أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

على دنياهم ، وخِفتَهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه ، واهرَب منهم بما خفتهم عليه ، فما أحوَجُهم الى ما منعتهم ، واغناك عمَّا منعوك !

وستعلم من الرابحُ غدا ، والأكثرُ حُسَّدا ، ولو أن السمواتِ والأرضينَ كانتا على عبد رتقاً ، ثم اتقى الله ، لجعل الله له منهما مخرجا .

لا يؤنسنك الّا الحق ، ولا يُوحشنَّك إلا الباطل ، فلو قبلتَ دنياهم لأحبُّوك ولو قرضتَ منها لأمنُّوك ١ .

وجاء في رواية ابن عباس : عن ذكوان ـ وكان حافظاً ـ . كما في شرح النهج .

قال ذكوان : فحفظت كلام القوم . فقال علي عليه السلام : يا أبا ذر ، انك غضبت لله ، إن القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فامتحنوك بالقِلى ، ونفوكَ الى الفلا . والله لو كانت السموات . . الخ .

ثم قال علي عليه السلام لأصحابه : « ودِّعوا عمَّكم ، وقال لعقيل : ودِّع أخاك .

كلام عقيل

فتكلم عقيل : فقال : ما عسى أن نقولَ يا أبا ذر ، وأنت تعلم أنا نحبُّك ، وأنت تُحبُّنا ! فاتق الله ، فان التقوى نجاة ، وإصبر ، فان الصبرَ كَرم ، وإعلم أن إستثقالك الصبرَ ، من الجزعِ . واستبطاءَك العافيةَ ، من اليأسِ ، فدَع اليأس والجزع .

__________________

(١) نهج البلاغة ٢ / ص ١٢ ـ ١٣ .

١٤١
 &

كلام الحسن ( ع )

ثم تكلم الحسن ، فقال : يا عمَّاه ، لولا أنه لا ينبغي للمودِّع أن يسكت ، وللمشيِّع أن ينصرف لقصر الكلام ، وإن طال الأسف ، وقد أتى القوم اليك ما ترى ، فضَع عنك الدنيا ، بتذكر فراغها وشِدَّة ما اشتد منها ، برجاء ما بعدها ، وإصبِر حتى تلقى نبيَّك ( ص ) وهو عنك راض .

كلام الحسين ( ع )

ثم تكلم الحسين ( ع ) فقال : يا عمَّاه ، ان الله تعالى قادر أن يغيِّر ما قد يرى ، والله كلَّ يوم هو في شأن ، وقد منَعَك القوم دنياهم ، ومنعتهم دينَك ، فما أغناك عمَّا منعوك ، واحوجهم الى ما منعتهم ! فاسأل الله الصبرَ والنصرَ واستعذ به من الجشع والجزع ، فان الصبرَ من الدين والكرم ، وان الجشع لا يُقدّم رزقاً ، والجزع لا يؤخِّر أجلا .

كلام عمَّار بن ياسر

ثم تكلم عمار ـ رحمه الله ـ مغضباً ، فقال :

لا آنس الله من أوحشَك ، ولا آمنَ من أخافك ، أما والله ، لو أردتَ دنياهم ، لأمنُّوك ، ولو رضيت أعمالهم ، لأحبُّوك ، وما منع الناسَ أن يقولوا بقولك ، إلا الرضا بالدنيا ، والجزع من الموت ، مالوا الى ما سلطان جماعتهم عليه ، والملكُ لمن غَلب ، فوهبوا لهم دينهم ، ومنحهم القوم دنياهم ، فَخسِروا الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين !

١٤٢
 &

كلام ابي ذر ( رض )

فبكى أبو ذر رحمه الله ـ وكان شيخا كبيرا ـ وقال :

رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة ! اذا رأيتكم ، ذكرت بكم رسول الله ( ص ) ما لي بالمدينة سَكن ولا شجن غيركم ، إني ثقلتُ على عثمان بالحجاز ، كما ثقلتُ على معاوية بالشام . وكَرِه أن أجاور أخاه وابن خاله بالمصرين ، فأفسد الناس عليهما ، فسيَّرني الى بلد ليس لي به ناصر ولا دافع إلا الله ! والله ما أريد إلا الله صاحباً ، وما أخشى مع الله وحشة .

بين علي ( ع ) وعثمان

ورجع القوم الى المدينة ، فجاء علي ( عليه السلام ) الى عثمان ، فقال له :

ما حملك على ردّ رسولي ، وتصغير أمري ! ؟

فقال علي ( ع ) : أما رسولك ، فأراد أن يردَّ وجهي ، فرددته ، وأما أمرك ، فلم أصغِّره .

