النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

هذا باب يحرك فيه الحرف الذي يلي

المحذوف لأنه لا يلقى ساكنان

وهو قولك في رجل اسمه راد : يا راد أقبل

جملة هذا أنه إذا كان آخر الاسم الذي على أكثر من ثلاثة أحرف مشددا ، كان ترخيمه بحذف الحرف الآخر منه ، فإذا حذف بقي الحرف المدغم الأول ساكنا فإن كان قبله ساكن فلا بد من تحريكه ، فإن كان أصله التحريك حرك بالحركة التي هي أصله ، وإن كان قبله متحرك ترك على سكونه لأنه لا ضرورة تدعو إلى تحريكه.

قال : وأما" أسحار" فإنك إذا حذفت الراء الأخيرة لم يكن لك بد من تحريك الراء الساكنة لأنه لا يلقي ساكنان فحركتها بالفتح لأنها تلي الألف وقبل الألف الفتحة ، فحركت الراء بحركة أقرب المتحركات إليها إذا كانوا قد حركوا الراء بالفتح في قولهم : " لم يضار" وبين الراء والألف حرف ساكن. وقوى سيبويه تحريكه بالفتح ـ لقربه من الألف والفتحة التي قبل الألف ـ بأن العرب تقول في : " انطلق ولم يلد" إذا سكنوا اللام : " انطلق ولم يلد" ، فحركوا آخر الفعلين بحركة أقرب المتحركات إليه.

وأنشد عن الخليل لرجل من أزد السراة :

* ألا رب مولود وليس له أب

وذي ولد لم يلده أبوان (١)

أراد : لم يلده ، فسكن اللام على لغة من قال في" فخد" : " فخد" ثم حرك الدال لسكونها وسكون اللام وخصها بالفتح إتباعا للفتحة قبلها. وقوله : (مولد ليس له أب) يعني : عيسى عليه السلام. وقوله : (وذي ولد) يعني : آدم عليه السّلام.

هذا باب الترخيم في الأسماء التي كل اسم

منها من اسمين جعلا اسما واحدا بمنزلة عنتريس وحلكوك.

اعلم أن الاسمين إذا جعلا اسما واحدا ، فحكم الاسم الثاني منهما كحكم هاء التأنيث في كثير مما يلحق الأسماء ، وذلك أنك إذا صغرته تصغر الصدر وتفتح آخره كما تفعل بما فيه هاء التأنيث ، وإذا نسبت إليه تحذف الاسم الآخر كما تحذف هاء التأنيث ، والاسم الثاني لا يغير بنية الاسم الأول. كما أن الهاء لا يتغير ما دخلت عليه.

ومعنى قول سيبويه : فهي في الموضع الذي يحذف منه ما يثبت في الإضافة ، أجدر أن تحذف إذا أردت أن ترخم.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٤١ ، الكامل ٣ / ١٧٥ ، شرح النحاس ٣٣٢ ، شرح السيرافي ٣ / ٧٧ ، الخصائص ١ / ٣٣٣ ، شرح المفصل ٩ / ١٢٦ ، الجنى الداني ٤٤٠ ، أوضح المسالك ٢ / ١٤٥ ، مغني اللبيب ١ / ١٨١ ، شرح شواهد المغني ١ / ٣٩٨.

٣٠١

يريد أنك لما كنت تحذف في الإضافة ـ وهي النسبة ـ الاسم الثاني إذا قلت" معدي" ، وكان الاسم في الترخيم أولى بالحذف إذ كنت تحذف في الترخيم ما لا يحذف في النسبة كقولك : " جعفري" ، وتقول في ترخيمه : " يا جعف".

هذا باب ما رخمت الشعراء في غير النداء اضطرارا

قال الراجز :

* وقد وسطت مالكا وحنظلا (١)

فرخم حنظلة ، ومعنى وسطت : صرت وسطهم ، أي موضع شرفهم وحميمهم.

وأنشد لابن أحمر :

* أبو حنش يؤرفنا وطلق

وعباد وآونة أثالا

قال سيبويه : يريد أثالة

والمبرد يذهب إلى أن موضعه نصب حملا على الضمير في يؤرقنا ، وسيبويه يحمله على الأسماء المرفوعة في لغة من قال : يا حار.

وآونة : جمع أوان ، ويؤرقنا : يسهدنا. يذكر أصحابا له هلكوا فأسهد ذكرهم.

وبعض النحويين يجعل" أثال" غير مرخم ويزعم أن ليس في أسماء العرب ولا في أسماء المواضع" أثالة" وقد عرف من كلامهم" أثال" وهو جبل ، وقد يتسمى به وجعل صاحب هذا القول نصبه بإضمار فعل ناصب لا يخرج من معنى الرافع كأنه قال : ولنذكر أثالا وآونة ، لأن يؤرقنا : فيه معنى التذكر. وهذا كنحو تأويل سيبويه في المعنى لا في اللفظ لأن سيبويه جعل" أثالة" من مات أو قتل فأرقهم تذكره.

وأنشد لجرير :

* ألا أضحت حبالكم رماما

وأضحت منك شاسعة أماما

يشق بها العساقل مؤجدات

وكل عرندس ينفي اللّغاما

وزعم المبرد أن عمارة أقرأه :

وما عهد كعهدك يا أماما

فهذا لا ضرورة فيه.

وأما إنشاد سيبويه : فزعم المبرد أنه لا وجه له.

وقوله : رماما أي : أخلافا واحدها رمة. والشاسعة : البعيدة. والمؤجدات القوية المحكمة الخلق. والعرندس : الجمل الشديد ، واللغام : ما يطرحه من فمه من الزبد.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ٣٤٢ / ١ ، مجالس ثعلب ٢٥٤.

٣٠٢

وأنشد لزهير :

* خذوا حظّكم يا آل عكرم واذكروا

أواصرنا والرحم بالغيب تذكر (١)

يريد : " عكرمة". والأواصر : العواطف.

وأنشد لابن حبناء التميمي :

* إن ابن حارث إن أشثق لرؤيته

أو أمتدحه فإن الناس قد عملوا

يريد : " حارثة".

قال : وأما قول الأسود بن يعفر :

* أودى ابن جلهم عبّاد بصرمته

إن ابن جلهم أمسى حية الوادي (٢)

فإنما أراد أمه جلهم ، والعرب يسمون المرأة جلهم والرجل جلهمة فأراد سيبويه أن هذا ليس بترخيم

قال الزجاج : إن كان أراد أباه ، فقد رخم ، وإن كان أراد أمه فلم يرخم.

الصرمة : القطيعة من الإبل ـ من الثلاثين إلى الأربعين. وأراد : أمسى مثل حية الوادي يخاف منه كما يخاف من الحية.

وأنشد لرجل من بني يشكر :

* لها أشارير من لحم تتمره

من الثعالي ووخز من أرانيها

يريد بالثعالي : الثعالب ، وبالأراني : الأرانب ، ثم اضطر إلى" الياء" فأبدلها مكان" الباء" ، لأن" الياء" تسكن في موضع الحركة ، و" الباء" لا يجوز فيها ذلك.

والأشارير : القطع من الغدير المشرر وهو الميبس ، وكذلك المتمر بالتاء نقطتين ، وواحدها أشرارة. والوخز : القطع والطعن ، وأراد به ما تقطع من الأرنب ،

وأنشد في مثل هذا :

* ومنهل ليس له حوازق

ولضفاضي جمّه نقانق (٣)

أراد : ولضفادع ، فأبدل الياء من العين لأنها تسكن في حال الجر والعين لا يجوز فيها ذلك.

