النكت في تفسير كتاب سيبويه

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري

النكت في تفسير كتاب سيبويه

المؤلف:

أبي الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى أعلم الشنتمري


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧١٢

وإن شئت أضمرت مثلما أظهرت ، فيكون التقدير : أتضرب زيدا أنت ضاربه ، أو أنت ضارب زيدا أنت ضاربه؟

وكذلك : آلدار نازل فيها؟ وأعمرا أنت واجد عليه؟ وأزيد أنت محبوس عليه؟ ، وأزيدا أنت مكابر عليه؟ ، كأنه قال : انتظر زيدا أنت محبوس عليه ، وأسلبت زيدا أنت مكابر عليه؟

وهذا من أسماء المفعولين التي تجرى مجرى الفعل وتعمل عمله ما دامت على معنى الحال أو الاستقبال ، فإن أريد بشيء منها معنى المضي ، لم يجز أن تنصب ولا أن تكون تفسيرا لما ينصب ، وجرت مجرى سائر الأسماء.

وبين سيبويه في هذا الباب أن اسم الفاعل إذا جمع عمل عمل واحده ، واستشهد على ذلك بقول أبي كبير :

* ممن حملن به وهن عواقد

حبّك النطاق فعاش غير مهبّل (١)

فنون «عواقد» ضرورة ، ونصب بها الحبّك.

ومعنى حملن به : من الحبل ، أي : أنهن حبلن وهن يخدمن ، وكانت العرب تستحب أن تطأ النساء وهن متعبات وفرعات ليغلب ماء الرجل فيكون شبه الولد به.

فيصف أنها حملت به وهي عاقدة حبك نطاقها.

والحبك : الطريق. والمهبل : الكثير اللحم ، وقيل : هو الذي يدعى عليه بقولهم : هبلتك أمك. والهاء في «به» تعود على من.

وقال العجاج :

* أو الفا مكة من ورق الحمي

فصرف أو الفا ونصب «مكة» بها.

وذكر سيبويه أن بعض العرب ينصب بفعال جمع فاعل ، ففرق في العمل والقوة بينه وبين فواعل لأنه قال : «قد أجرى بعضهم فعّالا مجرى فواعل».

فإن قال قائل : ما الفرق بينهما ، وفعال في المذكر كفواعل في المؤنث؟ فالجواب أن فواعل ألزم لفاعلة من فعال لفاعلة ، ولا يقع فواعل لفاعل إلا في ضرورة الشعر ، أو على الشذوذ ، فلما لزمت فواعل فاعلة ، أشبهت فاعلات ، وفاعلات قوية في العمل لجريها على السلامة.

فبمضارعتها للفعل إذا جمع فيه الضمير ، قويت في العمل قوة فاعلات ، ولما لم يلزم فعّال فاعلا لزوم فاعلين ، لم يجر في قوة العمل مجراه ، فكانت الإضافة فيه أكثر من التنوين والنسبة لذلك.

__________________

(١) ديوان الهذليين ٢ / ٩٢ ، الكامل ١ / ١٣١ ، شرح النحاس ٨٩ ، شرح السيرافي ٢ / ٥٩٣.

١٠١

وذكر أن اسم الفاعل إذا غير عن بنائه لما لزمه من معنى المبالغة جرى مجراه قبل التغيير في العمل.

واستشهد على ذلك بقول ذي الرمة :

* هجوم عليها نفسه غير أنه

متى يوم في عينيه بالشبح ينهض (١)

فنصب نفسه بهجوم ، كأنه قال : يهجم نفسه عليها ، أي : يطرح نفسه.

يصف ظليما يطرح نفسه على البيض ما لم ير إنسانا فإذا رآه تنحى حتى لا يهتدي إلى البيض.

وهذا كقول ذي الرمة :

 ـ وبيضاء لا تنخاش منا وأمها

إذا ما رأتنا زيل منها زويلها

وقال أبو ذؤيب

* قلى دينه واهتاج للشوق إنّها

على الشوق إخوان العزاء هيوج (٢)

والبيت للراعي لا لأبي ذؤيب.

يريد أن المرأة هيوج إخوان العزاء وذوي الصبر. فإذا كانت تهيج لذوي الصبر ، فهي لغيرهم أهيج. يصف امرأة ، وأنها لو تراءت لراهب قلى دينه.

وقد ذكر ذلك في بيت قبل هذا

وقال القلاخ :

* أخا الحرب لباسا إليها جلالها

وليس بولاج الخوالف أعقلا (٣)

فنصب جلالها بقوله : لباسا. والأعقل : الذي تصطك ركبتاه إذا مشى.

والخالفة : عمود في مؤخرة الخيمة ، وقيل : هي شقة من بيت الشعر تلي الأرض.

وصف رجلا بأنه يألف الحروب ، ويلبس لها سلاحها وأنه ليس بضعيف الخلقة ولا ألف للبيوت.

وأنشد :

* بكيت أخا لأواء يحمد يومه

كريم رءوس الدار عين ضروب (٤)

نصب رءوسا بضروب.

وفي هذا رد على الكوفيين ؛ لأنهم يأبون التقديم في مثل هذا. واللأواء : الشدة.

__________________

(١) ديوان ذي الرمة ٣٢٤ ، شرح النحاس ٢ / ٥٩٥.

(٢) ديوان الراعي ٢٩ ، شرح الأعلم ١ / ٥٦ ، شرح النحاس ٨٧ ، شرح السيرافي ٢ / ٥٩٦.

(٣) شرح الأعلم ١ / ٥٧ ، المقتضب ٢ / ١١٢ ، شرح النحاس ٨٧ ، شرح السيرافي ٢ / ٥٩٧.

(٤) شرح الأعلم ١ / ٥٧ ، شرح النحاس ٨٨ ، شرح السيرافي ١ / ٤١٢ ، شرح المفصل ٦ / ٧١.

١٠٢

وأنشد لأبي طالب :

* ضروب بنصل السيف سوق سمانها

إذا عدموا زادا فإنك عاقر (١)

أراد : ضروب سوق سمانها.

وصفه بعقر السمان من الإبل للضيف.

واستشهد على تعدي «فعل» بقول ابن أحمر :

* أو مسحل شنج عضادة

سمحج بسراته ندب لها وكلوم (٢)

وخالف النحويين سيبويه في تعدي فعيل وفعل وجريهما مجرى الأفعال.

فقالوا : لا يقال : زيد حذر عمرا ، ولا رحيم بكرا من قبل أن فعلا وفعيلا هما اسمان يثبتان للذات لئلا يجري مجرى الفعل.

واحتج سيبويه على تعديهما بأبيات منها البيت المتقدم.

فقال النحويون : انتصب عضادة على الظرف لا على المفعول. والعضادة : القوائم.

والشنج : اللازم. والمسحل : العير. والسمحج : الأتان الطويلة ، كأنه قال ـ على مذهب النحويين ـ أو حمال لازم يمنة أتان أو يسرة أتان ، أو ناحية أتان على تقدير : لازم في ناحية أتان.

وقال المحتج عن سيبويه : شنج في معنى : لازم العضادة وهي القوائم وهي لا تكون ظرفا. كأنه قال : لازم قوائم سمحج. كما قال :

* قالت سليمى لست بالحادي المدل (٣)

مالك لا تلزم أعضاد الإبل

فأعضاد بمعنى : عضادة ، وقد نصبها بتلزم.

وشنج في معنى ذلك.

واستشهد بقول الشاعر :

* حذر أمورا لا تضير وآمن

ما ليس منجئيه من الأقدار (٤)

فنصب أمورا بحذر. فرد النحويون هذا البيت.

