النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

هذا باب إضمار المفعولين اللّذين تعدّى

إليهما فعل الفاعل

كلام سيبويه في هذا الباب بيّن وذكر فيه ما قاسه النحويون من اتصال الضمائر بالفعل وإن اختلف ترتيبها فقبّح ذلك واحتج عليهم بأن ألزمهم أن يقولوا : منحتنيني وذهب المبرد إلى قول النحويين ، وقياسهم واستحسن منحتنيني واستجاده.

فإن قال قائل : ما أنكر سيبويه من منحتنيني وليس فيه تقديم بعيد على قريب؟ وهل سبيل منحتنيني الا سبيل أعطاهوها ، وهو مستحسن عنده؟

قيل له : المنكر من منحتنيني عند سيبويه أن" ني" الثانية مؤخرة وترتيبها : التقديم على كل ضمير ، وليس كذلك أعطاهوها.

وأنشد سيبويه في اتصال الضميرين بالمصدر.

* وقد جعلت نفسي تطيب لضغمة

لضغمهماها يقرع العظم نابها (١)

هذا البيت لمغلس بن لقيط الأسدي في قصيدة يعاتب فيها رجلين من بني أسد ، ويذكر أخاه لقيط بن لقيط ، وقبل هذا البيت :

سقيتكما قبل التّفرّق شربة

يمر على باغي الظلام شرابها

وقد جعلت نفسي .... (البيت).

وقوله : لضغمهماها : الضمير المثنى ضمير الرجلين : مدرك ومرة الأسديين وهما ضمير الضغمة التي ذكر والضغم : العض.

هذا باب لا تجوز فيه علامة المضمر المخاطب

ولا المتكلم ولا الغائب

لا يجوز أن تقول : أضربك ولا ضربتك

واعتماد المبرد وغيره في إبطال هذا ونحوه على أن الفاعل بكليته لا يكون مفعولا بكليته ، فأبطلوا من أجله ضربتني وضربتك وما أشبههما.

وهذا كلام إذا فتّش لم يثبت ، وذلك لأن المفعول الصحيح ما اخترعه فاعله وأخرجه من العدم إلى الوجود ، كنحو : خلق الله الأشياء بعد عدمها ، وكنحو : ما يفعله الإنسان من القعود والقيام وغيره. ولا يجوز أن يكون الفاعل في ذلك مفعولا ، لأنه لا بدّ من أن يكون موجودا قبل وجود المفعول ، فإذا قلنا : ضرب زيد عمرا ، فالذي فعله زيد إنما هو الضرب ، لا

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٤ ، شرح السيرافي ٤ / ١٩٢ ، شرح المفصل ٣ / ١٠٥ ، حاشية الصبان ١ / ١٢١ ، الخزانة ١ / ٣٠٣ ، المقاصد النحوية ١ / ٣٣٣.

٣٤١

أنه فعل عمرا.

فإذا قال القائل : ضربتني أو شتمتني ، فالمفعول الصحيح إنما هو الضرب والشتم ، والمتكلم والمخاطب ، كزيد ، في ضربت زيدا وشتمته ، وليس زيد بمفعول صحيح على ما بيناه ولم يبطل ضربتني وشتمتني لفساد معناه واستحالته ، وكيف يستحيل ذلك وأنت إذا قلت : ضربت زيدا ، فإنما أوقعت ضربا بشيء من جسمه ، وكذلك شتمته إنما هو ذكري له بشيء من السوء ، وقد أوقع الضرب بشيء من جسمي على النحو الذي أوقعه بزيد ، وذلك الذكر السيء غير مستحيل أن أذكر نفسي به ، كما ذكرت زيدا ، ولكن العرب لا تتكلم بذلك ، لأن فعل الإنسان على ضربين :

أحدهما : فعل يفعله بنفسه لا يعتمد به غيره ، كقولك : قام زيد وقعد ونحوه.

ومعنى : فعله بنفسه : أنه أحل القيام والقعود بنفسه ، وأوجده في نفسه دون غيره

والآخر : فعل يعتمد به غيره ، فلا بد أيضا في ذلك أن يفعله بنفسه أو يفعل بسببه ، ويعتمد به غيره. فأما ما يفعله بنفسه ، ويعتمد به غيره ، فقولك : شتمت زيدا ومدحت عمرا.

والذي يفعل سببه بنفسه ، فقولك : ضربت زيدا ، وقتلت عمرا ، فلما كان سبيل الفعل الذي يعتمد به الإنسان الفاعل غيره. أن لا يكون له مفعول. وجب أن لا تقول : ضربتني وشتمتني ، ولما كان الفعل الذي يعتمد به غيره في مقاصد الناس وعاداتهم قد يعرض فيه أن يعتمد الفاعل نفسه على سبيل ما كان يعتمد غيره ، أتوا بلفظ النفس ، وأضافوه إليه ، فقالوا : ضربت نفسك ، وشبهوه ـ من جهة اللفظ لا المعنى ـ بضربت غلامك ، لأن المضاف في الأصل ليس بالمضاف إليه فجعلوا نفشه في حكم اللفظ كأنها غيره.

فأما حسبتني وعلمتني أفعل كذا وكذا وما أشبهه من أفعال القلوب مما لا يقتصر على أحد مفعوليه. فإنما جاز ذلك فيها لأن المقصود بهذه الأفعال : المفعول الثاني ، وليس للأول نصيب في المعنى ، لأن الظن والعلم ، إنما يقع في الخبر ، وكان الضمير المتصل أخف في اللفظ من المنفصل ومن النفس ، فاستعملوا الأخف فيه.

وقد جاء في فعلين من غير هذا وهما : فقدتني ، وعدمتني وإنما جاز ذلك لأنه محمول على غير ظاهر الكلام وحقيقته ، لأن الفاعل لا بد من أن يكون موجودا ، وإذا عدم نفسه صار عادما معدوما وذلك محال.

وإنما جاز هذا لأن الفعل له في الظاهر ، والمعنى لغيره ، لأنه يدعو على نفسه بأن يعدم ، فكأنه قال : عدمني غيري.

قال جران العود :

٣٤٢

* لقد كان لي عن ضرتين عدمتني

وعما ألاقي منهما متزحزح (١)

وسائر الباب مفهوم إن شاء الله.

هذا باب علامة إضمار المنصوب

المتكلم والمجرور المتكلم

اعلم أن ضمير المتكلم المنصوب الياء والنون مجتلبة لعلة وهي أنهم حرسوا أواخر الأفعال من دخول كسرة عليها لازمة لتباعد الأفعال من الجر. فلما كرهوا كسر الفعل أدخلوا قبل الياء نونا تقع عليها الكسرة التي تحدثها الياء ، وذلك قولك : ضربني ويضربني ، وأدخلوا النون أيضا في ما لا يتحرك آخره من الفعل المعتل نحو : أعطى يعطي إتباعا للصحيح ، ليكون حكم الفعل واحدا.

وبين سيبويه أن حكم الضمير مع إن وأخواتها كحكمه مع الفعل وبين العلة في حذف النون من قولهم : " إني" و" لعلي" ، وذكر أن الشاعر إذا اضطر أجرى" ليت" في حذف النون مجرى" إن" وأنشد لزيد الخيل :

* كمنية جابر إذ قال : ليتي

أصادفه وأفقد بعض مالي (٢)

فحذف النون من" ليتني" لأنها زائدة ، وهذا في" ليت" أحسن منه في ضرب لأنه يجريها مجرى أخواتها نحو" إني" و" لعلي".