__________________

(١) ديوان جرير ١٥٩ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٤٣ ، شرح النحاس ٢٣٧ ، شرح السيرافي ٣ / ٨٠ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٦٢ ، شرح عيون الكتاب ١٧١ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٤٥ ، الإنصاف ١ / ٣٤٧ ، شرح المفصل ٢ / ٢٠.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٤٣ ، شرح النحاس ٢٣٨ ، شرح السيرافي ٢ / ٨٠ ، الإنصاف ١ / ٣٥٢.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٤٤ ، المقتضب ١ / ٢٤٧ ، شرح النحاس ٢٣٩ ، شرح السيرافي ٣ / ٨٠ ، المسائل البغداديات ١٦١ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٣١ ، ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٧٩ ، شرح المفصل (١٠ / ٢٤ ، ٢٨) ، حاشية الصبان ٤ / ٣٣٧.

٣٠٣

والحوازق : جماعات الناس ، واحدها حزيقة ، وكأنه بناها على" فاعلة" وجمعها على" فواعل" وواحد النقانق : نقنقة وهو الصوت.

وقال ابن السكيت : زعم الأصمعي أن هذا الرجز لخلف.

والحوازق : شواخص تشخص في البئر نبتا عن جرابها ، وجرابها : جدارها.

وكان المبرد يزعم أن الترخيم في غير النداء ـ في الشعر ـ لا يجوز إلا على لغة من قال : " يا حار".

وسيبويه يجيزه على الوجهين ، ومما يدل على صحة قوله مع القياس قول الشاعر :

* أيا عرو لا تبعد فكل ابن حرة

سيدعوه داعي موته فيجيب

ففتح واو عرو ولا يمكن أحدا أن يتأول فيه أنه لا ينصرف ، لأنه كنية وليس بقبيلة.

وكلامه في باقي الباب مفهوم.

باب النفي بلا

اعلم أن قولك : لا رجل في الدار ، جواب : هل من رجل في الدار؟ وذلك أنه إخبار ، وكل إخبار يصح أن يكون جواب مسألة ، ولما كان : لا رجل في الدار ، نفيا عامّا ، كانت المسألة عنه مسألة عامة ، ولا يتحقق لها العموم إلا بإدخال من لأنها تدخل على واحد منكور في معنى الجنس ، ولا تدخل على معروف.

ولو قال في مسألته : هل رجل في الدار؟ ، جاز أن يكون سائلا عن رجل واحد كما تقول : هل عبد الله في الدار؟.

وسبيل الاستفهام سبيل الجحد ، فلما كان لا رجل في الدار ، جواب هل من رجل في الدار؟ " وهل من رجل" مغير عن" هل رجل"؟ بإدخال عامل عليه يخرجه إلى تحقيق عموم المسألة ، جعل الجواب مغيرا عن الابتداء ، ليدل على عموم النفي ، فلم يبق بعد الرفع إلا النصب والخفض ، فعدلوا عن الخفض ، لأن الباب في حروف الخفض ، أن لا تأتي مبتدأة ، وإنما تأتي في صلة شيء كقولك : (أخذت من زيد ومضيت إلى عمرو) ، أو زائدة بعد شيء كقولك : هل من رجل في الدار؟. وما من رجل في الدار. ولما نصبوا بها لم تعمل إلا في نكرة ، على سبيل حرف الخفض الذي في المسألة ، ولم يفصلوا بينها وبين ما عملت فيه ، كما لم يفصل بين" من" وبين" ما" بعدها ، وجعلت وما نصبته بمنزلة شيء واحد نحو : " خمسة عشر" ودلوا على جعلها كذلك بحذف التنوين مما بعدها ، ولم يقولوا في الجواب : لا من رجل ، لأن التغيير الذي يكون من" من" يصلح" بلا" ، فاكتفوا بتأثير لا في الاسم الذي بعدها عن إدخال" من" على ما عملت فيه.

وذكر سيبويه أن موضع" لا" وما عملت فيه في موضع اسم مبتدأ في لغة بني تميم ،

٣٠٤

واستدل على ذلك بقول العرب من أهل الحجاز : " لا رجل أفضل منك".

ومعنى استدلاله بهذا : أن بني تميم كأنهم يقولون : " لا رجل" ، ويسكتون عن إظهار الخبر ، فاحتج بلغة أهل الحجاز ، لأنهم يظهرون الخبر.

وذكر مبرمان عن المبرد أنه زعم أن" لا" تعمل نصبا ورفعا ، كما تعمل" أن" وقد يجوز في" لا أحد أفضل منك" أن يكون رفعا" بلا" ويجوز أن يكون رفعا بخبر الابتداء ، لأن" لا" وما بعدها في موضع النداء.

هذا باب المنفي المضاف بلام الإضافة

اعلم أنه إذا كان بعد الاسم المنفي لام الإضافة ففي الاسم الأول وجهان :

أحدهما : أن يبني الاسم الأول مع" لا" وتكون اللام في موضع النعت للاسم ، أو في موضع الخبر ، وهذا هو الأصل والقياس ، كقولك : لا غلام لك ، ولا أب لزيد.

والوجه الآخر : أن يكون لفظ الاسم الأول ، كلفظ الاسم المضاف ، و" لا" عاملة فيه غير مبنية معه ، كقولك : لا أبا لزيد ولا أخا لك.

فعلم بثبات الألف في" أبا" و" أخا" أنهما مضافان ، إذا كانت هذه الألف لا تثبت إلا في الإضافة ، وزيادة اللام شاذة ولا تزاد إلا في" لا" والنداء كقولك :

* يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام

وأخرجه سيبويه عن القياس ، وذكر الأشياء الشاذة ليؤنس بشذوذه ، وأصل هذا عنده ، أن الإضافة كما لا تعرف إضافة" مثل" إلى" زيد" في قولك : لا مثل زيد ، فالأصل عنده في لا أبا لك : لا أباك.

وأنشد غيره :

* وقد مات شماخ ومات مزرد

وأي كريم لا أباك يخلد (١)

وقال الآخر :

* أبالموت الذي لا بد أني

ملاق ولا أباك تخوفيني؟

فأدخلوا اللام بين المضاف والمضاف إليه توكيدا لأن الإضافة بمعنى اللام ، كما أدخلوا" تيم" الثاني بين" تيم" الأول وبين" عدي" ، وكما ردوا الهاء في" طلحة" بعد الترخيم ، وزادوا اللام في : " يا بؤس للحرب".

وشبه باب النفي بباب النداء لما وقع فيهما من التغيير وحذف للتنوين.

ومعنى قوله سيبويه في الاحتجاج على يونس : " وقد يفرق بين الذي يحسن عليه

__________________

(١) الكتاب ١ / ٣٤٦.

٣٠٥

السكوت والذي لا يحسن في موضع غير هذا.

يعني مثل قولك : في الدار زيد قائم وقائما ، لأن الكلام يتم بقولك : في الدار ، ولا تقول : بعمرو زيد كفيلا.

وأنشد لنهار بن توسعة اليشكري في ما جعله خبرا :

* أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم (١)

فجعل" لي" خبر" لا" ولو أراد الإضافة وإقحام اللام لأثبت الألف في" أبا".

فإن قال قائل : ذكرتم أن قول القائل : لا أخا لك تقديره : لا أخاك واللام زائدة ، فإذا قيل : لا أخا لي وجعلت اللام زائدة ، بقى لا" أخاي" وليس في الكلام : رأيت أخاي؟.

