أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

وقال : دخلت ذات يوم في صدر نهاره على رسول الله ( ص ) في مسجده ، فلم أر في المسجد أحداً من الناس إلا رسول الله صلی الله عليه وآله ، وعلي عليه السلام جالس الى جانبه ، فاغتنمت خلوة المسجد ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، أوصني بوصية ينفعني الله بها .

فقال صلى الله عليه وآله : نعم ، واكرم بك يا أبا ذر ، إنك منا أهل البيت . . ١ وقد ذكرت وصيته بكاملها في آخر الكتاب ، وهي من عظيم كلامه ( ص ) ، وتصلح أن تكون بذاتها موضوعاً مستقلا يدرس .

وفي ميدان معارفه وعلومه التي اكتسبها من النبي ( ص ) نذكر ما قاله أمير المؤمنين علي ( ع ) حين سئل عن أبي ذر . فروي أنه قال في ذلك :

وعى أبو ذر علما عجز الناس عنه ، ثم أوكأ عليه ، فلم يخرج شيئاً منه . ٢ وانما أوكأ أبو ذر على ذلك العلم ، ومنعه عن الناس ، لأنه لا تحتمله عقولهم .

وفي رواية أخرى عن علي عليه السلام ، فيه :

« وعى علما عُجز فيه ، وكان شحيحاً حريصاً على دينه ، حريصا على العلم ، وكان يكثر السؤال ، فيُعطى ويَمنع ، أما ان قد ملیء في وعائه حتى امتلأ . » ٣

وجاء عن كتاب حلية الأولياء : في هذا الصدد :

كان أبو ذر رضي الله تعالى عنه ، للرسول ( صلى الله عليه وآله )

__________________

(١) تنبيه الخواطر ٢ / ٣٠٠ .

(٢) الاستيعاب / حاشية على الاصابة ٤ / ٦٤ .

(٣) الغدير ٨ / ٣١١ .

٤١
 &

ملازما وجليسا ، وعلى مسائلته والاقتباس منه حريصا ، وللقيام على ما استفاد منه أنيسا ، سأله عن الأصول والفروع ، وسأله عن الايمان والاحسان ، وسأله عن رؤية ربه تعالى ، وسأله عن أحب الكلام الى الله تعالى ، وسأله عن ليلة القدر أترفع مع الأنبياء ، أم تبقى ؟ وسأله عن كل شيء حتى مس الحصى في الصلاة . ١ الخ .

وقد منحه النبي صلى الله عليه وآله أوسمة عالية أهمها :

قوله ( ص ) : ما أظلت الخضراء ، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر . ومن سرّه أن ينظر الى تواضع عيسى بن مريم ، فلينظر الى أبي ذر . ٢ .

وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن صحة هذا الحديث ، فصدَّقه .

ففي معاني الأخبار بسنده ، عن رجل . قال :

قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أليس قال رسول الله صلی الله عليه وآله في أبي ذر ـ رحمة الله عليه ـ ما أظلَّت الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء على ذي لهجة ، أصدق من أبي ذر ؟

قال : بلى .

قال : قلت : فأين رسول الله ، وأمير المؤمنين ؟ وأين الحسن والحسين ؟

قال ، فقال لي : كم السنة شهراً ؟

__________________

(١) نفس المصدر ٣١٢ .

(٢) الاستيعاب / الاصابة ١ / ٢١٦ .

٤٢
 &

قلت : إثنا عشر شهراً .

قال : كم منها حُرُم ؟

قال : قلت : أربعة أشهر .

قال : فشهر رمضان منها ؟

قال : قلت : لا .

قال ( ع ) : إن في شهر رمضان ليلة أفضل من ألف شهر ! إنَّا أهلُ بيت لا يقاس بنا أحد ! . ١

في غزوة تبوك

في غزوة تبوك ، وقف بأبي ذر جمله ، فتخلف عليه ، فقيل : يا رسول الله : تخلف أبو ذر .

