النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

ونظرن من خلل الخدور بأعين

مرضى مخالطها السقام صحاح (١)

ثم قال : سمعنا من العرب من يرويه ، ويروي القصيدة التي فيها هذا البيت لم يلقنه أحد هكذا.

يعني : بخفض مخالطها ، يصف نساء ، وجعل عيونهن بمنزلة القسي في رميها بالنظر ، وأقام النظر : مقام السهام ، والأشفار : مقام الريش. والخلل : الفرج ـ وقوله : " مرضى" يعني أن فيها فتورا ، فكأنها مرضى ثم نفى عنها المرض بقوله : " صحاح".

واحتج سيبويه بقوله : " مخالطها" ، على من خالفه في الصفة المضافة وأنشد أيضا :

* حمين العراقيب العصا وتركنه

به نفس عال مخالطه بهر (٢)

فمخالطه ، صفة للنفس على معنى : مخالط له. وهذا أيضا حجة على من خالف سيبويه في الصفة المضافة ، يصف في البيت إبلا تتقدم الحادي لسرعتها ، وتبعد عنه فتحمي عراقيبها من عصاه وتتركه مسرعا على آثارها قد علا نفسه من الإعباء وخالطه البهر.

هذا باب ما جرى من الصفات على الأول

إذا كان لشيء من سببه

وذلك قولك : مررت برجل حسن أبوه وكريم أخوه

احتج سيبويه لهذه الصفات في جريها على الأول بأنها قد تقوم مقامه ، ويخبر عنها ، ألا ترى أنك لو قلت : ضربت قائما أبوه أو كان زيد قائما أبوه ، لكان الضرب واصلا إلى غير الأب ، كأنه قال : ضربت رجلا قائما أبوه ، فعلى هذا تقول : ضربت حسنا أبوه ، فحسن صفة للمضروب والمضروب غير الأب ، فقد جرى مجرى قولك : ضربت قائما وضربت حسنا وكان زيد قائما.

هذا باب : الرفع فيه وجه الكلام وهو قول العامة

وذلك قولك : مررت بسرج خز صفته ، ومررت برجل فضة حلية سيفه ، ومررت برجل طين خاتمه.

اعلم انك إذا أردت حقيقة هذه الأشياء ، فلا يجوز غير الرفع لأنها جواهر ، فلا يجوز أن ينعت بها ، وإن أردت المماثلة والحمل على المعاني جاز النعت ، فيكون معنى طين كمعنى :

__________________

(١) الكتاب ١ / ٢٢٧ ، الكتاب شرح النحاس ١٧١ ، شرح السيرافي ٣ / ٢٩٩ ، وشرح ابن السيرافي ١ / ٥٣٣.

(٢) ديوانه ١٩٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٢٧ ، شرح النحاس ١٧١ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٠٠ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥١٢ ، الخزانة ٥ / ٢٦ ، اللسان (حما) ١٤ / ١٩٨.

٢٢١

مطين ، ومعنى خز كمعنى : ليّن. أو يكون التقدير مثل خز ومثل طين ، وكذلك سائر الباب.

هذا باب ما جرى من الأسماء التي تكون صفة

مجرى الأسماء التي لا تكون صفة

وذلك : أفعل منك ومثلك وأخواتها

اعلم أن ما يقع بعد الاسم من الأسماء المفردة أو المضافة أو الموصولة على ضربين أحدهما : يكون صفة للأول ، والآخر : لا يكون صفة له.

* فأما الذي يكون صفة : فما كان تحلية أو جرى مجرى التحلية ، كقولك : رجل كاتب وضاحك وخير منك وحسبك من رجل.

* فأما ما لا يكون صفة ، ويكون بدلا : فنحو : بستان ودار وحصير فإذا اتصل بشيء ، مما لا يكون صفة اسم يكون مع ما بعده ، جملة كقولك : مررت برجل ثوبه فاخر ، وبستانه حسن جاز ، وكانت الجملة نعتا للأول.

وأما الصفة إذا اتصل بها اسم فعلى ضربين : أحدهما : يختار فيه الرفع كقولك : مررت برجل سواء عليه الخير والشر ، ومررت برجل حسبك به من رجل ، وهذه الصفات إذا انفردت ، جرت على الأول نعتا. والضرب الآخر من الصفة : أن يجري ما قبله في إعرابه ويرتفع به ما بعده ، كارتفاع الفاعل بفعله ، كقولك : مررت برجل شديد عليه الحر والبرد ، ومررت برجل مستو عليه الخير والشر ، فتجرد هذا الضرب وتنعت به الأول لأنه جار على الفعل وعلى هذا يجري سائر الباب.

هذا باب ما يكون من الأسماء صفة مفردا

وليس بفاعل ولا صفة تشبه الفاعل كالحسن وأشباهه

وذلك قولك : مررت بحية ذراع طولها ، ومررت بثوب سبع طوله ومررت برجل مائة إبله.

اعلم أن ما كان من المقادير إذا انفرد ، كان نعتا لما قبله مما يتضمن لفظه من الطول والقصر والقلة والكثرة ، فناب ذلك عن طويل وقصير وقليل وكثير.

فإن قال قائل : فهلا وصفتم بقفيز ونحوه وأجريتموه مجرى القليل والكثير كما فعلتم ذلك بذراع ونحوه ، فقلتم : مررت بحنطة قفيز على الصفة بتأويل قليل؟

قيل له : هذا واجب في جميع الأعداد من أي صنف كانت ، وإنما منع سيبويه من الصفة بقفيز في قوله : مررت ببر قفيز بدرهم على الصفة ، لأنك لم ترد أن تجعل البر كله قفيزا واحدا كما يريد ، في قولك : مررت ببر قفيز وحبل ذراع ، وإنما تجوز الصفة بالمقادير إذا كانت مستوعبة للأول.

٢٢٢

ومعنى : مررت ببر قفيز بدرهم : قفيز منه بدرهم ، وإن كان قفزانا كثيرة. فإذا اتصلت هذه المقادير باسم بعدها كانت رفعا ، لأنها ليست بمشتقة من فعل ، ولأن ما هو أقرب إلى الفعل منها يختار فيه الرفع نحو : مررت برجل خير منك أبوه أفضل منك أخوه وما أشبهه.

وأنشد للأعشى في ما أفرد فجاء صفة الأول :

* لئن كنت في جب ثمانين قامة

ورقيّت أسباب السماء بسلّم (١)

فنعت بثمانين كأنه قال : في جب طويل.

واعلم أنك إذا قلت : مررت برجل حسن أبوه ظريف ، لم يحسن فيه جر حسن وظريف إذا أردت أن ترفع الأب بحسن وظريف نعت لحسن ، لأنك إذا قلت : وصفت اسم الفاعل خرج من باب الأفعال ، وقوي في الاسمية ، فصار الباب الرفع على الابتداء والخبر.

فإن قلت : مررت برجل شديد رجل أبوه ، فهو رفع لأن هذا وإن كان صفة فقد جعلته في هذا الموضع بمنزلة أبي عشرة أبوه ، و" رجل" الذي بعد شديد بدل من شديد ، فبطل أن يعمل شديد في أبوه ، وقد أبدل منه رجل فخرج عن شبه الأفعال.

واعلم أنك إذا قلت : ما رأيت رجلا أبغض إليه الشر منه إليه ، فأبغض : نعت لرجل ، و" إليه" في صلته"" والهاء" في إليه ضمير لرجل ، و" الشر" مرفوع بأبغض على أنه فاعله و" الهاء" في" منه" ضمير الشر ، و" الهاء" في ضمير الشر ، و" الهاء" في إليه التي بعد منهن ضمير رجل ذكر ، كأنه قال : منه إلى زيد.