فالجواب : أن الأصل أن يقال : رأيت أخي ، كما تقول : هذا فتي ، فاستثقلوا تشديد الياء ، فحذفوا لام الفعل ، وشبهوها بما حذف لامه نحو" يدي" و" دمي" ، فإذا فصلوا بينهما باللام رجع الحرف إلى أصله ونطق به على قياسه في : لا أخا لك ، وغيره. وأنشد سيبويه في ما عطف على المنصوب بلا :

* لا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأردا (٢)

فلا يجوز في الابن إلا التنوين ، لأن الواو قد فصلت بينه وبين الأب ، فلا يبنى معه.

وأنشد أيضا لرجل من بني سليم :

* لا نسب اليوم ولا خلة

اتسع الخرق على الراقع

فنون" خلة" لأنه عطفها على المنصوب بلا وجعل" لا" الثانية توكيدا ويجوز رفعها على الموضع.

هذا باب ما يثبت فيه التنوين من الأسماء المنفية

وذلك قولك : لا خيرا منه لك ، ولا حسنا وجهه لك.

قد تقدم أن الاسم المبني مع" لا" هو اسم مفرد منكور ، فإذا وقع بعدها اسم مضاف عملت فيه ولم تبن معه لئلا تجعل ثلاثة أشياء شيئا واحدا ، وليس ذلك في كلامهم. ويجري مجرى المضاف : الاسم الموصول بشيء هو من تمامه ، لأن الاسم مع تمامه بمنزلة المضاف والمضاف إليه كقولك : لا خيرا من زيد لك. ولا ضاربا زيدا ، لأن : " من زيد" : من تمام خير ، " وزيدا" مفعول ضارب ، وعلى هذا قال الخليل : " لا أمرا بالمعروف لك" لأن الباء مع

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٤٨ ، شرح السيرافي (٤ / ١٥ ، ٢٢) ، شرح المفصل ٢ / ١٠٤ ، همع الهوامع ١ / ١٤٥.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٤٩ ، المقتضب ٤ / ٣٧٢ ، شرح النحاس ٤٩ ، شرح السيرافي ٤ / ١٧ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٦٥.

٣٠٦

" معروف" في موضع نصب بآمر ، كقولك : أمرت بالمعروف ، فأنا آمر بالمعروف ، فالباء في اسم الفاعل مثلها في الفاعل كأنك قلت : لا آمرا معروفا كما تقول : أمرت الخير وأمرت بالخير ، فإن قلت : لا آمر بمعروف ، فإن الباء ليست في صلة آمر كأنك قلت : لا آمر ، وسكت وأضمرت خبره ، ثم جئت بالباء للتبيين ، كأنك قلت : أعني بمعروف كما تقول : " سقيا" ، ثم تجيء ب" لك" على معنى : أعني.

هذا باب وصف المبني

الذي يفسر من هذا الباب أن الاسم والصفة بنيا و" لا" قد دخلت عليهما وهي تبنى مع ما بعدها فتصير ثلاثة أشياء كشيء واحد في الظاهر؟.

فإن اعترض معترض بهذا فالجواب : أنهما بنيا ، لأن الموضع الذي وقعا فيه موضع تغيير وبناء شيء مع شيء غيره ، فإذا كان قد بني فيه الاسم مع حرف ، فبناء اسم مع اسم أولى ، لأن ذلك أكثر في الكلام" كخمسة عشر" ، و" جاري بيت بيت" فإذا أدخلت" لا" على الاسم والصفة وقد بنيا ، وكانت هي غير مبنية معهما ولكن تعمل في موضعهما عملها في موضع خمسة عشر ، ولا خيرا من زيد وما أشبهه.

هذا باب لا يكون فيه الوصف إلا منونا

وذلك قولك : لا رجل اليوم ظريفا ولا رجل فيها عاقلا

في كلام سيبويه في هذا الباب مع ما تقدم من الشرح ما يغني عن تفسيره إن شاء الله.

هذا باب لا تسقط فيه النون وإن وليت لك

وذلك قولك : لا غلامين ظريفين لك ولا مسلمين صالحين لك.

اعلم أن الذي منع إسقاط النون وبعدها" لك" أن النون إنما تسقط من النفي الذي يلي" لا" على نية الإضافة إلى ما بعد اللام ، فإذا قلت : غلامين ظريفين لك ، فلا بد من إثبات النون في غلامين لأنك فصلت بينهما وبين" لك" بظريفين ، ولا بد من إثباتها في" ظريفين" إذا لم يتصلا بحرف النفي ، وإنما يكون حذف النون في الاسم المنفي دون صفة.

هذا باب ما جرى على موضع المنفي

لا على الحرف الذي عمل في المنفي ، فمن ذلك قول ذي الرمة :

* بها العين والأرام لا عد عندها

ولا كرع إلا المغارات والربل (١)

" فالمغارات" : بدل من موضع المنصوب ب" لا" و" عندها" : خبر" لا" ، والمغارات :

__________________

(١) ديوان ذي الرمة ٤٥٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٢ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٣ ، أساس البلاغة (كرع) ٣٩٠.

٣٠٧

حيث يغور الماء. وقوله : ولا كرع معطوف على موضع" لا" ، والعد : الماء الكثير من ماء العيون. والكرع : ما يكرع فيه من ماء السماء. والربل : نبت يخرج في أصول ما يبس في الصيف. يصف فلاة.

وأنشد لرجل من مذحج :

* هذا لعمركم الصغار بعينه

لا أم لي إن كان ذاك ولا أب (١)

فعطف" الأب" على موضع" لا" وما عملت فيه.

قال : " وتقول" : " لا مثله رجل" إذا حملته على الموضع ... وإن شئت حملته على" لا" فنونته ونصبته.

يعني : أن رفع" الرجل" على البدل من موضع" لا" ، أو على عطف البيان ونصبه حملا على اللفظ. قال : " وإن شئت قلت : لا مثله رجلا على قوله : لي مثله غلاما".

يعني على التمييز.

وأنشد لذي الرمة :

* هي الدار إذ ميّ لأهلك جيرة

ليالي لا أمثالهن لياليا (٢)

فنصب" ليالي" على التمييز ، وفيه قبح لأن حق التمييز أن يكون واحدا. وقال بعضهم : ليس بتمييز وإنما هو مكرر للتوكيد والتفخيم.

قال المازني : يجوز أن يكون" ليالي" بدلا من" أمثالهن" ، والخبر في كل هذا محذوف.

وأنشد لامرئ القيس :

* ويلمها في هواء الجو طالبة

ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب (٣)

التقدير : ولا شيء كهذا. و" مطلوب" نعت محمول على الموضع.

يصف عقابا تطلب ذئبا تصيده ، فتعجب منها بقوله : ويلمها ، وجعل المطلوب لا شيء مثله في السرعة والهرب منها.

قال : وأما قول جرير.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٢ ، المقتضب ٤ / ٣٧١ ، شرح النحاس ٥١ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٣ ، المؤتلف ١٦١ ، المقتصد ٢ / ٨٠٤ ، شرح ملحة الإعراب ١٥٧ ، شرح المفصل ٢ / ١١٠ ، شرح شواهد المغني ٢ / ٩٢١ ، الهمع ٢ / ١٤٤ ، حاشية الصبان ٢ / ٩ ، الخزانة ٢ / ٣٨ (هذا وجدكم) ، المقاصد النحوية ٢ / ٣٣٩.

(٢) ديوانه ٦٥٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٢ ، المقتضب ٤ / ٣٦٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٥ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٨١ ، شرح المفصل ٢ / ١٠٣.