وروى عن أبي عثمان المازني عن اللاحقي أنه قال : سألني سيبويه عن شاهد في تعدي «حذر» فعملت له هذا البيت.

ويروى أيضا لابن المقفع.

__________________

(١) ديوان أبي طالب ٣٥ ، المقتضب ٢ / ٣١١ ، شرح الأعلم ١ / ٥٧ ، شرح النحاس ٨٨.

(٢) ديوان لبيد ١٢٥ ، شرح الأعلم ١ / ٥٧ ، شرح النحاس ٨٩ ، شرح السيرافي ٢ / ٥٩٨.

(٣) ورد في ديوان الشماخ ٣٨٩ ، الكامل ١ / ١٩٩ ، شرح السيرافي ٢ / ٦٠٠ ، المخصص ٣ / ٣٧.

(٤) شرح الأعلم ١ / ٥٨ ، المقتضب ٢ / ١١٦ ، شرح النحاس ٨٩ ، شرح السيرافي ٢ / ٦٠٠.

١٠٣

واستشهد بقول ساعدة :

* حتى شآها كليل موهنا عمل

باتت طرابا وبات الليل لم ينم (١)

فنصب موهنا بكليل.

قال النحويون : هذا غلط من سيبويه ؛ وذلك أن الكليل هو البرق الضعيف وفعله لا يتعدى. والموهن : الساعة من الليل ، فهو ينتصب على الظرف.

وإنما يصف حمارا وأتنا شآها ، أي : ساقها هذا البرق الضعيف في هذه الساعة من الليل ، حتى نفاها من الموضع الذي كانت فيه إلى الموضع الذي كان منه البرق. «وعمل» نعت «لكليل» وأراد أنه كان يبدو مرة بعد مرة ، فبذلك البدو عمل ، وباتت الأتن طرابا قد استخفها الشوق ، وبات الحمار لم ينم من الشوق أيضا والنزاع إلى موضع البرق.

وقد خرّج سيبويه أن «كليلا» في معنى مكل ، فيصير كأنه أراد موهنا بدوامه عليه مما يقال : أتعبت يومك ، ونحو ذلك من المجاز والاتساع.

وأجاز الجرمي تعدي فعل ، وقال : لأنه جاء على وزن الفعل فأشبه أن يكون جاريا مجراه وليس بكثير.

قوله : " ويقال إنه لمنحار بوائكها"

يعني سمانها وأفتاها ، الواحد بائك. ومنحار : مفعال من النحر

وأنشد في تعدي جمع مفعال للكميت ، وليس بحجة عند الأصمعي.

* شم مهاوين أبدان الجزور مخا

ميص العشيات لا خور ولا قزوم (٢)

فعدى مهاوين ، وهو جمع مهوان ، ومعناه أنه يهين اللحم إذا نحر الجزور والخور : الضعاف. والقزم : الحقر. أو هو من الشاة القزمة وهي الحقيرة.

قوله : " لأن هذا لا يقلب ولا يضمر"

يعني الصفة المشبهة باسم الفاعل ، أي : لا يقدم مفعولها عليها كما يقدم على ضارب ، فهذا معنى قوله : " لا يقلب"

وإذا قلت : هذا حسن الوجه والعين ، ولم يصلح أن تنصب العين بإضمار" وحسن العين" ، فهذا معنى قوله : " ولا يضمر"

قال : " ومما أجري مجرى الفاعل من المصدر قول الشاعر"

* يمرون بالدهنا خفافا عيابهم

على حين ألهى الناس جل أمورهم

__________________

(١) ديوان الهذليين ١ / ١٩٨ ، شرح الأعلم ١ / ٥٨ ، المقتضب ٢ / ١١٤ ، شرح النحاس ٩٠.

(٢) شرح الأعلم ١ / ٥٩ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٢١٥ ، شرح المفصل ٦ / ٧٤.

١٠٤

ويرجعن من دارين بجر الحقائب

فندلا زريق المال ندل الثعالب (١)

فنصب المال على وجهين :

ـ إما أن يكون على قولك : اندلي ندلا المال ، فيكون المال منصوبا ب" اندلي" على الحقيقة ، وندلا نائب عنه.

ـ وإما أن يكون منصوبا" بندلا" ، ويكون قوله : ندلا منصوبا بإضمار فعل ، كأنه قال : " أوقعي ندلا وافعلي ندلا"

والدهنا : موضع قفر. ودارين : سوق من أسواق العرب. والبجر : الممتلئة العظام ، يعني قوما تجارا ، وقيل هم لصوص. وزريق : قبيلة.

والندل : العطية. وقال بعضهم : الندل الأخذ باليدين جميعا.

وقوله : ندل الثعالب ، يريد : سرعتها في الأخذ والكسب وفي المثل" أكسب من ثعلب" وقال المرار الأسدي :

* أعلاقة أم الوليد بعد ما

أفنان رأسك كالثغام المخلس (٢)

فنصب "أم" بقوله أعلاقة ، أو بإضمار فعل على ما بيناه في البيت الذي قبله. و "ما" مع الجملة التي بعدها بمعنى المصدر ، وتقديره : أتعلق بعد إشباه رأسك الثغام.

والأفنان : الأغصان ، وأراد بها خصل الشعر. والثغام : نبت أبيض.

والمخلس : الذي اختلط سواده ببياض. والمعنى : أتعلق أم الوليد بعد الكبر والشيب.

وقال الشاعر :

* بضرب بالسيوف رءوس قوم

أزلنا هامهن عن المقيل (٣)

فنصب الرءوس بالضرب لمّا نوّنه.

والهام : الرءوس ، (وأضافها إليها لاختلاف اللفظين تأكيدا).

وأراد بالمقيل : الأعناق ؛ لأنها مقيل للرءوس ، أي مستقر.

قال : " وتقول أكل يوم أنت فيه أمير؟ ترفعه لأن أميرا ليس بفاعل ".

فهو كقولك : أزيد تذهب به؟ يعني أن أميرا ليس في معنى فعل فتضمر فعلا ينصب" كل".

فإن قلت : فإن الأسماء التي لا تجري مجرى الفعل تعمل في الظروف ، فهلا أضمرت فعلا ينصب" كل" ويكون" أمير" تفسيرا له ، كما تنصب الظروف إذا قلت : زيد أمير يوم الجمعة؟

__________________

(١) ديوان الأحوص ٢١٥ ، شرح الأعلم ١ / ٥٩ ، الكامل ١ / ٢٨٤ ، شرح النحاس ٩٠ ـ ٩١.

(٢) شرح الأعلم (١ / ٦٠ ـ ٢٧٣) ، المقتضب ٢ / ٥٤ ، شرح النحاس ٩١ ، شرح السيرافي ٢ / ٦١١.

(٣) الكتاب (١ / ٦٠ ـ ٩٦) ، شرح النحاس (٥٤ ـ ٧٤ ـ ٩٢) ، شرح المفصل ٦ / ٦٢.

١٠٥

قيل له : المعاني وإن كانت تعمل في الظروف فإنها لا يبلغ (من) قولتها أن تكون تفسيرا لفعل مضمر إذ (كانت) هي لا تجري مجرى الأفعال ولا يكون لها تلك القوة.

قال : لو جاز أن تنصب كل يوم ، لقلت : أعبد الله عليه ثوب ، لأنك تقول : أكل يوم لك ثوب يعني أن الأمير ليس يجري مجرى الفعل. فهو بمنزلة الثوب ، ولا تنصب الاسم الأول وإن كان ضميره متصلا بمنصوب ، لأن ذلك المنصوب نصبه كنصب الظرف بمعنى : أستقر.