فإن قال قائل : قد مر من احتجاج سيبويه في مررت برجل خير منه أبوه ، ما يوجب أن يكون هذا مثله ، لأنه احتج في رفعه بأنك لا تستطيع أن تفرد شيئا من هذه الأسماء (و) لو قلت : هذا رجل خير ، وهذا رجل أفضل لم يستقم. وكذلك لا يفرد أبغض في قولك : ما رأيت رجلا أبغض وذكر أيضا أن الذي يجري على الأول اسم الفاعل أو الصفة المشبهة ، وأفعل ليس بواحد منها فهذا ، والذي تقدم في علة منح الإجراء على الأول مجتمعان ، فلم أجريت أحدهما عليه ، ومنعت الآخر الإجراء؟

قيل له : بينهما فرق في المعنى : يوجب للذي أجراه على الأول قرب شبه من اسم الفاعل ، وفرق في اللفظ تدعو الضرورة فيه إلى إجرائه على الأول.

وأما الفرق في المعنى ، فإنك إذا قلت : مررت برجل خير منه أبوه ، فمن تقع على المفضول ، والذي بعده هو الفاضل ، وأحدهما غير الآخر.

وإذا قلت : ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد ، ما رأيت رجلا

__________________

(١) ديوان الأعشى ٩٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٠ ، شرح المفصل ٢ / ٧٤ ، شرح النحاس ١٧٢ ، اللسان سبب ٤٥٨.

٢٢٣

أبغض إليه الشر منه إليه ، فليست الهاء في منه مفضولة فضلها على غيرها ، ولكنها ضمير الكحل ، والكحل : هو الفاضل ، فصار الفاضل والمفضول واحدا ، وصار ما اكتسب من الفضل بسبب الأول ، وذلك أنك تفضل الكحل إذا كان في عين زيد عن نفسه إذا كان في عين غيره فبكونه في عين من ذكر فضل.

وأما الفرق في اللفظ : فإنك إذا قلت : مررت برجل خير منه أبوه ، " فمنه" في صلة خير ، " وأبوه" مبتدأ و" خير" خبره ، ولم تفصل بين شيئين أحدهما : في صلة الآخر. ولو رفعت : " ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد" ، فجعلت أحسن مبتدأ ، وخبره الكحل ، أو الكحل مبتدأ وخبره أحسن لفصلت بين أحسن وصلته بالكحل الذي حقه أن يكون مؤخرا عن الجميع أو مقدما على الجميع ، فإن أخرته على أن تجعله خبرا عن أحسن بطل التقديم المضمر عليه ، وإن قدرته ـ وهو مؤخر ـ مرفوعا بالابتداء وخبره أحسن.

واستشهد سيبويه على حذف بعض الكلام في هذه المسائل بقول سحيم بن وثيل.

* مررت على وادي السباع ولا أرى

كوادي السباع حين يظلم واديا

أقل به ركب أتوه تئية

وأخوف إلا ما وقى الله ساريا (١)

والمعنى : أقل به الركب تئية منهم به ، فحذف منهم و" به".

والهاء" في" به" الأول ضمير واديا والهاء التي" به التي بعد" منهم" ضمير وادي السباع ، و" أتوه" نعت لركب و" تئية" في معنى تلبث وتمكث ، كأنه قال : لا أرى واديا أقل به مكثا وتلبثا الركب الآتوه منهم بوادي السباع ، فحذف" منهم"" وبه" كما تقول : الله أكبر ومعناه : من كل شيء.

هذا باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال

وما أشبهها من الصفات التي ليست بعمل نحو : الحسن والكريم وما أشبه ذلك مجرى الفعل إذا أظهرت بعده الأسماء وأضمرتها وذلك قولك : مررت برجل حسن أبواه ، وأحسن أبواك؟ ، وأخارج قومك ، اعلم أن الصفات إذا جرت مجرى الأفعال في رفع ما بعدها ، فحكمها أن لا تثنى ولا تجمع كما لا يثنى الفعل ولا يجمع إذا تقدم.

اعلم أن التأنيث على ضربين :

أحدهما : تأنيث حقيقي ، والآخر : غير حقيقي.

* فأما الحقيقي : فهو كل نوع من الحيوان الذي فيه ذكر وأنثى ، كالمرأة والناقة

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٣ ، شرح النحاس ١٧٢ ، شرح السيرافي ٣١٥ ، الخزانة ٨ / ٩٢٧ المقاصد النحوية ٤ / ٧٧.

٢٢٤

والأتان ، فهذا حقيقي ، لأنه يخلق فيه خاصة تبين بها من الذكر ، فهذا الضرب إذا تقدم فعله ، فكان ماضيا زدت في آخره تاء ساكنة لعلامة التأنيث ، وإن كان مستقبلا جعلت حرف المضارعة تاء في أوله.

* وأما التأنيث غير الحقيقي : فهو ما كان تأنيثه وتذكيره واقعين على ما لا خلقة فيه فاصلة بين الذكر والأنثى كنحو : دار وأذن وفخذ وما أشبه ذلك. فإذا تقدم الفعل في هذا الضرب ، فالأصل الذي رتب اللفظ له إثبات علامة التأنيث ، وحذفها جائز ، وإذا تقدم المؤنث الذي تأنيثه غير حقيقي ثم أتي بفعله وأضمر ، لم يحسن إسقاط علامة التأنيث كإسقاطها إذا تقدم الفعل ، وذلك قولك : دارك بنيت ، وعينك كحلت ولو حذفت التاء لم يحسن كحسنه في التقدم ، لأنك إذا قدمت الفعل فصلت الفاعل من الفعل ، وظهر لفظه الموضوع للتأنيث فاكتفي به وأغنى عن العلامة ، فإذا تقدم الاسم صار الفعل لضميره ، وهو مختلط بالفعل ، وليس في لفظه دلالة على التأنيث فكرهوا إسقاط العلامة مع ذهاب اللفظ الموضوع للتأنيث. وبعض العرب يجعل في الفعل علامة التثنية والجمع كما جعل فيه علامة التأنيث وهي لغة قليلة.

قال الفرزدق :

* ولكن ديافيّ أبوه وأمه

بحوّر ان يعصرن السّليط أقاربه (١)

فرفع أقاربه بيعصرن ، وجمع الضمير في الفعل المقدم.

والديافي : منسوب إلى دياف : قرية بالشام يصنع فيها الزيت. والسليط : الزيت.

واعلم أن الاسم الفاعل الجاري على الفعل ، يعمل في الاسم كعمل الفعل ، فإذا تقدم على ما يرفعه ، كان الاختيار توحيده. من ثنى الفعل إذا تقدم وجمعه ، فعل ذلك باسم الفاعل ، وإذا ألزمت الفعل علامة التأنيث ، فهي لازمة لاسم الفاعل الذي يعمل عمله ، وإذا تأخر اسم الفاعل وقد أعمل عمل الفعل ، فالاختيار أن يجمع جمع السلامة ، وذلك أن الفعل هو الفاعل في الأمر ، وهو أبدا موحد ، ويتصل به ضمير الفاعلين فيصير في لفظ شيء مجموع جمع السلامة ، فحمل اسم الفاعل عليه حين أعمل عمله.

قال : " وكذلك أقرشيّ قومك"؟

فأجراه مجرى اسم الفاعل ، كأنه قال : أمتقرش قومك؟ في معنى : أيتقرش قومك؟ كما يقال : تنزّر الرجل ، وتقيّس ، بمعنى : انتسب إلى نزار وقيس ، فلهذا وحد قرشي ، وقومك جمع.

