الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة

محمد بن الحسن الحرّ العاملي [ العلامة الشيخ حرّ العاملي ]

الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة

المؤلف:

محمد بن الحسن الحرّ العاملي [ العلامة الشيخ حرّ العاملي ]


المحقق: مشتاق المظفّر
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: منشورات دليل ما
الطبعة: ١
ISBN: 964-397-280-1
الصفحات: ٥١٣

والأئمّة عليهم‌السلام (١) ، والباطنة : العقل » (٢).

وثالثها : أن يكون المراد بالأربعين يوماً مدّة الرجعة ، ويكون ذلك إشارة إلى قلّتها ، بالنسبة إلى زمان النشأة الاُولى والخلود (٣) في الجنّة أو النار (٤) ، فإنّه يعبّر بالسبعين عن الكثرة (٥) ، وبما دونها عن القلّة ، أو إشارة إلى ما مرّ في هذه الأحاديث من قوله في هذا المقام ( وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ ) (٦) ويكون وفاة جميع المكلّفين قبل المهدي عليه‌السلام ، ويكون أهل الرجعة غير مكلّفين.

ويأتي إن شاء الله تمام الكلام.

ورابعها : أن تكون القيامة التي أخبر بوقوعها بعد الأربعين يوماً هي قيام الأموات ، وحياتهم بعد الموت ، ويكون المراد الرجعة التي هي القيامة الصغرى ، ثمّ القيامة الكبرى ، ولا ريب في جواز استعمال القيامة فيما يشمل القيامة الصغرى والكبرى (٧) ، بل قد تقدّم إطلاق الآخرة في القرآن على الرجعة ، وورد الحديث بذلك.

وخامسها : أن يكون المراد ليس بعد دولة المهدي عليه‌السلام دولة مبتدَأة فلا ينافي الرجعة ؛ لأنّها دولة ثانية ، والأربعون يوماً يحتمل كونها فاصلة بين الدولتين.

__________________

١ ـ ( والأئمّة ) لم يرد في « ك ».

٢ ـ الكافي ١ : ١٦ ، باختلاف يسير.

٣ ـ في « ح ، ك » : أو الخلود.

٤ ـ من قوله : ( بالنسبة إلى زمان ) إلى هنا لم يرد في « ط ».

٥ ـ في « ح ، ك » : الكثيرة.

٦ ـ سورة الحج ٢٢ : ٤٧.

٧ ـ من قوله : ( ولا ريب في جواز ) إلى هنا لم يرد في « ك ».

٤٠١

وسادسها : أن يكون المراد بموت المهدي عليه‌السلام الذي لا تتأخّر القيامة عنه إلا أربعين يوماً ، الموت الثاني بعد رجعته عليه‌السلام ، وقد ذكر ذلك بعض المحقّقين من المعاصرين ، وأورد أحاديث متعدّدة دالّة على رجعته عليه‌السلام ، وذكر أنّه نقلها من كتب المتقدّمين والله أعلم.

وأمّا أحاديث الاثني عشر بعد الاثني عشر (١) ، فلا يخفى أنّها غير موجبة للقطع واليقين لندورها وقلّتها ، وكثرة معارضتها (٢) كما أشرنا إلى بعضه ، وقد تواترت الأحاديث بأنّ الأئمّة اثني عشر ، وأنّ دولتهم ممتدّة (٣) إلى يوم القيامة ، وأنّ الثاني عشر خاتم الأوصياء والأئمّة والخلفاء (٤) ، وأنّ الأئمّة من ولد الحسين إلى يوم القيامة ، ونحو ذلك من العبارات ، فلو كان يجب الإقرار علينا (٥) بإمامة اثني عشر بعدهم ، لوصل إلينا نصوص متواترة تقاوم تلك النصوص ، لينظر في الجمع بينهما.

وقد نقل عن السيِّد المرتضى أنّه جوّز ذلك على وجه الإمكان والاحتمال ، وقال : لا يقطع (٦) بزوال التكليف عند موت المهدي عليه‌السلام ، بل يجوز أن يبقى بعده أئمّة يقومون بحفظ الدين ومصالح أهله ، ولا يخرجنا ذلك عن التسمية بالاثني عشرية ؛ لأنّا كلّفنا أن نعلم إمامتهم ، وقد بيّنّا ذلك بياناً شافياً ، فانفردنا بذلك عن غيرنا (٧) « انتهى ».

__________________

١ ـ ( بعد الاثني عشر ) لم يرد في المطبوع و « ط ».

٢ ـ في « ح ، ش ، ك » : معارضاتها.

٣ ـ في المطبوع و « ط » : ممدودة ، وما في المتن من « ش ، ح ، ك ».

٤ ـ في المطبوع و « ط » : والخلف ، وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».

٥ ـ في المطبوع و « ط » : علينا الإقرار ، وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».

٦ ـ في « ح ، ش ، ك » : لا نقطع.

٧ ـ رسائل السيِّد المرتضى ٣ : ١٤٦.

٤٠٢

ويؤيّده عدم (١) الدليل العقلي القطعي على النفي ، وقبول الأدلّة النقلية للتقييد والتخصيص ونحوهما لو حصل ما يقاومهما (٢) ، ولا يخفى أنّ الحديث المنقول أوّلاً من كتاب « الغيبة » من طرق العامّة ، فلا حجّة فيه في هذا المعنى ، وإنّما هو حجّة في النصّ على الاثني عشر ، لموافقته لروايات الخاصّة ، وقد ذكر الشيخ بعده وبعد عدّة أحاديث أنّه من روايات العامّة ، والباقي ليس بصريح.

