أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

٨١
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

٨٢
 &

الفَصْل الثَّاني

* بينَ أبي ذَرّ وَعثمان

* حُلمُ الأمَويّين

* الإمَامَة

* في السَّقيفَة

* إثَارَةُ الفِتَن

* رقَابَة المُسْلِمين

* فِقدَان الهيبَة في خِلافَة عُثمان

* سيَاسَة عُثمان في إختِيَار الوُلاة

* سيَاستهُ في المَال

* معَارضَة أبي ذرّ

* مَوقف أبي ذَرّ مِن مُعَاوِيَة

* ودَاع أهل الشّام لَه

٨٣
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

٨٤
 &



يا أبا ذر ! انك غَضِبتَ للهِ ، فارجُ مَن غَضِبتَ له ، إنَّ القومَ خافوكَ على دُنياهم ، وخِفتهم على دِينك ، فاترُك في أيدِيهم ما خافوكَ عليه ، واهرب مِنهم بما خفتهم عليه ! فما أحوَجَهُم الى ما منعتهم ، وما أغناكَ عمَّا منعوك .

الإمام علي ( عليه السلام )

٨٥
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

٨٦
 &

حُلمُ الأمَويّين

حَلُم الأمويون طويلا ، بالحكم والرياسة والمجد ، قبل البعثة النبوية المباركة ، لأن المسألة ـ بنظرهم ـ لا تعدو المفخارة بالإيلام ، والإطعام ، ونحر الجُزر ، على مرأى من الحَكَمِ الذي يختارونه للبتِّ فيما بينهم ، والحكم إمَّا لهم ، وإمَّا عليهم .

لكن هذا الحلم الطويل ، بترته البعثة النبوية المباركة ، فعاد سراباً بِقيعة .

يظهر ذلك ، من خلال ما قاله بعض قادتهم وزعمائهم . قال :

« تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، حتى اذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك مثل هذا ؟ واللات لا نؤمن به ولا نصدقه . » ١

لقد كانت نبوة محمد ( ص ) مفاجأة رهيبة بالنسبة للفكر العربي المتخلف ـ آنذاك ـ كما كانت ضربة قاصمة في صميم العصبية الجاهلية ، لذلك ، رأينا قريشا ، وقد تألبت وأجمعت على حرب النبي ( ص ) ومكافحة رسالته ، وان الأمويين ـ أبناء العم ـ هم الذين اضطلعوا بذلك ، فكانوا

__________________

(١) حياة الامام الحسن ١ / ٢١ .

٨٧
 &

على رأس الحملات المضادة للنبي ( ص ) ولرسالته السمحاء . سيَّما وأنهم يعتبرون أنفسهم غرماء مجد للهاشميين .

وأظهر الله نبيه ( ص ) على قريش وكافة من ناهضه من المشركين ، فانتصر المسلمون انتصارات متتالية ، انتصر فيها الحق على الباطل ، والخير على الشر ، وأخذ الاسلام يشق طريقه نحو القمة ، ويأخذ مكانه في النفوس ، بروحيته السمحة ، ومبادئه العالية . .

ولا غرو في ذلك ، ولا عجب . فقد استصفى الله الانسان من دون سائر مخلوقاته ، واستصفى للانسان دين الاسلام ، فقال تعالى :

« إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ . »

لقد أرسى النبي الكريم ( ص ) قواعد الرسالة الكريمة ، وأحكم دعائمها ووطد أركانها وأعاد للانسانية شرفها وكيانها ، بعد أن كانت ضحية أهواء الجبابرة وأرباب السلطان ، من شذاذ الآفاق الذين لا همَّ لهم إلا إشباع رغباتهم ونزواتهم على حساب الضعفاء من عامة الناس .

والتحق صلى الله عليه وآله بربه راضيا مرضيا ، وظل حُلمُ الامويين محالا في قاموس الاسلام ، ولكن ما ان مضت فترة من الزمن وجيزة ، حتى عاد هذا الحلم يراود أهله من جديد ، فقد بدأ يتمطى عن رقدة طويلة ، عادت بعدها آمالهم خضراء مورقة . فها هي إمارات « ملك بني أمية » تلوح من قريب ، بعد ان كانت بعيدة عن دنيا الاسلام .