واحتج سيبويه بقطني و" لدني" و" مني" و" عني" أنهم : لم يحركوا الطاء والنونات كراهية أن تشبه الأسماء المتحركة المتمكنة نحو : يد وهن.

وذكر أن الشاعر إذا اضطر حذف النون منها وأنشد :

* قدني من نصر الخبيبين قدي (٣)

فحذف النون من" قدي" الآخرة تشبيها بيد وهن إذا قلت : يدي وهني ومعنى" قدني" و" قطني" : حسبي.

وأراد بالخبيبين : عبد الله بن الزبير ، وكان يكنيّ : أبا خبيب وأخاه مصعب بن الزبير ،

__________________

(١) شرح السيرافي ١٩٩ ، شرح المفصل (٧ / ٨٨ ، ٨٩) ، أمالي ابن الشجري ١ / ٣٩.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٦ ، نوادر أبي زيد ٦٨ ، المقتضب ١ / ٢٥٠ ، مجالس ثعلب ١ / ١٠٦ ، شرح النحاس ٢٥٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٠١ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٩٦ ، فرحة الأديب ١٠٥ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٨٤.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٧ ، نوادر أبي زيد ٢٠٥ ، الكامل ١ / ١٤٤ ، ٣ / ٣٠٥) ، شرح النحاس ٢٥٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٠٢ ، المقتصد ١ / ٢٠٢ ، الإنصاف ١ / ١٣١ ، شرح المفصل ٣ / ١٢٤ ، الجنى الداني ٢٥٣.

٣٤٣

وغلب أبا خبيب لأنه أشهر من أخيه كما يقال : سيرة العمرين ، يعني : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

وباقي الباب مفهوم.

هذا باب ما يكون مضمرا فيه الاسم

متحولا عن حاله إذا أظهر بعده الاسم

وذلك قولهم : لولاك وعساك.

قد تقدم أن الاسم الظاهر بعد" لولا" مرفوع بالابتداء على مذهب سيبويه ومن تابعه ، فينبغي إذا كني عنه أن يكون منفصلا ، فيقال فيه : " لو لا أنت" لأن سبيل المضمر سبيل الظاهر في موضعه من الإعراب ، وهذا هو الشائع الكثير في كلام العرب. قال تعالى : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ.)

ثم أجمع النحويون المتقدمون من البصريين والكوفيين على الرواية عن العرب" لولاك" و" لولاي" ، واستشهد سيبويه ببيت يزيد بن الحكم الثقفي :

* وكم موطن لولاي طحت كما هوى

بأجرامه من قلة النيق منهوي (١)

معنى طحت : ذهبت ذهاب هلاك وهويت. وجرم كل شيء : جملته. والنيق : رأس الجبل.

ورد المبرد ما رواه سيبويه وأبطل الاستشهاد بهذا البيت وزعم أن هذه القصيدة فيها خطأ كثير.

وهذا تحامل من المبرد ، وتجاوز في الأخذ من النحويين والطعن على العرب أن يسقط الاستشهاد بشعر رجل من العرب قد روى قصيدته النحويون وغيرهم ، وأن ينكر ما أجمع الجماعة على روايته.

واختلفوا بعد في موضع" الياء" و" الكاف" من" لولاي" و" لولاك" بعد إجماعهم على روايته. فقال سيبويه : موضعها جر. وقال الأخفش هما في موضع رفع. واستدل سيبويه على ذلك أن الياء والكاف لا يكونان علامة مضمر مرفوع ، ورد على من زعم أن الموضع رفع ـ وأن الرفع وافق الجر ـ بأنك إذا أضفت إلى نفسك ، فالجر مفارق للنصب في غير هذه الأسماء تقول : معي وضربني. ومعنى هذا الاحتجاج أنه لو كان الرفع محمولا على الجر في لولاك لفصل بين اللفظين في المتكلم ، فقيل لولاني كما فعل في النصب حين وافقه الجر في معك وضربك ، ثم خالفه في معي وضربني.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٨ ، الكامل ١ / ٣٤٥ ، المقتضب ٣ / ٧٣ ، شرح النحاس ٢٦٠ ، أمالي القالي ١ / ٦٨ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٠٦ ، ٢٠٩ ، المسائل العسكرية ١٦٠.

٣٤٤

واحتج الأخفش بأن علامة الجر دخلت على الرفع في لو لا كما دخلت علامة الرفع على الجر في قولهم : ما أنا كأنت.

فإن قال قائل : حروف الخفض هي صلات للأفعال ، فإذا جعلتم لو لا خافضة للمضمر ، فصلة أي شيء تكون؟.

قيل له : حرف الجر قد يكون غير صلة لشيء كقولك :

بحسبك زيد ، ومعناه : حسبك ، وكذلك : هل من أحد عندك؟ وإنما هو هل أحد عندك؟

واحتج الزجاج لعمل" لولا" الجر في المضمر بأن خبر المبتدأ الذي بعد" لولا" لا يظهر ، فأشبهت حروف الجر لوقوع اسم واحد بعدها ، وكان المضمر لا يتبين فيه الإعراب ، فجعل موضع المجرور ، وزاد على هذا أنه احتج بقول رؤبة ، وهو ممن لا تدفع فصاحته :

* لولاكما قد خرجت نفساهما

وأما" عساك" و" عساني" ، فإن سيبويه جعل" عسى" بمنزلة" لعل" تنصب ما بعدها الاسم ، والخبر مرفوع في التقدير ، وإن كان محذوفا.

واستدل على نصب الكاف في قوله :

* يا أبتا علك أو عساكا (١)

بقول عمران بن حطان :

* ولي نفس أقول لها ـ إذا ما

تنازعني ـ لعلي أو عساني (٢)

والنون والياء في ما آخره ألف لا تكون إلا للنصب.

وقال الأخفش : " الكاف" في موضع رفع ، وحجته : أن لفظ النصب استعير للرفع في هذا الموضع ، كما استعير له لفظ الجر في" لولاك".

وجعلها المبرد في موضع نصب على خبر" عسى" وجعل اسمها مضمرا فيها مرفوعا وقاسه على قولهم : عسى الغوير أبؤسا.

هذا باب ما يحسن أن يشرك المظهر المضمر

في ما عمل فيه وما يقبح أن يشركه

بين سيبويه في هذا الباب أن ضمير النصب يعطف عليه ، وإن لم يؤكد ، لأنه كالمنفصل

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٨ ، المقتضب ٣ / ٧١ ، شرح النحاس ٢٦٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٠٦ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٤٦ ، الخصائص ٢ / ٩٦.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٨ ، المقتضب ٣ / ٧٢ ، شرح النحاس ٢٦١ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٠٧ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٢٤ ، الخصائص ٣ / ٢٥ ، الجنى الداني ٤٦٦.

٣٤٥

من الفعل حيث لم يبين ولا استكن فيه كاستكان ضمير الرفع.

واستقبح العطف على المضمر المرفوع حتى يؤكّد ، وإنما ذلك لأن هذا الضمير قد يكون في الفعل بغير علامة كقولك : قم واذهب.

ومنه ما له علامة تغير بنية الفعل ، ولكن بتسكين آخره كقولك قمت وذهبت ، فلما كان كذلك ، واختلط بحروف الفعل ، صار المعطوف عليه في اللفظ ، كأنه قد عطف على الفعل وحده ، إذا كان الموجود لفظ الفعل مجردا ، أو ما يجري ببنيته مع الفعل كالمجرد ، والاسم لا يعطف على الفعل فقبح لذلك ، فإذا أكد المضمر المرفوع أو فصل بينه وبين المعطوف عليه بشيء حسن العطف وقوي ؛ لأنه يشبه الفاعل المنفصل بالتوكيد ، ويكون الكلام الذي بينه وبين المعطوف عليه عوضا من التوكيد.

