النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

وأنشد سيبويه لابن الأيهم التغلبي :

* ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلى وضرب الرقاب (١)

" فغير" : بدل من العتاب ، أي : الذي يقوم لهم مقام العتاب ، هذا مثل قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١].

وأنشد محتجّا لهذا المجاز :

* وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع (٢)

أي : الذي يقوم لهم مقام التحية هذا. ومعنى دلفت : أسرعت. وأراد بالخيل أصحابها ، ولذلك قال : تحية بينهم.

وأنشد أيضا للحارث بن عباد :

* والحرب لا يبقى لجاحمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح (٣)

هذا على الوجهين المتقدمين في لغة بني تميم : أحدهما : كأنه قال :

لا يبقي لجاحمها إلا الفتى الصبار ، ودل ذلك على أنه يبقى شيء سواه ، وذكر التخيل و" المراح" : توكيدا.

والوجه الآخر : أنه جعل الفتى الصبار هو التخيل والمراح في الحرب مجازا.

وفي وجه ثالث : وهو أن التخيل على معنى : ذي التخيل ثم حذف مثل قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، وهذا على الوجه الذي يتفق عليه أهل الحجاز ، وبنو تميم.

وأنشد أيضا :

* لم يغذها الرسل ولا أيسارها

إلا طري اللحم واستجزارها (٤)

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٥ ، المقتضب ٤ / ٤١٣ ، شرح النحاس ٢٤٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٩٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٣٦ ، معجم الشعراء ٢٤٢ ، شرح الرماني (٣٨٢ ، ٣٨٨) الاستغناء ٤٤٩ ، شرح المفصل ٢ / ٨٠.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٥ ، نوادر أبي زيد ١٥٠ ، المقتضب (٢ / ٢٠ ، ٤ / ٤١٣) ، شرح النحاس ٢٨٢ ، شرح السيرافي ٤ / ٩٨ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٢٠٠ ، الخصائص ١ / ٣٦٨ ، الاستغناء (٤٤٩ ، ٤٧٤) ، شرح المفصل ٢ / ٨٠ ، الخزانة ٩ / ٢٥٧.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٦ ، المقتضب ٤ / ٣٦٢ ، شرح النحاس ٢٤٣ ، السيرافي ٤ / ٩٨ ، ١٠٢ ، شرح الرماني (٣٨٢ ، ٣٨٨) شرح ابن السيرافي ٢ / ١٧٨ ، شرح الحماسة للأعلم ١ / ٦٤ ، الخزانة ٢ / ٤٧٠ ، اللسان (جحم) ١٢ / ٨٥.

(٤) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٦ ، شرح النحاس ٢٤٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٩٩ ، شرح الرماني (٣٨٣ ـ ٣٨٨) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١١٠.

٣٢١

قال الزجاج : كأنه قال : لم يغذها إلا اللحم ، وذكر الرسل توكيدا ، والرسل : اللبن.

والأيسار : أصحاب الميسر.

يصف امرأة. وإنما أبعد عنها أن تتغذى بلحم الميسر ؛ لأنه لا يأكل منه إلا الضعيف الصغير فيهم.

وأنشد :

* عشية لا تغني الرماح مكانها

ولا النبل إلا المشرفي المصمم (١)

" المشرفي" بدل من" النبل" و" الرماح" وهو السيف. والمصمم : النافذ الماضي.

وجعل سيبويه هذه الأبيات تقوية لقوله :

" ما أتاني زيد إلا عمرو" ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه ، فجاز في هذا البدل كما أجازه في الأبيات.

هذا باب ما لا يكون إلا على معنى ولكن

هذا الباب مخالف الذي قبله في لغة بني تميم ، لأنه لا يمكن فيه البدل ، ولا حذف الاسم الأول منه في التقدير ، كما أمكن في قولهم : ما فيها أحد إلا حمار على الوجهين اللذين تقدما. فمن ذلك قول الله عز وجل : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٣] يعني من رحمه الله تعالى ، ومن رحمه الله معصوم ولا يمكن البدل فيه ، لأنه لا يقال : إلا اليوم من أمر الله إلا من رحم. وقد قيل : لا عاصم بمعنى لا معصوم وهذا ضعيف لا يعتد به ، ولا يجيء مثل هذا إلا في الشعر كقوله :

* لقد عيل الأيتام طعنة ناشرة

أناشر لا زالت يمينك آشره (٢)

أي : مأشورة.

وأجود من هذا أن يكون" من رحم" ، هو الله ، لأنه الراحم ، وكأنه قال : لا عاصم اليوم لهم إلا الله. وأما قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً) [هود : ١١٦] فلا يجوز فيه البدل ، لأن لو لا للاستبطاء والتحضيض ، وفي معنى : لو فعلت ذلك لكان أصلح ، وهذه أشياء تجري مجرى الأمر ، وفعلا الشرط ، ولا يجوز في شيء من ذلك البدل لو قلت : ليقم القوم إلا زيد لم يجز ، كما لا يجوز

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٦ ، شرح النحاس ٢٤٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٩٩ ، ١٠٣ ، شرح الرماني ٣٨٨ ، ٣٨٣ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٢٨ ، فرحة الأديب (١١٣ ـ ١١٥) ، حاشية الصبان ٢ / ١٤٧ ، الخزانة ٣ / ٣١٨ ، المقاصد النحوية ٣ / ١٠٩.

(٢) ورد البيت في الخصائص ١ / ١٥٢ ، اللسان (أشر) ٤ / ٢١ ، ذكر هذا ابن السيرافي في شرح شواهد إصلاح المنطق ١ / ٣٣.

٣٢٢

ليقم إلا زيد. وكذلك إن قلت : إن قام أحد إلا زيد ، ولو قام أحد إلا زيد لم يجز ، كما لا يجوز : إن قام إلا زيد ولو قام إلا زيد ، ولا يجوز فيه الاستثناء الذي هو إخراج جزء من جملة هو منها ، لأن المقصد في ذلك إلى قوم من الكفار طبعوا على الكفر به ولم يكن فيهم مؤمنون ، فقبح فعلهم ، ثم ذكر قوما مؤمنين باينوا طريقتهم فمدحهم.

ومعنى : " أولوا بقية" : أولوا خير وصلاح. ويجوز في هذا ونحوه الرفع على الصفة ، فيكون بمنزلة قوله : إلا الفرقدان.

وقوله : " لا تكونن من فلان في شيء إلا سلاما بسلام.

معنى سلاما هنا : متاركة ومبارأة ، كأنه قال : لا تخالطنه إلا متاركة.

وليست المتاركة من المخالطة في شيء ، فصار المعنى : لا تخالطنه ولكن تاركه.

وأنشد للنابغة :

* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب (١)

فنصب" غير" على الاستثناء المنقطع ، لأن فلول سيوفهم ـ من مقارعة الكتائب ومضاربة الأقران ـ ليس بعيب.

وقد يحتمل في لغة بني تميم رفع" غير" كما يقول القائل : (لا عيب في زيد إلا الجود) و (لا عيب فيه إلا الشجاعة) وكقوله : (عتابك السيف وتحيتك الضرب)

وأنشد للجعدي :

* فتى كملت خيراته غير أنه

جواد فما يبقي من الجود باقيا (٢)

فهذا معنى استثناء على معنى لكنه جواد.