(٣) ديوانه ٤٧ ، الكتاب وشرح الأعلم (١ / ٣٥٣ ، ٢ / ٢٧٢).

٣٠٨

* لا كالعشية زائرا ومزورا (١)

فلا يكون إلا نصبا من قبل أن العشية ليست بالزائر

وتقديره : لا أرى زائرا مزورا كزائر العشية ومزورها ، كما قالوا : ما رأيت كاليوم رجلا رأيته أو أراه ، وإنما يقال ذلك عند التعجب ، ولو قال : " لا كالعشية عشية" ، جاز في" عشية" الرفع والنصب على الموضع وعلى اللفظ. وأجاز النصب أيضا على التمييز الذي مر ذكره في قوله :

* فهل في معد فوق ذلك مرفدا

كأنه قال : فهل عدد كثير فوق ذلك مرفدا ، وقد تقدم شرحه.

قال الزجاج : لا أعرف لقولهم : " ويلمه" نظيرا في كلام العرب إلا شيئا حكاه الفراء ، وهو" إيش عندك" ، يريد : أي شيء عندك فحذف.

هذا باب لا تغير فيه لا الأسماء عن حالها

التي كانت عليها قبل أن تدخل لا

ومن ذلك قول الراعي :

* وما صرمتك حتى قلت معلنة

لا ناقة لي في هذا ولا جمل (٢)

اعلم أن" لا" إذا عملت كانت على وجهين : أحدهما : أن تنصب ما بعدها وتبني معه إذا كان مفردا ، وإن كررتها وأردت إعمالها على هذا الوجه جاز.

والوجه الثاني : أن ترفع ما بعدها من النكرات وتنصب أخبارها ولا تعمل إلا في النكرة ولا يفصل بينها وبين ما عملت فيه ، وتكون محمولة على ليس في رفع الاسم ونصب الخبر ، وليس هذا بالكثير فيها. ولما جاز هذا منها ، لم تخرج عن حكمها في أقوى حاليها وهو نصب الاسم ورفع الخبر فلم يفصل بينها وبين ما عملت فيه ولم تعمل إلا في نكرة ، وعلى هذا المذهب جعل سيبويه قول سعد بن مالك :

* من صد عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح (٣)

__________________

(١) ديوان جرير ٢٩٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٣ ، المقتضب ٢ / ١٥٠ ، مجالس ثعلب ١ / ٢٦٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٦ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٥٦ ، شرح عيون الكتاب ١٧٤ ، شرح المفصل ٢ / ١١٤ ، الخزانة ٤ / ٩٥.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٤ ، شرح السيرافي ٤ / ٤١ ، شرح ملحة الإعراب ١٥٧ ، مجمع الأمثال (٢ / ٢٢٠).

(٣) الكتاب وشرح الأعلم (١ / ٢٨ ، ٣٥٤) ، المقتضب ٤ / ٣٦٠ ، شرح النحاس ٧٧ ، شرح السيرافي (٤ / ٤٢ ، ٤٦) شرح ابن السيرافي ٨٢ ، الإنصاف ١ / ٣٦٧ ، شرح المفصل ١ / ١٠٨ ، أوضح المسالك ١ / ٢٠٣ ، مغني اللبيب (١ / ٣١٥ ، ٢ / ٨٢٥) ، شرح شواهد المغني ٢ / ٦١٢ ، الهمع ١ / ١٢٥ ، حاشية الصبان ١ / ٢٥٤ ، الخزانة (١ / ٤٦٧ ، ٤ / ٣٩) المقاصد النحوية ٢ / ١٥٠.

٣٠٩

فبراح : اسم" لا" ، وخبرها محذوف كما يحذف وهي ناصبة.

واعلم أنه لا يجوز أن تقول : " لا زيد عندي" من غير تكرير" لا" وذلك أن قولك : " لا زيد عندي" إنما هو جواب من قال : أزيد عندك؟ فكان حق الجواب أن يقول المجيب : نعم ، إن كان عنده ، أو : لا إن لم يكن عنده. ولا يزيد شيئا على" لا" كما لا يزيد شيئا على" نعم". وإن كرر ، فهو جواب كلام لا يجوز في جوابه" لا" ولا" نعم" لأنه جواب قولك : أزيد عندك أو عمرو؟.

وأغلام عندك أم جارية؟ ، وهو سؤال موضوع على أن السائل قد علم أن أحدهما عنده ، وإنما يسأل عن تعيينه. فإن كان الأمر كما اعتقده السائل ، فالجواب أن يقول : زيد ، أو يقول : عمرو ، وأن تقول : غلام ، أو تقول : جارية. وإن لم يكن كما اعتقد السائل ولم يكن عنده واحد منهما ، قال : لا غلام عندي ولا جارية ، ولا زيد عندي ولا عمرو ، فلذلك خالف التكرير الإفراد.

وقد أجاز سيبويه الإفراد في الشعر وأنشد :

* بكت جزعا واسترجعت ثم آذنت

ركائبها أن لا إلينا رجوعها (١)

لأن المعنى الموجب منه لا يحتاج إلى تكرير. لو قال : " إنه إلينا رجوعها" ، لكان كلاما حسنا ، فدخلت" لا" لمعنى الجحد ، ولم تغير لفظ الموجب.

وأنشد :

* ورد جازرهم حرفا مصرمة

ولا كريم من الولدان مصبوح (٢)

رفع" مصبوحا" لأنه خبر" لا". والحرف : الناقة الضامر ، وقيل : هي العظيمة الخلق كحرف الجبل. والمصرمة : التي لا لبن لها. والمصبوح : الذي سقي صبوحا وهو شرب الغداة.

والمعنى : أنهم نحروا هذه الناقة للأضياف في شدة الزمان حيث لا يصبح الكريم من الولدان.

وأنشد أيضا :

* فرطن فلا رد لما بتّ فانقضى

ولكن بغوض أن يقال عديم (٣)

ذكر الشباب والقوة وغير ذلك ، فقال : فرطن ، أي ذهبن وتقدمن فلا رد لهن أي : فليس يرجعن ، ولكن بغوض أن يقال عدم شبابه.

و" بغوض" على تكثير الفعل مثل" ضروب" و" شروب" ، ويروى" بغيض" وهو اسم

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٥ ، المقتضب ٤ / ٣١٦.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٦ ، المقتضب ٤ / ٣٧٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٥ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٧٣ ، فرحة الأديب ١٢٦ ، المقتصد ٢ / ٨٠٣ ، شرح المفصل ١ / ١٠٤.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٥ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٤.

٣١٠

للذات دون تكثير الفعل ، ويروى" ولكن تعوض أن يقال عديم" أي : تعوض من شبابك حلما لئلا يقال عديم.

وأنشد :

* لا هيثم الليلة للمطي (١)

وأنشد لابن الزبير الأسدي :

* أرى الحاجات عند أبي خبيب

نكدن ولا أمية في البلاد (٢)

أبو خبيب : عبد الله بن الزبير ، وأراد بأمية : بني أمية ، وأعمل فيها" لا" وهي معرفة على تقدير" مثل" وكذلك عملت في هيثم ، وهو : اسم علم.