فقال ( ص ) : ذروه ، فان يك فيه خير ، فسيلحقه الله بكم ، فكان يقولها لكم من تخلف عنه .

فوقف أبو ذر على جمله ، فلما أبطأ عليه ، أخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتبع النبي ( ص ) ماشياً .

فنظر الناس ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده .

فقال رسول الله ( ص ) : كن أبا ذر !

فلما تأمله الناس ، قالوا : هو أبو ذر !

فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ويشهده عصابة من المؤمنين . ٢

__________________

(١) معاني الاخبار ص ١٧٩ .

(٢) الكامل ٢ / ٢٨٠ والاصابة ج ٤ / ٦٤ بلفظ قريب .

٤٣
 &



التشيُّع . . . مَا هُوَ ؟

لكي تنثبت من الحقائق ، ونرفض كل ما يشيعه المغرضون حول عقيدة الشيعة ، ونشوئها في الاسلام ، يلزمنا ـ في هذا الحال ـ الرجوع الى عهود بعيدة ، مضت عليها قرون متعاقبة .

ولكن ، حينما يتحد المضمون ، تتلاشى عنده كل المواقيت ، وكل مؤشرات القرب والبعد ، فهو لا يتغير ، ولا يتبدل ، ولا يخضع لأي ضوابط ، زمانية كانت أو غيرها .

المضمون بالنسبة لنا واحد ، ألا وهو « الاسلام » فهو في كياننا اليوم ، كما كان بالأمس ، وكما كان قبل قرون ، وكما يكون غداً ، لا يتغير ولا يتبدل .

والتشيع بالنسبة لنا ، هو من صميم ذلك المضمون . ليس طارئا ، وليس جديداً على الاسلام ، بل هو أصل من أصوله ، دعا اليه رسول الله ( ص ) ، كما دعا الى بقية أركان الدين .

فليس التشيع ، سوى حب أهل البيت عليهم السلام ، ومودتهم ،

٤٤
 &

والتمسك بهم . وموالاة علي عليه السلام بعد رسول الله ( ص ) وأخذ معالم الدين من معدنه .

قال تعالى : « قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ » « ٤٢ ـ ٢٣ »

هذا هو التشيع ببساطة .

قال الأزهري : الشيعة ، هم الذين يهوون عترة النبي ( ص ) ، ويوالونهم ١ .

وقد نشأ التشيع لعلي ( عليه السلام ) في عهد الرسول الله ( ص ) الذي أوصى المسلمين في مواطن كثيرة ، بالتمسك بأهل البيت ( عليه السلام ) كما دعاهم الى ولاء علي ( ع ) ونصَّ على ذلك في حجة الوداع الاخيرة . حيث جاء في خطبته ( ص ) :

معاشر المسلمين ، ألست أولى بكم من أنفسكم ؟

قالوا : اللهم بلى .

قال : « من كنت مولاه ، فهذا علي مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله » .

وقد روي هذا الحديث بطرق مختلفة ، وألفاظ متغايرة ، بمضمون واحد .

فقد رواه من الصحابة اكثر من مائة وعشرة صحابياً . ومن التابعين

__________________

(١) متن اللغة ٣ / مادة شيع

٤٥
 &

أربعة وثمانون تابعياً ، ورواه من العلماء ، ثلاثمائة وستون عالماً ١ عدا من ألَّف فيه .

وهذا الحديث هو المسمى بحديث الغدير ، نسبة لغدير خُمّ . وقد تمسك به الشيعة الإمامية كدليل هام في إثبات الخلافة لعلي عليه السلام بعد رسول الله ( ص ) ، بالاضافة الى الأدلة الاخرى الكثيرة ، التي سنذكرها فيما بعد .

وعرف من الشيعة في عهد رسول الله ( ص ) جماعة ، منهم أبو ذر رضي الله عنه . .

قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني : « إن لفظ الشيعة على عهد رسول الله ( ص ) كان لقب أربعة من الصحابة ، سلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي وعمار بن ياسر ٢ الى آخره .