قال : أم بلغك نهيي عن كلام ابي ذر ! ؟

قال ( ع ) : أو كلما أمرت بأمر معصية ، أطعناك فيه !

قال عثمان : أقِد مروان من نفسك .

قال : ممَّ ذا ؟

قال : من شَتمِه ، وجَذبِ راحِلتَه .

قال : أما راحلتُه ، فراحلتي بها ، وأما شتمه إياي ، فوالله لا يشتمني شتمة ، إلا شتمتك مثلها ، لا أكذب عليك .

١٤٣
 &

فغضب عثمان ، وقال : لِم لا يشتمكَ ؟ ! كأنك خير منه !

قال علي ( ع ) : إي والله ، ومِنكَ ! ثمّ قام ، فخرج ١ .

وبلغ أبا الدرداء * ـ وهو في الشام ـ ان عثمان قد سيَّر أبا ذر الى الربذة ، فقال : « إنا لله وانا اليه راجعون ، لو أن أبا ذر قطع لي عضوا أو يدا ، ما هجته ، بعد ان سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر ٢ »

__________________

(١) شرح النهج ٨ / ٢٥٣ الى ٢٥٥ .

* الصاري ، واسمه عامر ، كان مصاحبا لابي ذر .

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ / ٣٤٤ .

١٤٤
 &



في الرّبذَة

عن أبي الاسود الدؤلي ، قال :

كنت أحب لقاء أبي ذر ، لاسأله عن سبب خروجه الى الربذة ، فجئته ، فقلت له :

ألا تخبرني ، أخرجت من المدينة طائعا ، أم أخرجت كرها ؟

فقال : كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم ، فأُخرجتُ الى المدينة ! فقلت : دار هجرتي وأصحابي ! فأخرجت من المدينة الى ما ترى ! .

ثم قال : بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد ، على عهد رسول الله ( ص ) ، أذ مرَّ بي عليه السلام فضربني برجله ، وقال : لا أراك نائما في المسجد .

فقلت : ـ بأبي انت وأمي ـ غلبتني عيني ، فنمتُ فيه .

قال : فكيف تصنع ، اذا أخرجوك منه ؟

قلت : الحق بالشام ، فانها أرض مقدَّسة ، وأرض الجهاد .

قال : فكيف تصنع اذا أخرجتَ منها ؟

قلت : أرجع الى المسجد !

قال : فكيف تصنع اذا أخرجوك منه ؟

١٤٥
 &

قلت : آخذ سيفي ، فأضربهم به .

فقال : ألا أدلُّك على خير من ذلك ؟ إنسق معهم حيث ساقوك ، وتسمع وتطيع ، فسمعت وأطعت ، وأنا أسمع وأطيع ! والله ليلقَين الله عثمان ، وهو آثم في جنبي ١ .

وفي حلية الاولياء ، بسنده عن عبد الله بن خراش ، قال :

رأيت أبا ذر بالربذة ، في ظُلة له سوداء ، له امرأة سحماء ، وهو جالس على قطعة جوالق . فقيل له : انك إمرؤ ما يبقى لك ولد ؟

فقال : الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء ، ويدَّخرهم في دار البقاء .

قالوا : يا أبا ذر ، لو اتخذت امرأة غير هذه ؟

قال : لئن أتزوج امرأة تضعني ، أحب اليَّ من امرأة ترفعني .

فقالوا : لو اتخذت بساطا ألين من هذا ؟

قال : اللهم غفرا ! خذ مما خوّلتَ ، ما بدا لك ٢ .

ودخل عليه قوم من أهل الربذة . فقالوا : يا أبا ذر ! ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي !

قالوا : فما تشتهي ؟

قال : رحمةَ ربي .

قالوا : هل لك بطبيب . ؟

__________________

(١) شرح النهج ٨ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ .

(٢) الاعيان ٣٢٩ .

١٤٦
 &

قال : الطبيبُ أمرضني ١ . ! !

كلامه ( رض ) على قبر ولده

روى الكليني في الكافي ، بسنده عن علي بن ابراهيم ، رفعه ، قال :

لما مات ذر بن ابي ذر ، مسح ابو ذر القبر بيده ، ثم قال :

رحمك الله يا ذر ، والله إن كنت بي بارا ، ولقد قُبِضتَ واني عنك لراض ، أما والله ما بي فقدُك وما علي من غضاضة ٢ وما لي الى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطَّلع ، لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك ، عن الحزن عليك ، والله ما بكيت لك ! ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلتَ ؟ وماذا قيل لك ؟

ثم قال : اللهم إني قد وهبت له ما افترضتَ عليه من حقي ، فَهب له ما افترضتَ عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود مني ٣ .