وقد تقدّم في الحديث السادس والتسعين من الباب السابق ما هو صريح في أنّ المهدي عليه‌السلام ليس له عقب ، وهنا (٣) احتمالات :

أوّلها (٤) : أن تكون البعدية غير زمانية ، بل هي مثل قوله تعالى ( فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ الله ) (٥) فيجوز كون المذكورين في زمن المهدي عليه‌السلام ، ويكونوا نوّاباً له ، كلّ واحد نائب في جهة ، أو في مدّة.

وثانيها : إنّ قوله : ( من بعد ) لابدّ فيه من تقدير مضاف ، فيمكن أن يقدّر من بعد ولادته ، أو من بعد غيبته ، ويكون إشارة إلى السفراء والوكلاء على الإنس والجنّ ، أو إلى أعيان علماء شيعته في مدّة غيبته ، ويمكن أن يقدّر من بعد خروجه ، فيكونون نوّاباً له كما مرّ.

وقد روى الصدوق في كتاب « كمال الدين وتمام النعمة » : عن علي بن أحمد بن موسى الدقّاق (٦) ، عن محمّد بن أبي عبدالله الكوفي ، عن موسى بن

__________________

١ ـ في « ك » : عموم.

٢ ـ في « ش ، ك » : ما يقاومها.

٣ ـ في المطبوع : وها هنا ، وما في المتن من « ح ، ش ، ط ، ك ».

٤ ـ في « ح ، ش ، ك » : أحدها.

٥ ـ سورة الجاثية ٤٥ : ٢٣.

٦ ـ في المصدر : علي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق ، وما في المتن مطابق للمختصر والبحار اللذين نقلا الحديث عن الصدوق.

٤٠٣

عمران النخعي ، عن عمّه الحسين بن يزيد النوفلي ، عن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه (١) قال : قلت للصادق عليه‌السلام : سمعت من أبيك أنّه قال : « يكون من بعد القائم اثنا عشر مهديّاً » فقال : « قد قال : اثنا عشر مهدياً ، ولم يقل اثنا عشر إماماً ، ولكنّهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى ولايتنا ، ومعرفة فضلنا (٢) » (٣).

أقول : فهذا الحديث يناسب الوجوه المذكورة ، ويوافق ما يأتي أيضاً على وجه ، على أنّه يحتمل الحمل على التقية على تقدير أن يراد منه نفي الرجعة (٤) ، كما حمله بعض المحقّقين.

وثالثها : أن يكون ذلك محمولاً على الرجعة ، فقد عرفت جملة من الأحاديث الواردة في الأخبار برجعتهم عليهم‌السلام على وجه الخصوص ، وعرفت جملة من الأحاديث الواردة في صحّة الرجعة على وجه العموم ، في كلّ : من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً. وكلّ واحد من القسمين قد تجاوز حدّ التواتر المعنوي بمراتب ، كما رأيت في الأبواب السابقة.

وعلى هذا فالأئمّة من بعده هم الأئمّة من قبله قد رجعوا بعد موتهم ، فلا ينافي ما ثبت من أنّ الأئمّة اثنا عشر; لأنّ العدد لا يزيد بالرجعة ، وهذا الوجه يحصل به الجمع بين رواية الاثني عشر ورواية الأحد عشر ، فإنّ الاُولى : محمولة (٥) على

____________

١ ـ في المصدر : عن أبي بصير ، بدل : عن أبيه ، وفي المختصر والبحار : عن أبيه ، عن أبي بصير.

٢ ـ في « ط » : ولايتنا.

٣ ـ كمال الدين : ٣٥٨ / ٥٤ ، وعنه في مختصر البصائر : ٤٩٣ / ٥٥٦ ، والبحار ٥٣ : ١١٥ / ٢١.

٤ ـ قوله : ( على تقدير أن يراد منه نفي الرجعة ) لم يرد في « ك ».

٥ ـ في المطبوع و « ط » : محمول. وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».

٤٠٤

دخول المهدي أو النبي عليهما‌السلام ، والثانية : لم يلاحظ فيها دخول أحد منهما لحكمة اُخرى ، ومثل هذا في المحاورات كثير ، والتخصيص بالذكر لا يدلّ على التخصيص بالحكم ، وليس بصريح في الحصر ، وما تضمّنه الحديث المروي في كتاب « الغيبة » أولا على (١) تقدير تسليمه في خصوص الاثني عشر بعد المهدي عليه‌السلام لا ينافي هذا الوجه ؛ لاحتمال أن يكون لفظ ابنه تصحيفاً ، وأصله أبيه بالياء آخر الحروف ، ويراد به الحسين عليه‌السلام لما روي سابقاً في أحاديث كثيرة من رجعة الحسين عليه‌السلام عند وفاة المهدي عليه‌السلام ليغسّله ، ولا ينافي ذلك الأسماء الثلاثة لاحتمال تعدّد الأسماء والألقاب لكلّ واحد منهم عليهم‌السلام ، وإن ظهر بعضها ولم يظهر الباقي ، ولاحتمال تجدّد وضع الأسماء في ذلك الزمان له عليه‌السلام ، لأجل اقتضاء الحكمة الإلهية.

