيجاب.

ولقول ذي الرمة وجهان :

أحدهما : أن يكون" تنفك" بغير معنى" يزال" ويكون من : " انفك" من الشيء : إذا انفصل منه ، كما يقال : فككت الغل عنه فانفك منه ويجوز دخول الاستثناء في هذا الوجه.

وتقول : ما انفك زيد إلا بعد شدة ، فيكون التقدير : لا تنفك من الشدة والسير إلا مناخة على الخسف ، كما تقول : ما انفصل زيد من الشيء إلا مجهودا.

والوجه الثاني : أن يكون" على الخسف" ، خبر" ينفك" ، وإلا مناخة : استثناء مقدم ، كأنه قال : لا تنفك مجهودة ، أي لا تزال مجهودة إلا في حال إناختها ، فإنها تستريح إذا أنيخت.

وفي رفع" نرمي" وجهان :

أحدهما : أن يكون معطوفا على خبر" ينفك" ، وهو" على الخسف" ، كأنه قال : لا تزال على الخسف أو تزال ترمي بها بلدا قفرا.

ويجوز : أن يكون على الابتداء ، أو نحن نرمي بها بلدا قفرا.

وأنشد لزياد الأعجم :

* وكنت إذا غمزت قناة قوم

كسرت كعوبها أو تستقيما (٣)

__________________

(١) ديوانه ٦٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٧ ، معاني القرآن ٢ / ٧٠ ، المقتضب ٢ / ٢٨ ، شرح النحاس ٢٨١ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٧٤ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٥٩ ، الخصائص ١ / ٢٦٣.

(٢) ديوانه ١٧٣ ، الكتاب وشرح الأعلم ٤٢٨ / ١.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٨ ، المقتضب ٢ / ٢٨ ، شرح النحاس ٢٨١ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٧٥ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٦٩ ، المقتصد ٢ / ١٠٧٧ ، شرح ملحة الإعراب ٢١٢.

٣٧٧

فنصب على تقدير : إلا أن تستقيما. ولو كانت القوافي مرفوعة لجاز الرفع عطفا على موضع" كسرت" ، لأنه في موضع رفع ، إذ كان جواب" إذا" بالفعل المستقبل في المعنى.

الغمز : العض على الشيء بالأصابع لتليينه أو تقويمه. والكعوب : رءوس أنابيب العصى. يقول : إذا اختبرت أخلاق قوم أدبتهم إلا أن يستقيموا لي ويحسنوا معاملتي. وضرب البيت مثلا.

وأنشد لطرفة :

* ولكن مولاي امرؤ هو خانقي

على الشكر والتساءل أو أنا مفتدي (١)

فاستأنف بعد" أو" وحمله على الابتداء.

وأنشد للحصين بن حمام المري :

* ولو لا رجال من رزام أعزة

وآل سبيع أو أسوأك علقما (٢)

فنصب على معنى : لو لا رجال ، أي : ولو لا أن أسوأك علقم ، وجواب" لولا" في ما بعد البيت.

وأنشد للأعشى :

* إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

ذكر سيبويه عن الخليل أن هذا محمول على المعنى ، كأنه قال : أتنزلون أو تركبون.

وذكر عن يونس أنه يرفعه على الابتداء ، كأنه قال : أو أنتم تنزلون وجعل قول يونس أسهل.

وفيه قول ثالث هو أسهل من هذين القولين ، وهو أن تقدر في موضع" أن تركبوا ، " إذا تركبون" لأن" أن" و" إذا" متقاربتان في المعنى وإن اختلف عملهما ، فإذا قدرنا : " أن تركبوا" بمعنى : " إذا تركبون" عطفنا" أو تنزلون" عليه في التقدير.

هذا باب اشتراك الفعل في أن

وانقطاع الآخر من الأول الذي عمل فيه أن

اعلم أن حروف العطف إنما تعطف ما دخل في معنى الأول فإن لم يدخل في معناه ، رفع على الاستئناف كقولك :

" أريد أن تزورني" و" أريد أن تأتيني فتقعد عندي". فما بعد" الفاء" في هذا ونحوه مرفوع لا غير ، لأنه لم يدخل في الإرادة. وأن في صلة الإرادة ، فلو عطفنا الثاني على الأول

__________________

(١) شرح المعلقات العشر ٤٨ ، شرح الأشعار الستة للأعلم ٢ / ٥٣ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٨ ، شرح النحاس ٢٨١.

(٢) المفضليات ٦٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٢٩ ، إعراب القرآن ١ / ٢٦١ ، شرح النحاس ٢٨٢.

٣٧٨

كان قد دخل في الإرادة ، وإنما ينصب بحروف العطف ما يصح دخوله في معنى الأول كنحو ما ذكر سيبويه ، وما يصح دخوله في معنى الأول فقد يجوز أن يقطع عنه ويستأنف.

وأنشد في ذلك لبعض الحارثيين

* وما هو إلا أن أراها فجاءة

فأبهت حتى لا أكاد أجيب (١)

فرفع على معنى : فإذا أنا مبهوت ، ولو نصبه وحمله على" أن" لجاز.