وفي قولهم : " قضية ولا أبا حسن" ، وهم يعنون علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

والمعنى الذي يذكر من هذا الكلام عند حضوره وكونه هو الذي يسوغ في التنكير ، وذلك أن هذا الكلام إنما يقال لإنسان كان يأمر بأمر من الأمور وله فيه كفاية وغناء ، فحضر ذلك الأمر ولم يوجد ذلك الإنسان ولا من يقوم به مثل قيامه ، ولو وجد من يقوم مقامه لم يطلب هو ، فصار التقدير : " لا مثل هيثم" ، و" لا مثل أبي الحسن" و" لا مثل أمية" ، ودخلت هذه الأسماء في المعنى كما يقول القائل لمن يخاطبه : مثلك لا يتكلم بهذا ، وإنما يريد : أنت وأمثالك لا يتكلمون به.

هذا باب لا يجوز فيه المعرفة إلا أن تحمل على

الموضع

فمن ذلك قولك : لا غلام لك ولا العباس

جملة ما في هذا الباب بين مفهوم إن شاء الله.

هذا باب ما إذا لحقته" لا" لم تغيره عن حاله

التي كان عليها قبل أن تلحق ...

وذلك قولك : لا مرحبا ولا أهلا ... ومثل ذلك : لا سلام عليك

قال جرير :

* ونبئت جوابا وسكنا يسبني

وعمرو بن عفرا لا سلام على عمرو (٣)

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٤ ، المقتضب ٤ / ٣٦٢ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٢ ، شرح المفصل (٢ / ١٠٢ ، ١٠٣) ، حاشية الصبان ٢ / ٤ ، الهمع ١ / ١٤٥ ، الخزانة ٤ / ٥٧.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٥ ، المقتضب ٤ / ٣٦٢ ، شرح السيرافي ٤ / ٤٣ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٦٩ ، مجمع الأمثال ١ / ١١٣ ، شرح المفصل ٢ / ١٠٢ ، الهمع ١ / ١٤٥.

(٣) ديوان جرير ٢٧٩.

٣١١

فرفع" سلاما" بالابتداء ، ولم يلزمه تكريره لأنه في المعنى بدل من الفعل ، كأنه قال : " لا سلام الله على عمرو" ، فكما لا يلزم تكرير" لا" مع الفعل كذلك لا يلزم تكريرها مع جعل بدلا من الفعل.

وقال المبرد : الأفعال وقعت موقع الأسماء النكرات التي تنصبها لا وتبنى معها فلما أن وقعت الأفعال في موضع النكرات لم يحتج إلى تكريرها ولم يجز أن تبنى مع" لا" لأنها ليست بأسماء.

ولو قدرتها تقدير : لا رجل في الدار ولا غلام لقلت : لا يقوم زيد ولا يقعد وصارت جوابا لقوله : أيقوم زيد أم يقعد؟.

والذي احتج به المبرد ، لا يصح على موضع أكثر النحويين لأنهم يقولون عوامل الأسماء لا تدخل على الأفعال. والصحيح أن" لا" الواقعة على الفعل لا يلزمها التكرير لأنها جواب يمين ، واليمين قد تقع على فعل واحد مجحود فلا يجب فيها تكرير" لا" كقولك : والله لا أخرج إلى البصرة.

ووجه آخر أيضا وهو أن" لا أفعل" نقيض" لأفعلن" ، فمن حيث لم يجب ضم فعل آخر إلى" لأفعلن" ، لم يجب ذلك في نقيضه.

قال : واعلم أن" لا" قد تكون بمنزلة اسم واحد هي والمضاف إليه كقولك : أخذته بلا ذنب وغضبت من لا شيء.

ومن هذا النحو قول الشاعر :

* تركتني حين لا مال أعيش به

وحين جن زمان الناس أو كلبا (١)

معنى كلب : اشتد ، ومن هذا قولهم : كلب كلب : للشديد الجرأة.

وقوله : " أخذته بغير ذنب" وكذلك : " جئت بغير شيء".

لا يراد به : جئت بشيء هو غير شيء ، وإنما يراد به جئت خاليا من شيء معك ، وهذا معنى قول سيبويه : " رائقا" ، لأن الرائق : الخالي ، واشتقاقة من راق الشراب ، أي : صفا ، كأنه جاء ولم يعلق به شيء سوى نفسه.

ومما أنشد أيضا :

* حنت قلوصي حين لا حين محن (٢)

" حين" منصوب ب" لا" ، كقولك : لا مثل زيد ، وخبره محذوف و" حين" الأول

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٧ ، الكتاب ٢ / ٣٠٣ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٣ ، الهمع ١ / ٢١٨ الخزانة ٤ / ٣٩.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٨. المقتضب ٤ / ٣٥٨ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٤ ، شرح عيون الكتاب ١٧٦ ، الخزانة ٤ / ٤٥.

٣١٢

مضاف إلى الجملة وتقديره : لا حين محن لنا ، و" لنا" : هو الخبر ويجوز خفضه بإضافة" حين" الأول إليه وزيادة" لا" على ما تقدم.

وأما قول جرير :

* ما بال جهلك بعد الحلم والدين

وقد علاك مشيب حين لا حين (١)

فحين الأول مضاف إلى الثاني ، وفصلت" لا" بينهما ، كفصلها في حيث بلا شيء ، كأنه قال : حين لا حين فيه لهو ولعب ، وهو قبل دخول" لا" حين حين فيه لهو ولعب.

وأنشد :

* أنت امرؤ منا خلقت لغيرنا

حياتك لا نفع وموتك فاجع (٢)

هذا ضعيف عند سيبويه ، لأنه لم يكرر" لا" على ما تقدم من حكم تكريرها.

وقال المبرد : لا أرى بأسا أن تقول لا رجل في الدار ، تجعله جواب قوله : هل رجل في الدار؟. وجائز أن يكون لرجل واحد وجائز أن يكون في موضع جمع.

وقوله : حياتك لا نفع ، من ذلك على غير ضرورة وكذلك : لا زيد في الدار ، جواب : هل زيد في الدار؟ جائز على غير ضرورة.

قوله بعد أن ذكر قول العرب : لا سواء : " وإنما دخلت لا هاهنا لأنها عاقبت ما ارتفع عليه" إلى قوله بعد ذكر" لا نولك أن تفعل .."

فدخل فيه ما دخل في ينبغي

اعلم أن قولهم : " لا سواء" ، إنما يتكلم بها المتكلم عند ادعاء مدع لاثنين جرى ذكرهما ، أن أحدهما مثل الآخر ، فيقول له المنكر لذلك : لا سواء ، أي : هما لا سواء ، أو هذان لا سواء ، على الابتداء والخبر ، ودخلت" لا" لمعنى الجحد على قول المدعي : هما سواء ، وهذان سواء واستجازوا حذف المبتدأ لأنهم جعلوا" لا" كافية من المبتدأ ، لكثرة الكلام عند رد بعضهم على بعض ادعاء التساوي في الشيئين.

وشبهه سيبويه بجعل" ها" عوضا من" واو" القسم في : ها الله ذا ، وعوض" ها" من الواو أوكد ، لأن المبتدأ المحذوف يجوز أن يؤتى به فيقال : هذان لا سواء ، ولا يجوز أن يؤتى بالواو مع" ها" لأنهم قد غيروا لفظ الكلام في الأصل وترتيبه ولو لم تدخل" لا" ، لم تقل : سواء وأنت تعني : هما سواء.

__________________

(١) ديوان جرير ٥٨٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٨ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٤ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٣٠ ، شرح عيون الكتاب ١٧٦ ، الهمع ١ / ١٩٧ ، الخزانة ٤ / ٤٧.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٨ ، المقتضب ٤ / ٣٦٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٥ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٢٠ ، شرح المفصل ٢ / ١١٢ ، الهمع ١ / ١٤٨ ، حاشية الصبان ٢ / ١٨.