فإن قال قائل : " لكن" فيها مخالفة ما بعدها لما قبلها ، فإذا قدرت هذا : لكنه جواد ، فكيف يخالف قوله : كملت خيراته؟

فالجواب عن ذلك : أنه ذهب إلى معنى : لكن عيبه الجود ، كما يقول القائل عيب زيد جوده على معنى : ليس فيه عيب ، لأن الجود ليس بعيب ، كأنه قال : كملت خيراته لكن نقصه

__________________

(١) ديوان النابغة ٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٧ ، الكامل ١ / ٣٤٦ ، شرح النحاس ٢٤٤ ، شرح السيرافي ٤ / ١٠٥ ، شرح الرماني ٣٩١ ـ ٣٩٥ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٥١ ، شرح الحماسة للأعلم ١ / ٤٤٧ ، الاستغناء (٤٤٩ ، ٤٦٨ ، ٥١٥) مغني اللبيب ١ / ١٥٥.

(٢) ديوان النابغة الجعدي ١٧٣ ، الكتاب وشرح الأعلم (من المال) ١ / ٣٦٧ ، شرح النحاس ٢٤٥ ، أمالي القالي ٢ / ٢ ، شرح السيرافي (٤ / ١٠٥ ـ ١١٠) ، شرح الرماني (٣٩٥ ، ٣٩١) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٦٢ ، شرح الحماسة للأعلم ١ / ٤٤٧ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٦١٤ ، همع الهوامع ١ / ٢٣٤ ، الخزانة ٣ / ٣٣٤ ، اللسان (وحح) ٢ / ٣٦١.

٣٢٣

جوده فيصير عيبه ونقصه مخالفا" لكملت خيراته" على ما ذكرناه.

وأنشد للفرزدق :

* وما سجنوني غير أني ابن غالب

وأني من الأثرين غير الزعانف (١)

واحد الزعانف : زعنفة وهو الدخيل في القوم الملتصق بهم

وواحد الأثرين : الأثري. وهو الكثير العدد.

قال سيبويه : " ولكني ابن غالب"

فالظاهر من كلامه أنه لم يقع به سجن ، كأنه قال : ما أنا الذي يناله سجن وذل ، ولكني ابن غالب عزيز ، لأن من له هذا النسب فهو عند الفرزدق عزيز.

وكان المبرد يرد على سيبويه ، وينكر تأويله على معنى" لكن" ، لأنه يوجب أن الفرزدق لم يسجن ، والصحيح أنه كان مسجونا وكان الذي سجنه خالد بن عبد الله القسري عامل هشام بن عبد الملك وهذا البيت من قصيدة يمدح فيها هشاما ، ويستجيره وقبل هذا البيت :

وما زال فيكم آل مروان منعم

عليّ بنعماء بادئ ثم عاطف

فإن كنت محبوسا بغير جريرة

فقد أخذوني آمنا غير خائف (٢)

وما سجنوني ... (البيت).

وذهب المبرد إلى أن معنى البيت : وما سجنوني إلا أني ابن غالب ، أي : سجنوني حسدا لي على نسبي وشرفي.

ومذهب سيبويه جائز وإن كان مسجونا وذلك أنه لم يعد سجنه سجنا لأنه لم يبطل عزه ولم يلحقه ذل ـ كما يقول القائل : تكلمت ولم تتكلم. فكأنه قال : وما أذلوني بالسجن ، ولكني عزيز بمحلي ونسبي.

وأنشد لعنز بن دجاجة المازني :

* من كان أشرك في تفرق فالج

فلبونه جربت معا وأغدت

إلا كنا شرة الذي ضيعتم

كالغصن في غلوائه المتنبت (٣)

ويروى : المتبتت بكسر التاء. ويروى من كان أسرع

__________________

(١) ديوان ٢ / ٥٣٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٧ ، شرح النحاس ٢٤٥ ، شرح السيرافي (٤ / ١٠٥ ، ١١١) شرح الرماني (٣٩٥ ، ٣٩١) شرح ابن السيرافي ٢ / ١٠٢.

(٢) الديوان ٢ / ٥٣٦ وشرح الأعلم ١ / ٣٦٧ ، شرح السيرافي ٤ / ١١١.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٨ ، المقتضب ٤ / ٤١٦ ، شرح النحاس ٢٤٥ ، شرح السيرافي (٤ / ١٠٦ ، ١١٢) شرح الرماني (٣٩٦ ، ٣٩٢) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٧١ ، فرحة الأديب ١٢٢.

٣٢٤

وفالج بن ذكوان بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم ، انتقل إلى بني سليم وانتهى إلى ذكوان بن بهتة بن سليم وادعى نسبه فيهم وقومه من بني مازن آذوه فأحوجوه إلى الانتقال عنهم. وقبل ذلك ، ما ضيع بنو مازن ناشرة وآذوه حتى انتقل إلى بني أسد ، فدعا هذا الشاعر على من أسرع في تفرق فالج وآذاه وأخرج عنهم مثل ناشرة ، لأن أمثال ناشرة ما أسرعوا في تفرق فالج ، لأن ناشرة كان مطلوبا مؤذي فلم يدع الشاعر على أمثال ناشرة ، فكأنه قال :

ولكن أمثال ناشرة ما أسرعوا في تفرق فالج ، فلا يكون في أمثال ناشرة بدل ولا إخراج واحد من جميع ، وليس فيه إلا معنى" لكن".

وأنشد :

* لولا ابن حارثة الأمير لقد

أغضيت من شتمي على رغم

إلا كمعرض المحسر بكره

عمدا يسببني على الظلم (١)

قوله : " إلا كمعرض" بمعنى : " إلا كناشرة".

والمعنى : لو لا منع ابن حارثة إياي من شتمك ، لشتمك ولأغضيت على شتمي ، ولكن معرضا المحسر بكره في سبي ، مباح لي شتمه.

ويسببني : يكثر سبي. ومعرض : اسم رجل ، والمحسر : من نعته.

ويقال : حسر بكره : إذا اتّبعه وشق عليه.

وكان المبرد يجعل الكاف في" كناشرة" وفي" كمعرض" زائدة.

ولا ضرورة تدفع إلى ذلك لأنها تجعل بمعنى مثل ، فيصح معناه ويدخل فيه الذي دخلت عليه الكاف كما تقول : مثلك لا يفعل هذا.

هذا باب ما تكون فيه أنّ وأن مع

صلتهما بمنزلة غيرهما من الأسماء

وذلك قولك : ما أتاني إلا أنهم قالوا كذا وكذا ومثله : ما منعني إلا أن يغضب على فلان وأن في موضع اسم مرفوع.

واحتج سيبويه على أن هذا موضع رفع بقول الشاعر :

* لم يمنع الشرب منا غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال (٢)

__________________

(١) ديوانه ٢٣٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٨ ، المقتضب ٤ / ٤١٧.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٩ ، شرح النحاس ٢٤٦ ، شرح السيرافي ٤ / ١١٤ ، المسائل البغداديات ٣٣٧.

٣٢٥

فقوله : غير أن ، بمنزلة : إلا أن.

والأوقال : جمع وقل وهو من توقل الجبل إذا صعد فيه. ويروى منها أي : سمعت حمامة فامتنعت من الشرب.

قال : " وبعض العرب ينصب غير" والعلة في ذلك أنه لما أضافها إلى غير متمكن بناها وموضعها رفع. كما قال النابغة :

* على حين عاتبت المشيب على الصبا (١)

فبناها لإضافتها إلى فعل مبني.

هذا باب ما لا يكون المستثنى فيه إلا نصبا

لأنه مخرج مما أدخلت فيه غيره

وقد تقدم تفسير أكثر هذا الباب في تضاعيف الأبواب المتقدمة وسائره مفهوم إن شاء الله.

