الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٧
بعث اليه معاوية بثلاثمائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، قبلتها . وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها » ١
وقال له ـ ذات مرة ـ حبيب بن مسلمة أحد القادة : « لك عندي يا أباذر ، ألف درهم ، وخادم ، وخمسمائة شاة .
قال أبو ذر : إعطِ خادمك ، وألفَكَ ، وشويهاتِكَ ، من هو أحوج الى ذلك مني ! فاني إنما أسأل حقي في كتاب الله . . ! » ٢
بهذه الصراحة ، وبهذا الوضوح يرسم لنا أبو ذر بعض مواقفه ، إنه لم يكن ليثأر ، ويغضب لنفسه ، بل للحق الذي طالب بتثبيته ، وبذلك جعل من نفسه رمزاً يدفع بالمقهورين والمظلومين الى المطالبة بحقوقهم ، وعرض ظلاماتهم . فكان في تصرفاته تلك رائدا من رواد الحق ، يجازف بنفسه من أجل الآخرين .
وما أغناه عن أن يقاسي ما قاسى ، لو أراد .
لقد كان بوسعه أن يعيش حياة الرفاهية والترف ، شأن بعض الصحابة ممن هم دونه في الفضل بمراتب . لو أراد .
ولكن في هذه النقطة تكمن احدى الفوارق ما بين الانسان الرسالي ، والانسان العادي .
بين الانسان الذي يحمل هموم ومستقبل أمة بأسرها ، وبين انسان ينشغل بنفسه ولهوه ، متخماً يتجشأ على موائد الترف !
__________________
(١) الغدير ٨ / ٢٩٣ .
(٢) اعيان الشيعة ١٦ / ٣٦٤ عن آمالي الطوسي .
نعم . كان أبو ذر انساناً رسالياً ، ولم يكن انساناً عاديا . وكان في بعض مواقفه يمثل مواقف أمير المؤمنين علي عليه السلام . ولا غرو ولا عجب ، فهو تلميذ الإمام وواحد من أكثر الناس إخلاصاً له .
قال أمير المؤمنين ( ع ) :
« ولو شِئتُ لاهتديتُ الطريق الى مُصفى هذا العسلِ ، ولُبابِ هذا القمح ، ونَسائِج هذا القزِّ ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جَشعي الى تخيُّرِ الأطعمة ، ولعلَّ بالحجاز أو اليمامة ، من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع ، أوَ أبيت مبطاناً ، وحولي بطون غرثى ، وأكباد حرَّى ، أوَ أكونُ كما قال القائل :
وحسبك داء أن تبيت ببطنة |
|
وحولك اكباد تحِنُّ الى القِدِّ ١ |
لقد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام ، يقول هذا ، ومقدرات الأمة تحت قبضة يده ، بل المعروف أن صدقاته الخاصة وحدها كانت تساوي آلاف الدنانير ذهباً .
نعم . كان يقول هذا ـ ويعمل بما يقول مع نفسه ـ ليلفت أنظار المسلمين الى ضرورة تفقد الضعفاء ، والمقهورين ، والمدفوعين عن حقوقهم ، ويلفت انظار الولاة الى الرفق بالرعية وتفقد أحوالهم .
وكان أبو ذر ـ تلميذ الإمام ـ ممن سار على هذا الهدي ، فقد كان عطاؤه السنوي اربعماية ديناراً ذهباً . ومع هذا فانه كان لا يدخر منها
__________________
(١) نهج البلاغة ٣ / ٧١ / ٧٢ ( الجشع ـ الحرص ـ البطنة ـ الاشر والبطر . ) القد : سير من جلد غير مدبوغ ، والمعنى ان بعضهم يطلب أكله فلا يجده .
شيئاً . وكان يندد بالكانزين للذهب والفضة الذين لا يخرجون الزكاة الواجبة منها ، أو الذين أخذوها من طرق غير مشروعة أيام عثمان . وكان يطلب حقه ( في كتاب الله ) كما تقدم . ويرفض الألف درهم ، والعبد والخمسماية شاة .