٣١٣

وقولهم : " لا نولك أن تفعل" معناه : لا ينبغي لك أن تفعل ، وقد يوقع" نولك" على جميع الفعل ، كما أن" الأخذ" قد يستعمل في جميع الأفعال حتى يقال : فلان لا يأخذ ولا يترك إلا بأمر فلان. فلهذا صار نولك بمعنى الفعل لأن التناول بمنزلة الأخذ.

وذكر سيبويه أن" لا" إذا دخلت عليها ألف الاستفهام بمنزلتها قبل أن تدخل عليها.

وأنشد لحسان بن ثابت :

* ألا طعان إلا فرسان عادية

ألا تجشؤكم عند التنانير (١)

ويروى : " تجشؤكم" بالنصب وهو استثناء ليس من الأول ورفعه على البدل من موضع الطعان والفرسان ويروى : " غادية" بالغين معجمة ، والأجود : عادية لأن العادية ، تكون بالغداة وغيرها ، وغادية بالغين جيدة لأن الغد والبكور عند العرب : التقدم في الوقت مع أن الغارات أكثر ما تكون بالغدو. قال : " ومثله قولهم : أفلا قماص بالبعير" هذا يضرب مثلا للرجل المعيي الذي لا حراك به.

وذكر سيبويه أن" لا" إذا كانت للتمني ، فهي بمنزلة" لا" في العمل في النكرة وحذف التنوين.

ثم قال : وسألت الخليل عن قوله :

* ألا رجلا جزاه الله خيرا

يدل على محصلة تبيت (٢)

فزعم أن رجلا منصوب بإضمار فعل ، كأنه قال : ألا ترونني رجلا ، وفيه معنى التمني ، وهذا قول حسن ، لأنه حذف لعلم السامع ، المعنى دال عليه.

وزعم يونس : أنه نون مضطرّا.

المحصلة : التي تحصل الذهب فتميزه من تراب المعدن ، وأراد ذهبا ، تبيت للزنا أو غيره والله أعلم.

هذا باب الاستثناء

هذا الباب ترجمة لأبواب تأتي بعده مفصلة إن شاء الله.

هذا باب الاستثناء بإلا

اعلم أن إلا ، أم حروف الاستثناء ، والاستثناء : هو إخراج الشيء مما دخل فيه هو

__________________

(١) ديوان حسان ٢١٥.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٥٩ ، نوادر أبي زيد ٥٦ ، شرح السيرافي ٤ / ٥٦ ، شرح المفصل (٧ / ٥ ، ٩ / ٨٠) ، الجنى الداني ٣٨٢ ، مغني اللبيب (١ / ٩٧ ، ٣٣٦ ، ٢ / ٧٨٣) ، شرح شواهد المغني (١ / ١٠٢ ، ٢ / ٦٤١) ، الهمع ١ / ٥٨ ، الخزانة ٣ / ٥١ ، المقاصد النحوية ٢ / ٣٦٦.

٣١٤

وغيره بلفظ شامل لهما ، وإدخاله في ما خرج عنه هو وغيره بلفظ شامل لهما.

وأفرد سيبويه هذا الباب بالاسم الذي تدخل عليه" إلا" فلا تغيره عما كان عليه كقولك : ما أتاني إلا زيد ، وما لقيت إلا زيدا ، وسماه استثناء.

ولقائل أن يقول : كيف جاز أن يستثني الشيء لا من شيء؟ فيقال له : هذا وإن حذف واعتمد ما قبل حرف الاستثناء على الاسم الذي بعده في العمل ، فلا يخرجه ذلك عن معنى الاستثناء ، كما أن المفعول إذا حذف فاعله وأقيم هو مقامه ، لم يخرجه ذلك من أن يكون مفعولا به ، إلا أنه رفع لاحتياج الفعل إلى لفظ الفاعل.

وكذلك لما حضر حرف الاستثناء الذي يثبت لما بعده ما ينفي عن كل شيء سواه ، علم أن المفعول أثبت لزيد وحده ونفي عن غيره وإن لم يذكر غيره. فإذا قلت : ما قام إلا زيد ، كان معناه كمعنى ما قام أحد إلا زيد ، فإذا حذفت أحدا استوى حذفه وإثباته في المعنى ، واحتيج إلى تصحيح اللفظ عند حذفه. وتصحيحه : ألا يعرى الفعل من فاعل وليس في الكلام فاعل سوى ما بعد" إلا" فجعل فاعله.

هذا باب ما يكون المستثنى فيه بدلا

مما نفي عنه ما أدخل فيه

ذكر سيبويه في النفي ما يكون له اسم ظاهر واسم مكنى متعلقان بعاملين مختلفين ، فجوز في بعضه البدل من أي الاسمين شئت ، ولم يجز في بعضه البدل إلا من أحد الاسمين ، فالذي فيه هو الذي كل واحد من عاملي الاسمين مجحود في المعنى.

والذي لم يجز فيه هو الذي : عامل أحد الاسمين مجحود ، وعامل الآخر غير مجحود فتبدل من الاسم الذي عامله مجحود دون الآخر.

وأنشد في ما كل واحد من عاملي الاسمين مجحود في المعنى.

* في ليلة لا نرى بها أحدا

يحكي علينا إلا كواكبها (١)

الشاهد فيه أنه أبدل" كواكبها" من الضمير في يحكي ، ونرى هنا : من رؤية القلب ، وكأنه قال : لا يحكي علينا أحد إلا كواكبها ، ولو كان في غير الشعر لجاز : " إلا كواكبها" بالنصب على البدل من" أحد" المنصوب ، ولكان الاختيار ، لأنه للفظ ولمعنى ، وأما البدل من الضمير في يحكي فهو للمعنى خاصة.

ومعنى يحكي علينا : أي يخبر عنا.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٠ ، المقتضب ٤ / ٤٠٢ ، شرح النحاس ٢٤٠ ، شرح السيرافي ٤ / ٦٩ ، ٧٥ ، شرح الرماني (٣٦٦ ، ٣٧٠) شرح ابن السيرافي ٢ / ١٧٦ ، الاستغناء في أحكام الاستثناء ١٨١ ، الهمع ١ / ٢٢٥ ، شرح شواهد المغني ١ / ٤١٧ ، الخزانة ٣ / ٣٤٨.

٣١٥

وجملة القول في ما أنت فيه بالخيار وفي ما لا خيار فيه ، أن كل ما وقع على ضمير الاسم المبتدأ المجحود ، وما وقع على المبتدأ والخبر من أقعال الظن والعلم لا يخرجه عن حكم الاسم الظاهر في المعنى فتكون فيه بالخيار : إن شئت أبدلت من الضمير ، كقولك : (ما أحد يقول ذاك إلا زيد) فزيد بدل من " أحد " ، وإن شئت من الضمير في " يقول " ، وكذلك : (ما ظنت أحداً يقول ذاك إلا زيد وإلا زيد) ، وأما الاختيار فيه : فقولك (ما ضربت أحداً يقول ذاك إلا زيدا) ، لا يكون فيه إلا النصب ، لأن الضرب هو المنفي في المعنى ، والقول ليس بمنفي ، فلم يجز البدل من الضمير المستمكن فيه لأنه موجب.