__________________

(١) المصدر السابق / ٣٧٣ .

(٢) ما بي فقدك ، أي ليس علي بأس وحزن من فقدك .

(٣) الفروع من الكافي ج ٣ / ٢٥٠ ـ ٢٥١ .

١٤٧
 &



بَين أبي ذَرّ وَحُذيفَة بن اليَمان

ما كتبه أبو ذر ، الى حُذَيفَة بن اليمان يشكو اليه ما فعل به

في كتاب الفصول للسيد المرتضى ، عن أبي مخنف ، قال : حدثني الصلت عن زيد بن كثير ، عن ابي أمامة . قال : كتب أبو ذر الى حذيفة بن اليمان يشكو اليه ما صنع به عثمان .

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد يا أخي . فَخَف الله مخافة يكثر منها بكاء عينيك ، وحرِّر قلبك ، وأسهر ليلك ، وانصَب بدنك في طاعة الله . فحق لمن عَلِم أن النار مثوى من سخط الله عليه ، أن يطول بكاؤه ، ونَصَبُه ، وسهرُ ليله ، حتى يعلم أنه قد رضي الله عنه . وحق لمن علم أن الجنة مثوى من رضي الله عنه ، أن يستقبل الحق كي يفوز بها ، ويستصغرَ في ذات الله الخروج من أهله وماله ، وقيام ليله ، وصيام نهاره ، وجهاد الظالمين الملحدين بيده ولسانه ، حتى يعلم ان الله أوجبها له ، وليس بعالِم ذلك دون لقاء ربِّه . وكذلك ينبغي لكل من رغب في جوار الله ، ومرافقة انبيائه ، أن يكون .

يا أخي ، أنت ممن أستريح الى التصريح اليه ببثي وحزني . وأشكو اليه تظاهر الظالمين علي .

١٤٨
 &

إني رأيت الجور ـ يعمل به ـ بعيني ، وسمعته يقال ، فرددته ، فحُرمت العطاء ، وسُيِّرت الى البلاد ، وغُرِّبت عن العشيرة والاخوان ، وحَرَم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأعوذ بربي العظيم أن يكون مني هذا شكوى ، أن رُكب مني ما رُكب ، بل انبأتُك أني قد رضيت ما أحب لي ربي ، وقضاه علي ، وأفضيت ذلك اليك ، لتدعوَ الله لي ، ولعامَّة المسلمين بالروح والفرج ، وبما هو أعم نفعا ، وخير مغبَّة وعقبى ـ والسلام .

جواب حذيفة له

فكتب اليه حذيفة :

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد يا أخي . فقد بلغني كتابك ، تُخَوّفني به ، وتحذّرني فيه منقلَبي ، وتحثني فيه على حظ نفسي ، فقديما ـ يا أخي ـ ما ، كنت بي ، وبالمؤمنين حفيَّاً لطيفا . وعليهم حدِبا شفيقا . ولهم بالمعروف آمِرا ، وعن المنكرات ناهيا ، وليس يهدي الى رضوان الله إلا هو ، ولا يُتناهى من سخطه الا بفضل رحمته ، وعظيم منِّه . فنسأل الله ربنا ـ لأنفسنا وخاصَّتنا ، وعامَّتنا ، وجماعة أمَّتنا ـ مغفرة عامة ، ورحمة واسعة ، وقد فهمتُ ما ذكرتَ من تسييرك ، يا أخي ، وتغريبك ، وتطريدك ، فعزَّ والله عليَّ يا أخي ، ما وصل اليك من مكروه ولو كان يُفتدى ذلك بمال ، لأعطيتُ فيه مالي ، طيِّبة بذلك نفسي ، ليصرَف الله عنك ـ بذلك ـ المكروه . والله ، لو سألتُ لك المواساة ، ثم أعطيتُها لأحببت احتمال شطر ما نزل بك ، ومواساتك في الفقر ، والأذى ، والضرر . لكنه ، ليس لأنفسنا ، إلا ما شاء ربنا . يا أخي ، فافزع بنا الى ربنا ، ولنجعل اليه رغبتنا ،