وأنشد لابن أحمر :

* يعالج عاقرا أعيت عليه

ليلقحها فينتجها حوارا (٢)

قال سيبويه : " كأنه قال يعالج فإذا هو ينتجها".

والنصب الوجه ، ولم يذكره سيبويه. والرفع بعيد جدّا ، وذلك أن العاقر لا تلد ، ولا يكون لها نتاج ، فكيف يرفع وهو لا يخبر بكونه؟

وإنما يصف ابن أحمر رجلا من قومه يعالج أمرا في مكروه ابن أحمر ومساءته ، لا يتم ولا يكون ، وذلك الأمر هو العاقر ، والرجل يعالجها ليلقحها ولينتجها وذلك لا يكون ، كأنه يعالج هذه العاقر لتلد ، وهي لا تلد ، فلا يصلح في : ينتجها : إلا النصب.

وقبل هذا البيت :

أرانا لا يزال لنا حميم

كداء البطن سلا أو صفارا (٣)

يعالج عاقرا ... (البيت)

وكل واحد من وجهي الرفع لا يصح في ينتجها ، لأنك إن عطفته على" يعالج" لم يجز ، لأن العلاج للعاقر يكون ، ونتاجها لا يكون ، وإن جعلته مستأنفا بمعنى : " فهو ينتجها" ، لم يصح أيضا ، لأنها عاقر.

والرفع في : " لا يعدو أن يأتيك فيصنع ما تريد" حسن ، لأن : يعدو أن يأتيك. بمعنى : " يأتيك" ، فكأنه قال : يأتيك فيصنع ما تريد.

وقوله : " ما عدوت أن آتيك"

فيه وجهان : أحدهما : أن تريد : " ما عدوت في ما مضى أن آتيك في ما أستقبل ، ومعناه : رأيت في ما مضى أن آتيك في ما أستقبل وما تجاوزت في ما مضى اعتقاد إتيانك في ما أستقبل.

والوجه الآخر : " ما عدوت في ما مضي" ، و" تجعل آتيك في موضع أتيتك". وهذا معنى

__________________

(١) ديوان عروة ٢٨ ، ديوان كثير ٢٢ ، ديوان الأحوص ١١٣ ، ديوان مجنون ليلى ٥٩.

(٢) ديوانه ٧٣.

(٣) ديوان ابن أحمر ٧٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٨٩.

٣٧٩

قوله : " ويجوز أن تجعل أفعل في موضع فعلت وإنما جاز ذلك لأنك تقول : " كنت أتيتك" ، و" كنت آتيك" ، ومعناهما واحد. فإنما يجوز ذلك إذا تقدم قبله شيء قد مضى أو شيء فيه دلالة على المضي ، والفعل المستقبل مصاحب له كما تقول جاءني زيد أمس يضحك. ولا يجوز الماضي في موضع المستقبل مصاحب له ، كما تقول : جاءني زيد إلا في المجازاة ، ولو قلت : " يكون زيد قام" ، لم يجز كما جاز : " زيد يقوم" ، وإنما لم يجز : " ما أعدو أن أجالسك أمس" لأن قولك : " أعدو" مستقبل ، وإذا كان ابتداء الكلام مستقبلا

لم يجز أن يكون المستقبل بعده في معنى الماضي.

وأنشد في ما جاء منقطعا لعبد الرحمن ابن أم الحكم :

* على الحكم المأتي يوما إذا قضى

قضيته أن لا يجور ويقصد (١)

فرفع : و" يقصد" ، لأنه جعله بمنزلة : وينبغي له أن يقصد ـ فناب" يقصد" عن" ينبغي له أن يقصد" ، ومن أجل ذلك تضمن معنى الأمر ولم يحمل على" أن".

ومثله (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] أي : ينبغي لهن أن يرضعن.

ويكون في ذلك معنى الأمر ، وإن لم يكن لفظ الأمر كما يقول المولى لعبده : الواجب عليك أن تفعل ، أو" الذي أريده منك أن تخرج إلى السوق" ، ففي هذا : معنى الأمر له وإن لم يظهر لفظ الأمر.

هذا باب الجزاء

فرق سيبويه بين" حيثما" وبين" إذا ما" فجعل" حيثما" في جملة الظروف التي يجازى بها ، وجعل" إذ ما" في حيز الحروف.

والفرق بينهما أن" إذ" لما ضمت إليها" ما" وجوزي بها خرجت عن معناها لأنها كانت من قبل دخول" ما" عليها ـ لما مضى من الزمان وبعد دخولها للمستقبل ـ كإن.

وقد يركب الشيئان فيخرجان عن حكم كل واحد منهما إلى حكم مفرد نحو" هلا" و" لولا" وغيرهما. فجعلها سيبويه حرفا ، لوقوعها موقع" إن" ولم يقم دليل على اسميتها.

وقد قال بعض النحويين : إذ ما هي إن ما

وعدلوا عن" إما" إليها ، لأن" إما" لا تكاد تأتي إلا بدخول النون على الفعل الذي بعدها كقوله عز وجل : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) [الأنفال : ٥٧ ـ ٥٨] ولا تكاد تقع في القرآن إلا بالنون.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٣١ ، شرح النحاس ٢٨٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٠٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٨٢.

٣٨٠