وذكر سيبويه عن العرب حذف علامة التأنيث من الحيوان مع قلة

__________________

(١) ديوان الفرزدق ١ / ٥٠ ، الكتاب ، وشرح الأعلم ١ / ٢٣٦ ، شرح النحاس ١٧٣ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٢٢ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٩١ ، الخصائص ٢ / ١٩٤ ، شرح المفصل ٣ / ٨٩.

٢٢٥

وكان المبرد ينكر ذلك أشد الإنكار ، ويقول : لم يوجد ذلك في قرآن ولا كلام فصيح ولا شعر.

وقول سيبويه أصح بأنه حكاه عن العرب ، وهو غير متهم في حكايته ، وليس كل لغة توجد في كتاب الله عز وجل ، ولا كل ما يجوز في العربية يأتي به القرآن والشعر. وللمبرد مذاهب يجوزها لم توجد في قرآن وغيره. من ذلك إجازته : إن زيد قائما قياسا على ما زيد قائما وهذا لا يكاد يوجد له شاهد من شعر أو غيره.

واعلم أن العرب جعلت لمن يعقل اختصاصا في اللفظ يفصل بينه وبين ما لا يعقل ، وإنما ذلك لأن من يعقل يخاطب ويمر ويؤمر ، ويخبر ويخبر عنه ، وذلك الاختصاص جمعه مع السلامة. والحق ما لا يعقل بلفظ المؤنث لنقص رتبته عما يعقل كنقص رتبة المؤنث عن المذكر ، فجمع بالألف والتاء إذا سلم ، كما جمع مؤنث من يعقل. وسمي سيبويه ما لم يكن من الحيوان مواتا وإن كان في الحقيقة ليس من الحيوان ولا الموات لمساواته الموات في اللفظ.

فقال : " ومما جاء في القرآن من الموات ... قوله عز وجل : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) [البقرة : ٢٧٥] والموعظة ليست من الموات بالحقيقة.

واعلم أن الجموع المكسرة مؤنثة كلها ، كانت لمن يعقل ولما لا يعقل أو المذكر أو المؤنث ، وحكم اللفظ في تأنيثها حكم تاء الواحد المؤنث تقول : هي الرجال وهي الجمال ، فتجري مجرى هي الجذوع ، وإنما ذلك لأنها خرجت عن الواحد الأول الأمكن الذي يقع ـ بالخلقة ـ فيه الفرق بين المذكر والمؤنث فأجري كله مجرى الموات ، تقول : جاء جواريك وجاء نساؤك فلا تلزمه التاء كما لزمت جاريتك ، لأن هذا التأنيث الحادث بجمع التكسير غير التأنيث الحقيقي الذي كان في الواحد. وكذلك ما لم يكسر عليه الواحد ، إلا أنه اسم للجمع كقولك : قال نسوتك ، لأن تأنيثها تأنيث جمع ، وواحد امرأة ، فحكمها حكم الجمع كما أن" من" لما كان في معنى الجمع ، جاز أن يرد لفظها على المعنى كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢].

قال : وتقول : مررت برجل أعور آباؤه ، كأنك تكلمت به على حد أعورين ، وإن لم يتكلم به كما توهموا في هلكى ومرضى وموتى أنّه فعل بهم ، فجاءوا به على مثال جرحى وقتلى.

قال النابغة :

* ولا يشعر الرمح الأصم كعوبه

بثروة رهط الأبلخ المتظلم (١)

__________________

(١) ديوان النابغة الجعدي ٢٤٤ ، شرح القصائد السبع الطوال ٣٤٧ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٧ ، شرح السيرافي ٣٢٥ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٦٠٧.

٢٢٦

فرفع الكعوب بالأصم والأصم : الصلب الشديد ، والثروة : الكثرة ، والأبلخ : الشامخ بأنفه كبرا ، والمتظلم : الظالم.

والمعنى : إن الرمح لا يبالي بالرجل الظالم ولا يشعر به فيتجنبه ، ويروى في أخبار النابغة الجعدي أنّه لما قال هذا البيت ، قال له المهجو : لكن حامله يشعر فيقدعه يا أبا ليلى فغلبه بالكلام ويروى : رهط الأعبط والأغيظ.

ومعنى قوله سيبويه : كأنك تكلمت به على حد أعورين.

أي : أن أعور ، وإن كان لا يجمع جمع السلامة ، فقد أجروا واحده على الأول بتقدير معور إذا رفع به واحد ، فكذلك إذا رفع به اثنان أو جماعة ، فكأنك تكلمت به على حد ما يجمع جمع السلامة ، وإن كان إنما يجمع مكسرا كما جمعوا : هلكى ، ومرضى ، وموتى على حد فعيل ، بمعنى : مفعول مثل : جريح وقتيل ، وصريح ، وجمعه صرعى وجرحى وقتلى ، فتقدير أعورين ـ وإن لم يتكلم به كتقدير هلك فهو هليك ومرض فهو مريض ، وإن لم يتكلم به.

واعلم أن هذه الصفات إذا كسرت ، فهي تجري في رفع ما بعدها مجرى الفعل لأنها جاءت على مثال مختص بها. كما اختص الواحد ببنائه ، فأجريت مجرى الواحد في رفع ما بعده ، ومما يدل على أن هذا الجمع المكسر ليس كالفعل المتصل بضمير الجمع ، أنّه ليس شيء من الفعل إذا كان للجميع يجيء على غير بنائه إذا كان للواحد. فمن ثم صار حسان وما أشبهه بمنزلة الاسم الواحد ، نحو : مررت برجل جنب أصحابه وصرورة قومه وما أشبه ذلك.

واختار سيبويه أن تجري الصفات المكسرة مجرى الفعل ، كما يجري واحدها نحو : مررت برجل حسان قومه.

واختار في ما يجمع بالواو والنون إذا كان مفردا أن يجري مجرى الفعل ، فإذا ثني وجمع ، اختار فيه القطع والابتداء.

وقال المبرد : أختار في كل ما جمع بالواو والنون نحو منطلق ومنطلقين ، الإجراء على الأول ، وما كسر ، فإني أختار فيه أن أجريه مجرى : باب خير منه فأرفعه.

وقال الزجاج : الجيد قول سيبويه ، في قولك : مررت برجل عور قومه بالجر ، لأنه قد كان يجوز : مررت برجل منطلقين آباؤه ، فإذا جاز في الذي فيه علامة الجمع : كان الاختيار هاهنا ، وهذا قياس يستمر في العربية.

وأنشد سيبويه ـ مستشهدا بحذف علامة التأنيث ـ قول أبي ذؤيب يمدح الزبير :

٢٢٧

* بعيد الغزارة فما إن يزا

ل مضطمرا طرّته طليحا (١)

فحذف التاء من مضطمرة والمضطمر : الضامر ـ والطرتان : الجانبان والطليح : المعيي.

وقال الفرزدق :

* قرنبي يحك قفا مقرف

لئيم مآثر قعدد (٢)

فحذف التاء من لئيمة وقرنبي : مصروف وغير مصروف ، وهو اسم دابة. ومقرف : نذل ـ وقعدد : ليس بمستعلي النسب.

وأنشد للفرزدق :

* وكنّا ورثناه على عهد تبّع

طويلا سواريه شديدا دعائمه (٣)

فحذف التاء من طويلة وشديدة ، ذهب به إلى معنى الجميع.