فإذا قلت : أعبد الله عليه ثوب؟ فتقديره : أعبد الله استقر عليه ثوب؟ كما تقول : أعبد الله خلفه ثوب؟.

ولو أظهرت الاستقرار لنصب" عبد الله" وذلك قولك : أعبد الله استقر عليه ثوب؟ وقولك : أكل يوم لك ثوب؟ تنصب كل يوم بالظرف.

والعامل فيه معنى الاستقرار ، فإذا شغلت الظرف بضمير اليوم ، خرج اليوم من أن يكون ظرفا ، ولم تنصبه لأنه لم يظهر فعل ولا اسم فاعل.

باب الأفعال التي تستعمل وتلغى

اعلم أن هذه الأفعال تدخل على جمل هي أسماء وأخبار ، فتحدث الشك أو اليقين في أخبارها فلذلك لم يجز الاقتصار على أحد المفعولين.

فأما ظننت وحسبت ودخلت ، فمعناها واحد ، وهو أن يتصور الشيء في القلب من غير استثبات ولا دليل عليه.

وأما علمت ، فتكون لمعرفة الاسم بعد أن لم يعرف قبل ، وتكون لعلم الخبر بعد جهله ، وقد كان العلم بالاسم ثانيا.

وأما زعمت : فإنه قول يقترن به اعتقاد ومذهب ، وقد يصح ذلك وقد لا يصح ولو كان الزعم في معنى القول المحض لحكي ما بعده كما يحكى ما بعد القول وأنشد سيبويه في إلغاء الظن إذا توسط للعين المنقري يهجو العجاج :

* أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني

وفي الأراجيز ـ دخلت ـ اللوم والخور (١)

فاللؤم مبتدأ ، والخبر قوله : وفي الأراجيز ، فاعترضت" دخلت" بين الابتداء والخبر ، فألغيت.

قوله" لأنه إنما يجيء بالشك بعد ما مضى كلامه على اليقين أو بعد ما يبتدئ وهو يريد اليقين ثم يدركه الشك"

يعني بهذا أحد الوجهين : ـ إما أن يبتدئ كلامه وليس في قلبه منه مخالجة شك ، فإذا

__________________

(١) شرح الأعلم ١ / ٦١ ، شرح النحاس ٩٣ ، شرح السيرافي ٢ / ٦٢٧ ، المقتصد ١ / ٤٩٦.

١٠٦

مضى كله أو بعضه على لفظ اليقين لحقه فيه الشك ، كما تقول : عبد الله أمير ، على طريق الإخبار بذلك وأنت لم تشاهده ، فيجب أن تستظهر في خبرك فتقول : بلغني أي هذا الذي قلته فيما بلغني لا في ما شاهدته.

ولو قدمت "بلغني" لم يجز ، لأن "بلغني" فعل و "عبد الله أمير" جملة ، فلا تكون فاعلة ، ولكن تقول : بلغني إمارة عبد الله ، كما تقول من يقول ذلك تدري؟ مستفهما ، فمن مبتدأة ، ويقول خبرها ، وتدري ملغى. ولو قدمته لعمل تدري في" من" وصارت في معنى الذي.

وقد يقول القائل : زيد قائم ظننت وزيد ظننت قائم ، وهو في أول كلامه شاك ، غير أنه لا يعمل الشك ، كما يقول القائل : زيد أمين وهو يضمر عندي ، أو في ظني ، فإذا جاز هذا ، جاز أن يظهر ما أضمر ، ويكون الكلام على حاله.

(قال بعضهم : سمعت محمد بن الوليد يقول : سيبويه يجيز ظننت زيد منطلق فيلي الظن مقدما ومؤخرا ، لأن الظن بمنزلة القول عنده.

وقال لنا علي بن سليمان : هذا كلام إنسان لا يعرف باب الظن ، لأنا إذا قلنا. أزيد منطلق ظننت فإنما ، بنينا كلامنا على الابتداء ، ثم جئنا بالظن وألغيناه ؛ لأن المعنى زيد منطلق في ظني فإذا قلت : ظننت زيدا منطلقا بنينا كلامنا على الفعل ووليه المفعول به ، فكيف يرفع المفعول به وقد بدأنا بالفعل وأوقعناه عليه. والبيت قد جرى تفسيره في الكتاب).

وأنشدني لأبي ذؤيب :

* فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإنّي شريت الحلم بعدك بالجهل (١)

وشريت بمعنى اشتريت وبمعنى تعبت

وأنشد للنابغة الجعدي :

* عددت قشيرا إذ عددت فلم أسأ

بذاك ولم أزعمك عن ذاك معزلا (٢)

فعدى أزعم إلى مفعولين ، والتقدير : فلم أزعمك معزلا عن ذلك. وقشير قبيلة قوله : " وإنما يحكى بعد القول ما كان كلاما لا قولا"

يعني بالكلام الجملة التي عمل بعضها في بعض وبالقول : المصدر

فقولك : قال زيد قولا ، وقال زيد خيرا لأن معناه قولا خيرا.

قوله : " وكذلك ما تصرف من فعله إلا" تقول" في الاستفهام" إلى قوله" كلغة بني تميم".

اعلم (أن القول قد يستعمل في معنى الظن والاعتقاد ، وذلك أن القول والظن يدخلان

__________________

(١) ديوان الهذليين ١ / ٣٦ ، شرح الأعلم ١ / ٦١ ، شرح النحاس ٩٣ ، شرح السيرافي ٢ / ٦٠٣.

(٢) ديوان النابغة ١١٤ ، شرح الأعلم ١٦٢ ، شرح النحاس ٩٤.

١٠٧

على جملة ، فتصورهما في القول هو الظن أو العلم ، والعبارة عنهما باللسان : هو القول. ومن ذلك قول القائل : هو قول فلان ، ومذهب فلان.

فإذا قلت أتقول زيدا منطلقا ، فإنما تريد أن تستفهمه عن ظنه لأن أكثر ما يقول الإنسان لمخاطبه أتقول كذا وكذا؟ وما تقول في كذا؟ وهو إنما يريد به ما تعتقد ، وإلى أيش تذهب؟

ألا ترى أنك لو قلت لفقيه : ما تقول في تحريم المسكر؟ فقال لك أنا أقول بتحريم القليل منه لكان معناه : أعتقد هذا وأذهب إليه : وكثر هذا المعنى فأجروه مجرى الظن.

فإذا قالوا للمخاطب : أيقول زيد عمرو منطلق؟ حكوا لأنه لم يكن أن يستفهم (المخاطب) عن ظن غيره.

فجعله سيبويه بمنزلة تشبيه أهل الحجاز" ما" بليس ، ما لم تغير عن وجهها في نفي خبرها وتأخره ، فإذا غيرت عن هذا ، لم تقو قوة ليس في العمل ، كما لم يقو القول ـ في غير استفهام المخاطب ـ أن يعمل عمل الظن ، لأنه لم يكثر ككثرته فرجع إلى القياس.

وأنشد للكميت :

* أجهالا تقول بني لؤي

لعمر أبيك أم متجاهلينا (١)

فأعمل تقول عمل الظن.

وأنشد لعمر بن أبي ربيعة :

* أما الرحيل فدون بعد غد

فمتى تقول الدار تجمعنا؟ (٢)

فنصب الدار بتقول. وتجمعنا في موضع مفعول ثان.

قال : " وإن شئت رفعت بما نصبت وجعلته حكاية"

يعني إن شئت حكيت بعد القول في الاستفهام ولم تجعله في مذهب الظن وغلطه أبو عثمان في قوله" وإن شئت رفعت بما نصبت" فقال الرفع بالابتداء والخبر ، والنصب بالفعل على معنى الظن.