وقوله عليه‌السلام في حديث أبي حمزة : « إثنا عشر مهديّاً من ولد الحسين عليه‌السلام » لايبعد تقدير شيء له يتمّ به الكلام بأن يقال : أكثرهم من ولد الحسين عليه‌السلام ، ولا يخفى أنّه قد يبني المتكلِّم كلامه على الأكثر الأغلب عند ظهور الأمر ، أو إرادة (٢) الإجمال ، وممّا يقرّب ذلك ويزيل استبعاده (٣) ما ورد في أحاديث النصّ على الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام : « إنّهم من ولد عليّ وفاطمة » والحديث موجود في اُصول الكليني.

ولابدّ من حمله على ما قلناه لخروج أمير المؤمنين عليه‌السلام من (٤) هذا الحكم ، ودخوله في الاثني عشر عليهم‌السلام ، والضمائر في الدعاءين يحتمل عودها إلى

__________________

١ ـ في المطبوع و « ط » : أو على وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».

٢ ـ في « ح » : وإرادة.

٣ ـ في المطبوع و « ط » : استبعاد. وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».

٤ ـ ( من ) أثبتناها من « ح ، ش ، ك » ، وفي « ط » : عن.

٤٠٥

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الحسين عليه‌السلام ، ويحتمل الحمل على الرجعة كما مرّ ، لكن في الدعاء الثاني لا في الأوّل ؛ لوجود (١) لفظ ولده فيه ، وحديث كعب ووهب يحتملان بعض (٢) ما مرّ وهما إلى الرجعة أقرب على (٣) أنّ قولهما ليس بحجّة ، لكنّ الظاهر أنّهما راويان لهذا المعنى عن بعض أهل العصمة عليهم‌السلام ويأتي زيادة تحقيق لبعض مضمون هذا الفصل (٤) إن شاء الله تعالى.

__________________

١ ـ في المطبوع و « ط ، ك » : بوجود.

٢ ـ في « ط » : وحديث كعب وهو يحتمل أنّ بعض.

٣ ـ في « ح » : إلاّ. بدل من : على.

٤ ـ في « ك » : الباب.

٤٠٦
٤٠٧

الباب الثاني عشر

في ذكر شبهة منكر الرجعة والجواب عنها

لا يخفى أنّه لا يكاد يوجد حقٌّ خالياً من شبهة تعارضه ، فإنّ الجهل أكثر من العلم في هذه النشأة ، وشياطين الإنس والجنّ يجهدون في ترويج الشبهات وتكثيرها ، وقد قال الله (١) سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ ) (٢) ومعلوم أنّه لابدّ من حكمة في خلق الشهوات ونصب الشبهات ، وإنزال المتشابهات ، وممّا ظهر لنا من الحكمة في ذلك إرادة امتحان العقول ، وتشديد التكليف ، والتعريض لزيادة الثواب ، والعوض على تحصيل الحقّ والعمل به ، ومع ذلك فمن أخلص نيّته وأراد الوصول إلى الحقّ من كلام الله وكلام نبيّه وأوصيائه عليهم‌السلام ، وجده راجحاً على الشبهات جدّاً.

إذا عرفت هذا فنقول : قد ثبت أنّ الرجعة حقّ بتصريح (٣) الآيات الكثيرة ، وتصريحات الأحاديث المتواترة ، بل المتجاوزة (٤) حدّ التواتر ، وبإجماع الإمامية ، حتّى أنّا لم نجد أحداً من علمائهم صرّح (٥) بإنكار الرجعة ، ولا تعرّض

____________

١ ـ لفظ الجلالة ( الله ) لم يرد في « ش ، ح ، ك ».

٢ ـ سورة آل عمران ٣ : ٧.

٣ ـ في « ط » : بصريح.

٤ ـ في « ط » : المتجاوز.

٥ ـ في « ط » : خرج.

٤٠٨

لتضعيف حديث واحد من أحاديثها ، ولا لتأويل شيء منها ، وأكثرها كما رأيت لا تناله يد التأويل ، وكلّ منصف يحصل له من أدلّة الرجعة اليقين ، وحينئذ يمكنه (١) دفع كلّ شبهة بجواب إجمالي بأن يقول : هذا معارض لليقين ، وكلّ ما كان كذلك فهو باطل ، وأنا أذكر ما يخطر (٢) لي من الشبهات التي استند إليها منكرها ، واُجيب عنها (٣) تفصيلاً فأقول :

الشبهة الاُولى : الإستبعاد ، وهذا كان أصل إنكار من أنكرها ، وذلك أنّ كثيراً من العقول الضعيفة لا تجوّز ذلك ولا تقبله ، وخصوصاً ما روي في بعض الأحاديث السابقة ممّا ظاهره أنّ مدّة رجعة آل محمّد عليهم‌السلام ثمانون ألف سنة ، إلى غير (٤) ذلك من الاُمور البليغة الهائلة.

والجواب أوّلاً : إنّ خصوص هذا التحديد لم يحصل به اليقين (٥) ، ولا وصل إلى حدّ التواتر ، وكلّ من جزم بالرجعة لا يلزمه الجزم بهذه المدّة.

وثانياً (٦) : إنّ الإستبعاد ليس بحجّة ولا دليل شرعي ، فلا يجوز الإلتفات إليه.

وثالثاً (٧) : إنّ هذا لا يصل إلى حدّ الامتناع ، بل هو ممكن لا يجوز الجزم بنفيه ؛ لأنّه يستلزم دعوى علم الغيب.

ورابعاً (٨) : إنّه لا يوجد له معارض صريح بعد التتبّع التام فلا يجوز ردّه.

____________

١ ـ في « ك » : عليه.

٢ ـ في « ح » : ما يحضر.