من جهة أخرى ، فقد ورد لفظ الشيعة ( شيعة علي ( ع ) ) على لسان النبي ( ص ) في عدة مناسبات . وما علينا الآن إلا أن نعرض بعض الاحاديث النبوية الشريفة المتضمنة لذلك .

١ ـ عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : « كنا عند النبي ( ص ) فأقبل علي بن أبي طالب ، فقال رسول الله ( ص ) : قد أتاكم أخي !

قال جابر : ثم التفت رسول الله ( ص ) الى الكعبة ، فضربها بيده ، ثم قال : والذي نفسي بيده ، إن هذا وشيعته هم الفائزون يوم القيامة . . ثم

__________________

(١) راجع كتاب الغدير ج ١ من ص ٨ الى ص ١٥١ .

(٢) الشيعة وفنون الاسلام ص ٣١ .

٤٦
 &

قال : إنه أولكم إيماناً معي ، وأوفاكم بعهد الله تعالى ، وأقومكم بأمر الله ، وأعدلكم في الرعية ، وأقسمكم بالسوية ، واعظمكم عند الله مزيِّة .

قال : ونزلت فيه « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ » .

قال : وكان أصحاب محمد ( ص ) اذا أقبل عليهم علي عليه السلام ، قالوا : قد جاء خير البرية » ١ .

٢ ـ أخرج الحافظ جمال الدين الذرندي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما . « ان هذه الآية لما نزلت ، قال ( ص ) لعلي : هم أنت وشيعتك ، تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين . . ٢ الخ .

٣ ـ أخرج أحمد في المناقب أنه ( ص ) قال لعلي ( ع ) : أما ترضى أنك معي في الجنة والحسن والحسين ، وذريتنا خلف ظهورنا ، وأزواجنا خلف ذريتنا ، وشيعتنا عن ايماننا وشمائلنا . »

٤ ـ واخرج الديلمي : يا علي : ان الله عز وجل قد غفر لك ، ولذريتك ، ولولدك ، ولأهلك ولشيعتك ، ولمحبي شيعتك .

٥ ـ وأخرج الطبراني عن علي ( ع ) قال : يا علي : ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه أعداؤك غضابا مُقمَحين ٣ . .

٦ ـ وأخرج ابن مردويه ، عن علي عليه السلام قال : قال لي رسول

__________________

(١) فرائد السمطين ١ / ١٥٦ .

(٢) الصواعق المحرقة / ١٥٩ .

(٣) حق اليقين ١ / ١٧١ و ٢٠٥ .

٤٧
 &

الله ( ص ) ألم تسمع قول الله : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ » هم انت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض ، اذا جائت الامم للحساب ، تدعون غُرَّاً محجلين .

٧ ـ وفي النهاية ( لإبن الاثير ـ مادة قمح ) : وفي حديث علي ( ع ) قال له النبي ( ص ) : ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين ، ويقدم عليه عدوك غضاباً مقمحين . ثم جمع يده الى عنقه يريهم كيف الإقماح .

٨ ـ عن ربيع الأبرار ، يروى عن رسول الله ( ص ) أنه قال : يا علي ، اذا كان يوم القيامة ، أخذتُ بحُجزة * الله تعالى ، وأخذت أنت بحُجزتي وأخذ ولدك بحجزتك ، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم . فتُرى أين يؤمر بنا ؟ ١

وأما الأحاديث الأخرى التي تدعو المسلمين الى التمسك بعلي ( عليه السلام ) وأهل البيت الطاهر فان استقصاءها وذكرها يحتاج الى وضع مجلد ضخم . لكننا نذكر بعضاً منها هنا ، لأجل التبرك بها من جهة ، ولاطلاع القاریء الكريم على مدى ما تحمل من أهمية ، من جهة أخرى .