فقال المحتج عن سيبويه : إن هذا لا يذهب على من هو دون سيبويه وإنما أراد : وإن شئت رفعت في الموضع الذي نصبت ولم يعرض لذكر العامل كما : زيد بالبصرة ، إنما تريد في البصرة.

وقد يجوز أن يكون المعنى : وإن شئت رفعت بما نصبت ، والباء زائدة كما قال عز وجل : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أي تنبت الدهن.

__________________

(١) ديوان الكميت ٣ / ٣٩ ، شرح الأعلم ١ / ٦٣ ، المقتضب ٢ / ٣٤٨ ، شرح النحاس ٩٤.

(٢) ديوانه ٣٩٤ ، شرح الأعلم ١ / ٦٣ ، المقتضب ٢ / ٣٤٩ ، شرح النحاس ٩٥.

١٠٨

وكقول الشاعر :

* سود المحاجر لا يقرأن بالسور (١)

يريد : لا يقرأن السور.

(وإن شئت رفعت بالقول على الحكاية كما نصبت على معنى الظن ، فسميه رافعا وإن لم يعمل شيئا لأنه علة لارتفاع ما بعده على المبتدأ لحكاية المبتدأ ونقله على ما كان عليه ، فسماه رافعا مجازا ، كما يقال : في الحروف الملغاة المبتدأ ما بعدها : حروف الرفع ، والحروف التي ترفع ما بعدها بالابتداء والخبر كقولك : إنما زيد منطلق ، وكأنما عمرو ، وما أشبهه).

قوله : " وهو في أين ومتى أحسن إذا قلت : متى ظنك زيد ذاهب" إلى قوله" كما ضعف غير ذي شك زيد ذاهب وحقا عمرو منطلق"

اعلم أن سيبويه قد أجاز في هذا الموضع إلغاء الظن ، وقد تقدم المفعولين إذا كان قبل الظن شيء متصل بالمفعول الثاني ، فأجاز : متى تظن عمرو منطلق؟ ومتى ظنك زيد ذاهب؟ فزيد مبتدأ ، وذاهب خبره ومتى ظرف للذهاب.

وقد رد ذلك أبو العباس وغيره ، وقال : هذا نقض الباب لأنه قدم أظن وألغاه.

فقال المحتج عن سيبويه : أنه إنما شرط أن يتقدم الفعل وليس قبله شيء في صلة ما بعده ، فإذا تقدم شيء مما بعده قبل أن يأتي بفعل الشك ، فقد مضى ذلك اللفظ على غير الشك فجاز فيه الإلغاء كما جاز في أين تظن زيد ، إذا تقدم الخبر.

وقوله : " كما ضعف غير ذي شك زيد ذاهب وحقا عمرو منطلق"

اعلم أن" حقا" وغير ذي شك وما جرى مجراهما تؤكد بهن الجمل وتحقق ، ولا يأتين مبتدآت إذا أردت ذلك المعنى لأنك إذا قلت زيد منطلق حقّا فقد وكدت إخبارك بانطلاقه ، وكأنك قلت : أحق ذلك حقا لأن إخبارك بالجملة ظاهرها يدل على أنك تخبر بما يحققه و (ما) هو صحيح عندك فلا يقدم هذا التأكيد ، فضعف تقديم الظن كضعف تقديم هذا لأنه نقضه وكذلك غير ذي شك لأنه في معنى حقا.

قوله : " فإنما يضعف هذا إذا ألغيت ، لأن الظن يلغي في مواضع أظن" إلى قوله" ولفظك بذاك أحسن من لفظك بظني"

يعني أنه ضعف : عبد الله أظنه منطلق ، لأن الظن قد ألغي والمصدر تأكيد ، فكره أن يؤتى بتأكيد شيء قد ألغي.

قوله : " ألا ترى" أنك" لو قلت : زيد ظني منطلق ، لم يجز أن تضع ذاك في موضع ظني"

__________________

(١) شرح السيرافي ٢ / ٦٤٠ ، مغني اللبيب ١ / ٩٢ ، شواهده ١ / ٣٤ ـ ١١٦.

١٠٩

يريد أن ظني أدل على أظن من ذلك ، فلذلك صار ذاك أبعد من التأكيد ، ألا ترى أنك (تقول) زيد ظني منطلق ، ولا تقول : زيد ذاك منطلق.

قال" وسألت عن أيهم ، لم لم يقولوا : أيهم مررت به"؟

إن قال قائل : لم لم يختر النصب وهو استفهام كما اختير في قولك أزيدا ضربته؟

قيل له : لأنا إذا قلنا : أزيدا ضربته؟ فحرف الاستفهام منفصل من زيد وهو أولى بالفعل ، فأضمرنا بينه وبين زيد فعلا ينصبه.

و "أيهم" لم يدخل عليه حرف" وإنما صيغ لفظه للاستفهام ، ولم يكن فيه حرف هو أولى بالفعل فصار بمنزلة زيد ضربته في الاختيار.

(وفرق سيبويه بين قولهم : أيهم زيدا ضرب؟ ومن زيدا ضربه؟ وبين قولك أيهم زيدا ضربته؟ فأجاز تقديم الاسم على الفعل في" أي" و" من" ولم يجزه في متى وأين إلا في الشعر.

والذي أوجب الفرق بينهما أن "أيا" و "من" بمنزلة حرف الاستفهام مع الاسم غير الظرف ، فكما يجوز : أزيد عمرا ضربه؟ وهل زيد عمرا ضربه؟ يجوز : أيهم زيد ضربه؟ ومن زيدا ضربه؟

وكما لا يجوز في الكلام : هل يوم الجمعة زيدا ضربته؟ وهل في الدار عمرا ضربته؟ لم يجز فيه : متى زيدا ضربته؟ ولا (أين زيدا) ضربته؟ لأن الظرف لا يفصل لتأخره في المعنى ، فكأنك قلت : هل زيدا ضربته يوم الجمعة؟ وهل عمرا ضربته في الدار؟

وأما قولك : هل زيدا عمرا ضرب؟ فزيد في موضعه لا ينوي به التأخير وما بعده من الجملة خبر عنه ، وبعد الفعل من حرف الاستفهام لاعتراض الاسمين بينه وبينه فجاز لذلك).

هذا الباب من الاستفهام يكون الاسم فيه رفعا

وذلك قولك" زيد كم مرة رأيته"

اعلم أنك إذا ابتدأت اسما وأتيت بعده بجملة مصدرة بحرف الاستفهام فيها فعل ناصب لضمير الاسم المبتدأ ، فلا يصلح نصب ذلك الاسم بإضمار فعل آخر لأن ما بعد حرف الاستفهام لا يكون مفسرا لفعل قبله ، كما لا يكون عاملا في اسم قبله ، وتفسير ذلك أنك لو نزعت ضمير زيد من رأيته ، فقلت :

زيدا كم مرة رأيت؟ لم يجز لأن الاستفهام لا يعمل ما بعده فيما قبله ، فكذلك لا يكون ما بعده تفسيرا لما قبله.

قال : " وإذا كان الفعل في موضع الصفة فهو كذلك"

يعني أن الصفة لا تعمل فيه قبل الموصوف ، لأنها من تمام الموصوف كالصلة من الموصول ، فكذلك لا يعمل المضاف إليه فيما قبل المضاف لأنه من تمام المضاف ، وكذا

١١٠

تقول : هذا رجل ضارب زيدا ، ولا يجوز أن تقول : هذا زيدا رجل ضارب ، وتقول. هذا غلام ضارب زيدا ، ولا تقول : هذا زيد غلام ضارب.