٣ ـ في « ط » : واستند منها.

٤ ـ في « ط » : وغير. بدل من : إلى غير.

٥ ـ في « ط » : بعد اليقين.

٦ ـ في « ش » : ثانيها.

٧ ـ في « ك ، ش » : وثالثها.

٨ ـ في « ش » : ورابعها.

٤٠٩

وخامساً (١) : إنّه يحتمل حمله على المبالغة ، وأن يكون مثل قوله تعالى : ( وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ ) (٢) وقوله تعالى ( يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ) (٣) كما ذكر بعض (٤) المفسِّرين أنّ المراد ما يقضى في ذلك اليوم ويفصل ، ويقع من الاُمور العظيمة يحتاج إلى مثل هذه المدّة من السنين في الدنيا.

وسادساً : إنّ ذلك إن كان المراد منه ظاهره ، فهو بالنسبة إلى فضل الأئمّة عليهم‌السلام قليل ، وبالنسبة إلى قدرة الله سبحانه وكرمه أقلّ ، وما أحسن ما قاله في هذا المقام رجب البرسي في كتابه بعدما أورد حديثاً عجيباً في فضلهم عليهم‌السلام في أوائل كتابه ، وقال بعده ما هذا لفظه : أنكر هذا الحديث من في قلبه مرض ، فقلت له : تنكر القدرة أم النعمة أم ترد على المؤيّدين بالعصمة؟ فإن أنكرت قدرة الرحمن فانظر إلى ما روي عن سليمان عليه‌السلام ، أنّ سماطه كان كلّ يوم ملحه سبعة أكرار (٥). فخرجت دابّة من دواب البحر وقالت : يا سليمان أضفني اليوم.

فأمر أن يجمع لها مقدار سماطه شهراً ، فلمّا اجتمع ذلك على ساحل البحر وصار كالجبل العظيم ، أخرجت الحوت رأسها وابتلعته ، وقالت : يا سليمان أين تمام قوتي اليوم؟ فإنّ هذا بعض طعامي ، فتعجّب سليمان ، وقال لها : هل في البحر دابّة مثلك؟ فقالت : ألف ألف اُمّة. فقال سليمان : سبحان الله الملك العظيم ويخلق ما لا تعلمون.

__________________

١ ـ في « ش » : وخامسها.

٢ ـ سورة الحج ٢٢ : ٤٧.

٣ ـ سورة المعارج ٧٠ : ٤.

٤ ـ في « ح » : ذكره.

٥ ـ أكرار : مفردها كرّ : وهو ثلاثمائة وثلاثة وتسعون كيلو ومائة وعشرون غراماً. اُنظر الاوزان والمقادير لابراهيم البياضي : ٩٨.

٤١٠

وأمّا نعمته الواسعة فقد قال الله سبحانه لداود عليه‌السلام : وعزّتي وجلالي لو أنّ أهل سماواتي وأرضي أمّلوني فأعطيت كلّ مؤمّل أمله ، وبقدر دنياكم سبعين ضعفاً ، لم يكن ذلك إلا كما يغمس أحدكم إبرة في البحر ويرفعها ، فكيف ينقص شيء أنا قيّمه (١) « انتهى كلام الحافظ البرسي » ثمّ ذكر أحاديث في كثرة العوالم الموجودة الآن وراء هذا العالم.

الثانية : إنّ أحاديث الرجعة لم تثبت في الكتب المعتمدة (٢) ، ولا وصلت إلى حدّ يوجب العلم ، وذلك أنّ رسالة الرجعة التي جمعها بعض المعاصرين ووصلت إلى هذه البلاد ، اشتملت على أحاديث كثيرة ذكر في أوّلها أنّه نقلها من كتب المتقدّمين ، ولم يذكر في كلّ حديث من أيّ كتاب نقله ، فكان ذلك أيضاً شبهة وسبباً للإنكار ، وظنّ بعضهم أنّ ذلك لم يوجد في الكتب المعتمدة والاُصول الصحيحة ، إلا أن يكون بطريق الآحاد ، ولذلك لم أنقل هنا من تلك الرسالة شيئاً ، مع أنّ أحاديثها لا تقصر عن الأحاديث التي جمعناها في العدد والاعتماد.

والجواب : قد عرفت أنّ كتب الحديث والمصنّفات المعتمدة مملوءة من ذلك ، وقد ذكرنا أسماء الكتب التي نقلنا منها ، مع أنّا لم نتمكّن من مطالعة الجميع ، لضيق الوقت وكثرة الموانع ، ولا حضرنا جميع ما هو بأيدي الناس الآن من الكتب المشتملة على ذلك ، فضلاً عن كتب المتقدّمين التي ألّفوها في ذلك وفي غيره (٣) ممّا هو أعمّ منه ، وقد عرفت ثبوت أحاديث الرجعة في الكتب المعتمدة ، وأنّه لا يخلو كتاب منها إلا نادراً ، فبطلت الشبهة ولا وجه للتوقّف بعد ذلك.

__________________

١ ـ مشارق أنوار اليقين : ٤١ ـ ٤٢.

٢ ـ في « ح ، ش ، ك » : كتاب معتمد.

٣ ـ في « ط » : وغيره. بدل من : وفي غيره.

٤١١

الثالثة : ما ورد في بعض أحاديث التلقين ـ عند وضع الميّت في القبر ـ أنّه ينبغي أن يقال له : هذا أوّل يوم من أيّام الآخرة ، وآخر يوم من أيّام الدنيا. فهذا يدلّ على نفي الرجعة.