وأنشد لأبي زبيد الطائي :

* مستحسن بها الرياح

فما يجتابها في الظلام كل هجود (٤)

فحذف الهاء من مستحسنة والمستحسن : الذي له حنين وصوت ، يصف فلاة ويجتابها : يقطعها والهجود هنا : الساهر ، وقد يكون النائم.

وأنشد لمضرس الأسدي :

* فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى

من القوم مسقى السمام حدائده (٥)

فحذف الهاء من مسقيه وقوله : فلاقى ابن أنثى : يعظم أمره كما تقول ابن رجل ، يعني : أنّه لقي لصا يبتغي مثل ما ابتغى ، لأنه لص مثله وحدائد جمع حديد والسمام : جمع سم.

وأنشد للكميت :

* وما زلت محمولا على ضغينة

ومضطلع الأضغان مذ أنا يافع (٦)

__________________

(١) ديوان الهذليين ١ / ١٣٥ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٨ ، شرح النحاس ١٧٤ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٣٠ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ١٨ ، الخصائص ٢ / ٤١٣ ، اللسان (ضمر) ٤ / ٤٩١ ، (طرر) ٤ / ٥٠٠ (غزا) ١٢٤ / ١٥.

(٢) ديوان الفرزدق ١ / ٢٠٥ ، الكامل ٢ / ٧٥ ، المقتضب ٢ / ١٤٥ ، شرح النحاس ١٧٤ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٣١.

(٣) ديوان الفرزدق ٢ / ٧٦٥ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٨ شرح السيرافي ٣ / ٣٣٠ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٩٢ ، اللسان (كون) ١٣ / ٣٦٨.

(٤) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٩ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٣١ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٣٤ ، جمهرة أشعار العرب ٥٩١ ـ اللسان (حسن) ١٣ / ١٣٠.

(٥) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٩ شرح السيرافي ٣ / ٣٣٢ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٥٢ لمضرس الأسدي.

(٦) للكميت بن معروف ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٩ ، شرح النحاس ١٧٥ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٣٢ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٢٢.

٢٢٨

فحذف الهاء من محمولة ، لأن ضغينة وضغنا واحد ومضطلع : أي هي بين أضلاعه واليافع : المقارب الإدراك.

واستشهد على حذف علامة التأنيث وهي مؤخرة بقول الأعشى :

* فإما ترى لمّتى بدّلت

فإن الحوادث أودى بها (١)

فجعل الحوادث بمعنى الحدثان ، فلذلك حذف التاء من أودت ، ولو أثبتها هنا لا تزن البيت ، ولكن القصيدة مردفة بألف ، فلو أتى بتاء التأنيث لم يستقم أن يكون البيت من القصيدة. وأنشد لعامر بن جوين الطائي :

* فلا مزنة ودقت ودوقها

ولا أرض أبقل إبقالها

على تأويل ولا مكان. وقد روي : ولا أرض أبقلت ابقالها بتخفيف همزة إبقالها ، ولا حجة فيه على هذا ـ والمزنة : السحاب.

والودق : المطر.

وأنشد لطفيل :

* إذ هي أحوى من الرّبعيّ حاجبه

والعين بالإثمد الحاري مكحول (٢)

فذهب بالعين مذهب الطرف كأنه قال : والطرف بالإثمد مكحول ، والحاري : منسوب إلى الحيرة.

وأنشد مستشهدا لما صير مما لا يعقل بمنزلة من يعقل في الأخبار ، قول النابغة الجعدي :

* شربت بها والديك يدعو صباحه

إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا (٣)

وكان القياس : بنات نعش دنون فتصوبن ، ولكنه لما وصف بنات نعش بالدنو والتصوب ، صيرها بمنزلة من يعقل.

وأنشد لخطام المجاشعي مستشهدا لتثنية الشيئين وجمعهما.

__________________

(١) ديوان الأعشى ١٢٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٩ ، شرح النحاس ١٧٥ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٣٣ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٧٧ ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٦١ ، الإنصاف ٢ / ٧٣٤ ، شرح المفصل (٥ / ٩٥ ، ٩ / ٦ ، ٤١) ، أوضح المسالك ١ / ٣٥٥ ، حاشية الصبان (٢ / ٥٤ ، ٣ / ١٦) ، الخزانة ١١ / ٤٣٠.

(٢) ديوان طفيل ٢٩ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٤٠ ، شرح السيرافي ٢ / ٣٣٤ ، شرح ابن السيرافي (١ / ١٨٦ ، ١٨٧). ما يجوز للشاعر في الضرورة ١٦٢ ، الإنصاف ٢ / ٧٧٥ ، شرح المفصل ١٠ / ١٨.

(٣) ديوان الجعدي ٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٤٠ ، المقتضب ٢ / ٢٢٢٤ ، شرح النحاس ١٧٦ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٣٦ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٧٦.

٢٢٩

* ظهراهما مثل ظهور الترسين (١)

فثنى وجمع ـ وصف فلاتين مستويين لا نبت فيهما ، فشبه ظهريهما بظهور الترسين.

هذا باب إجراء الصفة على الاسم فيه في بعض المواضع أحسن

وقد يستوي فيه إجراء الصفة على الاسم وأن تجعله خبرا فتنصبه قوله في هذا الباب : ومثل ذلك مما الوصف فيه أحسن : هذا رجل عاقل لبيب.

اختار في هذه المسألة رفع لبيب لأنه بمنزلة عاقل في بيانه للأول وتحليته به ، وأجاز نصبه على الحال ، وتقديره : يعقل في حال لبه ، وضعفه لأنه لم يرد أن الأول وقع وهو في هذه الحال ، ولكنه أراد أنهما ثابتان ولم يكن واحد منهما قبل صاحبه.

وتقدير الحال هنا في أنها ثابتة في الأول غير عارضة فيه ، كتقدير قولهم : قم قائما ، وقد علم أن وقوع القيام في حال ما هو قائم ومثله قوله تعالى : (وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً) [النساء : ٧٩] وقد علم أنه رسول في حال الإرسال ، كما علم أنه لبيب إذا كان عاقلا.

واعلم أن بعض النحويين لا يجيز الخفض في الصفة الثانية إذا اتصلت بضمير الموصوف في قولك : مررت برجل معه صقر صائد به واحتجوا بأن القلب لا يصلح ، ألا ترى أنك لو قلت : مررت برجل صائد به معه صقر ، لم يجز ، لتقديم المضمر على الظاهر فاحتج عليهم سيبويه بمسائل يوافقونه فيها ، ولو قلبت لبطل الكلام بها ، وقوي ذلك بقول حسان بن ثابت :

* ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم

وفينا نبي عنده الوحي واضعه (٢)

فواضعه : صفة لنبي ، ولو قدم لم يجز

وطعن بعض النحويين على سيبويه على استشهاده بالبيت ، وقال : لا شاهد فيه ، لأن الهاء في واضعه للذي صنعتم ، ولو قدم واضعه على هذا التأويل لجاز والذي قاله سيبويه : صحيح ، لأنه جعل الهاء في واضعه ضمير الوحي وقوله عند الوحي صفة لرسول ، واضعه : صفة أخرى.

ومعناه مفشيه وذاكره ، لأنهم ظنوا أنّه يخفى ما دبروه ، فيبلغوا إرادتهم فأفشاه الوحي فبطل. ومعنى الوحي في البيت هو ما بينه الله بالوحي من صنيع القوم ، الذي بينه النبي صلّى الله عليه وسلّم

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم (١ / ٢٤١ ، ٢ / ٢٠٢). معاني القرآن (٣ / ٨٧ ، ١١٨) ، شرح السيرافي ٣ / ٣٣٨ ، المسائل البغداديات ٤٣١ ، شرح المفصل ٤ / ١٥٥ ، ١٥٦ ، الهمع ٢ / ٦٢ ، حاشية الصبان ٣ / ٧٤ ، المقاصد النحوية ٤ / ٨٩ ، اللسان (مرت) ٢ / ٨٩.