وقد أجاز النحويون : هذا زيدا غير ضارب ، فنصبوا زيدا بضارب ، وإنما ذلك لأن" غير" معناها" لا" فكأنك قلت : هذا زيدا لا ضارب ، وهذا جائز جدّا.

قال" وإذا" كان وصفا فأحسنه أن يكون فيه الهاء لأنه ليس بموضع إعمال ولكنه يجوز كما جاز في الوصل"

إذا قلت : أزيدا أنت رجل تضربه ، فإنه أحسن من قولك : أزيد أنت تضرب وقوله" لأنه ليس بموضع إعمال"

فليس يصل الفعل إلى شيء قبله ، كما أنك إذا قلت : زيد ضربته ثم حذفت الهاء فقلت : زيدا ضربت ، فلما لم يكن كذلك لم يحسن حذف الهاء.

وأنشد في وقع الفعل نعتا (لبعض الرجاز)

* أكل عام نعم تحوونه

يلقحه قوم وتنتجونه (١)

فجعل تحوونه نعتا للنعم ، فلا يجوز نصبه على هذا ، ولو نصبت على غير هذا الوجه لجاز.

كأنه يقول : أكل عام تحوون نعما تحوونه

فإن قال قائل : كيف جاز أن يكون الظرف من الزمان خبرا للنعم وهو جثة؟ قيل له :

التقدير فيه أكل عام حدوث نعم تحوونه ، وذلك أنه أراد أن كل عام تحوون نعما تأخذونه ، فكأنه في كل عام نعم حادث ، فصار كقولك الهلال الليلة والمعنى : في الليلة حدوث الهلال.

وأنشد لزيد الخيل :

* أفي كل عام مأثم تبعثونه على

محمر ثوبتموه وما رضا (٢)

فجعل تبعثونه نعتا للمأثم.

وقوله : على محمر ، يريد : فرسا في أخلاق الحمار.

وثوبتموه : من الثواب ، أي أعطيتموه ثوابا.

وقوله : رضا يريد رضي ، وهو لغة لطيء ، يقلبون الياء ألفا في ما لا يلتبس لأن الألف أخف من الياء.

قوله : " وإنما يكون بمنزلة الفعل نكرة وأصل وقوع الفعل صفة للنكرة".

يعني أن الفعل في الأصل نكرة. ومعنى قولنا نكرة ، أنه تنعت به النكرة وكذلك الجمل

__________________

(١) شرح النحاس ٩٦ ، شرح السيرافي ٢ / ٦٦٢ ، شرح ابن السيرافي ١ / ١١٩.

(٢) ديوان كعب بن زهير ١٣١ ، نوادر أبي زيد ٨٠ ، شرح السيرافي ٢ / ٦٦٣.

١١١

كلها نكرات ، وإنما صارت كذلك من قبل أن كل جملة تقع بها فائدة ، فوقوع الفائدة بها دليل على أنها لم تكن معلومة من قبل ذلك فلذلك لم يعمل من أسماء الفاعلين إلا ما كان منكورا ، وهو ما كان للحال والاستقبال ، وهذا معنى قوله" كما لا يكون الاسم كالفعل إلا نكرة".

قوله : " مما لا يكون في الاستفهام إلا رفعا قولك : أعبد الله أنت أكرم عليه أم زيد".

اعلم (أن) أفعل لا يعمل في شيء من الأسماء إلا في المنكور على وجه التمييز كقولك : زيد أكثر مالا منك ، ولا يجوز تقديمه عليه ، لا تقول : زيد ما لا أكثر منك. فإذا كان كذلك فلا يجوز نصب عبد الله في المسألة من وجهين

ـ أحدهما : أن عبد الله معرفة ، فلا يعمل فيه أكرم وبابه.

ـ والثانية : أنه لو كان منكورا يعمل فيه أكرم ما جاز تقديمه عليه.

قوله : وليس للفعل الأول سبيل لأنه مع" إن" بمنزلة قولك : أعبد الله حين تأتي تضرب؟

وقد قدمنا أن ما قبل المضاف لا يعمل فيه المضاف إليه. وكذلك إذا قلت حين تأتي زيدا يكرمك ، لا يجوز أن تقول : زيدا حين تأتني يكرمك ، لأنك أضفت" حين" إلى" تأتي" ، فلم يجز أن تعمل تأتي فيما قبل الحين المضاف إليه.

فكذلك إذا قلت : أعبد الله حين يأتني تضرب؟ تنصب عبد الله لأن التقدير أتضرب عبد الله حين تأتي؟ ولا ترفعه حملا على ضميره المرفوع في يأتي لأن يأتي لا يعمل فيه قبل الحين فلا يحمل عليه ما قبل الحين ، كما لا يعمل فيه.

قوله : " لأنه بمنزلة قولك : أعبد الله يوم الجمعة تضرب؟ "

هل" الجمعة" بمنزلة يأتي ، وجعل" يوم" بمنزلة حين ليريك أن يأتي مضاف إلى الحين وأن لا تسلط له على ما قبله.

قوله : " وترفع الجواب حين يذهب الجزم من الأول في اللفظ" إلى قوله : " وأما الفعل الأول ، فصار مع ما قبله بمنزلة حين وسائر الظروف"

يعني أنك إذا رفعت الفعل الذي بعد إذا رفعت الجواب ، لأن الشاعر شبهها" بأن" فإذا رفع شرطها لم يجزم جوابها ، لأنه قد أخرجها برفع الشرط من شبه" إن".

وقوله : " والاسم مبتدأ ههنا إذا جزمت"

يعني : إذا جزمت جواب إذا ؛ كان الاسم الذي قبل إذا مرفوعا بالابتداء ولم يعمل فيه الجواب المجزوم كما لا يعمل جواب الشرط فيما قبل الشرط.

قال : " وكذلك حين إذا قلت : أزيد حين يأتيك تضرب؟ "

ويعني : إذا جعلت تضرب جوابا لأن قولك : حين يأتيك ، فيه معنى المجازاة ، وهو بمنزلة إذا.

١١٢

قوله : " أزيد إن يأتك تضربه؟ لا تكون الهاء فيه إلا لزيد".

قد رد عليه ذلك ، لأنا نقول : أزيد إن يأتك تضرب عمرا؟ فيقع موقع الهاء الأجنبي.

والجواب عن سيبويه أنه أراد أن زيدا إن أخلى ضميره من جملة الكلام بطل رفعه ، وعبر بالهاء عنها وعن الضمير المرفوع الذي في يأتيك لأنهم شيء واحد.

ووجه ثان : وهو ما قاله أبو إسحاق الزجاج : أن هذا ليس من كلام سيبويه.

قوله" وكذلك زيد حين يأتيك فاضرب" إذا جعلت" فاضرب" جوابا رفعته ، أي : إذا أحللت فاضرب على الجواب المجزوم رفعت زيدا.

والأحسن أن تأتي بالهاء إذا جعلته جوابا ونصب زيد أحسن ، على أن تجعل" أضرب" في نية التقديم كأنك قلت : أضرب زيدا حين يأتيك.

قال : وقع في هذا الباب" وليس هذا بالقياس (يعني إذا لم تجزم بها) لأنها تكون بمنزلة حين"

يعني أن القياس : نصب زيد إذا لم تجزم بإذا وتجعلها بمنزلة" إن" فحكم الفعل أن يعمل فيما قبلها إذا حسن تقديمه نحو قولك : زيدا إذا أتاك فاضرب ، لأنه يحسن أن تقول ، زيدا فاضرب إذا أتاك ، ولا يمتنع هذا الفعل من التقديم ونصب الاسم به فالقياس أن تنصب به.