والجواب أوّلاً : إنّ الرجعة غير عامّة لكلّ أحد ، وإنّما ينبغي تلقين الميّت (١) بذلك ، لعدم العلم بأنّه من أهل الرجعة قطعاً ، والأصل عدم كونه منهم إلى (٢) أن يتحقّق ويثبت.

وثانياً : إنّ الرجعة واسطة بين الدنيا والآخرة ، فيجوز أن يطلق عليها كلّ واحد منهما ، وقد عرفت إطلاق أهل اللغة إسم الدنيا عليها ، ورأيت الأحاديث التي تفيد إطلاق كلّ واحد من اللفظين عليها باعتبارين ، وتقدّم حديث صريح في إطلاق اسم الآخرة عليها.

وثالثاً : إنّ أهل الرجعة يحتمل كونهم غير مكلّفين ، والمراد بالدنيا في حديث التلقين دار التكليف كما يفهم منه بالقرينة (٣).

ورابعاً : إنّ الحياة الاُولى بالنسبة إلى الثانية يجوز أن يطلق عليها اسم الدنيا بحسب وضع اللغة ، بأن تكون وضعت للاُولى خاصّة ، إمّا من الدنو أو من الدناءة ، ويكون إطلاقها على الحياة الثانية محتاجاً إلى القرينة ; لأنّه إنّما يصدق عليها ذلك المعنى بالنسبة إلى القيامة الكبرى لا مطلقاً.

وخامساً : إنّ الحديث المشار إليه غير متواتر ، فلا يقاوم أحاديث الرجعة وأدلّتها لو كان صريحاً في المعارضة (٤) ، فكيف واحتمالاته كثيرة.

__________________

١ ـ في « ط » : وإنّما تلقين ينبغي.

٢ ـ ( إلى ) أثبتناه من « ح ، ش ، ك ».

٣ ـ في نسخة « ش » : منهم. بدل : منه بالقرينة.

٤ ـ في المطبوع و « ط » : المعارض. وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».

٤١٢

الرابعة : الأدلّة العقلية والنقلية الدالّة على امتناع خلوّ الأرض من إمام طرفة عين ، وامتناع تقديم المفضول على الفاضل ، مع الأحاديث (١) الصريحة في حصر الأئمّة عليهم‌السلام في اثني عشر ، وأنّ الإمامة في ولد الحسين عليه‌السلام إلى يوم القيامة.

وقولهم عليهم‌السلام في وصف الإمام : « الإمام واحد دهره ، لا يدانيه عالم ، ولا يوجد له مثل ولا نظير » (٢) وما تقرّر من أنّ الإمامة رئاسة عامّة ، وأنّ المهدي عليه‌السلام خاتم الأوصياء والأئمّة (٣) ، فلا يجوز أن تكون الرجعة في زمان المهدي عليه‌السلام ولا بعده ؛ لأنّه يلزم إمّا عزله عليه‌السلام ، وقد ثبت استمرار إمامته إلى يوم القيامة ، وإمّا تقديم المفضول على الفاضل أو زيادة الأئمّة على اثني عشر ، وعدم عموم رئاسة الإمام ، وهذه أقوى شبهات منكر الرجعة.

والجواب من وجوه :

أحدها : إنّه يحتمل كون أهل الرجعة غير مكلّفين ، كما يفهم من بعض الأحاديث السابقة ، وإنّهم إنّما يرجعون ليحصل الفرج (٤) والسرور للمؤمنين ، وينتقموا (٥) من أعدائهم ، ويظهر تملّكهم وتسلّطهم ، ويحصل الغمّ والذلّ للكافرين وأعداء الدين ، وليس عندنا دليل قطعي على كونهم مكلّفين ، وإلا لجاز أن يتوب كلّ واحد من أعداء الدين ، لاطّلاعه على جملة من أحوال الآخرة.

__________________

١ ـ في « ك » : والأحاديث. بدل من : مع الأحاديث.

٢ ـ أورده الكليني في الكافي ١ : ٢٠١ ، والصدوق في الأمالي : ٧٧٦ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٩ ، وكمال الدين : ٦٧٨ ، ومعاني الأخبار : ٩٨ ، والنعماني في الغيبة : ٢٢٠ ، وفي الكلّ : عن عبد العزيز بن مسلم ، عن الإمام الرضا عليه‌السلام.

٣ ـ ( والأئمّة ) لم يرد في « ط ».

٤ ـ في « ش ، ك » : الفرح.

٥ ـ في « ط » والمطبوع : وينتقم.

٤١٣

والأدلّة الدالّة على انقطاع التكليف بالموت بل قبله عند المعاينة كثيرة في الكتاب والسنّة ، فمن ادّعى تكليفاً بعد الموت فعليه الدليل ، ولا سبيل إليه ، وعمومات الخطاب قابلة للتخصيص ، على أنّها لم تتناول جميع الأزمان إلا بالإجماع (١) وليس هنا إجماع ، وكونهم يجاهدون ويفعلون أفعالاً كثيرة لا يدلّ على أنّهم مكلّفون بها ، كما أنّهم في الآخرة يفعلون أشياءً كثيرة جدّاً لا يمكن عدّها من المشي إلى موقف الحساب ، وأخذ الكتاب باليمين أو الشمال (٢) ، والجواب عن كلّ ما يُسألون عنه ، ومن المرور على الحوض ، وسقي من يُسقى ، وطرد من يُطرد ، ومن حمل اللواء ، وتمييز أهل الجنّة والنار ، وسوقهم (٣) إلى منازلهم ، والشفاعة ، وهبة بعضهم حسناته لبعض (٤).