وزعم الأخفش أنه سمع من يونس لابن أبي ربيعة :

* قلت إذا أقبلت وزهر تهادي

كنعاج الملا تعسّفن رملا (١)

فعطف على المضمر في أقبلت وإن لم يؤكده ، وهذا جائز في الشعر. يصف جارية أقبلت في جوار زهر يتهادين في مشيتهن ويترسلن فيها ثم شبههن ببقر الوحش إذ تعسفن رملا ، فسكنت مشيتهن وهذا كقوله :

يمشين في الربط والمروط كما

تمشي الهوينا سواكن البقر

هذا باب ما ترده علامة الإضمار إلى أصله

فصل سيبويه ـ في هذا الباب ـ بين توكيد المضمر بالنفس وتوكيده بأجمعين ، فلم يستحسن توكيده بالنفس حتى يؤكد ، واستحسن ذلك في أجمعين وإن لم يؤكد ذلك من أجل أن أجمعين لا يكون إلا توكيدا ، فلم يحتج إلى أن يتقدمه ضمير ، ولما كان النفس اسما يتصرف ويكون توكيدا وغير توكيد ، أشبه ما يعطف من الأسماء على الضمير المرفوع ، وبين أن عطف الظاهر المجرور على المضمر المجرور غير جائز ، واحتج بما ذكره في الباب.

وهذا لا اختلاف فيه بين النحويين.

واحتج المازني لذلك بأن قال : لما كان المضمر المجرور لا يعطف على الظاهر إلا بإعادة الخافض ؛ لأنه لا ينفصل ، حمل عطف الظاهر عليه محمله إذا كانا مستويين في العامل ، وقد جاء في الشعر عطف الظاهر المجرور على المضمر في أبيات كثيرة ، منها ما وقع في آخر هذا الباب من كتاب سيبويه.

__________________

(١) ملحقات ديوان عمر ٤٩٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٩٠ ، الكامل ١ / ٣٢٢ ، ٣ / ٩٣ ، شرح النحاس ٢٦٢ ، شرح السيرافي ٤ / ٢١٤ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٠١.

٣٤٦

قال الشاعر :

* أبك أيه بي أو مصدر

من حمر الجلة جأب حشور (١)

فعطف المصدر على المضمر المتصل بالباء ، وكان حقه أن يكون منصوبا ، لأنه بمنزلة : امرر بي أو زيرا ، ولكنه اضطر إلى الجر لخفض القوافي ، ومعنى أية بي : صح بي ، يقال أيهت بالإبل : صحت بها ، ومعنى آبك : أويلك ، والمصدر : العظيم الصدر.

والجأب والحشور : الحمار الغليظ. والجلة : المسنة ، واحدها جليل.

وقال الآخر :

* فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا

فاذهب فمابك والأيام من عجب (٢)

هذا ليس قبله فعل يحمل عليه ، فالضرورة تدعو إلى حمله على المضمر المخوض.

وبيّن سيبويه أن هذا المضمر ـ وإن أكد ـ فعطف الظاهر عليه لا يجوز كما جاز في ضمير الرفع ، لأن التوكيد في المرفوع خارج عن الفعل ، فيعتبره بمنزلة الفاعل الذي ليس متصلا فتعطفه عليه كما تعطف على ما ليس بمتصل من الفاعلين ، والمجرور لا يكون إلا متصلا بالجار ، فلا يخرجه التوكيد إلى شبه ما ليس بمتصل ، فاعلم ذلك.

هذا باب ما لا يجوز فيه الإضمار من حروف الجر

وذلك الكاف الذي في أنت كزيد وحتى ومذ

وإذا اضطر الشاعر أضمر في الكاف.

قال العجاج :

* وأمّ أو عال كها أو أقربا

وقال العجاج أيضا :

* ولا ترى بعلا ولا حائلا

كهو ولا كهن إلا حاظلا (٣)

بين سيبويه في الباب أنهم استغنوا بقولهم" مثلي" و" شبهي" عن إضافة" الكاف" ، واستغنوا بقولهم : " حتى ذاك" و" ومن ذاك" عن أن يضمروا.

وعلل الزجاج ذلك فقال : لم يجز الإضمار في" حتى" لأنه يقع ما بعدها على ضروب

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٩١ ، شرح السيرافي ٤ / ٢١٦.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٢ ، الكامل ٣ / ٣٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٢١٦ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٢٠٧ ، الإنصاف ٢ / ٤٦٤ ، شرح المفصل ٢ / ٧٨.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٩٢.

٣٤٧

كثيرة ، " ومذ" يقع ما بعدها على غير ضرب ومنذ صارت في الأيام خاصة.

وكان المبرد يجيز إضافة ما منع سيبويه إضافته ويقول إذا كان ما بعد" حتى" رفعا : حتى هو ، وإذا كان نصبا : حتى إياه ، وإذا كان جرّا : حتاه وحتاك. وفي" مذ" في الرفع : مذ هو ، وفي الجر : مذه.

والصحيح ما قال سيبويه في موافقة كلام العرب.

وأما قوله : وأم أو عال : فهي هضبة ذكر قبلها مكانا آخر مؤنثا ، وشبه أم أو عال بها ، فقال : كها ، أي : مثلها ، وعطف" أقرب" على شيء قبل هذا البيت ، ولم يعطفه على المضمر المجرور.

وأما قوله : فلا ترى بعلا ولا حائلا كه ، فتقف على الهاء ساكنة ؛ لأنها ضمير خفض ، أي : كحمار ذكره وأتن. والحاظل : مثل العاظل وهو المانع من التزويج. والحمار يمنع حمارا آخر من قرب شيء من أتنه.

هذا باب ما تكون فيه" أنت" و" أنا" و" نحن"

وما أشبهها وصفا

اعلم أن أصل المضمر أن يكون على صيغة واحدة في الرفع والنصب والجر كما كانت الأسماء الظاهرة ، ولكنهم فصلوا في المضمر ـ في بعض المواضع ـ بين صيغة المرفوع والمنصوب والمخفوض للبيان ، وسووا بين المرفوع والمنصوب والمجرور في بعض المواضع لدلالة العوامل على مواضعها من الإعراب نحو : قمنا وأكرمنا زيد ، ورغب فينا عمرو.

قد تقدم أن المضمر المنفصل في الأصل للمرفوع ؛ لأن أول أحواله الابتداء ، وعامل الابتداء ليس بلفظ ، فإذا أضمر لم يكن بد من أن يكون ضميره منفصلا. فإذا وصفنا المضمر المنصوب والمجرور ـ ووصفهما هو توكيدهما ، لئلا يذهب الوهم إلى غيرهما ، كما يؤكدان بالنفس والعين لتحقيق الشيء بعينه ـ احتجنا إلى ضمير منفصل. ولا ينفصل إلا ضمير الرفع فاستعملنا في المجرور والمنصوب : المرفوع (فقلنا رأيتك أنت) ، ومررت بك أنت ، كما اشتركن جميعا في" نا" وكما ذكرنا من إيجاب القياس اشتراكها كلها في لفظ واحد.

والفائدة في نعت المضمر بالمضمر ، والنفس بالعين ، أنك إذا قلت : مررت بك ، يجوز أن تكون مررت بمن يخلفه أو يشبهه في أمر من الأمور ، فإذا قلت مررت بك أنت ، بينت أنه المرور به ، وكذلك إذا قلت : مررت بك نفسك.