قال : " وإذا وحين لا تكون واحدة منهما خبرا لزيد"

يعني أنك إذا قلت : زيدا حين يأتين أضرب أو زيدا إذا يأتيني أضرب ، فكأنك قلت : زيدا أضرب. فالأجود أن تنصب زيدا لأن حين وإذا كاللغو إذا كانا غير خبرين ، ولا يستثنى بهما زيد.

ولو جاز أن يكونا خبرين لحسن الرفع ، كقولك زيد في الدار أضرب فرفع زيد في هذا الموضع أحسن ، لأنه قد تم الكلام بالظرف وهو غير محتاج إلى الفعل فيكون أضرب على كلام آخر.

(وقد قيل إن هذا التفسير لإذا وحين ليس من كلام سيبويه لأنك لو قلت : زيدا إذا أتاك فاضرب ، وزيد حين يأتيك تضرب ، فلست (تجعل) إذا وحين مع الفعلين المتصلين بهما خبرا عن زيد دون الجوابين ، فيمتنعا من أن يكونا خبرا عنه ، وإنما تجعلهما مع الفعلين الأولين والفعلين الآخرين خبرا عنه لأنهما مع ما بعدهما جملتان فيهما ضمير كما تجعل إن مع الشرط والجواب خبرا عن زيد إذا كان فيه ذكره وضميره ، فتقول : زيد إذا أتاك فاضرب ، وزيد حين يأتيك فاضرب كما تقول : زيد إن أتاك فاضرب).

قوله : فإن قلت : زيدا يوم الجمعة أضرب ، لم يكن فيه إلا النصب"

إلى قوله : " زيد يوم الجمعة فأنا أضربه لم يجز"

١١٣

تحصيل هذا الكلام إنك إذا قلت زيدا إذا أتاك فاضرب ، كان الاختيار النصب وجاز فيه الرفع وجهين.

ـ أحدهما : أن تجعل فاضرب جوابا.

ـ والثاني : أن لا تجعله جوابا وتظهر الهاء على قول من قال : زيد ضربت وإذا قلت : زيدا يوم الجمعة أضرب فالنصب فيه الوجه.

ويجوز فيه الرفع من وجه واحد وهو على قول من قال : زيد إذا كان لا يجوز فيه الجواب.

وقوله" فهذا يدلك على أنه يكون على غير قولك : زيدا فاضرب حين يأتك"

يعني أنه لما جاز أن تقول : زيد حين يأتيك فأنا أضربه ، وزيدا إذا يأتيك فأنا أضربه ، فتجعل الفاء جوابا.

ولا يجوز (زيد) يوم الجمعة فأنا أضربه على جعل الفاء جوابا دلك ذلك على أن قولك : زيد حين يأتيك فاضرب ، قد يكون على غير قولك : زيدا فاضرب حين يأتيك.

ووقع في آخر هذا الباب قول لا يدري لمن هو.

قال : " وهو عندنا غير جائز إلا أن يكون الأول مجزوما في اللفظ"

يعني أنك لا ترفع زيدا إذا قلت : زيدا إذا يأتيني أضرب إذ كان قولك يأتيني بمنزلة يوم الجمعة حين لم تجزم الفعل ، فإذا جزمت الفعل فقلت : زيد إذا يأتيني أضرب ، رفعت زيدا إذ أحللت إذا محل إن وسيبويه يحلها محل" إن" وإن كان ما دونها مرفوعا لأن فيها معنى الجزاء.

باب الأمر والنهي

اعلم أن الأمر والنهي هما بالفعل فقط لأنك تأمر بإيقاع فعل وتنهي عن إيقاع فعل وربما أمرت باسم هو في معنى القول كقولك : عندك زيدا ، ودونك عمرا. فإذا قلت : زيد أضربه نصت على تقدير أضرب زيدا أضربه وكذلك النهي والنصب فيهما أقوى من الاستفهام من قبل أن الأمر والنهي لا يكونان إلا بفعل ، والاستفهام قد يكون بغير فعل ، كقولك : أزيد أخوك؟ وأعبد الله عندك؟

وإذا قلت : زيدا فاضربه ، فإنما أدخلت الفاء ، لأن حكم الأمر أن يكون الفعل فيه مقدما ، فلما قدمت الاسم ، أضمرت الفعل وجعلت الفاء جوابا له. وتقدير الكلام على المعنى : تأهب فاضرب زيدا ، وكذلك إذا قلت : زيدا فاضرب ، فهو على هذا التقدير. وما بعد الفاء عامل في ما قبلها كما كان عاملا في قولك : أما زيد فضربت : لأنك لما حذفت الفعل من صدر الكلام جعلت تقويم الاسم عوضا منه.

ويجوز أن تقول : زيد فاضربه على تقدير : هذا زيد فاضربه (أو هو زيد فاضربه) ، فهذا

١١٤

تقدير سيبويه وغيره من شارحي الكتاب.

واضطرهم إلى تقدير هذا الإضمار أن الفاء (مع ما بعدها لا تكون خبرا) عن زيد ، فكما لا يقال : زيد فمنطلق ، لا يقال : زيد فاضربه على ابتداء والخبر.

والقول عندي أنه كلام لا إضمار فيه (وذلك) في باب الأمر دون باب الخبر. لأنه لفظ ابتداء وخبر لا معنى ابتداء وخبر ، ذلك أن معنى قولك : زيد فاضربه ، كمعنى : زيدا فاضربه بالنصب ، وهما منقولان من قولك : اضرب زيدا.

فلما تقدمت المفعول على الفاعل للاهتمام به كما نقدمه في الخبر ، ثم شغلت الفعل عنه بضميره ، جاز لك أن ترفعه كما ترفعه في الخبر إذا قلت زيد ضربته ، فجرى على لفظ المرفوع ، وإن كان معناه معنى المنصوب ، فلم تمتنع الفاء من دخولها فيما بعدها ـ مرفوعا ـ لا تمتنع من دخولها عليه منصوبا. ولو جاز في (قولك) زيدا فضربت ، وزيد فضربته بالرفع ، كما جاز زيد لا ضربه ، لجواز : زيدا فاضربه بالنصب ، فدخول الفاء على هذا كدخولها في قولك : أما زيد فضربته ، تراجع المعنى ضربته ، ثم دخلت الفاء في الخبر لما حدث في الكلام من معنى الشرط بدخول" أما" وصارت الفاء كما ترى معترضة بين المبتدأ والخبر كما اعترضت بين المفعول والفعل في قولك : أما زيدا فضربته فهذا بين إن شاء الله.

ومجاز الآيات التي استشهد بها سيبويه ـ رحمه الله ـ بما أجمع القراء على رفع الاسم فيه مع إتيان الفاء في خبره ، وكذلك ما استشهد به من الأبيات على هذا فتدبره تجده مستمرا في بابه شائعا إن شاء الله.

قال الشاعر

* وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

وأكرومة الحيين خلوكما هيا (١)

أرادك هذه خولان فلذلك أدخل الفاء.

ومعنى" أكرومة الحيين خلوكما هيا من قول القائلة أراد أن هذه الفتاة التي أشارت عليه بتزويجها خلو كما كانت لم تتزوج ، وإنما قال : الحيين لأن خولان قد اشتملت على حيين ، وعلى أحياء ويجوز نصب خولان كما مر في أول الباب وأنشد لعدي بن زيد :

* أرواح مودع أم بكور

أنت فانظر لأي ذاك (٢)

استشهد بقوله : أنت فانظر ، وهو يشبه زيد فاضربه. ولم يجزه على إضمار بسبب (دخول) الفاء ، فتأول ذلك على وجوه أراد بها تصحيح دخول الفاء ، وجملة تأوله ثلاثة أوجه :

منها أن يرفع" أنت بفعل مضمر يفسره الظاهر الذي فيه ضميره كأنك قلت : انظر أنت

__________________

(١) شرح الأعلم ١ / ٧٠ ، إعراب القرآن ١ / ١٩٠ ، شرح النحاس ٩٨ ، شرح السيرافي ٢ / ٧٠٤.