هذا باب ما تكون فيه" إلا" وما بعدها

وصفا بمنزلة غير ومثل

وذلك قولك : لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا .. وقال تبارك وتعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]

اعلم أن البدل لا يكون في" لو" بعد" إلا" ، لأنها في حكم اللفظ ، تجري مجرى الموجب ، وذلك أنها شرط بمنزلة" إن". ولو قلت : إن أتاني أحد إلا زيد خرجت ، لم يجز ، لأنه يصير في التقدير : إن أتاني إلا زيد خرجت ، كما لا يجوز : أتاني إلا زيد فهذا وجه من الفساد.

ووجه آخر من فساده : أنه إذا قال : لو كان معنا إلا زيد لهلكنا وهو يريد : الاستثناء لكان محالا ، لأنه يصير في المعنى : لو كان معنا زيد لهلكنا ، لأن البدل بعد إلا في الاستثناء موجب.

وأنشد لذي الرمة :

* أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلا بغامها (٢)

كأنه قال : قليل بها الأصوات غير بغامها ، أي : الأصوات التي هي غير بغام الناقة قليلة

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٩ ، معاني القرآن ٣ / ٢٤٥ ، الكامل ١ / ١٨٥ ، شرح النحاس ٢٤٧ ، المسائل البغداديات ٣٣٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٥٣ ، المنصف ١ / ٥٨ ، شرح المفصل (٣ / ١٦ ، ٤ / ٩١) ، أوضح المسالك ٢ / ١٩٨ ، مغني اللبيب ٢ / ٦٧٢ ، شرح شواهده ٢ / ٨٨٣ ، الهمع ١ / ٢١٨ ، الخزانة ٦ / ٥٥٠ ، المقاصد النحوية ٣ / ٤٠٦.

(٢) ديوانه ٦٣٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٠ ، المقتضب ٤ / ٤٠٩ ، شرح النحاس ٢٤٧ ، وشرح الرماني (٣٠٧ ، ٤٠٣) ، مغني اللبيب (١ / ١٠٠ ، ٤١٧) ، شرح شواهد المغني (١ / ٣٩٤ ، ٢ / ٧٢٩) ، الهمع ١ / ٢٢٧ ، حاشية الصبان ٢ / ١٥٦ ، الخزانة ٣ / ٤١٨ ، اللسان (بغم) ١٢ / ٥١.

٣٢٦

بهذه البلدة ، لأنها فلاة لا أنيس بها.

وفيه وجه آخر : أن يكون" قليل" بمعنى النفي ، فيكون بمعنى ما بها أصوات إلا بغامها ، وهو استثناء وبدل صحيح ، كما تقول : أقل رجل يقول ذاك إلا زيد.

ومعنى قوله : " فألقت بلدة" ، أي : صدرا ، يعني : الناقة فوق بلدة : فوق أرض. وأراد بالبغام : صوت الناقة.

وأنشد للبيد :

* وإذا أقرضت قرضا فاجزه

إنما يجزي الفتى غير الجمل (١)

" فغير" نعت" للفتى" وجاز ذلك لأن تعريف" الفتى" جنس ، فهو مضارع للنكرة.

والمعنى : من لا يجزي فهو بمنزلة البهيمة التي لا تعقل ولا تجزي محسنا إليها بإحسانه ، ومن يجزي فليس مثل البهائم.

وأنشد أيضا :

* لو كان غيري سليمى اليوم غيره

وقع الحوادث إلا الصارم الذكر (٢)

ف" إلا" وما بعدها نعت لغير.

وقائل هذا الشعر كأنه نابته شدة فصبر لها ولم تضعفه ولا غيرته فقال : لو كان غيري ـ يا سليمى ـ في هذه الشدة لضعضعته وغيرته إلا أن يكون غيري ـ الذي يقع في هذه الشدة الصارم الذكر ـ فإنه مثلي لا تغيره هذه الشدة التي هي وقع الحوادث. وتقريبه : لو كان غيري المخالف للصارم الذكر لغيره وقع الحوادث.

وقوله : " لا يجوز أن تقول : ما أتاني إلا زيد وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة مثل" إلى قوله : " أجمعون".

يريد أن" إلا" وما بعدها لا تقام مقام الموصوف كما يقال" مثل" و" غير" لأن الأحرف لا تتمكن في الوصف كما أن" أجمعين" لا يكون إلا نعتا للأسماء المذكورة قبله ، ولا يقام مقام المنعوت لأنه وضع للتوكيد خاصة.

وأنشد :

* وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان (٣)

__________________

(١) ديوان لبيد ١٧٩ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٠ ، المقتضب ٤ / ٤١٠ ، مجالس ثعلب ٢ / ٤٤٧ ، شرح النحاس ٢٤٧ ، شرح السيرافي ٤ / ١١٨ ، شرح الرماني (٤٠٧ ، ٤٠٤) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٤٠ ، دلائل الإعجاز ٣٥٣ ، الخزانة ٩ / ٢٩٦ ، المقاصد النحوية ٤ / ١٧٦.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٠ ، شرح النحاس ٢٤٨ ، شرح السيرافي (٤ / ١١٨ ، ١٢١) ، شرح الرماني (٤٠٨ ، ٤٠٤) شرح ابن السيرافي ٢ / ٤٤ ، مغني اللبيب ١ / ١٠٠ ، شرح شواهد المغني ١ / ٢١٨.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧١ ، الكامل ٤ / ٧٦ ، المقتضب ٤ / ٤٠٩ ، شرح النحاس ٢٤٨ ، شرح ـ

٣٢٧

فنعت كلا" بإلا" وما بعدها ، ولو نعت" الأخ" المخفوض بكل لقال إلا الفرقدين ، والتقدير : كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه ـ وهذا الشعر الجاهلي لا يقول بالبعث ولا بفناء الأشياء. ويجوز أن يكون أراد : لا يتفرقان ما دامت الدنيا.

وروي أنه لعمرو بن معدي كرب ، وقيل هو لسوار بن المضرب.

قوله : ولا يجوز رفع زيد على" إلا أن يكون"

كأن قائلا اعتقد أن زيدا في قولك : ما قام أحد إلا زيد يرتفع بمعنى : إلا أن يكون زيد فأنكر سيبويه ذلك لأن" أن" مع ما بعدها موصولة ، وحذف الموصول أو حذف بعض صلته غير جائز.

هذا باب ما يتقدم فيه المستثنى

كلام سيبويه واحتجاجه في هذا الباب بين.

واعلم أن المستثنى بعد" إلا" إذا تقدم على شيء من نعت المستثنى منه ، فإن سيبويه ذكر فيه البدل والاستثناء ، وقدم البدل كقولك : (ما أتاني أحد إلا أبوك خير من زيد) وحجته أن المبدل منه إنما هو الاسم الأول وقد تقدم ، والنعت فضلة في الكلام يأتي بعد تمام الاسم الإخبار عنه.

واختار المازني الاستثناء ، وحجته أن المبدل منه في تقدير الملغي فإذا قدر المتكلم ملغي فما حاجتك إلى نعته؟ فوجب بذكر المتكلم نعت المستثنى منه بعد أن ألغى المنعوت ، وقدره محذوفا ساقطا أن ينصب ما بعد إلا لأنه استثناء مقدم قبل النعت الذي لم يلغه.

وذهب المبرد إلى اختيار البدل وحكاه عن سيبويه.

قوله : " من لي إلا أبوك صديقا".