١ ـ روى الجويني بسنده عن ابن عباس ( رض ) قال : قال رسول الله ( ص ) :

من سره أن يحيا حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً من بعدي ، وليقتدِ بالأئمة من بعدي ، فانهم عترتي ، خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهماً وعلماً ، ويل للمكذبين بفضلهم من أمتي ،

__________________

* قوله ( ص ) : اخذت بحجزة الله تعالى : كناية عن التعلق والامتناع به .

(١) أصل الشيعة وأصولها ١١٠ / ١١١ .

٤٨
 &

القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ١ .

٢ ـ وعن أنس بن مالك قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا أنس ، أسكب لي وضوءاً ( قال : ) ثم قام فصلى ركعتين ثم قال : يا أنس ، أول من يدخل عليك من هذا الباب ، أمير المؤمنين ( وسيد المسلمين ) وقائد الغر المحجلين ، وخاتم الوصيين .

قال أنس : قلت : اللهم اجعله رجلا من الانصار ـ وكتمته ـ اذ جاء علي صلوات الله عليه ، فقال : من هذا يا أنس ؟ فقلت : علي . فقام ( ص ) مستبشراً ، فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه بوجهه ، ويمسح عرق وجه علي بوجهه .

فقال علي عليه السلام : يا رسول الله ، لقد رأيتك صنعت شيئا ، ما صنعت بي من قبل ؟

قال ( ص ) : وما يمنعني ، وأنت تؤدي عني ، وتسمعهم صوتي ، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي .

٣ ـ وعن ابي ذر الغفاري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

أنا خاتم الأنبياء ، وأنت يا علي خاتم الأوصياء الى يوم الدين .

__________________

(١) فرائد السمطين / للجويني بسنده / ٥٣ .

٤٩
 &

ولفظ أبي ذر : أنا خاتم النبيين ، كذلك علي خاتم الأوصياء الى يوم الدين .

٤ ـ وعن جابر بن عبد الله ( الأنصاري ) قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي . ( هذا الحديث رواه الجويني بعدة طرق ، وهو حديث مشهور وهو المسمى بحديث ( المنزلة ) . ورواه مسلم في صحيحه عن سعد بن ابي وقاص عن أبيه » راجع فضائل الصحابة / ٤ ـ ١٨٧٠ ) .

٥ ـ وجاء في حديث طويل ، عن أبي أيوب الأنصاري :

يا عمار ، إن علياً لا يردك عن هدى ، ولا يدلك على ردى .

يا عمار ، طاعة علي طاعتي ، وطاعتي طاعة الله عز وجل . !

٦ ـ وعن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : علي بن أبي طالب حلقة معلقة بباب الجنة ، من تعلق بها دخل الجنة .

٧ ـ وعن انس بن مالك ، قال :

إن سائلا أتى المسجد وهو يقول : من يقرض المليّ الوفي ؟ وعلي ـ عليه السلام ـ راكع يقول ١ بيده خلفه للسائل خذه ، أي اخلع الخاتم من يدي . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا عمر ، وجبت . قال : بأبي انت وأمي يا رسول الله ، ما وجبت ؟ قال وجبت له الجنة . والله ما خلعه من يده ، حتى خلعه من كل ذنب وخطيئة ٢ .

__________________

(١) يقول : يشير .

(٢) فرائد السمطين ١ / ١٤٥ و ١٤٧ و ١٢٣ و ١٧٨ و ١٨٠ و ١٨٨ .

٥٠
 &

٨ ـ وعن ابن عباس رضي الله عنه ، قال :

أقبل عبد الله بن سلّام ، ومعه نفر من قومه ، ممن قد آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إن منازلنا بعيدة ، وليس لنا مجلس ، ولا متحدث دون هذا المجلس ، وان قومنا لما رأونا آمنا بالله ورسوله ، وصدقناه ، رفضونا ، وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ، ولا يناكحونا ( أي لا يتزوجون منا ولا نتزوج منهم ) ولا يكلمونا ، فشق ذلك علينا .

فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ » ( ٥٥ ـ المائدة )

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج الى المسجد ، والناس بين قائم وراكع ، وبصر بسائل .

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل أعطاك أحد شيئاً ؟

قال : نعم ، خاتم من ذهب * .

فقال النبي ( ص ) : من أعطاكه ؟

قال : ذلك القائم ـ وأومأ بيده الى علي بن أبي طالب ـ .

فقال النبي ( ص ) : على أي حال أعطاك ؟

قال : اعطاني وهو راكع ! .

فكبَّر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ : « وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ

__________________

* هكذا في شواهد التنزيل . ولكن في الحديث المروي عن ابن عباس : خاتم من فضة / راجع التعليقة .

٥١
 &

وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ » ( ٥٦ ـ المائدة ) .

فأنشأ حسان بن ثابت يقول :

أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي

وكل بطيیء في الهوى ومسارع

أيذهب مدحي والمحبين ضائعاً

وما المدح في جنب الإله بضائع

فأنت الذي اعطيت اذ كنت راكعاً

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

فانزل فيك الله خير ولاية

وبينها في محكمات الشرائع ١

وقصة التصدّق بالخاتم ـ هذه ـ من أشهر المشهورات ، وقد رواها الجويني بعدة طرق ، وبأسانيد مختلفة ، كما رواها غيره من أرباب الحديث .

ونكتفي هنا بهذا العرض لبعض الروايات في هذا المضمون ، والتي هي نزر قليل من الكثير الكثير ، اذ لو أردنا استقصاء وذكر الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وآله في فضل أمير المؤمنين علي عليه السلام ، والمشتملة على النص بالولاية منه ( ص ) له ( ع ) من بعده ، وعلى إلزام المسلمين بالأخذ عن أهل البيت ( ع ) معالم دينهم لألزمنا ذلك بافراد كتاب مستقل ، ولأخرجنا عن الموضوع .

ومجمل القول :

فان الشيعة يعتقدون بأن الإمامة ، لا تكون إلا بالنص من الله تعالى ،

__________________

(١) فرائد السمطين ١ / ١٨٩ / ١٩٠ . راجع مجمع البيان وشواهد التنزيل ، وذخائر العقبى . فانه أشار فيه الى هذه الآية وثماني آيات نزلت في علي . راجع ص ٨٨ ـ ٨٩ ـ ومن أحب الاستزادة في فضائل الامام ، فليراجع صحيح مسلم م ٤ ص ١٨٧٠ وفضائل الخمسة من الصحاح الستة ، وغيرها .

٥٢
 &

على لسان النبي ، أو على لسان الإمام الذي قبله ، وأن الإمام لا بد وأن يكون معصوماً من جميع الرذائل ، ومن السهو والخطأ والنسيان ، كما لا بد وأن يكون أفضل الناس بعد النبي ( ص ) .

ولا يهمنا من بحث الإمامة هنا « اثبات انهم هم الخلفاء الشرعيون ، وأهل السلطة الإلهية ، فان ذلك أمر مضى في ذمة التأريخ ، وليس في اثباته ما يعيد دورة الزمن من جديد أو يعيد الحقوق المسلوبة الى أهلها ، وانما يهمنا منه ، ما ذكرنا من لزوم الرجوع اليهم في الأخذ بأحكام الله الشرعية ، وتحصيل ما جاء به الرسول الأكرم على الوجه الصحيح الذي جاء به ، وان في أخذ الأحكام من الرواة والمجتهدين الذين لا يستقون من نمير مائهم ، ولا يستضيئون بنورهم ، ابتعاداً عن محجة الصواب في الدين . » ١

__________________

(١) عقائد الشيعة الامامية / ٩٩ .

٥٣
 &



أبو ذَرّ وَالتّشيُّع

من هذا المنطلق الواضح ، يمكننا القول بأن التشيع ليس مذهبا طارئا على الاسلام ، أو فكرة دخيلة عليه ، بل هو من صميم الاسلام ، وأصل من أصوله . نشأ في عهد النبي الأعظم ، وبايعاز منه صلوات الله عليه . فهو الذي بذر هذه البذرة المباركة وتعاهدها بنفسه .