ويسمي النحويون هذا" وصفا" وإن خالف" وصف" زيد في المعنى ؛ لأنه يجري على الأول في اللفظ مجرى النعت على المنعوت.

وبين سيبويه أن هذه المضمرات لا توصف بها المظهرات لاختلاف ما بينهما.

٣٤٨

فإن قال قائل : وما يكره من هذا ، ومن كلامهم وصف المضمر بالمظهر في قولك : قمتم أجمعون ، ومررت بهم أنفسهم؟

فالجواب أن المضمر لا يوصف بما يعرفه ، وإنما يوصف بما يؤكد عمومه أو عينه ، والظاهر يشارك المضمر في التوكيد بالعموم وبالعين كقولك : مررت بالقوم أجمعين ، ومررت بزيد نفسه ، ويختص الظاهر بالصفة التي هي تحلية عند التباسه بظاهر آخر مثله نحو : مررت بزيد البزاز وما أشبهه.

وقد جرى التوكيد والاختصاص مجرى صفة التحلية في اشتراك الصفة والموصوف في الإعراب والتعريف ، ومن شرط الصفة ألا تكون الصفة أعرف من الموصوف ، فلما كان المضمر أعرف من الظاهر ، لم يجعل توكيدا لظاهر ، لأن التوكيد كالصفة.

وأما البدل ، فإنه يجوز أن يبدل من المضمر ، والمظهر من المضمر ، والمضمر من الظاهر. والفرق بين البدل وبين التوكيد والصفة ، أن الصفة تطلب المشاكلة بينهما وبين الموصوف في التعريف والتنكير. والبدل ليس يطلب ذلك ، لأنه يجوز بدل المعرفة من النكرة والنكرة من المعرفة.

وباقي الباب مفهوم.

هذا باب من البدل أيضا

وذلك قولك : ما رأيته إياه نفسه وضربته إياه قائما

بدأ سيبويه في هذا الباب بالفعل الذي لا يجوز فيه الفصل ويجوز فيه التوكيد والبدل ، وهو كل فعل لم يتعلق باسمين أحدهما هو الآخر. وأما ما يقع فيه الفصل ، فهو : ما كان من الفعل متعلقا باسمين أحدهما خبر عن الآخر ، فيدخل الفصل بعد الأول ليؤذن أن الاسم قد تم وبقي الخبر حسب.

وقد ضمن سيبويه أحكامه ومسائله الباب الذي يلي هذا.

ومعنى قول سيبويه في الباب : ونفسه تجزئ من إياه كما تجزئ منه الصفة.

يريد : أنك إذا قلت : رأيتك نفسك ، أجزأت نفسك عن إياك ويكون معنى رأيتك نفسك ، كمعنى : رأيتك إياك ، وهو : كأنت إذا قلت : رأيتك أنت ، أجزأت" أنت" عن أن تقول : رأيتك أنت إياك لأنهما جميعا للتوكيد ، غير أن" النفس" يجوز أن يؤتى بها مع الضمير الذي مع التوكيد ، فيكون توكيدا ولا يجوز أن يؤتى بضميرين متواليين للتوكيد ، لا تقول : رأيتك أنت إياك.

وقوله : فإن قلت : أظنه هو خيرا منه جاز أن تقول : إياه لأن هذا ليس موضع فصل.

فسر النحويون أن مذهب سيبويه في هذه المسأله جائز ، ولم يجوزوا تقديم" إياه" على

٣٤٩

" خير" واجتماعها مع هو لأنهما جميعا في مذهب واحد ، فسبيلهما سبيل" اللام" و" إن" ، في التوكيد لا يجتمعان ، فإذا فصل بينهما جاز.

هذا باب ما تكون فيه هو وأخواتها فصلا

اعلم أن أصل دخول الفصل ، إيذان للمخاطب المحدث ، بأن الاسم قد تم ولم يبق منه نعت ولا بدل ولا شيء من تمامه ، وأن الذي بقي من الكلام هو ما يلزم المتكلم أن يأتي به وهو الخبر ، وهو الذي نحاه سيبويه.

وقال بعضهم : إنما أتي به ليؤذن أن الخبر معرفة ، أو ما يقوم مقامها وأجمع من هذين في التعليل أن يقال : أتي بالفصل ليبين أن ما بعده ليس بنعت للاسم ، فجميع هذا سبب المجيء بالفصل ، وأن الذي بعده كان مما يصح أن ينعت به الأول.

ومما يفصل بين الفصل وبين الصفة والبدل ، أن الفصل تدخل عليه اللام ولا تدخل على الصفة والبدل ، تقول في الفصل :

إن كان زيد لهو الظريف ، وإن كنا لنحن الصالحين ، ولا يجوز مثل هذا في النعت والبدل ؛ لأن اللام تفصل بين البدل والمبدل منه ، والصفة والموصوف ، وإنما جاز دخولها على الفصل لأنه لا موضع له من الإعراب.

وقوله : " واعلم أنهن لا يكن فصلا إلا في الفعل من مذهبه أنهن يكن فصلا في" إن" وفي الابتداء ، وإنما ابتدأ بالفعل وخصه لأنه لا يتبين الفصل إلا فيه ، وأما" إن" والابتداء ، فلا فرق فيهما بين الفصل وغيره في اللفظ.

وأنشد لقيس بن ذريح :

* تبكّي على لبنى وأنت تركتها

وكنت عليها بالملا أنت أقدر (١)

رفع" أقدر" ، ولو كانت القوافي منصوبة لنصب ، لأنه من النكرات المقاربة للمعرفة ، والمعنى : أقدر منك الآن. والملا : ما اتسع من الأرض. يصف أنه طلق لبنى في موضع مرتبعهم ، ثم ندم وبكى على فراقها.

وأنشد محتجّا لشيء قدمه لرجل من بني عبس :

* إذا ما المرء كان أبوه عبس

فحسبك ما تريد إلى الكلام (٢)

احتج به على أن اسم" كان" مضمر فيها بمنزلته في المسألة التي قدم ، والجملة خبرها.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٩٥ ، شرح النحاس ٢٦٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٣٧ ، شرح ابن السيرافي (١ / ٢٤٤ ، ٣٠٣) ، فرحة الأديب ٥٨ ، شرح المفصل ٣ / ١١٢ ، اللسان (ملا) ١٥ / ٢٩٢.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٩٦ ، شرح النحاس ٢١.

٣٥٠

هذا باب لا تكون فيه هو وأخواتها فصلا

ولكن يكن بمنزلة اسم مبتدأ ، وذلك قولك : ما أظن

أحدا هو خير منك

اعلم أن الفصل لا يكون بعد النكرة ، لأنه يجري مجرى صفة المضمر ، و" هو" وأخواتها معارف فلا يجوز أن يكن فصلا للنكرة كما لا يجوز أن تكون المعارف صفات للنكرة.

وأما ما ذكر سيبويه من إنزال أهل المدينة" هو" ها هنا بمنزلتها في المعرفة في كان ونحوه ، فإن هذا الكلام إنما حمل على ظاهره ، فهو غلط وسهو ، لأن أهل المدينة لم يحك عنهم إنزال" هو" في النكرة منزلتها في المعرفة. والذي حكي عنهم (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ.) و" هؤلاء" و" بناتي" جميعا معرفتان ، و" أطهر لكم" من باب هو خير منك.