(٢) ديوان عدي ٨٤ ، شرح الأعلم ١ / ٧٠ ، الشعر والشعراء ١ / ٢٢٥ ، شرح النحاس ٩٨.

١١٥

فانظر ، فيكون الرفع للضمير تفسيرا لفعل يرفع أنت على رتبة المنصوب في قولك : زيد فاضربه.

والوجه الثاني : أن تجعل أنت مبتدأ وتضمر له خبرا ، وتجعل الفاء جوابا للجملة كأنه قال : أنت الراحل كما تقول : أنت الهالك ثم تحذف فتقول : أنت لدلالة الحال عليه ، ومثال هذا أن تقول إذا وصف أهل النحو فقال الناس : الخليل أي الخليل النحوي.

والوجه الثالث : أن تجعل أنت (في نيتك) خبرا لمبتدأ ، كأنك نويت الراحل أنت ، وجعلت في نيتك المبتدأ.

وقال سيبويه في هذا الوجه الثالث :

وهذا على قولك : شاهداك ... أي ما يثبت لك شاهداك

ومعنى هذا أن يتقدم رجلان إلى حاكم أو غيره ، فيدعي أحدهما على الآخر (شيئا) فينكره ، فيقول الحاكم : شاهديك ـ على معنى : أحضر شاهديك ، وإن شاء قال : شاهداك ، أي الشيء الذي يثبت لك ويصح شاهدا. وحقيقة هذا الكلام : ما ثبت لك شهادة شاهدك.

ـ ويجوز أن ترفع" أنت ببكور لأن المصدر يعمل عمل الفعل كأنك قلت أتتروح أم تبتكر أنت؟

ـ ويجوز أيضا أن تجعل البكور في معنى باكر كما تقولك أنت إقبال وإدبار ، أي مقبل ومدبر.

وفي البيت أرواح مودع أم بكور ، والرواح لا يودع ..

قال الأصمعي : يودع فيه ، كما قال (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [يونس : ٦٧] أي يبصر فيه. وتحقيقه من جهة النحو : أرواح ذو توديع فبني له من المصدر الذي يقع فيه اسم الفعل وإن لم يكن جاري على الفعل ، كما قالوا : رجل رامح ونابل ، على معنى ذوي رمح وذوي نبل.

وأنشد سيبويه لأبي الأسود الدؤلي :

* أميران كانا أخياني كلاهما

فكلا جزاه الله عني بما فعل (١)

فنصب" كلا" بفعل مضمر ، لأن الدعاء بمنزلة الأمر ، فهو بالفعل أولى.

قوله : وقبح تقديم الاسم في سائر حروف الحروف لأنها حروف تحدث قبل الفعل إلى قوله : ما يقبح حذف الفعل بعد حروف الجزاء.

يعني قبح تقديم الاسم في سائر الاستفهام سوى الألف كقولك : أين زيدا ضربته؟ لأن الوجه تقديم الفعل حتى يكون هو الذي يليها كقولك : أين ضربت زيدا؟

__________________

(١) شرح السيرافي ٢ / ٧١٣ ، ابن السيرافي ١ / ٨٨.

١١٦

واحتج بأن قال : " إنها من حروف تحدث قبل الفعل وقد يصير معنى حدوثها إلى الجزاء".

يعني أن حروف الاستفهام غير واجبة كما أن حروف الجزاء غير واجبة وأراد بالجزاء هاهنا : حروف شرط الجزاء.

وقوله : والجزاء لا يكون إلا خبرا يعني جواب الشرط إذا قلت : إن تأتني أكرمك ، لأنه يصح أن يقال : فيه صدق أو كذب.

وقوله : وقد يكون فيهن الجزاء في الخبر يعني يكون في حروف الاستفهام مثل جواب الشرط ، كقولك أين زيد أكرمه؟

فقد يصح في هذا صدق أو كذب ، وإنما أراد التسوية بين حروف الجزاء والاستفهام ، وأنها بالفعل أولى ، وأن يفرق بينهما وبين الأمر ، وذلك أن الأمر لا يقبح تقديم الاسم فيه إذا قلت : زيدا أضربه ، لأنه ليس قبله حروف هو بالفعل أولى فيحتاج إلى إيلاء الاسم.

باب حروف أجريت مجرى حروف

الاستفهام وهي حروف النفي

قد تقدم أن قولك : زيد ضربته أجود من زيدا ضربته ، وأزيدا ضربته؟ أجود من أزيد ضربته؟ وقد توسطت هذين البابين حروف النفي تقول : ما زيدا ضربته ، وما زيد ضربته ، وإنما تقارب [النصب] فيها والرفع لأنها تشبه حروف الاستفهام من جهة ، وتشبه الابتداء من جهة.

ـ فأما شبهها بحروف الاستفهام ، فلأنها أخرجت المبتدأ عن حد الإيجاب إلى حد النفي ، كما أخرجته حروف الاستفهام من الإيجاب إلى الاستفهام.

ـ وأما شبهها بالمبتدأ ، فلأنها نقيضته ونفي له ، تجرى مجرى نقيضه ألا ترى أنك تقول : قام زيد ، ثم تقول : ما قدم زيد فترد الكلام على لفظه مع حروف النفي ..

وأنشد لجرير :

* فلا حسبا فخرت به لتيم

ولا جدا إذا ازدحم الجدود (١)

أراد : فلا ذكرت حسبا فخرت به ..

وقد يجوز أن تكون لا للنفي ونون الاسم اضطرارا ...

وأنشد لهدبة بن خشرم.

* فلا ذا جلال هبنه لجلاله

ولا ضياع هن يتركن للفقر (٢)

__________________

(١) ديوان جرير ١ / ١٦٥ ، شرح الأعلم ١ / ٧٣ ، شرح النحاس ٥٢ ، شرح السيرافي ٢ / ٧٢٢.

(٢) شرح الأعلم ١ / ٧٢ ، شرح النحاس ٥١ ، ابن السيرافي ١ / ٨١.

١١٧

يعني أن المنايا لا تحاشى أحدا.

وذكر سيبويه في هذا الباب أن ليس قد تكون بمنزلة «ما» واحتج بقولهم :

ليس خلق (الله) مثله.

ويحتمل أن يكون في ليس اسمها مضمرا وتكون الجملة تفسيرا للمضمر وخبرا لها ، ولذلك قال : فهذا يجوز أن يكون منه.

واحتج غير سيبويه بشيء هو أقوى من هذا عنده ، وهو قول بعض العرب :

ليس الطيب إلا المسك

فقالوا : هو بمنزلة ما الطيب إلا المسك.

فقالوا : ولو كان في ليس ضمير الأمر والشأن لكانت الجملة قائمة بنفسها ونحن لا نقول : الطيب إلا المسك بغير تقدم حرف النفي.

وليس الأمر على ما ظنوا ، لأن الجملة إذا كانت في موضع خبر اسم قد وقع عليه حرف النفي ، فقد لحقها النفي في المعنى ألا ترى أنك إذا قلت ما زيد أبوه قائم فقد نفيت قيام أبيه ، فعلى هذا يجوز أن تقول : ما زيد أبوه إلا قائم ، كأنك قلت : ما أبو زيد إلا قائم.