اجل . انه لم يكن ليفعل هذا عن فاقة ، أو مطمع ، بل كان يريد إلفات المسؤولين ـ في حينه ـ الى انصاف المظلومين ، وايصال كل ذي حق الى حقه .
وأعيت الحيلة غرماءه الحاكمين في إسكاته ، فعمدوا الى طريقة ثانية قرروا فيها إسكاته ، وكانت طريقة ناجحة ـ في نظرهم ـ فنفوه الى الربذة .
حمل من الشام الى المدينة على مركب وعر ، حتى تسلخ فخذاه ، ثم بعد ذلك ، نفي الى الربذة * بعيداً عن مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله ، ومواطن الايمان ، حتى توفي غريباً هناك !
رحم الله أبا ذر ، لقد كان ينسى كل جراحه وآلامه في رحلته الثأرية تلك ، ليكتب على رمال الصحراء ملحمته الخالدة .
ملحمته التي ستبقى مع الشمس تشرق ، ولكنها لا تغيب ! !
__________________
* الربذة : موضع على بعد ثلاثة ايام من المدينة . . . معجم البلدان ٣ / ٢٤ .
الفَارِسُ الشّجَاع
الشجاعة أو الجرأة . موهبة يتمتع بها غالب عظماء الانسانية ، فهي لا تقبل التكلُّفَ ولا تستقيم معها محاكاة . وهي ايضاً صفة كريمة تميَّز بها العرب بصورة عامة ، والمسلمون بصورة خاصة .
فالعربي بطبعه ـ غالباً ـ شجاع غير هياب ، يتقحم موارد الهلكة ، إن رأى في ذلك ما يرضي مزاجه ، حتى ولو كانت الخسارة عنده أكبر في ميزان الاحتمال . ولعل هذه الخصلة الكريمة ، هي احدى معطيات الطبيعة الصحراوية ، وما فرضته من خشونة العيش على هذا الانسان .
فالمعروف عن العرب القدامى ، أن ظروفهم المعاشية كانت صعبة للغاية ، فكانت جلُّ حياتهم الاقتصادية تقوم على الغزو أو السلب ، أو طَرْق الأحياء أو ما شابه ذلك ، مما كان متسالم عليه لديهم آنذاك * ، ولا يرون فيه أي إخلال بالشرف أو المكانة الاجتماعية ، بل على العكس من ذلك ، فقد كان هذا العمل يُكسب القائم به رفعة وسؤدداً في قبيلته وبني قومه . فكان المغيرون على الأحياء يتفاخرون بذلك . وينشدون فيه الأشعار .
__________________
* وكانتِ التجارة احدى الدعامات الاقتصادية الهامة ، لكن يبدو انها كانت مختصة بطبقة معينة من أصحاب السيادة .
قال طفيل الغنوي :
وغارة كجراد الريح زعزعها |
|
مخراق حرب كنصل السيف بهلول ١ |
وهم يرون في ذلك ردءاً لهم من الغارات التي يمكن أن تشنها عليهم القبائل الأخرى ، كما يرون في ذلك إظهارا لشجاعتهم وقوتهم حتى لا يفكر الآخرون بغزوهم .
قال المثقب العبدي :
ونحمي على الثغر المخوف ويُتقى |
|
بغارتنا كيد العدى وضُيومُها ١ |
وقال الآخر :
ومن لم يذدْ عن حوضه بسلاحه |
|
يُهدَّم ومن لم يظلم الناس يُظلَم |
والمسلمُ الحقيقي شجاع ايضا بمقتضى تركيبته الذهنية الخاصة التي صقلها الاسلام ، وروحه الرسالية المستمدة منه . فهو لا يعرف معنى الخوف من الموت ـ في الله ـ لأنه مؤمن بسلامة المصير ، فلا يرى غير الجنة اعدت للمتقين في الآخرة . ومتى كان الامر كذلك ، يهون عليه كل شيء في سبيل ذلك حتى نفسه . وتأريخنا الاسلامي حافل بالبطولات والتضحية كما هو بيِّن وواضح لدى كل من يتتبعه .