(٢) ديوان حسان ٢٧١ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٤٢ ، شرح النحاس ١٧٦ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٥٢ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٥٣.

٢٣٠

لأصحابه ، وليس بحقيقة الإيحاء ، فهذا طريق واضح واحتجاج صحيح.

قال : واعلم أنك إذا نصبت في هذا الباب فقلت : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا إلى قوله : لأنه ليس يرفعه الابتداء ، وفي الظروف إذا قلت : فيها أخواك قائمان يرفعه الابتداء.

في هذا الفصل من كلام سيبويه ما يختلف في معناه ، والصحيح أراد إلغاء الظرف ورفع ما بعده على الابتداء والخبر لا يجوز في هذا الموضع ، كما يجوز في المبتدأ الذي ليس قبله شيء كقولك مبتدئا : معك زيد قائم ، فتلغي الظرف وتعلمه. ولا يجوز الإلغاء إذا اتصل الظرف بما يكون نعتا له أو خبرا أو حالا إذا كان مع الظرف الضمير العائد إلى الأول ، وذلك قولك في نعت المجرور : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا وهذا معنى قوله : فإذا صار الاسم مجرورا أو عاملا فيه فعل أو مبتدأ لم تلغه وإلغاؤه أنك لو حذفت معه ، لم يعد إلى المنعوت من شيء ، ولا إلى المبتدأ شيء من خبره ، لأن قولك : معه صقر جملة فإذا كانت في موضع نعت أو خبر أو حال لم يكن بد من عائد يعود إليه ، والعائد هو الهاء في معه. وإذا كان الكلام مبتدأ ليس قبله شيء ، فليس يمنع من إسقاط الظروف مانع كقولك : فيها عبد الله قائم غدا ، وفيها أخواك قائمان وظن بعض النحويين أن سيبويه يرفع الاسم بالظرف لا بالابتداء ، فيكون صقر مرفوعا معه ، وتأول قوله : " لأنه ليس يرفعه الابتداء".

والذي علم من سيبويه في هذا الموضع ، إن الظرف لا يرفع ما بعده ، ومعنى قوله : لأنه ليس يرفعه الابتداء.

الهاء في لأنه ترجع إلى أول الكلام ، وإنما يريد : لأن الهاء المجرورة في معه ، ولم يرد الصقر ، فاعرف ذلك.

واعلم أنّه لا يجوز : يا ذا الجارية الواطئها زيد ، بنصب الواطئها لأنه صفة للجارية والضمير يعود إليها. فإن قلت : الواطئها أبوه ، جاز النصب في الخفض للضمير العائد في أبوه إلى المنادى ، وإذا قلت : يا ذا الجارية الواطئها ، نصبت صفة المنادى ، والتقدير : الذي وطئها ، فإن جعلت الواطئها بمعنى التي وطئها ، خفضتها وأظهرت ضمير الفاعل فقلت الواطئها هو ، لأن اسم الفاعل جرى صلة للألف واللام ، وليس بفعل لها ، فلم يتضمن الضمير.

قال : أما مررت برجل وأخيه منطلقين ، ففيها قبح حتى تقول : وأخ له.

ومثل ذلك قول الشاعر :

* أي فتى هيجاء أنت وجارها

إذا ما رجال بالرجال استقلت (١)

فعطف قوله : وجارها على فتى ومعناه : أي فتى هيجاء أنت؟ وأي جار هيجاء أنت؟

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٤٤ ، شرح النحاس ١٧٧ ، شرح السيرافي ٤ / ٣٢٠ المسائل البغداديات ٤٢٦ شرح عيون الكتاب ١٣٦.

٢٣١

وجارها نكرة ، لأن أيا أضيفت إلى واحد لم يكن إلا نكرة ، لأنه في معنى الجنس ، فجارها ، وإن كان مضافا إلى ضمير هيجاء ، فهو نكرة في المعنى ، ولا يجوز أن يكون رفعا لأنه إذا رفع فهو على أحد وجهين :

إما أن يكون عطفا على أنت أو عطفا على أي فإن كان عطفا على أنت صار غير أنت وصار شريك أنت في المدح ، وكأنه قال : أي فتى هيجاء أنت جار هند؟ وما أشبهها وإن قدر أنت وجار الهيجاء ، فليس برجل يعرف وليس قصد الشاعر إلى هذا ، وإن كان عطف : وجارها على أي : كان الكلام بإعادة حرف الاستفهام ، كما تقول : أي رجل عندكم؟ وأي زيد عندك؟ ومتى قال : وجارها ، لم يكن فيه معنى ، أي : جارها الذي هو التعجب.

وأنشد للأعشى :

* وكم دون بيتك من صفصف

ودكداك رمل وأعقادها

ووضع سقاء وأحقابه

وحل حلوس وأغمادها (١)

في هذا حجة لقوله : ربّ رجل وأخيه لأن قولك : (من صفصف) لا يليه إلا نكرة معطوف على (صفصف) كعطف أخيه على رجل ، وكذلك وأغمادها معطوف على ما قبلها ، ولا تكون إلا نكرة ، وقد بين سيبويه العلة في ذلك.

والصفصف : المستوي من الأرض الذي لا نبات به. والدكداك : ما علا من الرمل والأعقاد ما تعقد منه ويروى : وأحقابه كأنه جمع حقيبة على حذف الزيادة ، والحلس : مسح من شعر أو صوف يعلق على البعير.

هذا باب ما ينتصب فيه الاسم لأنه لا سبيل له إلى أن يكون صفة

وذلك قولك : هذا رجل معه رجلين قائمين.

أجاز سيبويه نصب هذا على الحال ، ولم يجزه على النعت لأن الحال قد تكون من اسمين مختلفي الإعراب ، وكذلك : ضرب زيد عمرا قائمين ، إذا كان الضرب واقعا من زيد لعمر وهما في حال قيام.

وقال عنترة :

* متى ما تلقني فردين ترجف

إليه روانق إليتك وتستطار

(ففردين) حال من اسم الفاعل والمفعول في تلقني ، والهاء في (معه) ورجل تأويلهما

__________________

(١) ديوان الأعشى ٥٤ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٤٥ ، شرح النحاس ١٧٧ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٦١ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٧٤.

٢٣٢

تأويل فاعلين ، أو فاعل ومفعول ، لأنك إذا قلت : مع عمرو وزيد ، فتأويله اجتمعا ، أو جامع زيد عمرا ، ثم تكون الحال منهما على هذا التأويل أو تحمله على هذا فيكون على التنبيه بتقدير : انتبه لهما قائمين والإشارة بمعنى أشر إليهما قائمين.

وأنشد في ما اختلف إعرابه فلم يحمل النعت عليه ، وقطع منه على إضمار مبتدأ أو نصب بإضمار فعل ، قول الخرنق :

* لا يبعد قومي الذين هم

سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك

والطيبون معاقد الأزر

فنصب النازلين ، ورفع الطيبين وجعل هذا شاهدا لقوله :

افعل ما سر أخاك وأحب أبوك الرجلان الصالحان ، بالنصب والرفع على القطع ، ولو حمل هذا على النعت لم يجز الخلاف إعراب الاسمين.