وغضّ (٥) أبصارهم عند مرور فاطمة عليها‌السلام ، وركوب بعضهم ، ومشي الباقين ، وقسمة الجنّة والنار ، والجثو على الركب تارةً والقيام اُخرى ، ودخول الجنّة والنار ، والنزول بمنزل خاصّ ، وما يصدر من الكلام الطويل بينهم ، ومن الأكل والشرب والجماع والنوم والجلوس والمشي (٦) ، وزيارة بعضهم بعضاً ، ومن التحميد والتسبيح ، وغير ذلك ممّا هو كثير جدّاً ، وليسوا مكلّفين بشيء من ذلك ، وقد ذكر هذا الوجه صاحب كتاب « الصراط المستقيم » فقال بعدما ذكر بعض الآيات والأخبار في رجوع الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام :

__________________

١ ـ في المطبوع و « ط » : بالإجماع. وما في المتن من « ح ، ش ، ك ».

٢ ـ في المطبوع و « ط » : والشمال. وفي « ح » : واليسار ، وما في المتن من « ش ، ك ».

٣ ـ في « ح » : وشوقهم.

٤ ـ في « ح » : حسناتهم لبعض. وفي « ط » : حسنات لبعضهم.

٥ ـ في « ش ، ك » : وغظّهم.

٦ ـ ( والمشي ) لم يرد في « ش ».

٤١٤

فإن قيل : فيكون عليّ عليه‌السلام في دولة المهدي عليه‌السلام وهو أفضل منه؟ قلنا : قد قيل : إنّ التكليف يسقط عنهم ، وإنّما يحييهم الله تعالى ليريهم ما وعدهم ، وبهذا يسقط ما خيّلوا به من جواز رجوع معاوية وابن ملجم وشمر ويزيد وغيرهم ، فيطيعون الإمام وينتقلون من العقاب إلى الثواب ، وهو ينقض مذهبكم من أنّهم يُنشرون لمعاقبتهم والشفاية فيهم.

قلنا : أوّلاً : لا تكليف يومئذ ولا توبة.

وثانياً : قد ورد السمع بخلودهم في النيران ، وتبرّي الأئمّة عليهم‌السلام منهم ، ولعنهم إلى آخر الزمان ، فقطعنا بأنّهم لا يختارون الإيمان ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) (١) ولأنـّه (٢) إذا نشرهم للإنتقام منهم فلا تقبل توبتهم كما وقعت في الآخرة ، وقد تظافرت الأحاديث عنهم عليهم‌السلام بمنع التوبة عند خروج المهدي عليه‌السلام (٣) « انتهى ».

وإذا كانوا غير مكلّفين فلا حرج في اجتماعهم كما في القيامة.

وثانيها : إنّه يمكن أن يكونوا مكلّفين بتكليف خاصّ لا بنبوّة وإمامة (٤) بعد الموت والرجعة ، لما روي في الأحاديث : « من أنّ الله أوحى إلى نبيّه في آخر عمره أنّه : قد انقضت نبوّتك وانقطع أكلك ، فاجعل العلم والإيمان وميراث النبوّة في العقب من ذرّيّتك » (٥) وغير ذلك.

__________________

١ ـ سورة الأنعام ٦ : ٢٨.

٢ ـ في « ط » : ولأنّهم.

٣ ـ الصراط المستقيم ٢ : ٢٥٢.

٤ ـ في « ح » : ولا إمامة.

٥ ـ اُنظر أمالي الصدوق : ٥٦٥ / ٢٤ ، وفيه : يا محمّد ، وكمال الدين : ١٣٤ / ٣ ، وفيه : يا نوح ،

٤١٥

وثالثها : إنّه يمكن كون الرجعة للأئمّة عليهم‌السلام (١) كلّها بعد موت المهدي عليه‌السلام وهو الظاهر ، لما روي من طرق كثيرة : « إنّ أوّل من يرجع إلى الدنيا الحسين عليه‌السلام في آخر عمر المهدي عليه‌السلام » فإذا عرفه الناس مات المهدي عليه‌السلام وغسّله الحسين عليه‌السلام ، وتلك المدّة اليسيرة جدّاً تكون مستثناة للضرورة ، أو لخروج المهدي عليه‌السلام عن التكليف ساعة الاحتضار ، لكن لابدّ من رجعة المهدي عليه‌السلام بعد ذلك في وقت آخر كما يُفهم من الأحاديث ، ووقع التصريح به في أحاديث نقلت من كتب المتقدّمين ، ولم أنقلها هنا لما مرّ ، ورجعة الرعية تحتمل التقدّم والتأخّر والتعدّد ولا مفسدة فيها أصلاً ، فلذلك أقرّ بها منكر رجعة الأئمّة عليهم‌السلام ، مع أنّ النصوص على الثانية ـ أعني رجعة النبيّ والأئمة عليهم‌السلام ـ أكثر ممّا دلّ على الاُولى ، وأمّا ما دلّ على أنّ المهدي عليه‌السلام خاتم الأوصياء وأنّه ليس بعده دولة فلا ينافي (٢) لما تقدّم بيانه.