١٤٩
 &

فقد استُحصِدنا ! واقترب الصَّرام ١ . فكأني ، واياك ، قد دعينا فأجبنا ! وعرضنا على أعمالنا ، فاحتجنا الى ما أسلفنا ! يا أخي : ولا تأسَ على ما فاتك ، ولا تحزن على ما أصابك ، واحتسب فيه الخير . وارتقب فيه من الله أسنى الثواب . يا أخي : لا أرى الموت لي ولك ، إلا خيرا من البقاء ، فانه قد أظلتنا فتن يتلو بعضها بعضا ، كقطع الليل المظلم ، قد انبعثت من مركبها ، ووطئت في خطامها ، تشهر فيها السيوف ، وتنزل فيها الحتوف ! يُقتل فيها من اطلع لها ، والتبس بها ، وركض فيها ، ولا يبقى قبيلة من قبائل العرب ، من الوبر والمدر ، إلا دخلت عليهم ! فأعزّ أهل ذلك الزمان ، أشدهم عتوَّا ! وأذلُّهم ، اتقاهم ! فأعاذنا الله واياك ، من زمان هذه حال أهله .

لن أدَعَ الدُعاء لك ، في القيام والقعود ، والليل والنهار ، وقد قال الله ، ولا خُلف لموعده : أدعوني ، أستجب لكم ، إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين ، فنستجير بالله من التكبُّر عن عبادته ، والاستنكاف عن طاعته ، جعل الله لنا ولك فرجاً ، ومخرجا عاجلا برحمته ، والسلام ٢ .

__________________

(١) الصرّام للنخل : أوان ادراكه وجزّه .

(٢) أعيان الشيعة ١٦ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨ .

١٥٠
 &



يَمشي وَحْدَهُ وَيمُوتُ وَحْدَه

« صدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم »

حين استعدَّ النبي صلى الله عليه وآله لمحاربة الروم قاصدا « تبوك » من أرض الشام ، كان الفصل قائضا شديد الحرارة . وكان العدو شديد البأس ، كثير العدّة والعدد ، مما دعا نفرا من المتاخذلين ـ ممن أسلم رهبة أو رغبة ـ الى القعود ، والتخلف عن الجهاد .

وتابع المسلمون سيرهم بكل ثقة وشجاعة ، وانتهى الامر بالصلح مع الروم على دفع الجزية .

فقد ألقى الله في قلوب زعمائهم الهيبة ، لما تناهى الى أسماعهم من أنباء الانتصارات الساحقة التي سجلها المسلمون في أكثر من موقع بالرغم من قلتهم ، ولما سمعوه عن بسالة المقاتل المسلم ، واستماتته في سبيل الدفاع عن اسلامه واضعا نصب عينيه الجنة ، قاتلا أو مقتولا . لذلك ، فقد آثروا الانسحاب على المواجهة .

ووجه النبي ( ص ) الى يوحنا بن رؤبة ـ أحد زعماء المنطقة ـ رسالة يدعوه فيها الى الاسلام ، أو دفع الجزية ، فقدم على النبي ( ص ) حاملا الهدايا ، ومعلنا الطاعة . فصالحه ( ص ) على الجزية ، في كل سنة ثلاثمائة

١٥١
 &

دينار ، كما صالحه على ذلك أهل المناطق الاخرى ، وكتب ( ص ) بينه وبينهم كتبا تتضمن شروط الصلح بما يحفظ للمسلمين حقهم في الجزية ، والتجول في تلك المنطقة ، آمنين على انفسهم وأموالهم ، ويضمن لأصحاب تلك المناطق حرية العقيدة ، والعيش مع جيرانهم المسلمين بأمان .

في هذه الغزوة ، تخلف بأبي ذر جمله ، فعالجه حتى أعياه أمره ، فأخذ رحله عنه ، وحمله على ظهره ، وتابع سيره ماشيا على قدميه .

« ونظر الناس ، فقالوا : يا رسول الله ، هذا رجل على الطريق وحده .

فقال رسول الله ( ص ) : كن أبا ذر !

فلما تأمله الناس ، قالوا : هو أبو ذر .

فقال رسول الله ( ص ) : يرحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ، ويشهده عصابة من المؤمنين .

فلما نفى عثمان أبا ذر الى الربذة ، أصابه بها أجله ، ولم يكن معه الا مرأته وغلامه ١ .

__________________

(١) الكامل ٢ / ٢٨٠ .

١٥٢
 &



المَأسَاة

١٥٣
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

١٥٤
 &



المَأسَاة

عن أم ذر زوجة أبي ذر ، قالت : لما حضرت أبا ذر الوفاة ، بكيت . فقال : ما يبكيك ؟

فقلت : ما لي لا أبكي ، وأنت تموت بفلاة من الارض وليس عندي يسعك كفنا ، لي ولا لك . ولا يد لي للقيام بجهازك !