والذي أنكر سيبويه ، أن يجعل : ما أظن أحدا هو خيرا منك بمنزلة : ما أظن زيدا هو خيرا منك ، وليس هذا مما حكي عن أهل المدينة في شيء. والذي يصح به كلام سيبويه ، أن يقال هذا الباب والذي قبله بمنزلة باب واحد ، لأن الباب الذي قبله لما يجوز فيه الفصل ، وهذا لا يجوز ، وقد يضمن باب واحد ما يجوز وما لا يجوز في معنى واحد وترجمة الباب الثاني كالفصل ، وقد يجري في كلام سيبويه أن يترجم بابا يتضمن أشياء ثم يعيد ترجمة الباب في بعض تلك الأشياء.

فإنما قصد سيبويه إلى الآية خاصة.

ومعنى قول أبي عمرو : احتباء ابن مروان في ذه باللحن أي : اشتمل بالخطأ وتمكن فيه ، وهو من قراء المدينة ، وإنما لحن في قراءته لأنه جعل الفصل بين الحال وما قبلها ، ولا يكون انفصال إلا بين شيئين لا يستغني عنهما ، وجملة ذلك ما كان بمنزلة الابتداء والخبر.

هذا باب أي

اعلم أن" أيا" لتبعيض ما أضيف إليه ، ويأتي للاستفهام والجزاء فلا يوصل ، ويكون بمعنى" الذي" موصولا ، وهو موضوع على الإضافة لأن المراد به في أحواله الثلاث : بعض ما أضيف إليه وقد يفرد ومعناه الإضافة وردّ على سيبويه من هذا الباب قوله :

" وإن أدخلت الفاء جاز وجزمت تشاء" ونصبت" أيها" يعني في قولك : أيها تشأ لك.

فقال الراد : إضمار الفاء إنما يجوز في الشعر ، وقد ذكره سيبويه والذي أراده سيبويه : إذا أضمرت في الموضع الذي يجوز إضماره كان حكمه أن ينصب" أيها" بفعل الشرط ويجزم فعل الشرط.

وذكر سيبويه أن العرب تقول : اضرب أيّهم أفضل ، والكوفيون يأبون هذا ويجرونه على القياس فينصبون.

٣٥١

ويقوي ما حكاه سيبويه والخليل حكاية أبي عمرو الشيباني عن أحد مما يأخذ عنه اللغة من العرب أنه أنشد :

* إذا ما أتيت بني مالك

فسلم على أيّهم أفضل (١)

ومذهب الخليل أنه محمول على الحكاية وإنما وجهه على هذا لأن العرب لما تكلمت به مرفوعا ـ وهو شاذ والقياس عندهم : اضرب أيّهم أفضل بالنصب ـ كان حمله على الحكاية أقوى عنده من حمله على البناء الذي اختاره سيبويه.

ويقوي مذهب سيبويه في البناء أن" أيّا" نظيره" من" و" ما" ، وهما مبنيتان ، وكان حق" أيهم" أن يكون مبنيّا ، فلما دخل" أيهم" نقص في العائد ضعف ، فرد إلى أصله من البناء كما أن" ما" في لغة أهل الحجاز إذا تقدم خبرها أو أوجب ، ردت إلى ما يوجبه القياس من بطلان عملها.

وأما يونس فزعم أن" اضرب" : معلقة بالجملة.

وهذا القول ضعيف ، وإنما تعلق أفعال القلوب على الاستفهام كقولك : انظر أيهم في الدار؟ واعرف أزيد في الدار أم عمرو؟

وتعليقه أن يبطل علة ما بعده.

ومعنى قول سيبويه : ومن قال : امرر على أيهم أفضل قال : امرر بأيهم أفضل.

كأنه قد سمع" على أيهم أفضل" أكثر من" بأيهم أفضل" ، فقاس" بأيهم" قياس" على أيهم" لأنه لا فرق بينهما.

وإذا أفردت" أيّ" ، فالخليل ويونس فيها على مذهبهما من الرفع يقولان : اضرب أي أفضل ، وهو القياس على مذهبهما لأنه ليس بمبني عندهما ، وإنما هو مرفوع بالابتداء على التقدير الذي ذكر عنهما.

وسيبويه يرده إلى الأصل فيقول : " اضرب أيّا أفضل" ، ومن حجته : أنهم لو بنوه في الأصل لكان حقه أن لا ينون لأنه معرفة بمعنى" الذي" ، لأن المعرب الذي يبنى في حال إذا كان مفردا معرفة لم ينون ، كقولك : يا زيد ومن قبل ومن بعد. وإذا نكّر نوّن.

قال : ولو كانت العرب بنته في الإفراد لزمتنا متابعتهم ولا يلزم القياس على الشاذ في كل شيء.

وأنشد سيبويه للعباس بن مرداس :

* فأيي ما وأيك كان شرّا

فسيق إلى المنية لا يراها (٢)

__________________

(١) شرح السيرافي ٤ / ٢٥٠ ، الإنصاف ٢ / ٧١٥ ، مغني اللبيب ١ / ١٠٨ ، شرح المفصل ٣ / ١٤٧.

(٢) ديوانه ١٤٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٩٩ ، شرح النحاس ٢٦٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٤٧.

٣٥٢

المعنى : فأينا كان شرّا ، إلا أنه أفرد" أيا" لكل واحد من الاسمين وأخلصه له توكيدا ، و" ما" : زائدة.

وأنشد لخداش بن زهير في نحو هذا :

* ولقد علمت إذا الرجال تناهزوا

أيي وأيكم أعز وأمنع (١)

المناهزة : المفاجأة في الغارة ونحوها.

وأنشد لخداش بن زهير أيضا :

* أيي وأي ابن الحصين وعثعث

غداة التقينا كان عندك أغدرا (٢)

ونظير هذا كثير في كلام العرب ، وقد ذكر سيبويه بعض هذا.

هذا باب" أي" مضافا على القياس

وذلك قولك : اضرب أيهم هو أفضل

قد تقدم من مذهب سيبويه في بناء" أيهم" إذا كان في معنى" الذي" أنه استعمل فيه حذف العائد الذي لا يحسن في الذي بني ، وإذا استعمل في صلة ما يحسن في صلة" الذي" لم يبن وتقدم أن السبب في بنائها : أن نظيريها ، وهما : " من" و" ما" مبنيتان ، فإذا حذف العائد منهما فقد دخلها نقص وإزالة عن ترتيبها ، فأجريت مجرى نظيرتها كما فعل بما ، إذا تقدم خبرها ـ أو أثبت بإلا ـ ردت إلى قياس نظائرها من حروف الابتداء.

هذا باب" أي" مضافا إلى ما لا يكون اسما إلا بصلة

فمن ذلك قولك : أي من رأيت أفضل

اعلم أن" أيا" إذا أضيفت إلى" من" ، فلا تكون إلا بمعنى" الذي" و" أي" على وجوهها الثلاثة ، وتقديره هذه المسألة ، أي : الذين رأيتهم أفضل ، فأي مبتدأ ، وأفضل خبره ، ورأيت من صلة" من" و" من" في معنى جماعة.

قال : " وتقول في شيء منه آخر" : أي من إن يأتنا نعطه نكرمه.

فأي استفهام ، ولا يصح غيره ، و" من" بمعنى : الذي ، لأن" أيا" مضاف إليه ، والشرط وجوابه في صلة من ، فتم أي اسما بالمضاف إليه وصلته. فكأنك قلت. أي القوم نكرمه ، و" نكرمه" خبر" أي" ولو حذفت الهاء من نكرمه ، نصبت" أيا" كأنك قلت : أيهم تكرم : ولو جعلت" أيا" خبرا بمعنى" الذي" لم يجز حتى يزيد فيه.