ورابعها : إنّه يمكن اجتماعهم في زمن المهدي عليه‌السلام ولا يكونون من رعيّته ؛ لعدم احتياجهم إلى إمام لعصمتهم ، فإنّ سبب الاحتياج إلى الإمام عدم العصمة ، وإلا لاحتاج الإمام إلى إمام ويلزم التسلسل ، وإذا لم يكونوا من رعية المهدي عليه‌السلام لايلزم تقديم المفضول على الفاضل كما هو ظاهر ، ويكون الإمام على الأحياء والأموات الذين رجعوا هو المهدي عليه‌السلام ، فإنّ الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيّته ، ولا يلزم أن يكون أفضل من جميع الموجودات وأشرف من سائر المخلوقات ، وإن كان أئمّتنا عليهم‌السلام كذلك بالنسبة إلى من عداهم ، ومعلوم أنّهم إذا اجتمعوا لا يحتاج أحد منهم إلى الآخر لعدم جهلهم ، واستحالة صدور فساد

__________________

وعلل الشرائع : ١٩٥ / ١ ، وفيه : يا آدم ، والكافي ٨ : ١١٤ ، وفيه : يا آدم ، و ٢٨٥ / ٤٣٠ ، وفيه : يا نوح.

١ ـ في « ح » : رجعة الأئمة. وفي « ك » : كون الرجعة. من دون كلمة : للأئمة.

٢ ـ في « ح » : ينافي.

٤١٦

منهم ، وعدم جواز الاختلاف عليهم ، ومعارضة بعضهم بعضاً ، ويؤيّده الأحاديث الدالّة على أنّه لا يكون إمامان إلا وأحدهما صامت ، ولا يلزم كون حكم الرجعة موافقاً لما قبلها ، إذ ليس على ذلك دليل قطعي.

وخامسها : إنّه يمكن اجتماعهم واجتماع اثنين منهم فصاعداً ، ويكون كلّ واحد منهم (١) إماماً لجماعة مخصوصين أو أهل بلاد منفردين ، أو كلّ واحد إمام أهل زمانه الذين رجعوا معه بعد موتهم ، ولا يكون أحد منهم إماماً للآخر ، ولا أحد من الرعية مشتركاً بينه وبين غيره ، وهذا الوجه ربّما يُفهم من الأحاديث (٢) السابقة ، وتؤيّده الأحاديث الكثيرة : « في أنّ كلّ ما كان في الاُمم السالفة يكون مثله في هذه الاُمّة ، حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة » ، وقد كان يجتمع في الاُمم السابقة حجّتان فصاعداً من الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ، بل مئات وألوف (٣) في وقت واحد كما ذكرنا ، لاعلى شخص واحد ، بأن يكون رعيّة لنبيّين أو إمامين ، وحينئذ يتمّ توجيه الظواهر المشار إليها سابقاً كما لا يخفى.

وسادسها : إنّ أحاديث الرجعة صريحة غير قابلة للتأويل بوجه كما عرفت ، ولا وُجِدَ لها معارض صريح أصلاً ، والأحاديث المشار إليها في هذه الشبهة ظواهر ليس دلالتها قطعيّة بل لها احتمالات متعدّدة.

أمّا ما دلّ على حصر الأئمّة عليهم‌السلام في اثني عشر فظاهره (٤) أنّه بالرجعة لا يزيد العدد ، فإنّ من مات ثمّ عاش لا يصير اثنين ، وما الموت إلا بمنزلة النوم في مثل ذلك.

__________________

١ ـ ( منهم ) أثبتناه من « ك ».

٢ ـ في « ط » : بعض الأحاديث.

٣ ـ ( بل مئات وألوف ) لم يرد في « ح ».

٤ ـ في « ح » : فظاهر في ، وفي « ش ، ك » : فظاهر.

٤١٧

وأمّا ما دلّ على أنّ الإمامة في ولد الحسين عليه‌السلام إلى يوم القيامة فلا ينافي الرجعة على جملة من الوجوه السابقة ، مع احتمال حمل القيامة على ما يشمل الرجعة كما مرّ ، واحتمال استثناء مدّة الرجعة بدليل خاصّ قد تقدّم ، ومعلوم أنّه يمكن الاستثناء من هذه المدّة ، ولا تناقض أصلاً ؛ لأنّها تدلّ على شمول أجزائها بطريق العموم ، وهو قابل للتخصيص.

ألا ترى أنّه يجوز أن يقال : يجب الصوم في شهر رمضان من أوّله إلى آخره إلاّ الليل ، ويجوز صوم ذي الحجّة من أوّله إلى آخره إلا العيد وأيّام التشريق ، وقولهم عليهم‌السلام : « الإمام واحد دهره » (١) محمول إمّا على ما عدا مدّة الرجعة ، فإنّه يوجد فيها من يماثله (٢) وليس من رعيّته ، أو على إرادة تفضيله على جميع رعيّته بقرينة قوله عليه‌السلام : « لا يدانيه عالم » ، فإنّ جبرئيل أعلم منه ومن الأنبياء ، ولا أقلّ من المساواة ، فإنّ علمهم وصل إليهم بواسطته ، فكيف يصدق أنّه لا يدانيه عالم ، والحاصل أنّه ظاهر لا نصّ ، فهو محتمل للتخصيص والتقييد وغيرهما ، وعموم رئاسة الإمام ليس عليها دليل (٣) قطعي ؛ لأنّهم قد تعدّدوا في الاُمم السابقة ، والظواهر لا تمنع من العمل بمعارضها الخاصّ لو ثبت التعارض ، فإنّ أدلّة الرجعة خاصّة ، والخاصّ مقدّم على العام ، والعجب ممّن يأتي تخصيص العام وينكر تقييد المطلق ، ويجترئ على ردّ الدليل الخاصّ ، أو تأويل بعضه وردّ الباقي ، ويقدّم ما يحتمل التأويل على ما لا يحتمله ، مع أنّ أحاديث الرجعة كما عرفت ليس لها معارض صريح.