وأما البيت : فالحمل فيه على الأول جائز ، إلا أن القطع أكثر في كل شيء كان تعظيما ، لأنك إذا أثنيت على قوم فإنما تقول : هم كذا وأذكر كذا ، وإنما امتنع حمل الصفات على الأسماء المختلفة الإعراب ، والمختلفة العوامل مع اتفاق الإعراب ، لأن الصفة تتبع الموصوف في الإعراب ، فيكون الإعراب الحاصل في الوصف متعلقا بالعامل الذي عمل في الموصوف.

فلو جمعت صفتان بلفظ واحد فجعلتا للمرفوعين المتقدمين أو المجرورين ، صار لفظ الصفة وهو واحد متعلقا برافعين أو جارين ، ولا يعمل في شيء واحد شيئان ولا خلاف بين النحويين أن الفعلين إذا اتفق معناهما جاز أن يوصف فعلاهما بلفظ واحد كقولك : مضى زيد ، وانطلق عمرو الصالحان وجعل أخوك وقعد أبوك الكريمان المختلفان ، وإذا اختلف معناهما فمذهب الخليل وسيبويه في الفعلين المختلفين والمتفقين واحد ، فأجازا : ذهب أخوك وقدم عمرو الرجلان الحليمان.

وكان المبرد والزجاج وكثير من المتأخرين ، يأبون جواز ذلك إلا في المتفقين. والحجة للخليل وسيبويه أن مذهب عمل الفعل والفاعل مذهب واحد ، وإن اختلف معنى الفعلين ، ومما يدل على ذلك أنك تقول اختلف زيد وعمر الصالحان ومعنى اختلف : أن كل واحد منهما فعل فعلا مخالفا لفعل الآخر. وتقول : فعل زيد وعمرو فعليهما ، وعملا عمليهما وإن كانا مختلفين ، فإذا قلنا : ذهب أخوك وقدم عمرو والرجلان الحليمان ، فكأنا قلنا : فعل أخوك وزيد الحليمان هذين الفعلين ، والذي لا يجيز هذا ، ويجيز : ذهب زيد وانطلق عمرو الصالحان ، يلزمه مثل ما فر منه في الفعلين المختلفين ، ذهب ارتفع زيد وحده ، وانطلق ، ارتفع به عمرو وحده ولا يجوز أن يكون الصالحان يرتفع بالفعلين أو يتعلق بهما ، وهو لفظ واحد.

فإن قال قائل : تسقط الفعل الثاني في التقدير ، وتجعله مؤكدا للأول فكأنا قلنا : ذهب

٢٣٣

زيد وعمرو الصالحان.

قيل له : فإذا رفعتهما بالأول ، بقي انطلق بلا فاعل وهذا فاسد في مذهب البصريين.

هذا باب ما ينتصب لأنه حال صار فيه

المسئول والمسئول عنه

وذلك قولك : ما شأنك قائما؟ وما شأن زيد قائما؟ وما لأخيك قائما؟

قوله : قائما شيء قد عرفه المتكلم من المسئول ، وهو الكاف في شأنك ، والمسئول عنه وهو زيد. فسأل عن شأنه في هذه الحال ، ومعناه : ما تصنع وما تلابس في هذه الحال ، وقد يكون فيه إنكار لقيامه ، وسؤال عن السبب الذي أداه إليه ، فكأنه قال : لم قمت؟ وعلى هذا المعنى يجوز أن يقول الله عزّ وجلّ :

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] كأنه أنكر إعراضهم ، فوبخهم على السبب الذي أداهم إلى الإعراض ، فأخرج مخرج الاستفهام في اللفظ وتأويل ما لهم تأويل ما شأنهم كأنه قال : ما تصنعون؟

وقوله : من ذا قائما بالباب؟

من مبتدأ وذا خبرها ، وقد يكون ذا مبتدأ ومن خبر مقدم وقائما منصوب على الحال ، والعامل فيه ذا بمعنى الإشارة كأنه سأل عمن عرف قيامه لم يعرفه.

فأما قولهم" من ذا خير منك؟ " فيجوز أن يكون : " من" مبتدأ و" ذا" خبره ، وخير منك ويجوز أن يكون ذا بمعنى الذي ، ويكون تقديره : من الذي هو خير منك؟

وأكثر ما يستعمل هذا على إنكار أن يكون أحد خيرا منك كقولك : من ذا أرفع من الخليفة؟ والنصب في هذا جائز على هذا المعنى ، وقد ذكره سيبويه.

هذا باب ما ينتصب على التعظيم والمدح

وإن شئت جعلته صفة فجرى من الأول ، وإن شئت قطعته وابتدأته وذلك قولك الحمد لله والملك لله أهل الملك. ولو رفعته كان حسنا.

كما قال الأخطل :

* نفسي فداء أمير المؤمنين إذا

أبدى النواجذ يوم باسل ذكر

الخائض الغمر والميمون طائره

خليفة الله يستسقى به المطر (١)

كأنه قال : هو الخائض الغمر. والباسل : الشديد ، والذكر مثله.

__________________

(١) ديوانه ٩٨ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٤٨ ، شرح النحاس ١٧٨ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٧٣ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٨٠ ، اللسان جشر ٤ / ١٣٨ ، بسل ١١ / ٥٤.

٢٣٤

وقوله : أبدى النواجذ ، كناية عن شدته وهوله وقوله الخائض الغمر : أي يحمل نفسه على الشدائد والغمر : الماء الكثير فضربه مثلا ، ويجوز أن يكون الغمر جمع غمرة وهي الشدة وقوله : والميمون طائره : كناية عن بركته ويمنه وإنه لا يتشاءم به.

وذكر سيبويه أن الذم يجري مجرى المدح.

وأنشد لابن خياط العكلي.

* وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم

إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظاعنين ولما يظعنوا أحدا

والقائلون لمن دار نخليها (١)

فنصب الظاعنين ، ورفع القائلون ، ولو نصبها جميعا أو رفعها لجاز ومعنى قوله : الظاعنين ولم يظعنوا أحدا : أي هم أهل غدر فإذا أحسوا بمكروه ، رحلوا عن موضعهم ولم يعلموا جارهم بذلك حتى يصيبه المكروه وهو كقول امرئ القيس :

ولا آذنوا جارا فيظعن سالما

وفيه معنى آخر وهو أن يصفهم بالقلة والذل ، فيظعنون لذلك من موضع ، ولا يظعنون أحدا ، لأنه لا كثرة عندهم ولا عزة فيظعن أعداؤهم خوفا منهم.

وأنشد :

* لقد حملت قيس بن عيلان حربها

على مستقل للنوائب والحرب

أخاها إذا كان غضابا سمالها

على كل حال من ذلول ومن صعب (٢)

الشاهد نصب أخاها وهو المستقل المجرور.

وأنشد قول الراجز :

* بأعين منها مليحات النّقب

شكل التّجار وحلال المكتسب (٣)

أي : ليس فيهن تبرج وتكشف ، ولكن خفر وحياء وتستر ، وذلك حلال المكتسب.

وأنشد لمالك بن خويلد الخناعي :

* ياميّ لا يعجز الأيام ذو حيد

في حومة الموت رزام وفراس

يحمي الصريمة أحدان الرجال له

صيد ومجترئ بالليل هماس (٤)

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٤٩ ، شرح النحاس ١٧٨ ، ١٧٩ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٧٦ ، شرح ابن السيرافي وبه القائلين ، الإنصاف ٢ / ٤٧٠ ، الخزانة ٥ / ٤٢ ، اللسان طعن ١٣ / ٢٧٠.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٠ ، شرح النحاس ١٧٩ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٧٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٣٥٣.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٠ ، شرح النحاس ١٨١ ، شرح السيرافي ٢ / ٣٧٩ ، اللسان نقب ١ / ٧٣٨.