وذلك أنك تحتاج بعد المضاف إليه إلى صلة ، فيصير بعد : المضاف إليه وبعد الصلة

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٩٩ ، شرح النحاس ٢٦٥ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٩٤.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٩٩ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٤٧.

٣٥٣

بمنزلة اسم واحد ، فتزيد ما يكون به كلاما وذلك قولك : أي من إن يأتنا نعطه نكرم تهين.

" فنكرم" صلة" لأي" ، فإن شئت ، أثبت الهاء فقلت : نكرمه ، وإن شئت نزعتها ، ولا يتغير لفظ" أي" بنزع الهاء من نكرمه لأنه في الصلة ، وتنصب" أيا" ب" تهين" ، فكأنك قلت : زيدا تهين ، ولو قلت : تهينه لرفعت" أيا". ولو جعلت" أي" للمجازاة جزمت نكرمه ، وتحتاج إلى جواب ، فتأتي بما يكون جوابا ، وذلك قولك : أي من إن يأتنا نعطه نكرم ونهن ـ فنكرم شرط عامل في" أي" ، ونهن جزاء ومفعوله محذوف. وإن وصلت الضمير بذكر ، رفعت أيا.

وذكر سيبويه عن الخليل أن قولهم : أيهن فلانة وأيتهن بمنزلة قول بعض العرب : كلتهن في كلهن.

وقد يجيء مثل هذا في أسماء مذكرة تقع على المذكر والمؤنث بلفظ واحد كقولهم : زيد خير الرجال ، وعمرو شر الناس ، وهند خير النساء ودعد شر النساء. وربما قالوا : خيرة وشرة.

ومما يشبه هذا : ضمير الأمر والشأن في المذكر والمؤنث كقولك : إنه زيد قائم ، وإنه هند قائمة ، ثم يؤنثون في المؤنث دون المذكر ، فيقولون : إنها هند قائمة ، قال الله عز وجل : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ) على إضمار القصة ، وقد أجاز بعضهم : إنها زيد قائم.

فاعرف ذلك.

هذا باب" أي" إذا كنت مستفهما عن نكرة

اعلم أن الأصل إذا قال القائل : رأيت رجلا ، أن يقول السائل : أي الرجل؟ ، لأن النكرة إذا أعيدت ، عرفت بالألف واللام وأضمرت.

يقول لك الرجل : سألت رجلا عن كذا وكذا ، فتقول له : فما أجابك الرجل؟

فعدل عن هذا تخفيفا إلى أن يؤتى" بأي" مفردا ، وأعرب بإعراب الاسم المذكور ليعلم أن القصد إليه دون غيره ، وهو في موضع خبر الابتداء ، والابتداء محذوف ، أو في موضع ابتداء وخبره محذوف وتقديره : أيا من ذكرت؟. وكذلك الرفع والخفض كقولك : أيّ من ذكرت؟ وأيّ من ذكرت؟ فإذا وقعت" أي" على المعرفة ، لم تجز الحكاية كما جازت في النكرة.

والفصل بينهما أن المسألة عنهما على وجهين مختلفين ، ففرقوا بينهما لذلك. فأما المسألة عن النكرة فإنما هي عن ذاتها لا عن صفتها.

فإن قال القائل : رأيت رجلا ، فقال السائل : أيا؟ وجب على المسئول أن يقول : زيدا أو عمرا ؛ لأنه لا يعرف الرجل عينا.

وإذا قال : رأيت عبد الله ، فالقائل ، لم يورد ذلك إلا معتقدا أن المخاطب يعرفه ، وقد يجوز أن يكون المخاطب يعرف جماعة بأعيانهم اسم كل واحد منهم : عبد الله ، فيحتاج إلى

٣٥٤

تخليص كل من ذكر منهم بالنعت ، فإذا قال : أي عبد الله؟ ، فإنما سئل عن نعته فيقول المسئول : العطار أو البزاز ، كما يبتدئ المتكلم بمعرفة وينعته إذا خاف اللبس ، ولا بد من ذكر عبد الله ؛ لأن الجواب نعت ولا بد من ذكر المنعوت.

هذا باب : " من" إذا كنت مستفهما عن نكرة

القول في حذف الاسم المنكور بعد" من" كالقول في حذفه بعد" أي" ، إلا أن (من) ضمّن لفظه من علامات دلائل إعراب المسئول عنه ـ وتثنيته وجمعه وتأنيثه ـ ما يدل عليه ، وهذه العلامات ، إنما تلحقها في الوقف وليست بإعراب لها ؛ لأنها مبنية على السكون ، وإنما هي دلالة على المسئول عنه. وإنما أدخلوا الضمة على" من" ولم يجز الوقف على الضمة لأنه لا يوقف على متحرك ، ولم يجز أيضا ضمها إذا وصلوا ، لأن" من" مبنية على السكون ، فاحتاجوا إلى وصلها بالواو في الوقف ليتبين ما قصدوه من الدلالة على المسئول عنه وصار وصلها بالواو والياء والألف كوصل حرف الروي في قولك في القافية : الرجلو ، والرجلا ، والرجلي. ولم يفعلوا هذا" بأي" في الوقف لأنه معرب جار مجرى زيد وفرس ، ففعل به في الوقف ما فعل بهما.

وقولهم في تثنية المؤنث : منتين بتسكين النون ، إنما كان ذلك لأن النون كانت في" من" ساكنة ، وإنما حركتها في" منه" من أجل ما بعدها لأن هاء التأنيث لا تقع إلا بعد حرف متحرك.

وحركت النون في" منو" و" مني" لعلتين : (١)

إحداهما : قولك في النصب : " منا" لأن الألف لا تقع إلا بعد مفتوح فلما حركت في النصب ، حركت في الرفع والخفض ليكون المجرى واحدا.

والعلة الأخرى : أن الياء والواو خفيتان ، فحرك ما قبلهما ليظهرا ويثبتا. وإن شئت قلت : أدخلوا الضمة والكسرة والفتحة أولا ، كما يدخلونها في" أي" وتبعتها الحروف لما تقدم من العلة في ذلك.

وأما" منتين" ، فسكنوا النون لأنهم بنوها مع التاء كما قالوا : منت ، وبنت وأخت ، وحركوها في الواحد لخفاء الهاء ومضارعتها الألف ، ففتحوا ما قبلها كما يفتح ما قبل الألف.

وأنشد سيبويه في جمع" من" في الوصل ضرورة :

* أتوا ناري فقلت : منون أنتم؟

فقالوا : الجن قلت : عموا ظلاما (٢)

__________________

(١) المقتضب ٢ / ٣٠٥.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٠٢ ، نوادر أبي زيد ١٢٣ ، المقتضب ٢ / ٣٠٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٦٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٨٣ ، الخصائص ١ / ١٢٩ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ٢١٥.

٣٥٥

قال الزجاج : كأنه وقف على منون وسكت عندها ثم ابتدأ.

وللشاعر أن يجري الكلام في الوصل مجراه في الوقف.

وهذا الشعر ينسب إلى سمير بن الحارث ، وبعضهم يرويه : عموا صباحا وهو غلط لأن هذا البيت من قصيدة قافيتها الميم ، وهي مشهورة.

هذا باب ما لا يحسن فيه" من" كما حسن في ما قبله

قد تقدم أن المسألة عن المعرفة لا تكون باسم واحد ، كما كانت عن النكرة في قولك : أيا ومنا ، وذكرت الفصل بين المعرفة ، والنكرة.