إنه « الملك » في مفهوم بني أمية و « الخلافة » في مفهوم الاسلام . وما أبعد ما بينهما . إنه كالبعد بين الحق ، والباطل ، خطان متوازيان ، ذاك يدعو الى الجنة ، وهذا يجر الى النار ، وذاك ينصر المظلوم ـ في الله ـ

٨٨
 &

وهذا يقرّ الظالم ، وذاك يطارد المفسدين والقتلة ، وهذا يقتل أولاد الأنبياء ، ويمثِّل بالأبرار ، ويطارد المؤمنين .

ويأتي السؤال هنا : كيف تسنى لهذه الفئة التي جهدت في حرب الرسول والرسالة ، أن تخلف رسول الله ( ص ) في مقعده ، وأن تتسلط على مقدرات الامة الاسلامية ، زهاء ثمانين سنة ؟ !

كيف تسنى لهم استغلال نبوة محمد ( ص ) للاستيلاء على العالم الاسلامي ، وبسط نفوذهم فيه ، وتحويل الخلافة بالتالي الى ملك عضوض يتوارثه الأبناء ؟ ومن المسؤول عن ذلك ؟

وسواء تجاهلنا الامر ، أو تجاهله غيرنا ، فان ذلك لا يترك لنا مندوحة للتهرب من إدراكنا للظروف الصعبة التي عاشها المسلمون السابقون في فترات مختلفة ، أو التهرب من الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون اليوم بشكل عام ، والذي حدث نتيجة للانحراف القديم .

إن هذا السؤال يفرض نفسه ، ويتطلب منا جوابا واضحا لا إلتواء فيه ، ولا مواربة .

ويجدر بنا ـ ونحن نتلمس الإجابة عن هذا السؤال ـ أن نتناول بعض النصوص التأريخية وننظر فيها نظرة تمحيص وتحليل ، نسلط خلالها الأضواء الكاشفة على خفاياها ـ إن كانت غامضة ـ ونتأملها طويلا ، فهي تحكي وتجلو لنا حقبة تأريخية معينة ، عاشها المسلمون وتفاعلوا معها ، وأوصلتهم بالتالي الى ما وصلوا اليه من تفكك وانهيار ، أفقدهم شخصيتهم المميزة عبر التأريخ .

نتأمل تلك النصوص ـ بموضوعية وعمق ـ كي نصل الى نقطة الارتكاز الرابطة بين ما عاناه المسلمون في السابق ، وما يعانونه اليوم ، وبين الاسباب الحقيقية لذلك ، محاولين قدر الإمكان أن نبتعد بضمائرنا

٨٩
 &

وتفكيرنا ، عن كل الحساسيات ، والتشنجات النفسية ، لنوفر للعقل وحده فرصة الانتصار .

والذي يبدو جليا واضحا ، أن المسلمين الأوائل يتحملون شطرا من المسؤولية حول هذا الامر . لكن من المتيقن ان القيادة بدورها تتحمل الشطر الاكبر من تلك المسؤولية ، اذ إنها كانت محط الثقة الكاملة لدى المسلمين ، ومعقد آمالهم ، فكانوا يرون في الخلافة مصدرا يمدهم بالقوة والثقة اذا ضعفوا أو وهنوا ، ومصدرا تنبعث منه كل الطاقات التي تمكنهم من الثبات والاستمرار ، ويضمن لهم السلامة والرقي ، لذلك ، فانهم كانوا يتركون للخليفة كلمة الفصل في أحرج الظروف ، ويشاركهم هو في ذلك ، ومن ثَمَّ يضحُّون بكل شيء في سبيل انجاح مقرراته طائعين غير مكرهين ، حفاظا على الاسلام .

وهذه الرؤية ـ بالذات ـ نجدها قد تبددت في عهد عثمان ، لما لمسه المسلمون من انحراف واضح في مسلكه ، سواء في ذلك مسلكه السياسي مع كبار الصحابة كأبي ذر الغفاري ، وعبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر ، والأشتر النخعي وأصحابه .