وصاحبنا أبو ذر رضي الله عنه ، الذي هو موضوع بحثنا الآن ، كان ممن اتسم بأعلى معاني البطولة والشجاعة ، في الجاهلية ، وفي الاسلام .
__________________
(١) شعر الحرب في العصر الجاهلي ٨٠ و ٤٦٢ ( البهلول : السيد الجامع لكل خير ) و ( المخراق : الرجل الحسن الجسيم المتصرف بالامور الذي لا يقع في أمر الا خرج منه ) .
ففي الجاهلية كان شجاعاً بطبعه ، بل في طليعة الشجعان المغامرين ، فالمعروف عنه أنه كان فارس ليل ، لا يعرف معنى الخوف ولا الوجل ، يغير على الحي ، وعلى القوافل ، فيصيب منها ، ثم يرجع الى مقره .
روى بن سعد في الطبقات ، بسنده :
كان أبو ذر رجلا يصيب الطريق ، وكان شجاعاً يتفرد وحده بقطع الطريق ، ويغير على الصرم * في عماية الصبح على ظهر فرسه ، أو على قدميه ، كأنه السبع ، فيطرق الحي ويأخذ ما أخذ . ثم إن الله قذف في قلبه الاسلام ١ .
وهذه الرواية لا تنافي كونه كان متعبداً قبل الاسلام ، يتألَّه ويعبد الله وحده ، فمما لا يخفى على الباحث والمطلع ، أن هناك أموراً كانت سائدة لدى العرب في الجاهلية وكانوا متسالمين على أكثرها فأقرَّ الاسلام بعضها ، ونهى عن بعضها الآخر ، فكان من جملة ما نهى عنه الاسلام هذه الخصال الذميمة وهي قطع الطرق ، والإغارة على الناس في مآمنهم . فانتهى عنها المسلمون . ولا مانع من أن يكون أبو ذر متعبداً قبل الاسلام بسنوات ، ويفعل بعض هذه الأعمال ، ثم انتهى عنها حين نهى الاسلام عنها ! إنه لا مانع من ذلك قط ، ولا يُخلُّ هذا بشرفه ومكانته . هذا ، اذا لم نقل بأنه كان يفعل ذلك مع الفئات والقبائل التي تعبد الأصنام ، استحلالا منه لذلك . فمن يدري ؟
وحين اسلم أبو ذر ، زاده الاسلام شجاعة الى شجاعته ، ومنحه زخماً
__________________
* الصَّرم : الفرقة من الناس ليس بالكثير .
(١) أعيان الشيعة ١٦ / ٣٢٠ .
لا تدرك حدوده ، فكان من فرسان الاسلام وأبطالهم ، من أول يوم . فقد قال للنبي ( ص ) :
يا رسول الله ، اني منصرف الى أهلي ، وناظر متى يؤمر بالقتال ، فألحق بك ، فاني أرى قومك عليك جميعاً !
فقال رسول الله ( ص ) : أصبت .
فانصرف ، فكان يكون بأسفل ثنية غزال ١ فكان يعترض لعيرات قريش ، فيقتطعها فيقول : لا أرُدّ لكم منها شيئاً حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله ، وان محمداً رسول الله . !
فان فعلوا ، ردَّ ما أخذ منهم ، وان أبوا ، لم يرد عليهم شيئاً ، فكان على ذلك ، حتى هاجر رسول الله ( ص ) ومضى بدر ، وأحد ، ثم قدم فأقام بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ٢ .
__________________
(١) ثنية غزال موضع بين مكة والمدينة .
(٢) أعيان الشيعة ١٦ / ٣٢١ عن الطبقات الكبرى لابن سعد .
تعَبُّدهُ قبْلَ الإسْلَام
قال عبد الله بن الصامت ، قال أبو ذر :
« وقد صليت ـ يا ابن أخي ـ قبل أن ألقى رسول الله ( ص ) بثلاث سنين .
قلت : لمن ؟
قال : لله .
قلت : فأين توجَّه ؟
قال : أتوجه حيث يوجهني ربي ، أصلي عشاء ، حتى اذا كان من آخر الليل ، أُلقيت ، كأني خِفَاء * ١ حتى تعلوني الشمس ٢ . وكان أكثر عبادته التفكر والاعتبار ٣ .