(٤) ديوان الهذليين ٣ / ٣ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥١ ، المقتضب ٢ / ٢٣٤ ، شرح النحاس ١٨١ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٧٩ ، شرح المسائل البغداديات ٥١٥ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٩٨ ، الجنى الداني ٩٨.

٢٣٥

هذا الشعر لأبي ذؤيب ، ووقع في البيت الأول من هذين غلط في كتاب سيبويه ، لأن قوله : ذو حيد ، ورزام وفراس : أسد والصواب الذي حملته الرواة :

* يامي لا يعجز الأيام ذو حيد

بمشمخر به الظيان والآس (١)

والظيان : ياسمين البر. والمشمخر : الشامخ وروى المبرد : ذو حيد بفتح الحاء والياء وجعله مصدرا بمنزلة : الأود والعوج ورواه ثعلب والسكري بكسر الحاء ، كأنه جمع حيدة مثل حيضة وحيض ، ويجوز أن يكون جمع حيد على الشذوذ.

وبعد هذا البيت بأبيات من القصيدة :

يا مي لا يعجز الأيام مبترك

في حومة الموت رزام وفراس (٢)

يحمي الصريمة البيت وحومة الموت : شدته. ورزام : أخذ يصف أسدا ويقال رزم به إذا صرعه. والصريمة : القطيعة من الرمل. فراس : دقاق الظهور ومكسر لها.

قال : ومما حمل على الابتداء قوله :

* فتى الناس لا يخفى عليهم مكانه

وضرغامة إن هم بالأمر أوقعا (٣)

التقدير : وهو ضرغامة والضرغامة : الأسد.

وقال الآخر :

* إذا لقي الأعداء كان خلاتهم

وكلب على الأدنين والجار نابح (٤)

التقدير : هو كلب والمعنى أنه لين لأعدائه كالخلاة ، وهي : ما رطب من الحشيش وهو كلب على من قرب منه وجاوره.

واعلم أن التعظيم يحتاج إلى اجتماع معنيين في المعظم : أحدهما : أن يكون المعنى الذي عظم به صفة مدح ، وثناء ، ورفعه والآخر : أن يكون المعظم قد عرفه المخاطب وشهر عنده بما عظم به ، أو يتكلم المتكلم بصفة ينفرد به المخبر عنه عند المخاطب ، ويعرفه بها ، ثم يأتي بعد بصفات يعظمه بها ، كقولك : مررت بعبد الكريم الفاضل ، فتنصب الفاضل على التعظيم ، لأنك لما قدمت الكريم ، صار كأنه قد عرف وشهر ـ فتدبر ذلك إن شاء الله.

هذا باب ما يجري من الشتم مجرى التعظيم

وذلك قولك : أتاني زيد الفاسق الخبيث.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ٢ / ١٤٤ ، المقتضب ٢ / ٣٢٣ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٨٠ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٤٩٩ ، شرح ملحة الإعراب ٩٥.

(٢) شرح ابن السيرافي ١ / ٤٩٩ ، الخزانة ٥ / ١٧٦ ، ٥ / ١٧٦ ، ١٧٨ ، اللسان ، (فرس) ٦ / ١٣٦.

(٣) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥١ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٨١ ، اللسان (ضرغم) ١٢ / ٣٥٧.

(٤) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥١ ، شرح النحاس ١٨٢ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٨١.

٢٣٦

وقال عروة الصعاليك :

* سقوني الخمر ثم تكنفوني

عداة الله من كذب وزور (١)

فنصب عداة على الشتم ، ومعنى البيت : أنه كان عنده امرأة سبية فرغبت إلى قومها أن يفادوها منه ، فسقوه الخمر ثم راموه على ذلك ورغبوه في الفداء حتى أجابهم فلما صحا من سكره ندم فهجاهم بهذا.

وأنشد في مثل هذا :

* متى تر عيني مالك وجرانه

وجنبيه تعلم أنه غير ثائر

حضجر كأم التوأمين توكأت

على مرفقيها مستهلة عاشر (٢)

فرفع على معنى هو حضجر يخبر أن مالكا ليس ممن يطلب بثأر لأنه ناعم مترف لا هم له إلا الأكل والشكم فإذا نظرت إلى عنقه وجنبيه ، علمت أنه لا يهتم بثأر. والجران : باطن العنق.

وقوله : توكأت على مرفقيها أي : لعظم بطنها مستهلة عاشر ، أي : فدخلت في أول الشهر العاشر وهذا كقول الآخر :

رأيتكما يا بني أخي قد سمنتما

ولا يدرك الأوتار إلا الملوح (٣)

الأوتار : جمع وتر ، وهو الثأر ، والملوح : الضامر المتغير لكثرة تصرفه وحمله على نفسه.

وأنشد لرجل من أزد السراة :

* قبح من يزني بعو

ف من ذوات الخمر

الآكل الأسلاء لا

يحفل ضوء القمر (٤)

الآكل نصب على الذم ، ويعني به عوفا المخفوض الأسلاء جمع سلى وهي المشيمة وهي مستقذرة وهذا مثل يريد أنه يأتي الأمور القبيحة لا يحفل بظهورها عليه ويروى الأشلاء : وهو جمع شلو : وهو العضو ، كأنه يأكل اللحم ليس له هم إلا الأكل ، ولا يبالي أطلع القمر أم لم يطلع ، لأنه ليس ممن يسافر.

وزعم النحاس عن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش ، أنه كان يقول : العوف هنا :

__________________

(١) ديوان عروة ٩٠ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٢ ، مجالس ثعلب ٣٤٩ ، شرح النحاس ١٨٣ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٨٣ ، اللسان (نسأ) ١ / ١٧٠.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٣ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٨٤ ، ٣٨٥ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٩١.

(٣) شرح الأعلم ١ / ٢٥٣.

(٤) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٣ ، شرح السيرافي ٣ / ٤٨٥ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٥.

٢٣٧

ذكر الرجل ، ومعنى الآكل الأسلاء : أنه يصل إلى الولد فجعله آكلا للأسلاء لوصوله إليها.

وليس هذا بشيء.

قال سيبويه : زعم يونس أنه سمع الفرزدق ينشد :

* كم عمة لك يا جرير وخالة

فدعاء قد حلبت على عشاري

شغارة تقذ الفصيل برجلها

فطارة لقوادم الأبكار (١)

أراد أن عمته وخالته راعيتان ، ألا تراه وصفهما بالحلب.

وفدعاء ناتئة القدم ، وهي المتقاربة العقبين أيضا والعشار : جمع عشراء وهي الناقة التي بلغت عشرة أشهر من حملها ، وربما سميت بذلك بعد النتاج وقوله : شغارة : منصوب على الذم والمعنى أنها ترفع رجلها لتضرب الفصيل فتقذه ، أي : تدق عنقه وتكسره إذا أراد الرضاع ، وهو من قولهم : شغر الكلب برجله إذا رفعها ليبول.

وقوله : فطارة ، أي : تحلب فطرا ، وهو الحلب بالسبابة والوسطى وتستعين بطرف الإبهام ـ والقوادم : الأخلاف المتقدمة من الضرع ، والأبكار : جمع بكر ، وهي التي وضعت أول بطن ، وإنما وصفها بهذا الضرب من الحلب ، لأنه لا يمكن حلبها صبا ، لأن أخلافها صغار قصار.

وأنشد أيضا :

* طليق الله لم يمنن عليه

أبو داود وابن أبي كثير

ولا الحجاج عيني بنت ماء

تقلب طرفها حذر الصقور (٢)

فنصب عيني بنت ماء على الذم.