__________________

١ ـ أورده الكليني في الكافي ١ : ٢٠١ ، والصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٩٧ ، والأمالي : ٧٧٦ ، وكمال الدين : ٦٧٨ ومعاني الأخبار : ٩٨ ، والنعماني في الغيبة : ٢٢٠.

٢ ـ في « ح ، ش ، ك » : مماثله.

٣ ـ في « ح ، ك » زيادة : عقلي. وفي « ط » بدل القطعي : عقلي.

٤١٨

وسابعها : إنّه ما ذكر في الشبهة معارض بما تقدّم إثباته من وقوع الرجعة في الأنبياء والأوصياء السابقين في بني إسرائيل وغيرهم ، فإنّ كلّ نبي أفضل من وصيّه قطعاً ، وكذا (١) كلّ وصيّ أفضل ممّن بعده أيضاً ؛ لامتناع تقديم المفضول على الفاضل ، وكلّ وصيّ كان النصّ عليه مقيّداً بمدّة ، إمّا خروج نبيّ آخر أو موت ذلك الوصي (٢) وقيام غيره مقامه ، فلمّا رجع من رجع من الأنبياء والأوصياء السابقين لم يلزم فساد ولا بطلان تدبير ، ومهما أجبتم هنا فهو جوابنا هناك.

وبالجملة : الأدلّة القطعية لا تنافي الرجعة. والظواهر محتملة لوجوه (٣) متعدّدة ، فلاتعارض الدليل الخاصّ أصلاً ، وناهيك أنّ جميع علماء الإمامية قد رووا أحاديث الرجعة المتواترة الصريحة ، وما ضعّفوا شيئاً منها ، ولا تعرّضوا لتأويله ، بل صرّحوا باعتقاد صحّتها ، فكيف نظنُّ أنّه ينافي اعتقاد الإمامية.

وثامنها : إنّه معارض بما دلّ على رجعة النبي والأئمّة عليهم‌السلام في هذه الاُمّة ، وحياتهم بعد موتهم خصوصاً حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد تغسيله وتكفينه قبل الدفن (٤) ، وعند كلامه لأبي بكر (٥) ، فقد روي أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دفن يوم الرابع من موته ، وقيل : الثالث ، ويحتمل كون رجعته ثلاثة أيّام وثلاث ليال أو أقلّ أو أكثر ، وعلى كلّ حال فقد كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إماماً وحجّة وخليفة ، ولم يلزم من ذلك

__________________

١ ـ في « ش » : وكذلك.

٢ ـ ( الوصي ) أثبتناه من « ح ، ك ، ش ».

٣ ـ في « ك » : بوجوه.

٤ ـ في « ط » زيادة : ولا عدم عموم رئاسته ، فقد كان أمير المؤمنين عليه‌السلام إماماً وحجّة وخليفة ، ولم يلزم من ذلك عزله.

٥ ـ في « ط » وعند كلام أبي بكر.

٤١٩

عزله ولا عدم عموم رئاسته (١) ، ولا تقدّم (٢) المفضول على الفاضل ؛ لأنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن من رعيّة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ومهما أجبتم به فهو جوابنا ، والإمكان لازم للوقوع.

وتاسعها : إنّه معارض بالمعراج ، بيانه : إنّ الأحاديث الكثيرة دالّة على أنّ الأرض لا تخلو من حجّة طرفة عين ، ولو خلت لساخت بأهلها ، والأدلّة العقلية دالّة على ذلك وثبوت المعراج لا شكّ فيه وقد نطق به القرآن ، وقد روى الكليني : « أنّه عرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّتين » (٣).

وروى ابن بابويه في « الخصال » : « أنّه عرج به مائة وعشرين مرّة » (٤) ولا شكّ أنّ المرّة الواحدة متواترة مجمع عليها ، ففي حال المعراج إمّا أن تكون الأرض خالية من إمام وحجّة فيلزم تخصيص تلك الأحاديث. والأدلّة أو القول (٥) بأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يومئذ إماماً ، فإن كان الأوّل فيمكن التخصيص بمدّة الرجعة أيضاً ، وإن كان الثاني انتفت المفسدة التي ادّعيتموها في اجتماعهم.

والأحاديث الدالّة على أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام إمام وخليفة في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعده كثيرة ، ومن جملتها وفاة فاطمة بنت أسد اُمّ عليّ عليه‌السلام ، وتلقين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لها ، وأنّها سُئلت عن إمامها ، فقال لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) : « ابنك ابنك » (٧)

__________________

١ ـ من قوله : ( وعلى كلّ حال فقد ) إلى هنا لم يرد في « ط ».

٢ ـ في « ح » : ولا تقديم.

٣ ـ الكافي ١ : ٤٤٢ / ١٣.

٤ ـ الخصال : ٦٠٠ / ٣.

٥ ـ في « ط » : والقول.

٦ ـ من قوله : ( لها وأنها ) إلى هنا لم يرد في « ط ».

٧ ـ أورده الكليني في الكافي ١ : ٤٥٣ / ٢ ، الصدوق في الاعتقادات : ٥٩ ( ضمن مصنّفات المفيد ج ٥ ) والشريف الرضي في خصائص الأئمّة : ٦٥ ـ ٦٦.

٤٢٠