وفي الطبقات الكبرى لابن سعد : كان أبو ذر يتأله في الجاهلية ، ويقول لا إله إلا الله ، ولا يعبد الأصنام . فمرَّ عليه رجل من أهل مكة ـ بعدما أوحي الى النبي ( ص ) ـ فقال : يا أبا ذر ! إن رجلا بمكة يقول مثل ما تقول لا إله إلا الله ، ويزعم انه نبي ٤ . .
__________________
(١) * الخفاء ـ الكساء الذي يغطَّى به السِّقاء .
(٢) صحيح مسلم ـ ٤ ـ ص ١٩٢٠ ب ٢٨ ـ فضائل الصحابة .
(٣) الخصال ص ٤٢ .
(٤) الغدير ٨ / ٣٠٨ .
إسْلَامه
حين تناهى الى سمع أبي ذر ، نبأ ظهور النبي ( ص ) في مكة ودعوته الناس الى الاسلام عقد العزم على اللقاء به ، والاستماع منه . لكنه فضل بادیء الأمر أن يرسل أخاه ـ أنيساً ـ * ليحمل اليه بعض أخباره ، فقال له :
__________________
* ومن غريب ما ورد في خبر اسلامه أيضا :
أن ذئبا عدى على غنم له من جانب ، فنجش عليه أبو ذر بعصاه ، فتحول الى الجانب الآخر ، فنجش عليه ، فقال : ما رأيت ذئبا أخبث منك ؟ فأنطق الله الذئب فقال : أشر مني أهل مكة ! بعث الله اليهم نبيا ، فكذبوه وشتموه . فخرج أبو ذر من أهله يريد مكة . . الخ . . هكذا ورد في كتاب الواعظ م ٢ ص ١٤٦ .
وهذه الرواية ـ اذا صحت ـ فهي معجزة للنبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد ذكر الدميري في كتاب الحيوان ١ ص ٣٦٢ قريبا من ذلك بدون أن يذكر الاسم . قال : عن ابي سعيد الخدري :
بينما راع يرعى بالحرَّة ، اذ عدا الذئب على شاة ، فحال الراعي بينه وبينها ، فأقعى الذئب على ذنبه ، وقال : يا عبد الله ، تحول بيني وبين رزق ساقه الله الي ؟
فقال الرجل : وا عجبا ! ذئب يكلمني ؟ فقال الذئب : الا أخبرك بأعجب مني ، هذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين الحرتين يخبر الناس بأنباء ما قد سبق !
=
« اركب الى هذا الوادي ، واعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم انه يأتيه الخبر من السماء ! واسمع من قوله ، ثم إإتني .
انطلق أنيس ، حتى قدم مكة ، وسمع من قوله .
ثم رجع الى أبي ذر ، فقال : رأيته يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويأمر بمكارم الأخلاق ، وسمعت منه كلاماً ، ما هو بالشعر !
فقال له أبو ذر : ما شفيتني فيما أردتُ .
فتزود وحمل شنَّة له فيها ماء ، حتى قدم مكة . فأتى المسجد ، فالتمس النبي ( ص ) و ( هو ) لا يعرفه ، وكره أن يسأل عنه ، حتى أدركه الليل ، فاضطجع . فرآه علي بن ابي طالب ( ع ) فقال : كأن الرجل غريب . قال : نعم .
قال : انطلق الى المنزل .
قال أبو ذر : فانطلقت معه ، لا يسألني عن شيء ولا أسأله . فلما
__________________
= فزوى الراعي شياهه الى زاوية المدينة ، ثم أتى النبي ( ص ) فأخبره ، فخرج رسول الله ( ص ) فقال : صدق والذي نفسي بيده .