أو مسلكه المالي ، في اغداقه على المقربين من ذوي رحمه ، وحرمانه الآخرين من أعطياتهم المفروضة .

فنفى أبا ذر الى « الربذة » حتى مات فيها غريبا .

وسيَّر عبد الرحمن بن حنبل صاحب رسول الله ، الى القموس من خيبر . وهمَّ بتسيير عمار بن ياسر ، فحال علي ( ع ) وبنو مخزوم دون ذلك .

وأمر بعبد الله بن مسعود ، فجُرّ برجله ، حتى كسر له ضلعان ، ووطیء جوفه ، حتى صار لا يعقل صلاة الظهر ، ولا العصر ، ومنعه عطائه

٩٠
 &

ـ على حد تعبير ابن مسعود ١ ـ حتى مات .

وسيَّر جماعة من صلحاء الكوفة ، من بينهم مالك ابن الأشتر النخعي وصعصعة بن صوحان وأخوه زيد ، وعدي بن حاتم ، لكلام جرى بينهم وبين عامله على الكوفة سعيد بن العاص ، فسيَّرهم أولا الى الشام ، ثم بعد ذلك أعادهم ، ثم سيَّرهم الى حمص وكان العامل فيها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وكان هذا الاخير يغلظ لهم ، فكان من جملة ما يقول لهم : لا أهلا بكم ولا سهلا . . جزى الله عبد الرحمن إن لم يؤذكم ٢ . . الى غير ذلك .

لقد كانت هذه الفترة ، من أشد الفترات حساسية في الاسلام . فمنها كانت بداية الشر ، فقد كان المسلمون قبلها يلجأون في مخاصماتهم الى الخليفة نفسه للنظر فيها والاستماع الى رأيه العادل في ذلك ، أو ـ على الاقل ـ كان يستمع منهم ويأخذ بآرائهم . أما ، وقد اختلت القاعدة ، وانعكست الموازين ، حيث أصبح الخليفة طرفا في الخصومة ، أو منحازا الى فئة معينة ، فانه لم يعد بالامكان ضبط الامور ، ولم تعد مخاصماتهم لتقتصر على الملاسنة والحجاج ، بل تعدتها الى استعمال القوة ، واللجوء الى القتل والفتك .

هذه الفترة الصعبة ، بدأت مواسمها تمرع في السنة السادسة من خلافة عثمان ، فكان مقتله بداية الحصاد ، ثم استمر وطال أعواما وقرونا ، خلَّف فيما بعد الجسم الاسلامي ، جسما هزيلا مفككا ، بعد ان كان صلبا قويا لا تعادله قوة .

ومن هذه الفترة ، تولدت الفترات المظلمة في تأريخ الاسلام ، والتي

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ١٧٠ و ١٧٣ .

(٢) الغدير : ٩ / من ٣٠ الى ٤٦ .

٩١
 &

وصف بعضها عمر بن عبد العزيز بقوله : « الوليد في الشام ، والحجاج في العراق ، ومحمد بن يوسف في اليمن ، وعثمان بن حيان في الحجاز ، وقرة بن شريك في مصر ، ويزيد بن مسلم في المغرب ، إمتلأت الارض والله جورا . ! » .

وعلينا الآن ـ لكي نقف على حقائق تلك الفترة ـ أن نستعرض النصوص الكافية التي تعطينا صورة واضحة عن مواقف عثمان وسياسته . وقبل أن نتحدث عن ذلك ، يجدر بنا أن نمر مرورا سريعا بالظروف التي مهدت لعثمان ، والتي كانت سببا في تسلط الأمويين ، والتي بدأت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

٩٢
 &



الإمَامَة

« وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » ٢٨ ـ ٦٨ .

من غير الوارد ـ بالمفهوم العقلي ـ أن تترك أمة دون قيادة ، ولا رعاية ، لأن ذلك سيؤدي ـ ولا شك ـ الى انهيارها ، وترديها في مهاوي المجهول .