قدره المبرد على أن من مبتدأة ، وأبوك خبره ، ومثله بقولك ما زيد إلا أخوك ، وصديقا : حال.

وقول سيبويه : " لأنك أخليت من للأب يدل على خلاف تقدير المبرد لأن معنى : أخليت من الأب ، أي : أبدلت الأب منه ، فعلى هذا يكون" من مبتدأ ، " ولي" خبره ، وأبوك :بدل من" من" كأنه قال : ما لي أحد إلا أبوك ، وتقدير المبرد لا يصح.

وأنشد سيبويه لكعب بن مالك :

__________________

ـ السيرافي (٤ / ١١٩ ، ١٢٢) ، المؤتلف والمختلف ٨٥ ، شرح الرماني (٤٠٥ ، ٤٠٦ ، ٤٠٧) شرح ابن السيرافي ٢ / ٤٦ ، فرحة الأديب ٢٠٠ ، الإنصاف ١ / ٢٦٨ ، الجنى الداني ٥١٩ ، الاستغناء (٣٣٥ ، ٣٣٦ ، ٣٤٤) ، شرح المفصل ٢ / ٨٩ ، شرح شواهد المغني ١ / ٢١٦ ، الهمع ١ / ٢٢٩ ، حاشية الصبان ١ / ١٥٧ ، الخزانة ٣ / ٤٢١.

٣٢٨

* الناس ألب علينا فيك ليس لنا

إلا السيوف وأطراف القنا وزر (١)

فنصب" السيوف" على الاستثناء المقدم. والألب : المجتمعون المتعاونون والوزر : الملجأ والمعتصم.

وأنشد للكلحبة اليربوعي :

* أمرتكم أمري بمنقطع اللوى

ولا أمر للمعصي إلا مضيعا (٢)

اللوى : مستدق الرمل حيث ينقطع. ونصب مضيعا على وجهين : أجودهما : الحال.

وحرف الاستثناء قد يدخل بين الحال وصاحبها كقولك : (ما قدم زيد إلا ضاحكا) ، والعامل فيه اللام. كأنه كان في الأصل للمعصي أمر مضيعا وهو حال من نكرة ثم دخل حرف النفي على أمر ، ودخلت إلا بين الحال وبين ما قبلها.

والوجه الآخر : أنه نصب على الاستثناء بعد النفي ، والوجه البدل من موضع" لا" كما أن الرفع على البدل من موضع لا في : لا إله إلا الله أقوى من النصب بالاستثناء.

هذا باب ما يكون فيه المستثنى الثاني بالخيار

وذلك قولك : ما لي إلا زيدا صديق وعمرا وعمرو

نصب عمرو بالعطف على زيد ، ورفعه على المعنى لأنه إذا قال : ما لي إلا زيدا صديق فكأنه قال : زيد صديق ولي عمرو ، ولو قدم عمرا على صديق لم يجز إلا النصب لأنه استثناء مقدم.

هذا باب تثنية المستثنى

وذلك قولك : ما أتاني إلا زيد إلا عمرا

اعلم أن الاسمين المستثنيين وإن اختلف إعرابهما ، فهما مشتركان في معنى الاستثناء ، وإنما رفع أحدهما ونصب الآخر على ما يوجبه تصحيح اللفظ.

فإذا قلت : ما أتاني إلا زيد إلا عمرا ، فلا بد من رفع أحد الاسمين لئلا يخلو الفعل من فاعل ، فإذا رفعت أحدهما لم يجز رفع الآخر ، لأن المرفوع بعد" إلا" إنما يرفع على وجهين :

إما : أن يرفع إذا فرغ له الفعل الذي قبل إلا. وإما : أن يجعل بدلا من المرفوع الذي قبله فإذا قلت : ما جاءني إلا زيد إلا عمرا فليس في عمرو وجه من وجهي الرفع ، لأن الفعل

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧١ ، الكامل ٢ / ٩٠ ، المقتضب ٤ / ٣٩٧ ، شرح النحاس ٢٥٠ ، شرح السيرافي ٤ / ١٢٤ ، شرح الرماني (٤١٣ ، ٤١١) شرح ابن السيرافي ٢ / ١٧٥.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ٣٧٢ / ١ (للكلحبة) ، نوادر أبي زيد ١٥٣ ، أنساب الخيل ٤٨ ، المفضليات ٣١ ، شرح النحاس ٢٥٠ ، شرح السيرافي ٤ / ١٢٥ ، ١٢٧ ، شرح الرماني ٤١٢ ، ٤١٤ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٥٦ ، فرحة الأديب ١١٩ ، الخزانة ٣ / ٣٨٥.

٣٢٩

قد ارتفع به" زيد" ولا يجوز أن يبدل من" زيد" لأنه ليس به ولا ببعضه ولا يشتمل عليه ، فوجب النصب بالاستثناء ، وثبت للاسمين الإتيان الذي نفي عن غيرهما.

ومما يدل على أنهما مستثنيان جميعا ، أن لو أخرت المستثنى منه وقدمتهما ، نصبتهما كقولك : (ما لي إلا عمرا إلا بشرا أحد).

واحتج سيبويه لهذا بقول الكميت :

* فما لي إلا الله لا رب غيره

وما لي إلا الله غيرك ناصر (١)

فنفى كل ناصر سوى الله عز وجل وسوى هذا المخاطب ، ونصبهما بالاستثناء المقدم.

قال : " وأما قوله وهو حارثة بن بدر الغداني :

* يا كعب صبرا على ما كان من حدث

يا كعب لم يبق منا غير أجلاد

إلا بقيات أنفاس نحشرجها

كراحل رائح أو باكر غادي (٢)

ويروى غير أجساد ـ فغير فاعله بقوله لم يبق ، وليست باستثناء مقدم ، ولذلك قدرها سيبويه تقدير مثل و" إلا باقيات" بدل منها ، ولو نصبت بقيات على الاستثناء المقدم لجاز.

وأنشد للفرزدق :

* ما بالمدينة دار غير واحدة

دار الخليفة إلا دار مروانا (٣)

في هذه أربعة أوجه :

أحدها : رفع (غير واحدة) ورفع (دار مروان)

والثاني : رفع (غير) ونصب (دار مروان)

والثالث : نصب (غير) ورفع (دار مروان)

والرابع : نصبهما جميعا.

فإذا رفعا ، ففي رفعهما وجهان :

أحدهما : أن ترفع (غير واحدة) على النعت لدار ، فيكون معناها : بالمدينة دار جامعة دورا و (دار مروان) بدل من دار المنفية.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٢ ، المقتضب ١ / ٤٢٤ ، شرح النحاس ٢٥١ ، شرح السيرافي (٤ / ١٣٠ ، ١٣٢) شرح الرماني (٤١٨ ، ٤٢١) الاستغناء (١٨٨ ، ١٨٩) ، شرح المفصل ٢ / ٩٣.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ٣٧٣ ، شرح النحاس ٢٥١ ، ابن السيرافي ٤ / ١٣١ ، شرح الرماني (٤١٩ ، ٤٢٢) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٧٣.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٣ الكتاب ٢ / ٣٤٠ ، المقتضب ٤ / ٤٢٥ ، شرح النحاس ٢٥١ ، شرح السيرافي ٤ / ١٣١ ، شرح الرماني (٤١٩ ، ٤٢٢) ، الاستغناء (١٤٢ ، ١٩٠).