( ثم قال ) : قال ابن عبد البر : وغيره كلم الذئب من الصحابة ثلاثة : رافع بن عميرة ، وسلمة بن الاكوع ، وأهبان بن أوس الاسلمي ، قال : ولذلك تقول العرب : هو كذئب أهبان يتعجبون منه . وذلك ، ان أهبان بن أوس المذكور كان في غنم له ، فشد الذئب على شاة منها ، فصاح به أهبان ، فأقعى الذئب ، وقال : أتنزع مني رزقا رزقنيه الله ؟ ! فقال أهبان : ما سمعت ولا رأيت اعجب من هذا ، ذئب يتكلم ؟ . فقال الذئب : أتعجب من هذا ، ورسول الله ( ص ) بين هذه النخلات ، وأومأ بيده الى المدينة يحدث بما كان وبما يكون ، ويدعو الناس الى الله والى عبادته وهم لا يجيبونه . . الخ .
(٣)
أصبحت من الغد ، رجعت الى المسجد ، فبقيت يومي حتى أمسيت ، وسرت الى مضجعي . فمر بي عليّ ، فقال : أما آن للرجل أن يعرف منزله ؟
فأقامه ، وذهب به معه ، وما يسأل واحد منهما صاحبه .
حتى اذا كان اليوم الثالث ، فعل مثل ذلك ، فأقامه عليّ معه .
ثم قال له علي ( ع ) : ألا تحدثني ما الذي اقدمك هذا البلد ؟
قال : إن اعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدني . فعلت . ففعل .
فأخبره علي ( ع ) عنه أنه نبي ، وأن ما جاء به حق ، وأنه رسول الله ( ص ) . ثم قال له : فاذا أصبحت ، فاتبعني ، فاني إن رأيت شيئاً أخاف عليك ، قمت كأني أريق الماء ، فان مضيت ، فاتبعني حتى تدخل معي مدخلي .
قال : فانطلقت أقفوه ، حتى دخل على رسول الله ( ص ) ودخلت معه ، وحييت رسول الله بتحية الاسلام ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ـ وكنت أول من حياه بتحية الاسلام ـ
فقال ( ص ) : وعليك السلام . من أنت ؟
قلت : رجل من بني غفار . فعرض علي الاسلام فأسلمت ، وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله .
فقال لي رسول الله ( ص ) : ارجع الى قومك ، فأخبرهم ، واكتم أمرك عن أهل مكة فاني أخشاهم عليك .
فقلت : والذي نفسي بيده ، لأصوِّتن بها بين ظهرانيهم .
فخرج حتى أتى المسجد ، فنادى بأعلى صوته : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
فثار اليه القوم وضربوه حتى أضجعوه .
فأتى العباس ، فأكب عليه وقال : ويلكم ألستم تعلمون أنه من بني غفار ، وأن طريق تجارتكم الى الشام عليهم ، وأنقذه منهم .
ثم عاد من الغد الى مثلها ، وثاروا اليه فضربوه ، فأكب عليه العباس ، فأنقذه . ثم لحق بقومه . ١
ومن طريف ما يروى عنه :
أنه رأى إمرأة تطوف بالبيت ، وتدعو بأحسن دعاء في الارض ، وتقول : اعطني كذا وكذا . . ثم قالت في آخر ذلك : يا إساف ، ويا نائلة . ! ! ( وهما صنمان لقريش ، زُعم أنهما كانا من أهل اليمن ، أحب أحدهما الآخر ، فقدما حاجين ، فدخلا الكعبة ، فوجداها خلواً من كل أحد ، ففجرا بها ، فمسخا حجرين ، فأصبح الحجاج ، فوجدوهما حجرين ، فوضعوهما الى جانب ليتعظ بهما الناس كي لا يتكرر هذا العمل ، ثم توالت الأيام ، فعبدتهما قريش كبقية الأصنام ) .
فالتفت أبو ذر الى تلك المرأة ، قائلا : أنكحي أحدهما صاحبه ! .
فتعلقت به ، وقالت : أنت صابیء ، فجاء فتية من قريش فضربوه ، وجاء ناس من بني بكر ، فنصروه .
__________________
(١) اعيان الشيعة ج ١٦ / ٣١٦ ـ ٣١٧ نقلا عن : الاستيعاب / باب الكنى . وفي الاصابة ٤ / ص ٦٢ ـ ٦٣ وفي صحيح مسلم قريبا من ذلك .