والاسلام دين ونظام لكل الناس على حد تعبير القرآن الكريم : « وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ـ ٣٤ ـ ٢٨ » فمن الاولى ، أن لا يُترك دون صيانة ورعاية ، بل لا بد وأن يسند الى شخص مَّا من المسلمين ـ طبعا ـ ، القيام بهذه المهمة .

وطريق ذلك ، منحصر بالنص عليه ، إما من الله تعالى ، أو من النبي المعصوم ( ص ) أو الإمام الذي ينصبه النبي .

ويشترط في الإمام ما يشترط في النبي من كونه معصوما عن الخطأ .

من هنا ، فان قضية الخلافة ـ في المفهوم الديني ـ تأخذ معنى آخر غير المعاني الاخرى المتسالم عليها عند أكثرية المسلمين . فهي تأخذ معنى شرعيا يبقى ضمن « النص » .

فالإمام ـ بعد النبي ـ مصدر للتشريع لا يمكن الاستغناء عنه بحال من الاحوال ، فقوله وفعله وتقريره سُنَّة .

٩٣
 &

وبهذا نادى أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وعلى هذا بنوا كل أمورهم الدينية .

فالدين فوق كل الميول والاتجاهات ، لا يقاس بالعقول ، وصاحب الرسالة أدرى وأعلم بمن يقوم بمهماتها .

أما أن يقوم هذا الامر على التخمين والظن والاختيارات الشخصية ، فهذا عين الخطأ ، ولا قاعدة فيه من المشرع الحكيم . بل القاعدة على عكس ذلك ، قال تعالى :

ـ « رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » .

هذا بالاضافة الى كون النتائج في هذا الحال مجهولة ، ومتى ما كان الامر كذلك ، فان الخسارة حينئذ تكون أقوى في ميزان الاحتمال .

ولا يبعد أن يكون ما حصل للمسلمين من قبل وما يعانونه اليوم ، إنما هو نتيجة للتصرفات الفردية في هذا الامر الخطير ، فانه منذ أن فقدت القيادة الاسلامية مقوماتها الحقيقية بدأ الكيان الاسلامي يهتز ، ويدخل مراحل الانهيار .

فالملاحظ ، ان الجسم الاسلامي ـ بكل أبعاده وأشكاله ـ كان ينتقل ضمن دائرة النمو ، من طور الى طور أكبر ، بشكل متكامل متين لا يعرف الانتكاس ولا الحمود . وما ذلك إلا بفضل الرعاية الحكيمة من النبي الكريم ( ص ) ، فقد كانت قوة المسلمين تتكامل ، وعددهم يتزايد ، بشكل مستمر ملحوظ ، ووحدتهم متينة لا يزعزعها شيء ، على الرغم من الأخطار التي كانت تحدق بهم ، سواء من بقايا الشرك في الوسط العربي ، أو من المنافقين الذين كانوا بين ظهرانيهم يتربصون بهم الدوائر .

٩٤
 &



في السَّقيفَة

ما ان التحق الرسول ( ص ) بربه ، حتى بدأ العد العكسي يأخذ مجراه . فبدأت النوازع العصبية تبرز على الساحة بكل ما تحمل من أخطار ، تشتت الوحدة ، وتفرق الكلمة ، وهذا ما جرى في سقيفة بني ساعدة ، فقد تنازع المهاجرون والانصار في الامر من جهة ، وثارت ثائرة الاوس والخزرج ـ التي أطفأ الاسلام نائرتها ـ من جهة أخرى .

واليك لقطات سريعة عن ذلك ـ كما في شرح النهج :

قال سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج ـ في خطبته : « فشدوا يديْكم بهذا الامر ، فانكم أحق الناس ، وأولاهم به ! »

وقال الحباب بن المنذر : « فمنا أمير ومنهم أمير ! ! »

فقال عمر : « هيهات ! لا يجتمع سيفان في غمد ، إن العرب لا ترضى أن تؤمركم ونبيها من غيركم . ! »

فقام الحباب ، وقال : « لا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه ، فيذهبوا بنصيبكم من الامر . »

فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي ، ما اجتمعت عليه الانصار من تأمير سعد بن عبادة ـ وكان حاسدا له ـ قال : إن محمداً صلى الله عليه وسلم رجل من قريش ، وقومه أحق بميراث أمره .