٣٣٠

والوجه الثاني : في رفعهما : أن تجعل (غير واحدة) استثناء ، كأنه قال : (وما بالمدينة إلا دار واحدة) ، كأنه لم يعد دور المدينة دورا استصغارا لها ، وتقديره : ما بالمدينة إلا دار واحدة ، هي دار الخليفة ، ثم يبدل (دار مروان) منها ، لأن داره هي دار الخليفة ، فيكون بمنزلة قولك : (ما أتاني إلا زيد إلا أبو عبد الله) إذا كان أبو عبد الله هو زيد.

فإذا رفع أحدهما ونصب الآخر ، فهما مستثنيان بمنزلة قولك : (ما أتاني أحد إلا زيدا وعمرو ، وإلا زيد إلا عمرا).

وإذا نصبا جميعا فعلى الاستثناء ، لأن الكلام قد تم بقوله : ما بالمدينة دار ، كما تقول : (ما أتاني أحد إلا زيدا إلا عمرا) ، فتستثنيها جميعا.

وأنشد سيبويه :

* ما لك من شخصك إلا عمله

إلا رسيمه وإلا رمله (١)

استشهد بهذا على قولك : (ما أتاني إلا زيد إلا أبو عبد الله) فأبو عبد الله : زيدا ، وهو بدل منه ، فعلى هذا يكون" الرسيم" و" الرمل" بدلا من" العمل" لأنهما : العمل ويجوز أن يكون على بدل البعض من الكل ، لأن الرسيم و" الرمل" بعض"" العمل" والرسيم والرمل : ضربان من المشي يستعملان في الطوف والسعي ، فالرمل في الطواف والرسيم في السعي بين الصفا والمروة

هذا باب ما يكون مبتدأ بعد إلا

وذلك قولك : ما مررت بأحد إلا زيد خير منه

فقولك : زيد خير منه : جملة في موضع النعت لأحد ، وإلا معترضة بينهما كاعتراضها بين الحال وصاحبها في ما تقدم.

قال : " ومثل ذلك قول العرب : والله لأفعلن كذا وكذا إلا حل ذلك أن أفعل كذا وكذا".

" حلّ" : مبتدأ وأن : خبره ، وإلا في موضع لكن ، وإنما دخلت بمعنى لكن لأن ما بعدها مخالف لما قبلها ، وذلك أن قوله : (والله لأفعلن كذا) عقد يمين عقده على نفسه ، وحله : إبطاله ونقضه ، كأنه قال : علي فعل كذا معقود ، ولكن بطلان العقد كذا ، وهذا مذهب" لكن" ومعناه.

قوله : " والله لا أفعل إلا أن تفعل"

تقديره : لا أفعل إلا بعد فعلك ، وإلا مع فعلك.

فأن وما بعدها منصوبة على الظرف ، وتقديرها تقدير مصدر وضع مع ظرف زمان.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٤ ، شرح النحاس ٢٠٢ ، شرح السيرافي ٤ / ١٣٥ ، شرح الرماني (٤٢٠ ، ٤٢٣) الهمع ١ / ٢٢٧ ، حاشية الصبان ٢ / ١٥١ ، المقاصد النحوية ٤ / ١١٧.

٣٣١

هذا باب غير

قد تقدم أن أصل الاستثناء" إلا" وهو الحرف الموضوع له وحملت" غير" عليه لمخالفتها ما أضيفت إليه كما خالف ما بعد" إلا" ما قبلها ، الا أن" غير" من أجل أنها اسم أعربت بإعراب الاسم الذي بعد إلا ومن أجل أن" إلا" حرف لا يقع عليه عامل ، تخطي عمل ما قبلها إلى الاسم الذي بعدها فعمل فيه.

وبينّ سيبويه أن" غير" لا تكون بمنزلة" إلا" في الاستثناء في كل موضع.

فمن ذلك : (ما أتاني أحد إلا زيد خير منه) ، ولا يجوز : (ما أتاني أحد غير زيد خير منه) وذلك لوجهين :

ـ أحدهما : أن" غير" إنما تكون بمعنى" إلا" ، إذا كان بعد" إلا" اسم تصح الإضافة إليه" بغير" لأن" غير" ليست تخالف سوى الاسم الذي أضيفت إليه.

ـ والوجه الثاني : أن" إلا" يقع بعدها فعل وفاعل كقولك : ما أتاني أحد إلا يضحك ، ولا يجوز : غير يضحك ، ولا يجوز : غير يضحك ، فلا تصح إضافة" غير" إلى المبتدأ والخبر كما لا تصح إضافته إلى الفعل.

وبين سيبويه أن" غير" تجزئ من الاستثناء وإن لم تكن للاستثناء ليقوى الاستثناء بها في الموضع الذي جعلت فيه بمنزلة" إلا" وذلك قولك : أتاني غير عمرو ، " فغير" فاعل أتاني ، ولا يكون بمعنى" إلا" ، لأنك تقول : أتاني إلا عمرو ، وقد أغني عن الاستثناء ، لأن الذي يفهم به ، أن عمرا ما أتاك فخرج عمرو عن الإتيان كخروجه بالاستثناء إذا قلت : أتاني كل آت إلا عمرا.

وقد يستقيم في حقيقة اللفظ أن يكون عمرو أتاه ، وذلك أن قوله : " أتاني غير عمرو ظاهر اللفظ أن غير عمرو أتاه ، وليس في إتيان غير عمرو نفي لإتيان عمرو.

ولو قال قائل : ما أتاني غير زيد ، ولم يرد به الاستثناء ، كان حقيقة الكلام أن غير زيد ما أتاه ، وزيد مسكوت عنه ، يجوز أن يكون قد أتى ، وأن يكون لم يأت غير أن العادة جرت بأن يراد بمثل هذا الكلام ، أن زيدا داخل في الفعل الذي خرج عنه غيره ، وخارج عن الفعل الذي دخل فيه غيره.

واعلم أن سيبويه يقدر" غير" إذا لم يكن فيها معنى الاستثناء" بمثل" لأنها نقيضتها ولا تستعمل إلا مضافة كما تستعمل" مثل" وهي صفة.

هذا باب ما أجري على موضع غير

لا على ما بعد غير

رد سيبويه اعتبار" غير" إلى" إلا" ، لأنها أصل الاستثناء وأدخل" إلا" على ما بعد غير الاسمين ، حتى أدى صحة معنى الاستثناء فيهما فقال في قوله : " ما أتاني غير زيد وعمرو" :

٣٣٢

كأنك قلت : ما أتاني إلا زيد وعمرو وجميع الباب مفهوم.

هذا باب يحذف المستثنى فيه استخفافا

وذلك قولك : ليس غير وليس إلا

اعلم أن هذا الحذف ، لا يستعمل إلا بعد ليس ، ولو كان مكان ليس غيرها من ألفاظ الجحد لم يجز الحذف ، لا تقول : (لم يكن إلا) ، و (لم يكن غير).

قال الأخفش : إذا أضفت" غير" جاز فيه الرفع والنصب ،

ـ فأما من نصب فقال : جاءني زيد ليس غيره ، فإنه يضمر الاسم فكأنه قال : ليس الجائي غيره أو ليس الآمر غيره.

ـ وأما من رفع : فإنه يضمر الخبر المنصوب كأنه قال : ليس غير هذا صحيحا ، أو نحو هذا مما يكون خبرا له. فإذا لم تضف" غير" ، فإن الأخفش أجاز فتحها وضمها على نية الإضافة وشبهها" بيا" (تيم تيم عدي) ، وزعم أن" تيم" الأول قد حذف منه المضاف إليه وبقي على لفظ ما هو مضاف غير منون.