يصف أن الحجاج جبان يحدد طرفه من الفزع كبنت ماء ، أي كطائر من طيور الماء إذا نظر إلى صقر.

قال : وأما قول حسان بن ثابت :

* حار بن كعب إلا أحلام تزجركم

عنا وأنتم من الجوف الجماخير؟

لا بأس بالقوم من طول ومن عظم

جسم البغال وأحلام العصافير (٣)

__________________

(١) ديوان الفرزدق ٢ / ٤٥١ ، الكتاب ١ / ٢٥٣ ، المقتضب ٣ / ٥٨ ، شرح النحاس ١٨٤.

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٤ ، البيان والتبيين ١ / ٣٨٦ ، شرح النحاس (١٨٤ ، ١٨٥) ، شرح السيرافي ٣ / ٣٨٧ ، شرح ابن السيرافي ٢ / ٦ ، فرحة الأديب ١٣٢.

(٣) ديوان حسان ٢١٣ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٤ ، شرح النحاس ١٨٥ (عنا) شرح السيرافي ٣ / ٣٨٨ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٥٤ ، شرح المفصل ٢ / ١٠٢ ، شرح شواهد المغني ١ / ٢١٠ ، الخزانة ٤ / ٧٢ ، المقاصد النحوية ٢ / ٣٦٢ ، اللسان (جوف) ٩ / ٣٥ (قوا) ١٥ / ٢٠٨.

٢٣٨

فلم يرد أن يجعله شتما وقال الخليل : لو جعله شتما فنصبه على الفعل كان جائزا.

يعني أنه لم يجعل جسم البغل شتما ، لأن عظم الأجسام ليس بشتم ولا ذم : وإنما وصفهم بأن ليس لهم من الأحلام ما يشاكل عظم أجسامهم ، وإنما قال الخليل : ولو نصبه على الشتم لجاز لأن عظم الأجسام مع قلة العقول ذم أبلغ من ذم صغر الجسم.

وأراد بقوله : حار بن كعب : القبيلة ، وكان النجاشي يهاجيه ، وهو منها ، والجوف : جمع أجوف ، وهو العظيم الجوف ، والجماخير : جمع جمخور وهو مثل الأجوف ، وقيل هو الضعيف.

وأنشد في ما نصب على غير مدح ولا ذم :

* وما غرني حوز الرزامي محصنا

عواشيها بالجو وهو خصيب

فنصب محصنا على أعني ، وهو اسم الرزامي ، وليس فيه مدح ولا ذم ، وإظهار الفعل في مثل هذا جائز ولو كان مدحا أو ذمّا ، لم يظهر ، لأن المعنى يدل عليه ، فيصير بدلا منه.

قال : ومن هذا الترحم ، والترحم يكون بالمسكين والبائس ونحوه.

اعلم أن مذهب الترحم غير مذهب التعظيم والشتم لأنهما شيء قد وجب للمعظم والمشتوم وشهرا به قبل التعظيم أو الشتم ، فيذكر على جهة المدح له والذم.

والترحم : إنما هو رقة وتحنن يلحق الذاكر على المذكور في حال ذكره إياه.

وأنشد :

* فأصبح بقرقري كوانسا

فلا تلمه أن ينام البائسا (١)

في تلمه. وقرقري : اسم موضع ـ وأراد بالكوانس إبلا مستقرة في مباركها.

والمكنس : الموضع الذي يكون فيه الظبي ، فاستعاره للإبل ، والبائس : المسكين.

وأنشد :

* بنا تميما يكشف الضباب (٢)

يريد أن نصب المسكين فيه معنى الترحم.

وقوله : تميما : فيه معنى الاختصاص والفخر.

قال : وزعم الخليل أنه يقول : أنه المسكين أحمق وهو ضعيف وإنما ضعف لأنه فصل بين اسم إن وخبرها.

__________________

(١) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٥ ، شرح النحاس ١٨٦ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٩٠ ، همع الهوامع (١ / ٦٦ ، ٢ / ١١٧).

(٢) الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٥٥ وسيكرره الأعلم النكت ٧٠٢ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٩١ شرح المفصل ٢ / ١٨ ، حاشية الصبان ٣ / ١٨٣ ، الخزانة ٢ / ٤١٣ ، المقاصد النحوية ٤ / ٥٠٢.

٢٣٩

وسمى النحويون هذا وما جرى مجراه : الاعتراض ، وجوزوا ذلك لأن فيه اختصاصا للأول وإن كان مرفوعا بإضمار مبتدأ وشبهه الخليل بأنا تميما ، للاختصاص الذي فيه.

هذا باب ما ينتصب لأنه خبر

للمعروف المبني على ما قبله من الأسماء المبهمة.

ترجم سيبويه للباب بالأسماء المبهمة وخلطها بالمضمرة لقرب الشبه بينهما ، ولأنه يبني عليها مسائل الباب.

ومع هذا أن المبرد قال : علامات الإضمار مبهمة كلها ، من قبل أن : هو وأخواتها ، وهذا وأخواتها تقع على كل شيء من الحيوان والموات وغيره.

واعلم أن العامل في الحال في قولك هذا زيد منطلقا الإشارة أو التنبيه فإن أعملت التنبيه فالتقدير : انظر إليه منطلقا ، وإن أعملت الإشارة فالتقدير : أشير إليه منطلقا.

والمقصد أنك أردت أن تنبه المخاطب لزيد في حال انطلاقه فلا بد من ذكر منطلقا ، لأن الفائدة تنعقد به ، ولم ترد أن تعرفه إياه ، وأنت تقدر أنه يجهله ، كما تقول : هذا زيدا إذا أردت هذا المعنى.

والأصل في المسألة : زيد منطلق ، ثم اتفق قرب زيد منك ، فأردت أن تنبه المخاطب عليه ، وتقربه له ، فأدخلت هذا ، وهو اسم ، فلا بد له من موضع إعراب لإصلاح اللفظ ، فرفع بالابتداء لأنه أول الكلام ، وجعل" زيد" خبره ، فاكتفى به ونصب منطلقا على الحال ، ولا يستغنى عنها ، لأنها خبر في المعنى ، كما لا يستغنى عن الرجل في قولك : يا أيها الرجل ، وإن كان صفة لأنه المقصود بالنداء في الأصل.

قال : وتقول هو زيد معروفا.

قال ابن دار :

* أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للناس من عار (١)

فنصب معروفا على الحال المؤكد بها.

واعلم أن النصب في : هذا زيد منطلقا ، على غير وجه النصب في قولك هو زيد معروفا ، ويبين لك أنك لا تقول : هو زيد منطلقا ، فأما النصب في هذا زيد منطلقا ، فقد تقدم ذكره ، وأما النصب في : هو زيد معروفا فعلى جهة التوكيد لما ذكرته وأخبرت به ، وذلك أنك إذا قلت : هو زيد ، فقد أخبرت بخبر يجوز أن يكون حقّا وباطلا ، وظاهره يوجب أن

__________________

(١) الخصائص وشرح الأعلم ١ / ٢٥٧ ، شرح النحاس ١٨٧ ، شرح السيرافي ٣ / ٣٩٦ ، المسائل البغداديات ٤٦ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٥٤٧ ، الخصائص (٢ / ٢٦٨ ، ٣١٧) ، فرحة الأديب ١٨٨ ، شرح المفصل ٢ / ٦٤ ، شرح ابن عقيل ٢ / ٢٧٧ ، حاشية الصبان ٢ / ١٥٨ ، الخزانة ٣ / ٢٦٥.

٢٤٠