ومما قوى به سيبويه البدل من الاسمين في أفعال الظن والعلم في المنفي في أنك تقول : (ما رأيته يقول ذاك إلا زيد) ، و (ما أظنه يقوله إلا عمرو). وذلك أن الهاء ضمير الأمر والشأن ، و" رأيت" بمعنى علمت ، والاعتماد على ما بعد" رأيته" و" أظنه" ، فكأنه قال : ما يقول ذلك إلا زيد ، فهذا يدل على جواز البدل من الضمير الذي في" يقول" في قولك : ما ظننت أحدا يقول ذلك إلا زيد.

واعلم أنك إذا قلت : (أقل رجل يقول ذاك إلا زيد) ، فلا يصلح البدل من لفظه. لأنا إذا أبدلنا" زيدا" من" أقل رجل" طرحناه في التقدير ، فبقي : (يقول ذاك إلا زيد) ، وهذا لا يصلح ، ولكنا نرده إلى معناه حتى يصح البدل. و" أقل" ينصرف على معنيين :

أحدهما : النفي العام والآخر : ضد الكثرة. وتقديره إذا أريد به النفي العام :

ما رجل يقول ذاك إلا زيد. وإن أريد به الكثرة ، فتقديره : ما يقول ذاك كثير إلا زيد. ومعناهما يؤول إلى شيء واحد.

وقوله : " كذلك أقل من وقل من إذا جعلت من نكرة بمنزلة رجل لزمتها الصفة ، فإذا قلت : أقل من يقول ذاك ، صار يقول ذاك صفة لمن ، ويبقي أقل بلا خبر.

وإذا قلت : أقل رجل يقول ذاك ، " فرجل" غير محتاج إلى صفة ، ويقول ـ ذاك : خبر أقل ، " وزيد" : بدل من" أقل" كما ذكرناه ، وأقل من يقول ذاك ، لم يتم به الكلام ، وتمامه في قولك : " إلا زيد" فيصير بمنزلة : ما أخوك إلا زيد. وأما قل من يقول ذاك فهو كلام تام لأنه فعل وفاعل.

وحكى سيبويه عمن لم يسمه من النحويين ، أن المنفي إذا كان في لفظه الإيجاب جائزا ، لم يجز فيه البدل ، ولم يكن غير النصب كقولك : ما أتاني القوم إلا أباك ، لأنه يجوز أن تقول : أتاني القوم إلا أباك. ورد سيبويه على صاحب هذا المذهب بقوله عز وجل : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] فرفع" وفعلوه" يقع في الإيجاب.

والقياس أيضا يبطل هذا المذهب ، لأنا إذا قلنا : ما أتاني أحد فقد أحاط العلم أن القوم

٣١٦

وغيرهم قد دخلوا في النفي لاشتمال أحد عليهم ، فمن حيث جوزوا البدل من أحد ينبغي أن يجوزوه في القوم لأنهم بعض الآحدين.

وقال سيبويه محتجّا عليهم : " كان ينبغي ـ لمن قال ذلك ـ أن يقول : ما أتاني أحد إلا قد قال ذاك إلا زيد".

والصواب نصب زيد ، لأن المعنى : كلهم قالوا ذاك إلا زيدا وإنما ذكر هذا لأنه ألزم القائل ما ذكر من جواز : ما أتاني أحد إلا زيد ، ومنع : ما أتاني القوم إلا زيدا. بأن قال له : إن كان وجوب النصب لأن الذي قبل" إلا" جمع فقد قال الله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) [النور : ٦] فرفع بعد الجمع.

وإن كان جواز الرفع والبدل ، لأن الذي قبل" إلا" واحد ، فينبغي أن يجيز الرفع في قولهم : (ما أتاني أحد إلا (قد) قال ذاك إلا زيد).

والواجب فيه النصب. وإنما ألجأهم سيبويه إلى أن يقولوا إن الذي يوجب البدل أن يكون ما قبل إلا منفيّا فقط ، جمعا كان أو واحدا.

هذا باب ما حمل على موضع العامل

في الاسم والاسم لا على ما عمل في الاسم

قوله في هذا الباب : " ما علمت أن فيها إلا زيدا ، إنما جاز هذا لأنك تقول : ما علمت فيها زيدا ، وما علمت أن فيها زيدا بمعنى واحد. فمن حيث جاز ما علمت أن فيها إلا زيدا لأن أن للتوكيد والناصب لزيد في ما علمت فيها إلا زيدا : " علمت وفي ما علمت أن فيها إلا زيدا : " أن". ولو قلت : ما علمت أن إلا زيدا فيها لم يجز ، وذلك أن الاستثناء لا يجوز أن يكون في أول الكلام ، لا تقول : إلا زيدا قام القوم. وكذلك لا يجوز الاستثناء بعد حرف يدخل على جملة ويلي الحرف" إلا".

وأنشد في ما حمل على الموضع :

* يا ابني لبينى لستما بيد

إلّا يدا ليست لها عضد (١)

فبدل من موضع الباء وما عملت فيه. ويروى إلا يدا مخبولة العضد وهي التي بها وهن ، وهذا مثل ، أي : ليست بكما قوة إلا كقوة يد لا عضد لها ولا قوة.

قوله بعد أن ذكر : " إن أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا" وقبحه بضمير هذا ، يعني يصير أن أحدا لا يقول ذاك بمنزلة : أعلم أن أحدا يقول ذاك ، كما صار هذا يعني رأيت أحدا لا يقول

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٢ ، معاني القرآن ٢ / ١٠١ ، ٤١٦ ، المقتضب ٤ / ٤٢١ ، شرح النحاس ٢٤٠.

٣١٧

ذاك إلا زيدا ، بمنزلة ما رأيت ، حيث دخله معنى النفي.

وقوله : فليس هذا في القوة كقولك : لا أحد فيها إلا زيدا وأقل رجل رأيته إلا عمرو.

يعني ليس قولك : إن أحدا لا يقول ذاك في القوة كقولك : لا أحد و" أقل رجل" ، لأن هذا الموضع ، إنما ابتدئ مع معنى النفي.

يعني : لا أحد وأقل رجل ، وهذا موضع إيجاب ، يعني : أن أحدا لا يقول ذاك.

وقوله : " فجاز الاستثناء أن يكون بدلا من الابتداء".

يعني : فجاز في : لا أحد إلا زيد ، وأقل رجل رأيته إلا عمرو البدل من الابتداء ، لأن" أحدا" في موضع اسم مبتدأ.

وقوله : " لا يجوز أن يكون الاستثناء أولا لو لم تقل : أقل رجل ولا رجل.

يعني : لا تقول : إلا زيد أقل رجل رأيته ، ولا تقول : إلا زيد لا أحد في الدار ، لأنه لا بد من أن يتقدمه نفي ، فيجوز من أجله البدل.

وقوله : " وجاز أن يحمل على" إن" هاهنا".

يعني في قوله : إن أحدا لا يقول ذاك إلا زيدا ، فحمل" زيدا" في النصب على" أن" وجعل" إن" بمنزلة فعل منفي نصب زيدا بعد" إلا" كقولك : (ما رأيت أحدا يقول ذاك إلا زيدا).

هذا باب النصب في ما يكون المستثنى بدلا

وذلك قولك : " ما أتاني أحد إلا زيدا".

اختلف النحويون في الناصب للمستثنى في قولك : أتاني القوم إلا زيدا.

فأما الذي قال سيبويه فإنه يعمل فيه ما قبله من الكلام كما تعمل العشرون في ما بعدها إذا قلت : عشرون درهما.

وقال في باب غير : ولو جاز أن تقول : أتاني القوم زيدا تريد الاستثناء ولا تذكر" إلا" لما كان إلا نصبا.