ـ وذكر الأخفش أن بعضهم ينون" غير" لأنه في اللفظ غير مضاف

وأنشد سيبويه محتجّا للحذف ، للنابغة :

* كأنك من جمال بني أقيش

يقعقع بين رجليه بشنّ

يريد كأنك جمل.

قال الزجاج : خص بني أقيش لأنه يقال هم من الجن ، فجمالهم بها هوج.

والشن : القربة البالية. والقعقعة : صوت الجلد البالي.

وأنشد أيضا :

* لو قلت ما في قومها لم تيثم

يفضلها في حسب وميسم

أي : ما في قومها أحد يفضلها. وكسر التاء من تيثم ، وكسرها لغة وبعدها ألف فانقلبت بانكسار ما قبلها.

وأنشد لابن مقبل :

* وما الدهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (١)

أراد : فمنهما : تارة أموت فيها. ومعنى أكدح : أسعى وأجهد ، وكثيرا ما يأتي الحذف مع" من" لأنها تدل على التبعيض وأقل أجزاء العدد واحد. وقد جاء في القرآن : وإن من أهل

__________________

(١) ديوانه ٢٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٦ ، معاني القرآن ٢ / ٣٢٣ ، المقتضب ٢ / ١٣٨ ، الكامل ٣ / ١٧٩ ، إعراب القرآن ١ / ٣٠٦ ، شرح النحاس (٨٥ ، ٢٥٤).

٣٣٣

الكتاب إلا ليؤمنن به وجاء الحذف مع في ، وليس مثل" من" في الكثرة.

وأنشد أيضا للعجاج :

* بعد اللّتيّا واللّتيّا والتي

إذا علتها أنفس تردّت (١)

فحذف صلة هذه الموصولات ، وأراد شدة الأمر وعظمه ، فكأنه قال بعد الحال التي تناهت شدتها وعظمت بليّتها ، وهذا احتجاج من سيبويه في حذف الاسم بعد إلا.

وقوله : إذا علتها أنفس صلة لما قبلها لا محالة ، وإنما يعني بعد مراكب من الهول والشدة إذا ركبتها تردت أي : هلكت. فيجوز أن تكون صلة أخراها وصلة الأوليين محذوفة ويجوز أن يكون جعلها كشيء واحد ، لأنها في مذهب واحد ، فجعل الصلة لها كلها. ويجوز أن يكون تصغير اللتيا ـ لما كان دلالة على الشدة والجهد ـ عرف معناه فأغنى عن الصلة.

ومن كلامهم أن يصغروا الأمر الجليل وهم يريدون تعظيمه كما قال :

دويهة تصفرّ منها الأنامل.

هذا باب" لا يكون" و" ليس" وما أشبههما

ذكر سيبويه في هذا الباب : " عدا" و" خلا" و" مثلهما"" يجاوز" وأبعد الاستثناء بجاوز.

فإن قال قائل : لم لم يستثن بها كما استثنى" بعدا" و" خلا" و" جاوز" أبين وأجلى في المعنى ، وإليه رد سيبويه" عدا" و" خلا" حين مثلهما؟

فالجواب : أن اللفظين قد يجتمعان في معنى ، ثم يختص أحدهما بموضع لا يشاركه فيه الآخر كالعمر والعمر في البقاء ، ثم يختص العمر باليمين وله نظائر كثيرة. ومن أجل هذا لم يجز في الاستثناء : " لم يكن" و" ما كان" في موضع" ليس" و" لا يكون".

وقد قيل : إن عداني الشيء ، يقال في ما قرب منك وكاد يقع بك" وجاوز" قد تقع في ما تباعد وفي ما قرب ، تقول : جاوزنا الغيم ولا يقال : عدانا الغيم ، لتباعده عنا. وقدر سيبويه" ما عدا" و" ما خلا" بالمصدر كأنه قال مجاوزتهم.

إن قيل : على أي شيء انتصب هذا المصدر؟

فالجواب : أنه كالمصدر الذي يوضع موضع الحال في قولك : (رجع عوده على بدئه) ، كأنه قال : أتاني القوم مجاوزين زيدا وخالين من زيد.

فأما : إلا أن يكون فإن الاستثناء" بإلا" والمستثنى" أن" مع" يكون" وهما في تقدير المصدر. فإذا قلت : أتوني إلا أن يكون زيد فتقديره في اللفظ : إلا كون زيد ، ومعناه : إلا

__________________

(١) ديوان العجاج (٦) ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٦ ، نوادر أبي زيد ١٢٢ ، شرح النحاس ٢٥٤ ، المقتضب ٢ / ٢٨٩ ، شرح السيرافي ٤ / ١٤٥.

٣٣٤

زيدا ، ومن نصب زيدا ، فعلى معنى : إلا أن يكون بعضهم زيدا ، كما أضمر في" ليس" و" لا يكون" ومعنى ذلك كله : إلا زيدا.

واعلم أن" حاشى" عند سيبويه حرف جر ، معناه الاستثناء ، ولا يجيز النصب بها وخالفه غيره فجعلها حرفا وفعلا.

وحجة سيبويه ، أن العرب لم تصلها" بما" ، كما وصلت" خلا"" عدا" لأنها حرف ، و" ما" إنما توصل بالفعل ، ولو كانت" حاشى" فعلا لم يمتنع من ذلك.

وحجة من خالفه : أن الفعل قد تصرف منها كقولهم : حاشى يحاشى.

ولقائل أن يقول : هذا الفعل المتصرف أخذ من لفظ" حاشي" الذي هو حرف للاستثناء ، ومنزلته من" حاشى" الذي هو حرف ، " كمنزلة" هلّل" وحوقل من : " لا إله إلا الله" ، و" لا حول ولا قوة إلا بالله"

فقد صرف الفعل بما ليس بفعل. ومما احتج به المبرد في أنها فعل كقولهم : (حاشَ لِلَّهِ*) وزعم أنها لو كانت حرفا ، لم تدخل عليها اللام وهي حرف.

وقال الزجاج حاشى لله في معنى براءة الله ، وهي مشتقة من قولك : كنت في حشى فلان ، أي : في ناحية فلان وحاشيته.

فإذا قال : حاشى لزيد فمعناه : قد تنحى زيد من هذا وتباعد منه.

وعلى طريقة الزجاج قال بعض النحويين : " حاشى" في معنى المصدر.

قال : ويقال حاشى لله وحاشى الله كما يقال : براءة الله وبراءة لله فإن قيل : لم لم ينون إذا جعل مصدرا؟

فالجواب : أنه مبني مثل" بله" وجعله سيبويه مصدرا وهو مبني.

هذا باب علامة المضمرين وما يجوز فيهن كلهن

اعلم أن المضمر إنما دخل في الكلام خوفا من اللبس واحتراسا منه ، ومن النحويين من يسميه : " المكني" ، وذلك أن الأسماء الظاهرة ، كثيرة الاشتراك والالتباس ، وليس لها أحوال تقترن بها ، تدل على المختص منها إذا التبست ، وإنما تدل على اختصاص المختص منها ـ في كثير من أحواله ـ الصفات كقولنا : (مررت بزيد البزاز) ، وبهذا الرجل ، وبرجل ظريف.

والمضمرات تستغني عن ذلك بالأحوال المقترنة بها ، المغنية عن صفاتها ، والأحوال المقترنة بها : حضور المتكلم والمخاطب ، والمشاهد لهما ، وتقدم ذكر الغائب الذي يصير بمنزلة الحاضر المشاهد في الحكم.