٩٥
 &

فقام أبو بكر ، وقال : هذا عمر وابو عبيدة ، بايعوا أيهما شئتم .

فقالا : والله لا نتولى هذا الامر عليك . . أبسط يدك حتى نبايعك .

فلما بسط يده ، وذهبا يبايعانه ، سبقهما بشير بن سعد فبايعه . فناداه الحباب بن المنذر : يا بشير ، عقَّك عَقاق * والله ما اضطرك الى هذا الامر ، إلا الحسد لابن عمك . « يعني سعداً »

ولما رأت الأوس ، ان رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع ، قام أسيد بن حضير ـ وهو رئيس الأوس ـ فبايع حسدا لسعد أيضا ، ومنافسة له أن يلي الامر ، فبايعت الأوس كلها لما بايع أُسَيد .

وحُمل سعد بن عبادة ـ وهو مريض ـ فأدخل الى منزله ، فامتنع عن البيعة في ذلك اليوم وفيما بعد ١ .

قال البراء بن عازب ـ وكان خارج السقيفة ـ في حديث له : فلم ألبث ، واذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر ، وأبو عبيدة ، وجماعة من أصحاب السقيفة ، وهم محتجزون بالأزُرِ الصنعانية ، لا يمرون بأحد إلا خبطوه وقدموه ، فمدوا يده ، فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك ، أو أبى . فانكرت عقلي !

ورأيت في الليل ، المقداد ، وسلمان ، وأبا ذر ، وعبادة بن الصامت ، وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة ، وعمارا ، وهم يريدون أن يعيدوا الامر شورى بين المهاجرين ٢ .

هذه صورة مختصرة أخذناها من شرح النهج ، وفيها تعبير واضح عن الطريقة التي استخدمت في عقد البيعة لأبي بكر ، وانها لم تكن عن طريق الاختيار ـ كما يدعى ـ بل تدخَّل فيها عنصر القوة والإجبار .

__________________

* من العقوق : وهو شق عصا طاعة الوالد وكل ذي رحم .

(١) شرح النهج ٦ / من ص ٦ الى ١٠ .

(٢) نفس المصدر ١ / ٢١٩ / ٢٢٠ .

٩٦
 &



إثَارَةُ الفِتَن

ولكن مع ذلك ، فان الفتنة لم تنته بعد ، فقد كانت خيوطها تنسج في أقبية النفاق والضلال من قبل أدعياء الاسلام ، فقد حاولوا غير مرة ، جاهدين ، في إشعالها .

من ذلك : أن أبا سفيان أقبل الى علي (عليه السلام) قائلا له :

« اني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم ، يا آل عبد مناف ، فيم يلي أبو بكر من أموركم ؟ أين المستضعفان أين الأذلّان عليّ والعباس ؟ ما بال هذا الامر في أقل حيّ من قريش ؟ »

ثم قال لعلي ( ع ) : أبسط يدك أبايعك ، فوالله لئن شئت ، لأملأنها عليه خيلا ورجلا . فأبى علي عليه السلام . « وقال : إنك تريد أمرا لسنا من أصحابه ، وقَد عهد الي رسول الله ( ص ) عهدا ، فأنا عليه » ١

فتمثل أبو سفيان بشعر المتلمس :

ولن يقيم على خسف يراد به

إلا الأذلّان عير الحي والوتدُ

هذا على الخسف معكوس برمته

وذا يشج فلا يبكي له أحد

__________________

(١) هذه الفقرة موجودة في شرح النهج ٦ / ١٨ .

(٧)

٩٧
 &

فزجره علي ( ع ) ، وقال : والله إنك ما أردت بهذا إلا الفتنة ، وانك والله طالما بغيت للاسلام شرا . لا حاجة لنا في نصيحتك ١ .