والمهم لدينا الآن ، هو الوصول الى ما نريده من هذه الحقيقة ، الهامة ، وهو التحدث عن تشيع أبي ذر الصحابي العظيم ( رض ) . وغيره من الصحابة . . وما علينا في هذا الحال إلا أن نسرد بعض النصوص التأريخية المتضمنة لذلك .

قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني :

إن لفظ الشيعة على عهد رسول الله ( ص ) كان لقب أربعة من الصحابة . . سلمان الفارسي ، وابي ذر الغفاري ، والمقداد بن الأسود الكندي ، وعمار بن ياسر ١ . .

وقال الشيخ المفيد رحمه الله ، في بيان إمامة أمير المؤمنين علي ( ع ) .

فاختلفت الأمة في إمامته يوم وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،

__________________

(١) الشيعة وفنون الاسلام / ٣١ .

٥٤
 &

فقالت شيعته ، وهم : بنو هاشم كافة ، وسلمان ، وعمار ، وأبو ذر ١ . . الخ .

وقال اليعقوبي ، حول الموضوع ذاته :

وتخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ، ومالوا مع علي بن أبي طالب . منهم : العباس بن عبد المطلب ، الى ان قال : وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ٢ . . الخ ما ذكره .

وقال الكشي عنه : وهو الهاتف بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، ووصي رسول الله واستخلافه إياه ٣ . .

وجاء في سيرة الأئمة الإثني عشر ، حول الموضوع ذاته :

« واحتج عليهم سلمان الفارسي ، وأبو ذر ، وعمار ، والمقداد ، وغيرهم من وجوه الصحابة ٤ . .

وجاء في كتاب أصل الشيعة وأصولها ، في ذكر طبقات الشيعة :

الطبقة الأولى : وهم أعيان الصحابة ، وابرارهم ، كسلمان المحمدي ـ أو الفارسي ـ وأبي ذر ، والمقداد وعمار ، وخزيمة ذي الشهادتين ، وابن التيهان ، وحذيفة بن اليمان ، والزبير ، والفضل بن العباس ، وأخيه الحبر عبد الله ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وابي ايوب الأنصاري ، وأبان وأخيه خالد ـ ابني سعيد العاص ، الأمويين ـ وأبي بن كعب سيد القراء . وانس بن الحرث بن نبيه ، الذي سمع النبي ( ص ) يقول : ان ابني الحسين ( عليه

__________________

(١) الارشاد / ١٠ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٢٤ .

(٣) معجم رجال الحديث ٤ / ١٦٨ .

(٤) سيرة الأئمة ١ / ٢٩٥ .

٥٥
 &

السلام ) يقتل في أرض يقال لها : كربلاء فمن شهد ذلك منكم ، فلينصره . فخرج أنس ، وقتل مع الحسين عليه السلام ( راجع الإصابة والاستيعاب ) .

ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى : ولو أردت أن أعد عليك الشيعة من الصحابة ، واثبات تشيعهم من كتب السنة ، لأحوجني ذلك الى إفراد كتاب ضخم ١ .

الى غير ذلك من النصوص والأخبار ، التي تصرح بتشيع أبي ذر ( رض ) وغيره من الصحابة لعلي ( ع ) وآل البيت الطاهر تشيعاً ليس عاطفياً يقتصر على حبهم فحسب ، بل تشيعاً مبدئياً ، ينادي بأحقية علي عليه السلام في الخلافة بعد رسول الله ( ص ) بلا فصل . استنادا الى ما سمعه هو ، وبقية الصحابة منه ( ص ) في ذلك ، كحديث الغدير المتقدم وأمثاله .