واعلم أن ضمير المتكلم جعل له لفظ ينفرد به ، لا يشارك فيه غيره ، كما لا يشاركه غيره في لفظه وعبارته عن نفسه إذا كان لا يجوز كلام واحد من متكلمين ، ولا لفظ من لفظين.

٣٣٥

ومن أجل ذلك استوفى لفظ المتكلم المذكر والمؤنث ، لأن الفصل يحتاج إليه لئلا يتوهم غير المقصود في موضع المقصود.

وتثنية المتكلم وجمعه على لفظ واحد ، وذلك أن المثنى هو شيئان متساويان في اللفظ ، ضم أحدهما إلى الآخر كزيد وزيد ورجل ورجل ، فيقال : زيدان ورجلان ، والمجموع هو جماعة متساوو اللفظ ، ضم بعضهم إلى بعض كقولك : زيد وزيد وزيد فيقال : زيدون ، والمتكلم لا يشاركه متكلم آخر في خطاب واحد ، فيكون اللفظ لهما ، فتبطل تثنيته وجمعه على منهاج التثنية والجمع ، ولكنه لما كان قد يتكلم عن نفسه وحدها ، ويتكلم عن نفسه وغيره مخالفا اللفظ الذي له وحده ، استوى أن يكون غيره المضموم إليه واحدا أو اثنين أو جماعة ، فيقول : أنا خارج ، ونحن خارجان ونحن خارجون.

وأما المخاطب والغائب فجريا على القياس في التذكير والتأنيث والتثنية والجمع لمخالفتهما حكم المتكلم.

واعلم أن جملة الضمير تجري مجرى حروف المعاني التي تستعمل في الأشياء المختلفة ، وهي حروف قليلة محصورة في ما لا يحصى من الأسماء والأفعال كحروف الخفض والنصب والجزم وحروف العطف والاستفهام وما جرى مجراهن. وكذلك الضمائر : هي ضمائر أشياء مختلفة بألفاظ قليلة محصورة تتكرر على كل المضمرات ، فلما كانت كذلك قللت حروفها ، فجعل ما كان منها متصلا على حرف ، إلا أن يكون هاء فيزاد عليه حرف آخر لخفائه ، كالتاء في : قمت ، والكاف في : ضربتك. وإذا كان منفصلا جعل على حرفين أو أكثر ، لأنه لا يمكن إفراد كلمة على حرف واحد مفرد عن غيره. وهذه سبيل حروف المعاني ، منها ما هو على حرف واحد متصل ، ومنها ما هو على أكثر من حرف. ومن أجل أن المتصل أقل حروفا من المنفصل ، كان النطق به أخف ، فلم يستعملوا المنفصل في موضع المتصل إلا في الضرورة.

وهو الذي ضمنه سيبويه الباب حين قال : " لا يقع أنت موضع التاء في فعلت" وما أشبه ذلك مما ذكر.

فإن قال قائل : لم تغيرت حروف المضمرات وصيغتها في الرفع والنصب.

ومن سبيل الأسماء الظاهرة أن لا تتغير حروفها وصيغها كقولك : هذا زيد ورأيت زيدا ومررت بزيد؟

قيل له : لما كانت الضمائر واقعة مواقع الأسماء المعربة المختلفة الإعراب وهي مبنية ، جعلوا العوض من الإعراب ـ الدال على المعاني المختلفة ـ تغيير صيغة المضمرات ليدل على مثل ما دل عليه الإعراب فاعرف ذلك.

٣٣٦

هذا باب استعمالهم علامة الإضمار

الذي لا يقع موقع ما يضمر في الفعل إذا لم يقع موقعه

فمن ذلك قولهم : كيف أنت؟ وأين هو؟

وقال الشاعر :

* فكأنها هي بعد غبّ كلالها

أو أسفع الخدين شاة إران (١)

هي : خبر كأنها. يصف ناقة أنها بعد كلالها وتعبها كأنها نفسها قبل الكلال في النشاط والقوة ، أو كأن أسفع الخدين يعني : ثورا وحشيا ، وهو يسمى شاة ، وكذلك البقرة الوحشية تسمى شاة ونعجة.

وإران : نشاط ، يقال : أرن يأرن أرنا ، والاسم الإران. وشاة : بدل من أسفع. هذا تفسير بعضهم ، وقال قوم هي كناية عن سفينة ذكرت قبل هذا البيت في القصيدة ، وهي للبيد ، وشبه الناقة بها في السرعة.

وأنشد لعمرو بن معدي كرب :

* قد علمت سلمى وجاراتها

ما قطّر الفارس إلّا أنا (٢)

فوقعت الكناية بعد حرف الاستثناء ، فكانت منفصلة إذ لا سبيل إلى المتصلة هنا.

ومعنى قطّر : صرعه على أحد قطريه أي جانبيه. واعلم أن قولهم : " ها أنا ذا" و" ها أنت ذا" إنما يقال إذا طلب رجل ولم يدر أحاضر هو أم غائب ، فيقول المطلوب : ها أنا ذا ، أي : الحاضر عندك أنا ، ويقول القائل : أين من يقوم بالأمر؟ فيقال له : أنت ذا أي : أنت الحاضر في الموضع الذي التمست فيه من التمست.

وأكثر ما يأتي في كلام العرب" هذا" بتقديم" ها" والفصل بينهما وبين" ذا" بالضمير المنفصل.

وأنشد :

* ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا

فقلت لها هذا لها وذا ليا (٣)

استشهد به محتجّا للفصل بين هذا في قولك : ها أنا ذا ، وكذلك فصل هنا بينهما بالواو

__________________

(١) ديوانه ١٤٣ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٨ ، شرح النحاس ٢٥٥ ، شرح السيرافي ٤ / ١٦٣ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٤٢.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٩ ، شرح النحاس ٢٥٥ ، شرح السيرافي ٤ / ١٦٣ ، ١٦٦ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٩٩ ، فرحة الأديب ١٣٥.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٧٩ ، المقتضب ٢ / ٣٢٣ ، إعراب القرآن ١ / ٢١١ ، برواية النكت ، شرح النحاس ٢٥٦.

٣٣٧

وتقديره : وهذا لي.

هذا باب علامة المضمرين المنصوبين

هذه الضمائر المنصوبة المتصلة التي ذكرها سيبويه ، لا يجوز استعمال" أيا" مكانها ، وإنما يستعمل" أيا" في الموضع الذي لا يقع فيه المتصل ، وقد تقدم ذكر هذا.

والباب مفهوم إن شاء الله.

هذا باب استعمالهم" أيا" إذا لم تقع مواقع الحروف التي ذكرنا

فمن ذلك قولهم : إياك رأيت وإياك أعني

وأنشد :

* مبرّأ من عيوب النّاس كلّهم

فالله يرعى أبا حرب وإيّانا (١)

فأتى بالضمير المنفصل إذ لم يقدر على المتصل.

وأنشد لآخر :

* لعمرك ما خشيت على عديّ

سيوف بني مقيّدة الحمار

ولكني خشيت على عديّ

سيوف القوم أو إيّاك حار (٢)

فأتى" بإياك" لأنه لا يقدر على الكاف.

واعلم أنك إذا قلت : (عجبت من ضربيك) ، فالاختيار أن تقول : من ضربي إياك ، وذلك أن الضرب اسم ولا تستحكم فيه علامة الإضمار إذا كانت علامة ضمير المرفوع ولا يتصل به ، وإنما يتصل به ضمير المجرور الذي تشاركه فيه الأسماء التي ليس فيها معنى فعل ، نحو غلامي ، غلامك وغلامه أيضا ، فإن الضمير المضاف إليه الضرب ، مجرور يحل محل التنوين في ضرب ، ومتى نون ضرب لم يله إلا المنفصل ، كقولك : عجبت من ضرب إياك ، وما أشبهه ، وإنما جاز عجبت من ضربيك تشبيها بضربتك حين اتصل به التاء والكاف ، وهما ضميرا فاعل ومفعول ، وهو في الفعل قوي لاستحكام علامات الإضمار في الفعل.