وحكى سيبويه أنه سمع من العرب من يقال له : ذهب معهم ، فيقول : مع منين؟ وإنما جاز هذا لأن المتكلم بنى أمر المخاطب على أنه عارف بالاسم المكني عنه ، ولم يكن عارفا به ، فأورد مسألته على غير ما ذكره المتكلم ، فكأن السائل سأل على ما كان ينبغي للمتكلم أن يقول فيه : (ذهب مع رجال) ، فلما غلط المتكلم في توهمه ، وعلم المخاطب أنه يعرفه رده المخاطب إلى الحق في حال تيقنه أنه غير عالم بمن ذكره ، وسأل عن ذلك ، وجعل المتكلم كأنه قد تكلم به ، وقد يأتي الجواب على غير لفظ السؤال ، وقد تقدم ذكره.

باب اختلاف العرب في الاسم العلم

إذا استفهمت عنه" بمن"

اعلم أن أهل الحجاز يحكون كلام المتكلم في الاسم العلم رفعا كان أو نصبا أو خفضا لئلا يتوهم المسئول أنه سئل عن غير الذي ذكره ، وموضع المنصوب والمخفوض في : من زيدا؟ أو من زيد؟ رفع على خبر من ، كما أن قولهم : (دعنا من تمرتان) في موضع خفض.

وإنما يختار أهل الحجاز الحكاية في الأسماء الأعلام دون غيرها ، لأن أكثر ما يخبر عن الناس بها في جميع صفاتهم وأحوالهم.

والاسم العلم إذا ذكر ، فكأنه مشتمل على تعريف جميع ما فيه من صفاته المعروفة ، وإنما ينعت إذا زاحمه غيره في لفظه ليبين من غيره. فإذا لم يكن الاسم علما ، أجري على القياس ، ورفع على الابتداء والخبر ، وإنما وجب رفع العلم إذا نعت أو عطف عليه لأن السائل محتذ على كلام المتكلم فحكايته ـ لذكر العطف والنعت ـ تغنيه عن حكايته لإعرابه ، وإنما جازت الحكاية" بمن" ، ولم تجز" بأي" في الأسماء الأعلام لعلتين :

ـ إحداهما : أن السؤال بمن عن من يعقل أكثر من السؤال" بأي" ، وما كثر استعماله فهم أشد تغييرا له.

ـ والعلة الأخرى : أن" أيا" معربة ، فإذا سألوا بها ، فلا بد من رفعها فإذا فعلوا ذلك أتبعوها لفظ الاسم العلم على ما يوجبه القياس.

٣٥٦

وحكى المبرد في المقتضب عن يونس أنه كان يجيز الحكاية في جميع المعارف.

والذي حكاه سيبويه عن يونس في الباب : " إذا قال رجل : رأيت زيدا وعمرا ، أو زيدا وأخاه ، أو : زيدا أخا عمرو ، فالرفع يرده إلى الأصل والقياس كما يرد : ما زيد منطلق إلى القياس.

ولا أدري من أين للمبرد هذه الحكاية عن يونس؟.

هذا باب من إذا أردت أن يضاف لك من تسأل عنه

اعلم أن الإنسان قد يحتاج إلى معرفة نسب من يذكر له إذا عرف ذاك الاسم لجماعة مختلفي الأنساب ، فإذا سأل عنه وأورد لفظ المسألة مبهما منسوبا ، فاحتاج إلى ذكر اللفظ المبهم الذي يسأل به عن : أي الرجل الذي يراد معرفة نسبه ، واحتاج إلى نسبته ، وإلى الألف واللام.

فأما الاسم المبهم فهو" من" لأنها بها يسأل عن الرجل المنسوب إليه وأما علامة النسبة ، فليعلم أنه يسأل عنه منسوبا ويجري إعراب المبني على إعراب الاسم الذي ذكره المتكلم ، إن قال : جاءني زيد ، قلت : " المني" وهو مشتمل على كل من ينسب إلى" أب" ولا يحتاج في" المني" إلى ألف الاستفهام كما لم يحتج إليها في" من".

وإذا جعلت مكانها اسما منسوبا أدخلت ألف الاستفهام فقلت : أالقرشي أم الثقفي؟

هذا باب إجرائهم صلة" من" وخبرها إذا عنيت

اثنين كصلة اللذين ، وإذا عنيت جماعة كصلة الذين

اعلم أن ل" من" لفظا ومعنى فأما لفظها : فواحد مذكر ، فإذا رددت إليها ضميرا من صلتها أو خبرها أو غير ذلك ، كان واحدا مذكرا على لفظها. عنيت واحدا أو جمعا أو مؤنثا أو مذكرا وإن أردت أن يكون العائد إليها على معناها ، فهو على ما يقصده المتكلم من المعنى وقد مثل سيبويه المسائل في ذلك وذكر الشواهد عليه.

وأنشد في ما حمل على المعنى للفرزدق :

* تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من ـ يا ذئب ـ يصطحبان (١)

يريد ب" من" نفسه والذئب ، فلذلك قال : يصطحبان ، و" من" هاهنا ، نكرة و" يصطحبان" في موضع النعت ، ولا يحسن أن تقدرها معرفة لئلا تحول بين الصلة والموصول بقوله : " يا ذئب" ، وليس من الصلة. والمعنى أنه وصف ذئبا طرقه ليلا وقد أوقد نارا في فلاة نزل بها ، فدعاه إلى طعامه وشرط على نفسه إن لم يخنه الذئب أن يكون صاحبه

__________________

(١) ديوانه ٢ / ٨٧٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٠٤ ، المقتضب (٢ / ٢٩٤ ، ٣ / ٢٥٣).

٣٥٧

وقبل هذا البيت :

وأطلس عسال وما كان صاحبا

رفعت لناري موهنا فأتاني

فقلت له لما تكشر ضاحكا

وقائم سيفي من يدي بمكان (١)

تعال فإن .. البيت

وذكر بعض الكوفيين أنه إذا حمل من على المعنى لم يجز أن يرد إلى اللفظ وإذا حمل على اللفظ ، جاز أن يرد إلى المعنى والذي يبطل ما قاله : قوله عز وجل : (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) بعد قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً.)

هذا باب إجرائهم" ذا" بمنزلة" الذي"

وإجرائهم إياه مع" ما" بمنزلة اسم واحد

قد اشتمل تفسير سيبويه للباب على وجهين مقدرين في" ماذا".

فإن قال قائل : هلا جعلت" ذا" زائدة وجعلت" ما" للاستفهام وبمعنى" الذي" كما كانت قبل دخول" ذا"؟

فإن سيبويه استدل على بطلان هذا بشيئين.

أحدهما : أن" ذا" لو كانت زائدة ، ثم قلنا ما ذا تصنع كانت" ذا" في موضع نصب ، ويكون على الحقيقة جوابه منصوبا ، فلما قال لبيد :

* ألا تسألان المرء ما ذا يحاول

أنحب فيقضى أم ضلال وباطل؟ (٢)

فرفع قوله : أنحب وهو بدل" مما" علم أن ما في موضع رفع وإذا كانت في موضع رفع ، فهي مبتدأة ، وخبرها" ذا" ويحاول : صلة" ذا" ، وتقديره يحاوله والنحب : النذر ، وهو ما يوجبه الإنسان على نفسه من فعل البر.