فقد كان أبو ذر رضي الله عنه ، ممن ثبت على هذا المبدأ ، فنافح عنه ، ودافع على أكثر من جبهة ، وفي عدة مواطن ، ودعا المسلمين اليه بكل جرأة وصراحة ، حتى آخر لحظة من حياته . ففي مكة ، كان لسانه يلهج بذلك ، وفي المدينة ، كما في الشام ، وحتى في منفاه الأخير في الربذة ، لم يتوان ، ولم يتلكأ في تأدية الأمانة .

وفي مكة المكرمة ، وحول البيت العتيق ، مهوى قلوب الملايين من المسلمين ومركز تجمعهم في كل عام ، كان أبو ذر يغتنم الفرصة ، فيدعو المسلمين ، ليحدثهم بما سمع عن رسول الله ( ص ) في حق أهل البيت بصورة عامة ، وعلي عليه السلام بصورة خاصة .

فمن ذلك ، ما رواه الجويني بسنده ، عن عباية بن ربعي ، قال :

__________________

(١) أصل الشيعة وأصولها / ٨٦ .

٥٦
 &

بينما عبد الله بن عباس ، جالس على شفير زمزم ( يقول : قال رسول الله صلی الله عليه وسلم ) ، اذ أقبل رجل متعمم بعمامة . ) فجعل ابن عباس لا يقول ، قال رسول الله صلی الله عليه وسلم ، إلا قال الرجل : قال رسول الله صلی الله عليه وسلم .

فقال ابن عباس : سألتك بالله ، من أنت ؟

قال : فكشف العمامة عن وجهه ، وقال : يا أيها الناس من عرفني ، فقد عرفني ، ومن لم يعرفني ، فأنا جندب ابن جنادة البدري ، أبو ذر الغفاري ، سمعت النبي صلی الله عليه وسلم بهاتين ، وإلا فصمَّتا ، ورأيته بهاتين ، وإلا فعميتا .

يقول : علي قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله .

أما اني صليت مع رسول الله صلی الله عليه وسلم يوماً من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده الى السماء وقال : ( اللهم ) إشهد اني سألت في مسجد رسول الله صلی الله عليه وسلم فلم يعطني أحد شيئا ، وعلي عليه السلام كان راكعا ، فأومأ بخنصره اليمنى ـ وكان يتختم فيها ـ فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول الله صلی الله عليه وسلم ، فلما فرغ النبي صلی الله عليه وسلم من صلاته ، رفع رأسه الى السماء ، وقال :

اللهم إن أخي موسى سألك فقال : « رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ١ » فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً

__________________

(١) مقتبس من آية ٢٥ ـ ٣٢ / طه .

٥٧
 &

« سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا » ١ اللهم ، وأنا محمد نبيك وصفيك ، اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، علياً أخي ، أشدد به ظهري . *

قال أبو ذر : فوالله ، ما استتم رسول الله صلی الله عليه وسلم الكلمة ، حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله ، فقال :

يا محمد إقرأ « إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . » ٢

وروى الجويني أيضا بسنده الى الحافظ ابي بكر ، بسنده عن كديرة الهجري .

قال : إن أبا ذر أسند ظهره الى الكعبة ، فقال :

أيها الناس ، هلموا أحدثكم عن نبيكم صلی الله عليه وسلم . سمعت رسول الله ( ص ) يقول لعلي ثلاثاً . لئن يكون قال لي واحدة منهن ، أحب الي من الدنيا وما فيها .

سمعت رسول الله يقول لعلي ( ع ) : اللهم أعنه واستعن به ، اللهم انصره وانتصر به ، فانه عبدك وأخو رسولك ٣ .

وفي المستدرك ، عن حنش الكناني ، أنه قال :

سمعت أبا ذر يقول ـ وهو آخذ بباب الكعبة ـ : أيها الناس ، من

__________________

(١) من آية ٣٥ / القصص .

* وفي شواهد التنزيل : اشدد به أزري .

(٢) فرائد السمطين ١ / ١٩١ / ١٩٢ .

(٣) نفس المصدر ص ٦٨ .