لقد كان هذا الرد طبيعيا من الإمام علي ( ع ) أخ النبي ، ووصيه ، ووزيره ـ كما ورد عن النبي ( ص ) ـ فلقد كان ( ع ) يرمي من وراء ذلك الى الحفاظ على وحدة المسلمين ووحدة كلمتهم ليبقى الاسلام ويستمر في مسيرته .

وحاول آخرون إيقاع الفتنة بين المهاجرين والانصار مرة ثانية ، فكان أمير المؤمنين علي عليه السلام يقف سدا منيعا في وجوههم ، لا يترك لهم في ذلك فرصة تمر .

فقد حاول عمرو بن العاص من خلال كلام قاله في محضر من المهاجرين والانصار ، أن يثير حفيظة المهاجرين على الانصار ، حيث انتقص من مكانتهم ، وأتهمهم بأنهم : إنما أووا النبي ( ص ) طمعا بالملك أو الإمرة من بعده . وفي ذلك يقول :

تمنيتم الملك في يثرب

فأُنزِلَتِ القدرُ لم تُنضَج

في أبيات ، أجابه عليه فيما بعد ، شاعر الانصار ، النعمان بن العجلان : بعد كلام له ، منها :

فقل لقريش نحن أصحاب مكة

ويوم حنين والفوارس في بدر

وكان هواناً في عليّ وإنه

لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري

وعاود بن العاص الكرة ، بتحريض من سفهاء قريش ،

__________________

(١) الكامل ٢ / ٣٢٦ وفي الطبري ٣ / ٢٠٢ .

٩٨
 &

فبلغ الخبر علياً ( ع ) ، فغضب ، وشتم عَمراً ، وقال : أذى الله ورسوله .

ثم قام ، فأتى المسجد ، فاجتمع اليه كثير من قريش ، وتكلم مغضبا فقال :

« يا معشر قريش ، إن حُبَّ الانصارِ إيمان ، وبغضهم نفاق ، وقد قضوا ما عليهم ، وبقي ما عليكم ، واذكروا أن الله رَغِب لنبيكم عن مكة ، فنقله الى المدينة ، وكرِهَ له قريشاً ، فنقله الى الانصار ، ثم قد منا عليهم دارَهُم ، فقاسمونا الاموالَ ، وكفونا العمل ، فَصِرنا منهم بين بذل الغني ، وايثار الفقير ، ثم حاربَنا الناس ، فوقونا بأنفسهم ، وقد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن ، جمع لهم فيها بين خمس نِعَم فقال : « وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . » ٥٩ ـ ٩

ألا وان عمرو بن العاص قد قام . قاماً أذى فيه الميت والحي ، ساء به الواتر ، وسر الموتور ، فاستحق من المستمع الجواب . ومن الغائب المَقت ، وانه : مَن أحب الله ورسوله ، أحب الأنصار ، فليكفف عمرو عنا نفسه .

فمشت قريش عند ذلك الى عمرو بن العاص ، فقالوا : أيها الرجل ، أما اذا غضب عليّ فاكفُف .

وقال حسان بن ثابت في ذلك أبياتاً ، منها :

جزى الله عنا والجزاءُ بكفِّه

أبا حسن عنا ومن كأبي حَسنْ

سبقت قريشاً بالذي أنت أهله

فصدرك مشروح وقلبُكَ ممتحنْ

٩٩
 &

وترك عمرو بن العاص المدينة ، وخرج عنها حتـى رضي عليّ والمهاجرون ١ .

ولم يقف الامر عند هذا الحد ، فقد أخذت أخطار الرِدَّة تهدد المسلمين ، فكان ما كان من أمر مسيلمة الكذاب ، وطليحة النمري ، وسجاح ، وبقايا فلول الشرك في شبه الجزيرة العربية ، فوقعت معارك بينهم وبين المسلمين إستشهد فيها من المسلمين عدد كبير . ففي وقعة اليمامة وحدها خسر المسلمون « من المهاجرين والانصار من أهل المدينة ، ثلاثمائة وستين ، ومن غير المدينة ثلاثمائة رجل . » ٢

__________________

(١) شرح النهج ٦ / ٣٠ الى ٣٥ .

(٢) الكامل ٢ / ٣٦٥ .

١٠٠