وإنما استشهد سيبويه بقولهم :

ليس الطيب إلا المسك لأنه قرنه بقولهم : ما كان الطيب إلا المسك فالذين نصبوا (مع) كان هم الذين رفعوا مع ليس ، فأشبه أن يكون الفرق بين ليس وكان.

قوله : فإن قلت ما أنا زيد لقيته ، رفعت إلا في قول من نصب زيدا لقيته إلى قوله وهو فيه أقوى لأنه عامل في الاسم.

يعني أنك إذا قلت : ما أنا زيد لقيته ، وجعلت ما حجازية ، كان الرفع في زيد أقوى ، لأن ما عاملة في الاسم الذي قبله وهو أنا فاجتمع عمل «ما» والفصل بينها وبين زيد ، فكان الرفع في زيد أقوى منه في قولك أأنت زيد ضربته؟ وما أنا زيد ضربته في لغة بني تميم ، لأنك فصلت هنا بين ألف الاستفهام وما التميمية ، وهما غير عاملتين ، فلما جئت إلى لغة أهل الحجاز في «ما» وفصلت بينها وبين الاسم الذي وقع الفعل على ضميره ، وأعملتها في الاسم الذي يليها ، بعد النصب عن الاسم الذي وقع الفعل على ضميره لبعده من «ما» لما اجتمع الفصل بينهما (وبينه) وعملها فيما وليها ..

فإن قال قائل : فأنتم تزعمون أن قول القائل : ما أنا زيد كلمته إذا كان ما عاملة ، وإني زيد كلمته ، الاختيار فيه الرفع لأنه جعله في موضع الخبر ، فهي على حالها إذا كانت مبتدأة ليس قبلها شيء ، فلم اختير النصب في قوله عز وجل : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩].

وكلام الله أولى بالاختيار؟.

١١٨

فالجواب : إن في النصب هاهنا دلالة على معنى لا يوجد في الرفع وذلك أنك إذا قلت : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] فتقديره : إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر فهو يوجب العموم لأن قوله : (إنا خلقنا كل شيء) لفظ عام فإذا قال : (كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فليس فيه عموم لأنه يجوز أن تجعل خلقناه نعتا لشيء ، ويكون «بقدر» خبرا لكل ، ولا تكون فيه دلالة لفظية على خلق الأشياء كلها ، بل تكون فيه دلالة على أن ما خلق الله منها خلقه بقدر.

ومثل هذا في الكلام : كل نحوي أكرمته في الدار ، فقد أوجبت إكرام النحويين ، لأن تقديره : أكرمت في الدار كل نحوي أكرمته.

قوله : وكيف يختار فيه النصب وقد حال بينه وبين مفعوله.

يعني : إذا قلت : كنت زيد ضربته ، فقد وقع زيد ضربته في موضع مفعول كنت ، كأنك قلت : كنت قائما.

فإذا كانت الجملة هكذا ، لم تشبه الجملة المعطوفة وهي : ضربت زيدا وعمرا كلمته ، لأن الأول قد نصب مفعوله وعطف الثاني عليه فأجراه مجراه في تسلطه على مفعوله.

وأنشد في جواز النصب للمرار الأسدي :

* فلو أنها إياك عضتك مثلها

جررت على ما شئت نحرا وكلكلا (١)

فنصب إياك بإضمار عضت ، والتقدير : فلو أنها عضت إياك مثلها عضتك مثلها.

وإن شئت كان التقدير : فلو أنها إياك عضت مثلها عضتك مثلها ، فتقدر الفعل بعد إياك لأنه منفصل كما تقول : إياك ضربت. وإنما يجوز ضربت إياك في الشعر ..

قوله : عضتك مثلها كأنه يصف داهية .. والنحر : موضع المنحر والكلكل والكلكال : الصدر.

باب من الفعل الذي يستعمل في الاسم

ثم يبدل مكان ذلك الاسم اسم آخر

اعلم أن حكم البدل أن يكون مكان المبدل منه في العامل ، وليس التقدير فيه أن ينحى الأول عن معنى الإلغاء له ، وإزالة الفائدة به ولكن على معنى أن البدل قائم بنفسه (غير) مبين للمبدل منه كتبيين النعت للمنعوت الذي هو تمام المنعوت.

فإن قال قائل : فلأي شيء دخل؟ قيل له : قد يكون للشيء الواحد اسم من معان تشتق له منها تلك الأسماء ، فيجوز أن يشتهر ببعض أسمائه عند قوم ، وببعض أسمائه عند آخرين.

فإذا اجتمع الاسمان على طريق بدل أحدهما من الآخر ، فقد بينه بغاية البيان فهذا هو

__________________

(١) شرح الأعلم ١ / ٧٥ ، شرح السيرافي ٢ / ٧٣٢.

١١٩

[القصد] من البدل.

قوله بعد أن ذكر البدل فهذا يجيء على وجهين إلى قوله (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر ٣٠]

هذا أحد الوجهين ، والمعنى في ذلك أنه حين قال : رأيت قومك كان غرضه : رأيت ثلثي قومك ، فعبر باللفظ العام ، وهو يريد البعض كما تقول : ضج أهل بغداد ، وعسى أن لا يكون ضج منهم إلا نفر.

فإذا أراد ذلك ثم أتى بالبعض فكرره بلفظ آخر فقد أكد ، كما أكد في قوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [الحجر : ٣٠].

وكذلك قول الشاعر :

* وذكرت تقتد برد مائها

وعتك البول على أنسائها (١)

فذكر تقتد وهو يريد برد مائها ، ثم أبدل منها ، وهذا من بدل الاشتمال وأنشده سيبويه للتأكيد الذي ذكره في البدل.

وعتك البول : يعني قدمه وصفرته ، يقال : قوس عاتكة ، والمعنى أن هذه الناقة ذكرت برد ماء هذا الموضع ، وهذا حالها لطول السفر.

ويروى «وعبك البول» وهو تلبده وتراكبه عليها.

والقول الآخر من الوجهين هو أن يتكلم فيقول : رأيت قومك وقصده إلى جميعهم ، ثم بدا له في ذلك وامتنع أن يخبر عن جميعهم فعدل إلى الإخبار عن البعض فهذا لم يكن في أول كلامه قاصدا إلى ذكر البدل ، ثم بدا له ذلك بعد أن مضى صدر كلامه على الوجه الذي لفظ به والذي قبل هذا لم يبدله بشيء لم يرد أن يتكمل به من بعد.

قوله بعد أن ذكر البدل : لأنك حملت النعت على المرور فجعلته حالا.

يعني لأنك جعلت مرفوعا ومطروحا في قولك : مررت بمتاعك بعضه مرفوعا وبعضه مطروحا ، فجعلته محمولا على المرور إذ كان العامل فيه ، وسمي مرفوعا ومطروحا نعتا لأنه يسمى نعتا كل ما فيه تمييز شيء من شيء لو لم يكن ذلك النعت لجاز وقوعه ، يعني ذلك الشيء عليه وعلى غيره.

وإذا قلت : مررت بمتاعك ، صلح أن يكون مرفوعا ، وصلح أن لا يكون مرفوعا فصار مرة مرفوعا نعتا له من طريق التمييز بين أحواله التي تتوهم وعلى ذلك سمي ضربت الناس بعضهم قائما وبعضهم قاعدا من نعت الفعل ، لأنك إذا قلت ضربت الناس جاز أن يكون مستوعبا

__________________

(١) شرح الأعلم ١ / ٧٥ ، شرح النحاس ٤٨ ـ ٩٩ ، شرح السيرافي ٢ / ٧٢٧ ، فرحة الأديب ٧١ ـ ٧٢.

١٢٠