فجاء الى النبي ، فقال : يا رسول الله ، أما قريش ، فلا أدعهم حتى أثأر منهم . . . ضربوني ! !
فخرج حتى أقام بعسفان ١ وكلما أقبلت عير لقريش يحملون الطعام ، ينفِّر بهم على ثنية غزال فتلقي أحمالها ، فيجمعوا الحنط ، ( فيقول أبو ذر لهم ) : لا يمس أحد حبة حتى تقولوا ، لا إله إلا الله . فيقولون ، لا إله إلا الله ، ويأخذون الغرائر ! ٢
وحين رجع أبو ذر الى قومه ، نفذ وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدعاهم الى الله عز وجل ونَبذِ عبادة الأوثان والايمان برسالة محمد ( ص ) ، فكان أول من أسلم منهم أخوه أنيس ، ثم اسلمت أمهما ، ثم أسلم بعد ذلك نصف قبيلة غفار ، وقال نصفهم الباقي : اذا قدم رسول الله المدينة ، أسلمنا .
جاء في صحيح مسلم : عن أبي ذر قوله :
فأتيت أنيساً ، فقال : ما صنعت ؟ قلت : صنعت ، أني قد أسلمت وصدَّقت . قال : ما بي رغبة عن دينك . !
فأتينا أمَّنا . فقالت : ما بي رغبة عن دينكما ! فاني قد أسلمت وصدقت .
فاحتملنا ٣ حتى أتينا قومنا غفاراً . فأسلم نصفهم .
__________________
(١) عسفان : موضع على بعد ستة وثلاثين ميلا ، ( بين مكة والمدينة ) المعجم .
(٢) أعيان الشيعة ١٦ / ٣٢٠ ـ ٣٢١ . الكلمات التي بين قوسين خارجة عن الاصل .
(٣) يعني حملنا انفسنا ومتاعنا .
وقال نصفهم : اذا قدم رسول الله المدينة ، أسلمنا . فقدم رسول الله المدينة ، فأسلم نصفهم الباقي . وجاءت أسلم ١ فقالوا : يا رسول الله ! اخوتنا ، نسلم على الذي أسلموا عليه . فأسلموا .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « غفَار غَفر الله لها . وأسلَم سالمها الله . » ٢
ومجمل القول : فان أبا ذر ( رض ) كان من المبادرين الأول لاعتناق الاسلام حتى قيل انه رابع من أسلم ، وقيل خامسهم .
قال في الاستيعاب :
كان إسلام أبي ذر قديماً . يقال بعد ثلاثة ، ويقال : بعد أربعة ، وقد روي عنه أنه قال : أنا ربع الاسلام . وقيل : كان خامساً . ٣
وقال الواقدي : واسلم أبو ذر ، قالوا رابعاً ، أو خامساً ٤ . .
__________________
(١) اسم قبيلة .
(٢) صحيح مسلم ٤ / ك الفضائل ص ١٩٢٢ .
(٣) الاستيعاب / حاشية على كتاب الاصابة / م ١ ص ٢١٣ .
(٤) الكامل ٢ / ٦٠ .
معَ الرَسُول ( ص )
لم يأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا ذر ( رض ) باللحاق بقومه ، ودعوتهم الى الاسلام ، إلا لأنه توسم فيه صفات الكمال ، لما يتمتع به من روح عالية ، وثبات لا يتزعزع ، وتفان في العقيدة . فوجده أهلا لأن يقوم بدور من هذا النوع ، والاسلام يمر بأدق المراحل وأخطرها .
نحن نعلم أن النبي صلوات الله عليه كان ـ في بدء رسالته المباركة ـ يحتاج الى مزيد من المؤيدين والأعوان في داخل مكة ، وفي خارجها . في داخل مكة ، لتقوية الصف فيها ، وليمنع نفسه من قريش ! وفي خارج مكة ، لنشر مبادیء هذا الدين الجديد الحنيف ، واستقطاب أكبر عدد ممكن من الأفراد المسلمين كي ينهض بهذا الأمر جهرة وعلى الصعيد العام ، وتكون لديه القوة الكافية لصد أعدائه الذين يتربصون به الغيلة ويخططون للقضاء عليه وعلى الرسالة في مهدها .