٥٨
 &

عرفني ، فأنا من عرفتم ، ومن أنكرني ، فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله يقول :

ألا إن مثل أهل بيتي فيكم ، مثل سفينة نوح من قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ١ .

وفي المدينة ، عاصمة العالم الاسلامي ، ومقر الخلافة ، كان رضي الله عنه يقوم بنفس الدور ، على الرغم من المراقبة الشديدة المفروضة من قبل الأمويين ودعاتهم في ذلك الوقت .

قال اليعقوبي في تأريخه :

« وبلغ عثمان أن أباذر ، يقعد في مسجد رسول الله ( ص ) ويجتمع اليه الناس ، فيحدث بما فيه الطعن عليه ، وأنه وقف بباب المسجد ، فقال :

أيها الناس ، من عرفني ، فقد عرفني ، ومن لم يعرفني ، فأنا أبو ذر الغفاري ، جندب بن جنادة الربذي : إن الله إصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم ، وآل عمران على العالمين . ذرية بعضها من بعض ، والله سميع عليم . محمد الصفوة من نوح ، فالأول من إبراهيم ، والسلالة من إسماعيل ، والعترة الهادية من محمد . إنه شرف شريفهم واستحقوا الفضل في قوم ( قومهم ) هم فينا كالسماء المرفوعة ، وكالكعبة المستورة ، أو كالقبلة المنصوبة ، أو كالشمس الضاحية ، أو كالقمر الساري ، أو كالنجوم الهادية ( أو كالشجرة الزيتونة ) أضاء زيتها ، وبورك زبدها . ومحمد وارث علم آدم ، وما فضل به النبيون ، وعلي بن أبي طالب وصي محمد ووارث علمه .

أيتها الأمة المتحيرة ، أما لو قدمتم من قدَّم الله ، وأخرتم من أخَّر

__________________

(١) المستدرك / ٣ / ١٥٠ ـ ١٥١ .

٥٩
 &

الله وأقررتم الوالية والوراثة في أهل بيت نبيكم ، لأكلتم من فوق رؤوسكم ، ومن تحت أقدامكم ، ولما عال ولي الله ، ولا طاش سهم من فرائض الله ، ولا اختلف إثنان في حكم الله ، إلا وجدتم علم ذلك عندهم ، من كتاب الله وسنة نبيِّه ، فأما اذا فعلتم ما فعلتم ، فذوقوا وبال أمركم ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ١ . .

وفي الشام ، كان أبو ذر يسلك نفس المسلك مع من يجتمع اليه من الناس ويحدثهم بمثل ذلك .

قال اليعقوبي : وكان يجلس في المسجد ـ يعني في الشام ـ فيقول كما كان يقول ( في المدينة ) ويجتمع اليه الناس ، حتى كثر من يجتمع اليه ، ويسمع منه ١ .

وحتى في الربذة ، منفاه الموحش المقفر ، لم تصرفه آلامه وهمومه ، ولا ما هو فيه من الاغتراب عن مواطن الايمان والجهاد ، والأصحاب الأخلاء . لم يصرفه ذلك ولم يشغله عن اكمال مسيرته التي بدأت خطاها في عهد النبي ( ص ) فظل متمسكا بمبدأه هذا ، منادياً به حين تمكنه الفرصة من ذلك ، فرصة اللقاء بمن يستمع اليه ، ويأخذ منه .

في شرح النهج ، عن أبي رافع ، قال :

أتيت أبا ذر بالربذة ، أودعه . فلما أردت الانصراف ، قال لي ، ولأناس معي : ستكون فتنة ، فاتقوا الله ، وعليكم بالشيخ : علي بن ابي طالب ، فاتبعوه .

والحق أن موقف أبي ذر من مبدأ التشيع ، كان موقفاً مثالياً يجسم لنا كل معاني الثبات والصمود ، فما كان لتلين له عريكة فيه ، ولا لتميل له

__________________

(١) تأريخ اليعقوبي ٢ / ١٧٢ .

٦٠