وقال غيره : الذي يوجبه القياس والنظر الصحيح أن تنصب زيدا بالفعل الذي قبل" إلا" ، وذلك أن الفعل ينصب كلما تعلق به بعد ارتفاع الفاعل به على اختلاف وجوه المنصوبات ، فمن ذلك : المفعول به والمصدر والظرف والحال وكذلك المفعولات التي أخذت منها حروف الجر ، فوصل إليها الفعل ، ومنها التمييز بعد الفعل نحو : (تفقأت شحما). ومنها ما ينتصب بتوسط حرف بينه وبين العامل كقولك : ما صنعت وأباك؟. فلما كان" أتاني" قد ارتفع به فاعله وهم" القوم" ، وكان ما بعد" إلا" متعلقا به ، انتصب وعلق به ليعلم اختلاف حال القوم وحاله ، كما أن قولك : (رأيت زيدا إلا عمرا) ، قد تعلق حال زيد وعمرو برأيت على اختلاف أحوالهما في التعلق به.

٣١٨

وكان المبرد والزجاج يذهبان إلى أن المنصوب في الاستثناء ينتصب بتقدير : " استثنى" ، ويجعلان" إلا" نائبة عن" استثنى". وهذا غير صحيح لأنك تقول : أتاني القوم غير زيد فتنصب غيرا. ولا يجوز أن تقدر استثني غير زيد ، وليس قبل" غير" حرف تقيمه مقام الناصب له ، وإنما قبله فعل وفاعل ، ولا بد له ـ إن كان منصوبا ـ من ناصب ، فالفعل هو الناصب ، وناصب" غير" هو الناصب لما بعد" إلا".

قوله : ومثله في الانقطاع عن أوله : إن لفلان مالا إلا أنه شقي.

يعني" بالانقطاع من أوله" ، أنه ليس ببدل منه ، لأنه ذكر : " ما مررت بأحد إلا زيدا" وما بعده مما نصبه بالاستثناء ، ولم يحمله على ما قبل" إلا" من طريق البدل ، وكذلك لم يحمل" أنه شقي" على البدل مما قبله ، ولا سبيل إلى البدل فيه لأن ما قبل" إلا" موجب.

وقدر سيبويه هذا" بلكن" وحكمها ، أن يكون ما بعدها ضدّا لما قبلها.

فإن قال قائل : فكيف يكون هذا الحكم في المسألة؟

قيل له : إذ قال : " إن لفلان مالا" ، فقد أخبر أنه سعيد لملكه المال ، ثم استدرك ذلك بقوله : إلا أنه شقي ، كأنه قال : إلا أنه بخيل على نفسه ، شقي بترك الانتفاع بماله والتلذذ بإنفاقه.

هذا باب يختار فيه النصب لأن الآخر

ليس من نوع الأول وهو لغة أهل الحجاز

اعلم أن قولهم : ما فيها أحد إلا حمارا ونحوه مما يشتمل عليه الباب ، فأهل الحجاز ينصبونه لأنه ليس من نوع الأول ولم يبدلوه منه إذا كان من غير نوعه.

وأما بنو تميم ، فرفعوه على تأويلين ذكرهما سيبويه :

أحدهما : أنك أردت ما فيها إلا حمار ، وقولك : ما فيها حمار ، قد نفيت به الناس وغيرهم في المعنى ، ودخل في النفي من يعقل ومن لا يعقل ، ثم ذكرت" أحدا" توكيدا ، لأن يعلم أنه ليس بها آدمي.

والوجه الآخر : أن تجعل المستثنى من جنس ما قبله على المجاز كأن الحمار هو من أحد أناسي ذلك الموضع ، ومن عقلاء ذلك الموضع. وعلى هذا المجاز أنشد سيبويه الأبيات.

وقال المازني فيه وجه ثالث : وهو أنه خلط من يعقل بما لا يعقل ، فعبر عن جماعة ذلك بأحد ثم أبدل" حمارا" من لفظ مشتمل عليه وعلى غيره ، وعلى هذا قول الله عز وجل : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] لما خلط من يعقل بما لا يعقل في قوله : (كل دابة) ، خبر عنها كلها بلفظ من يعقل.

وأنشد سيبويه ـ محتجّا لمذهب بني تميم في البدل على المجاز ـ لأبي ذؤيب

٣١٩

* فإن تمس في قبر برهوة ثاويا

أنيسك أصداء القبور تصيح (١)

قال : فجعلها أنيسه والأصداء : جمع صدى ، وهو طائر تزعم العرب أنه يخرج من رأس القتيل إذا لم يدرك بثأره ، فلا يزال يصيح : اسقوني ، إلى أن يدرك بثأره.

وأنشد أيضا للنابغة الذبياني :

* يا دار مية بالعلياء فالسند

عيت جوابا وما بالربع من أحد

إلا الأواري لأيا ما أبينها

والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد (٢)

" فالأواري" و" النؤي" بدل من موضع أحد ، والنصب على الاستثناء أجود لانقطاعه من الأول. الأواري : محابس الخيل وهي من تأريت بالمكان إذا أقمت به.

والنؤي : حاجز حول الخيمة يحجز ماء السيل عنها. والمظلومة : التي مطرت في غير وقتها ، أو التي حفر فيها ولم يكن حقها أن يحفر فيها ، وأصل الظلم : وضع الشيء في غير موضعه.

قال : ومثل ذلك قوله :

* وبلدة ليس بها أنيس

إلا اليعافير وإلا العيس (٣)

يصف فلاة لا أنيس بها ، ثم جعل اليعافير والعيس أنيسها على المجاز ، فأبدلها مما قبلها ، ويجوز أن يكون بدلا على التقدير الثاني الذي تقدم ذكره في المسألة.

وأنشد للنابغة في مثل هذا :

* حلفت يمينا غير ذي مثنوية

ولا علم إلا حسن ظن بصاحب (٤)

النصب والرفع جائزان على ما تقدم.

قال المبرد : سألت المازني : هل تجيز لا إله إلا الله ، فأجازه على وجهين : على تمام الكلام لأنه أضمر لنا وللناس فنصبه بالاستثناء.

والوجه الآخر : أن تجعل" إلا" وصفا ، كأنه قال : لا إله غير الله ، وأضمر الخبر ، وجعل" إلا" وما بعدها في موضع" غير" ورفعه على البدل من موضع إله أحسن لأنه إيجاب بعد النفي والخبر أيضا محذوف.

__________________

(١) ديوان الهذليين ١ / ١١٦.

(٢) ديوانه ص ١٦ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٤ ، معاني القرآن ١ / ٢٨٧ ، المقتضب ٤ / ٤١٤ ، شرح النحاس ٢٤١ ، شرح السيرافي ٤ / ٩٥ ، شرح الرماني (٣٨٦ ، ٣٨١) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٥٤.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ١٣٣ ، ١ / ٣٦٥ ، معاني القرآن (١ / ٤٧٩ ، ٢ / ١٥ ، ٣ / ٢٧٣) ، المقتضب ٤ / ٤١٤ ، مجالس ثعلب ١ / ٢٧٦ ، شرح النحاس ٢٤٢ ، شرح السيرافي ٤ / ٩٦ ، المسائل البغداديات ٤٦٧ ، شرح الرماني (٣٨٧ ، ٣٨١) ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٤٠ ، الإنصاف (١ / ٢٧١ ، ٣٧٧) ، الجنى الداني ١٦٤.

(٤) ديوانه ٣ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٣٦٥ ، شرح النحاس ٢٤٢.

٣٢٠