لقد آثر النبي ( ص ) إيفاد أبي ذر الى قومه بني غفار ، على بقائه معه ، لثقته العالية بأنه سينجح في نشر الاسلام بينهم .
وهذا ما حصل ، فقد نجح أبو ذر في ذلك ، فقد أسلم نصف قومه على يده ، وأسلم النصف الباقي عند مجيء النبي ( ص ) الى المدينة كما اسلفنا .
وبقي أبو ذر بينهم فترة طويلة . لم يحضر في خلالها غزاة بدر ولا أحد ، ولا الخندق ( كما تقول الروايات ) ، بقي بينهم في خندق الجهاد الآخر ، حيث كان يفقههم في دينهم ، ويعلمهم أحكام الاسلام ، وهذا جهاد يحتاج الى عزيمة وحكمة ودراية ونفس طويل .
وليس من الوارد في ذهن من يعرف أبا ذر ، أن يعتقد بتخلفه عن هذه الغزوات الثلاث بمحض ارادته واختياره ، بل من المؤكد أن تخلفه عنها ، وبقاؤه في قومه إنما كان بايعاز من الرسول الكريم ( ص ) . والجهاد بالسيف مقرون مع الجهاد في اللسان ، بتعليم الناس أحكام دينهم ، وتفقيههم بها . بعد تعلمها من رسول الله ( ص ) .
قال تعالى : « وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » ٩ ـ ١٢٢ .
قضى أبو ذر ، فترة بين بني قومه ، ثم عاد ليصحب النبي ( ص ) ويأخذ عنه العلم والمعارف والحكمة .
وقد حظي من رسول الله ( ص ) بالاهتمام الكبير ، والعناية الخاصة . فقد كان رسول الله ( ص ) يبتدئه بالسؤال والكلام اذا حضر ، ويسأل عنه اذا غاب .
فعن ابي الدرداء قال : « كان النبي صلى الله عليه وآله يبتدیء أبا ذر اذا حضر ، ويتفقده اذا غاب . » ١
ويظهر من بعض الأخبار انه ( ص ) كان يمازحه ، كما كان هو يمازح
__________________
(١) الاصابة ٤ / ٦٣ والاستيعاب ص ٦٤ .
النبي صلوات الله عليه وهذا إن دل على شيء ، فانما يدل على مكانته الخاصة لدى النبي ( ص ) .
فقد روي انه قدم الى المدينة ، فلما رآه النبي قال له : « أنت أبو نملة !
فقال : أنا أبو ذر .
قال ( ص ) : نعم ، أبو ذر . ١
وعن الصادق عليه السلام ، قال :
طلب أبو ذر رسول الله صلى الله عليه وآله ، فقيل إنه في حائط ( بستان ) كذا وكذا .
فتوجه في طلبه ، فوجده نائماً ، فأعظمه أن ينبهه . فأراد أن يستبریء نومه من يقظته ، فتناول عسيباً يابساً ، فكسره ليسمعه صوته . فسمعه رسول الله ( ص ) فرفع رأسه فقال :
يا أبا ذر ، تخدعني . أما علمت أني أرى أعمالكم في منامي ، كما أراكم في يقظتي ! إن عينيَّ تنامان ، ولا ينام قلبي ! ! ٢
وكان رضي الله عنه في صحبته للنبي ( ص ) حريصاً على اقتباس العلوم ، فكان يغتنم الفرصة في ذلك ، ويحدثنا هو عن نفسه ، فيقول :
لقد سألت النبي ( ص ) عن كل شيء ، حتى سألته عن مس الحصى ( في الصلاة ) ، فقال : مسَّه مرة ، أو دع . ٣
وقال : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وما يحرك طائر جناحيه في السماء ، إلا ذكَّرنا منه علما . ٤
__________________
(١) الاصابة ٤ / ٦٣ والاستيعاب ص ٦٤ .
(٢) معجم رجال الحديث ٤ / ١٧١ .
(٣) الغدير ٨ / ٣١٢ عن مسند أحمد .
(٤) الاستيعاب ٤ / ٦٤ .