واختار النحويون انفصال ضمير كان وأخواتها لعلل ثلاث :

منها أن كان وأخواتها أفعال دخلن على المبتدأ وخبره ، وخبرها قد يكون فعلا ، وجملة ، وظرفا غير متمكن ، فلما كانت هذه الأشياء لا يجوز إضمارها ، ولا تكون إلا منفصلة

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٠ ، شرح النحاس ٢٥٧ ، شرح السيرافي ٤ / ١٧٣ ، شرح المفصل ٣ / ٧٥ ، الهمع ١ / ٦٣.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٠ ، شرح النحاس ٢٥٧ ، شرح السيرافي ٤ / ١٧٣ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٩٨.

٣٣٨

من الفعل ، اختير في الخبر الذي يمكن اضماره ـ إذا أضمر ـ أن يكون على منهاج ما لا يضمر في الأخبار في الخروج عن الفعل.

ـ ومنها أن الاسم والخبر كل واحد منهما منفصل من الآخر غير مختلط به ، فإذا اجتمع الضميران في الفعل ، كقولك : كنتك وإن زيدا كأنه ، لم ينفصل الخبر من الاسم واختلط به.

ـ ومنها أنا وصلنا ضمير الخبر بضمير الاسم ، فقلنا كنتك أو كأنك زيد ، فالفاعل والمفعول في هذه الأفعال كشيء (١) واحد لأنهما اسم وخبر ، فإما أن يكون أحدهما هو الآخر ، أو يكون مشبها به مجعولا بمنزلته ، وفعل الفاعل لا يتعدى إلى نفسه متصلا ، ويتعدى إلى نفسه منفصلا في الأفعال المؤثرة لا يجوز ضربتني ، ويجوز إياي ضربت. وأنشد (٢) :

* ليت هذا اللّيل شهر

لا نرى فيه عريبا

ليس إيّاي وإيّا

ك ولا نخشى رقيبا (٣)

ففصل الضمير من" ليس" ومعنى" ليس" ههنا الاستثناء ، ويجوز أن تكون نعتا لعريب ومعنى عريب : أحد.

هذا باب الإضمار في ما جرى مجرى الفعل وذلك إن ولعل ورويد وعليك (٤)

جملة ما في هذا الباب على ثلاثة أضرب في الاتصال والانفصال :

ـ فأقوى الثلاثة في الاتصال : إن وأخواتها لأنهن أجرين مجرى الفعل (٥) في أكثر أحوالها ، فوجب فيها ما وجب في المفعولات بالأفعال من الضمير المتصل

وبعدها في القوة : رويد وذلك أن رويد وضع موضع أرود ، ولم يؤت بمصدره المحض

__________________

(١) في الأصل : لشيء وصوابه من شرح السيرافي ..

(٢) نسبها الأعلم إلى عمر بن أبي ربيعة ، وهما في ديوانه ـ ونسبها إلى العرجي في الخزانة نقلا عن الأغاني والصحاح ـ والعرجي : هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان من أشهر بني أمية ، وكان من الفرسان مات تحت التعذيب. الشعر والشعراء ٢ / ٥٧٤ ، جمهرة الأنساب ٨٥ ـ الخزانة ١ / ٩٩.

(٣) ديوان عمر ٤٣١ وبه إياها بدل إياك ، الكتاب وشرح الأعلم ٣٨١ ، المقتضب ٣ / ٩٨ ، شرح النحاس ٢٥٨ ـ مثل رواية الديوان ، شرح السيرافي ٤ / ١٧٩ ، المنصف ٣ / ٦٢ ، شرح المفصل ٣ / ٧٥ ـ ١٠٧ ، الهمع ١ / ٦٤ ، الخزانة ٥ / ٣٢٢ قال الأعلم : الشاهد في إتيانه بالضمير بعد ليس منفصلا لوقوعه موقع خبرها والخبر منفصل من المخبر عنه ، فكان الاختيار فصل الضمير إذا وقع موقعه واتصاله بليس جائز لأنها فعل ، وإن لم تقو قوة الفعل الصحيح ونقل البغدادي هذا الكلام في الخزانة.

(٤) الكتاب ١ / ٣٨٢ وبه وذلك لعل وليت وأخواتها ورويدك ورويد وعليك وهلم وما أشبه ذلك شرح السيرافي ٤ / ١٨٦.

(٥) قال السيرافي : لأنهن أجرين مجرى الفعل الماضي في فتح الآخر ٤ / ١٨٧.

٣٣٩

كما قالوا : تراكها ومناعها (١) لأنهما وضعا موضع : اتركها وامنعها ، وهما أقوى من تركا ومنعا ، وذلك رويد في قيامه مقام الفعل أقوى من أرود.

ـ وبعدهما" عليك" وهي أقوى في الفصل : يجوز" عليكه" وعليك إياه وإنما جاز انفصال الضمير لأنه بالإضافة إلى الكاف قد أشبه المصدر المضاف نحو : ضربتك إياي ، وضربكني.

وباقي الباب مستغني عن التفسير.

هذا باب ما يجوز في الشعر من إيا" ولا يجوز في الكلام

من ذلك قول حميد الأرقط :

* إليك حتى بلغت إياكا (٢)

هذا عند سيبويه ضرورة.

وكان الزجاج يقول : أراد بلغتك إياك وهذا لا يخرجه من الضرورة ، لأنه إن أراد الكاف وحذفها ، فهو ضرورة ، ولو أخرجه هذا التقدير عن الضرورة لجاز : ضربت إياك على تقديره.

وأنشد سيبويه لبعض اللصوص :

* كأنا يوم قرّي إنّما نقتل إيّانا

هذا أقل ضرورة ، وذلك لأنه لا يمكنه أن يأتي بالضمير المتصل فيقول نقتلنا ، لأنه لا يتعدى فعله إلى ضميره ، وكان حقه أن يقول : " أنفسنا" فجعل" إيانا" مكان" أنفسنا" لاشتراكها في الانفصال.

وكان الزجاج يقول : هو محمول على : ما نقتل إلا إيانا ، لأن في" إنما" : تقليل ونفي.

وهذا التقدير لا يخرجه عن الضرورة ، لأنك لو قلت : إنما نخدمك لتحسن إلينا ، لم يجز إنما نخدم إياك إلا في الضرورة.

هذا باب علامة إضمار المجرور

اعلم أن المجرور لا يتقدم على عامله ولا يفصل بينهما. ومن أجل ذلك لم يكن ضمير إلا متصلا بعامله ، فإن عرض أن يعطفه على المجرور ، أو يبدل منه في الاستثناء اقتضى حرف الجر بعد حرف العطف وحرف الاستثناء على ما بين سيبويه في الباب.

__________________

(١) قطعتان من بيتين : تراكها من إبل تراكها ومناعها من إبل مناعها : سيأتي عنهما وتخريجهما ص ١٠٧٤.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٨٣ ، شرح النحاس ٢٥٨ ، شرح السيرافي ٤ / ١٨٨ ، الخصائص ١ / ٣٠٧ ، ٢ / ١٩٤ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ٢٢١ ، الإنصاف ٢ / ٦٩٩.

٣٤٠