ومما احتج به سيبويه على أن" ما" و" ذا" جميعا بمعنى : " الذي" قول الشاعر :

* دعي ما ذا علمت سأتقيه

ولكن بالمغيب نبئيني (٣)

فالحرفان جميعا بمعنى" الذي"

فإن قال قائل : هلا جعلت" ما" زائدة ، وجعلت" ذا" وحدها بمعنى" الذي كما قال الله

__________________

(١) ديوان الفرزدق ١ / ٨٧٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٣٦.

(٢) ديوانه ٢٥٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٠٥ ، معاني القرآن ١ / ١٣٩ ، مجالس ثعلب ٢ / ٤٦٢ ، شرح النحاس ٢٦٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٨٠ ، المسائل البغداديات ٣٧١ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٤١ ، الجنى الداني ٢٣٩.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٤٠٥ ، شرح النحاس ٢٦٧ ، أمالي اليزيدي ١١١ ، شرح السيرافي ٤ / ٢٨٢ ، الجنى الداني ٢٤١ ، مغني اللبيب (١ / ٣٩٦ ، ٣٩٧).

٣٥٨

عز وجل : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى.)

" فتلك" بمعنى" التي و" يمينك" صلة لها؟

فالجواب : أن" تلك" و" هذا" و" ذاك" وما جرى مجراها من أسماء الإشارة لا يكن عند البصريين (بمعنى) الذي وأخواتها ، إلا" ذا" وحدها ، إذا وصلت" بما" قبلها فلما كانت" ذا" لا تكون بمنزلة" الذي" حتى تكون قبلها" ما" لم يجز أن تكون" ما" زائدة ، إذا كان إخراجها من الكلام يبطل المعنى المقصود" بذا" و (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) عندهم في موضع الحال ، كأنه قال : وما تلك مستقرة بيمينك؟

هذا باب ما تلحقه الزيادة في الاستفهام

جعل سيبويه في هذا الباب الإنكار على وجهين :

أحدهما : أن تنكر كون ما ذكر كونه وتكذب به وتبطله ، كرجل قال لك : أتاك زيد ، وزيد ممتنع إتيانه عندك ، فتنكره لبطلانه عندك ، فهذا معنى قوله :

" إذا أنكرت أن تثبت رأيه على ما ذكر".

والوجه الآخر : أن يقول : أتاك زيد ، وزيد من عادته إتيانك ، فتنكر أن يكون ذلك على غير ما قال ، كما يقول القائل في ما يرد عليه من الكلام إذا لم يشك فيه. ومن شك في هذا ، ومن أنكره ، على وجه التعجب والإنكار ، لذكر مثله مما لا يشك في كونه ، وهذا معنى قوله : " أو تنكر أن يكون رأيه على خلاف ما ذكر".

والعلامة التي للإنكار على لفظين : أحدهما حرف ساكن من حروف المد واللين يلحق آخر اللفظ فيتبع حركته وإن كان آخر اللفظ ساكنا ، حرك لاجتماع الساكنين ، فإن كان الحرف الساكن مما لا يحرك ، فإنك تدخل عليه مثله في التقدير ، ثم تحذف الأول لاجتماع الساكنين ، فإذا قال : رأيت المثنى ، قلت المثناه؟. وإن قال : مررت بالقاضي ، قلت : آلقاضيه؟

وإذا قلت : زيد يغزو ، قلت : أزيد يغزوه؟

والعلامة الأخرى : أن يترك لفظ المتكلم على حاله ويؤتى بالعلامة منفصلة ، فيقال : أعمرونيه؟ أو أزيدنيه؟

وقد ذكر سيبويه علته.

والحرف المزيد" أن" ثم زيد على" أن" ما يزاد على التنوين من حرف ساكن في التقدير ، فيكسر لاجتماع الساكنين وتلحقه الهاء في الوقف لبيان العلامة.

هذا باب إعراب الأفعال المضارعة للأسماء

قد بين سيبويه سبب إعراب رفع الفعل ونصبه بما أغنى عن تفسيره.

واعلم أن ما كان من أفعال الظن والخوف ، فإنه يجوز أن تقع على (أن) الثقيلة وعلى

٣٥٩

(أن) الخفيفة ، وما كان من أفعال الإيجاب انفرد بالمشددة ، وما كان لغير الإيجاب انفرد بالمخففة ، فلما كانت" أن" و" أن" تجتمعان في كثير من الكلام ـ ومعناهما واحد في دلالتهما على المصدر ، ولفظهما سواء ـ حمل نصب الفعل" بأن" على نصب الاسم" بإنّ".

وأما" لن" و" كي" و" إذن" فمحمولة على" أن" في النصب لمشاركتها لها في الاستقبال ، والدليل على ذلك أن" إذن" قد تدخل على الحال فيبطل النصب بها.

وذكر سيبويه عن الخليل في" لن" أن أصلها : " لا أن" ، ورد عليه سيبويه بما ذكر في الباب.

ومما يدل على بطلانه ، أنا إذا قلنا : لن أضرب زيدا ، كان كلاما تامّا لا يحتاج إلى إضمار شيء. وإذا قلنا : لا أن أضرب زيدا لم يتم به الكلام ، لأن (أن) وما بعدها بمنزلة اسم مبتدأ لا خبر له ، وليس لفظ" لن" وفقا للفظ" لا أن" ولا معناها كمعناها ، فما الذي أوجب أنها هي؟

فإن قال قائل : إذا زعمتم أن : " لن" و" كي" و" إذن" ، إذا حملت على" أن" في نصبهن لاشتراكهن في الاستقبال ، فهلا نصبتم فعل الأمر. والنهي والمجازاة وهن مستقبلات؟

قيل له : أما لام الأمر ، فما بعدها جزم ، لأنه بمعنى الأمر المبني على السكون ، فلمضارعته له ، ودخوله في معناه حمل على إعراب لفظه كلفظ البناء وحمل النهي على الأمر ، لأنه نقيضه ، والأمر مبني ، كما جزم الفعل بلم ، لأنه نقيض الماضي والماضي مبني.

وأما المجازاة فجزمت لأنها شرط وجواب ، فطالت ، واختاروا لها أخف

الإعراب وهو الجزم لطولها.

هذا باب الحروف التي تضمر فيها" أن"

ذكر سيبويه في هذا الباب أن" كي" قد تكون بمنزلة اللام فتنصب بإضمار" أن" واستدل على ذلك بقولهم : كيمه كما يقولون لمه ولو لم تكن بمنزلة اللام لثبتت الألف في" ما" لأنّها لا تسقط إلا إذا كانت" ما" في موضع خفض ، واتصل بها الخافض في الاستفهام.

ولام الجحد عند سيبويه : بمنزلة" كي" في إضمار" أن" بعدها ، وبينهما فصل في إظهار" أن" بعدهما ، فاستحسن ظهورها بعد لام" كي" ولم يجز ظهورها بعد لام الجحد ، وإنما قبح ظهورها بعد لام الجحد لأنها نقيض فعل ليس تقديره تقدير اسم ، ولا لفظه لفظ اسم ، وهو" السين" و" سوف" فإذا قلنا : " ما كان زيد ليخرج" فهو قبل الجحد : كان زيد سوف يخرج" أو سيخرج" فإذا قلنا : " ما كان ، وزيد لأن يخرج" ، بإظهار" أن" فكأنما جعلنا مقابل : " كان سوف يخرج" و" سيخرج" اسما فكرهوا" أن" لذلك.

وقال الكوفيون : لام الجحد هي العاملة بنفسها ، وأجازوا تقديم المفعول كقولك : ما كنت زيدا لأضرب.

وأنشدوا :

٣٦٠