قال : فأبشري ، ولا تبكي ، فاني سمعت رسول الله ( ص ) يقول : لا يموت بين امرأين مسلمين ولدان ، أو ثلاثة ، فيصبران ، ويحتسبان ، فيريان النار أبدا .

وقد مات لنا ثلاثة من الولد !

واني سمعت رسول الله يقول لنفر أنا فيهم : ليموتن رجل منكم بفلاة من الارض ، يشهده عصابة من المؤمنين ! وليس من أولئك النفر أحد ، إلا وقد مات في قرية ، أو جماعة . ( ولم يبق غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت ١ ) فأنا ذلك الرجل ، فوالله ما كَذِبت ، ولا كُذبت فأبصري الطريق .

قلت : أنى ؟ وقد ذهب الحاج ، وتقطَّعت الطريق .

__________________

(١) كذا في أعيان الشيعة ١٦ / ٣٦٨ .

١٥٥
 &

قال : اذهبي ، فتبصَّري .

قالت : فكنت أشتد الى الكثيب ، فانظر ! ثم أرجع اليه ، فأمرِّضه . فبينما أنا وهو كذلك ، اذ أنا برجال على رحالهم ، كأنهم الرُخُم * ، تخب بهم رواحلهم ، فأسرعوا الي ، حتى وقفوا علي ، فقالوا :

يا أمة الله ، ما لَكِ ؟

قلت : إمرؤ من المسلمين ، يموت ! تكفنونه ، « وتؤجرون فيه » ١ .

قالوا : ومن هو ؟ قلت : أبو ذر ! . قالوا : صاحب رسول الله ! ؟ قلت : نعم .

قالت : فَفدَّوه بأبائهم ، وأمهاتهم ، ثم ( وضعوا سياطهم في نحورها ) . وأسرعوا اليه حتى دخلوا عليه ٢ . . الخ الرواية .

وفي رواية الكشي ، عن جلّام بن ذر . وكان له صحبة ( مع رسول الله ) قال :

مكث ابو ذر في الربذة حتى مات ، فلما حضرته الوفاة ، قال لامرأته : اذبحي شاة من غنمك واصنعيها ، فاذا نضجت ، اقعدي على قارعة الطريق ، فأول ركب ترينهم ، قولي :

يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( ص ) وقد قضى نحبه ، ولقي ربه ، فأعينوني عليه ، وأجنوه ، فان رسول الله ( ص ) أخبرني أني أموت في أرض غربة ، وانه يلي غسلي ودفني والصلاة علي رجال من أمته صالحون .

__________________

* الرّخم : طائر على شكل النسر مبقع بسواد وبياض .

(١) كذا في أعيان الشيعة .

(٢) الاستيعاب ، حاشية على الاصابة ١ / ٢١٤ الى ٢١٦ .

١٥٦
 &

عن محمد بن علقمة بن الاسود النخعي ، قال : خرجت في رهط أريد الحج ، منهم مالك بن الحارث الأشتر ، وعبد الله بن فضل التيمي ، ورفاعة بن شداد البجلي ، حتى قدمنا الربذة ، فاذا امرأة على قارعة الطريق تقول :

يا عباد الله المسلمين ، هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( ص ) قد هلك غريبا ليس أحد يعينني عليه !

فنظر بعضنا الى بعض ، وحمدنا الله على ما ساق الينا ، واسترجعنا على عظيم المصيبة . ثم أقبلنا معها فجهزناه ، وتنافسنا في كفنه حتى خرج من بيننا بالسواء ، ثم تعاونا على غسله ، حتى فرغنا منه ، ثم قدمنا مالك الأشتر فصلى عليه ، ثم دفناه .

فقام الأشتر على قبره ثم قال : اللهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله ( ص ) عبدك في العابدين وجاهد فيك المشركين ، لم يغير ولم يبدل ، لكنه رأى منكرا فغيَّره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي ، وحرم واحتقر ، ثم مات وحيدا غريبا ، اللهم فاقصم من حرمه ونفاه من مهاجره ، وحرِم رسول الله ( ص ) .

فرفعنا أيدينا جميعا ، وقلنا : آمين .

فقدمت الشاة التي صنعت ، فقالت أنه أقسم عليكم أن لا تبرحوا ، حتى تتغدوا فتغدينا ، وارتحلنا ١ .

« رواية ثانية حول كيفية وفاته »

في تفسير علي بن ابراهيم في تتمة خبره في غزوة تبوك :

__________________

(١) اعيان الشيعة / ٣٧٢ نقلا عن الدرجات الرفيعة . و ٣٧٣ .

١٥٧
 &

فلما سيَّره عثمان الى الربذة ، كان له غنيمات يعيش هو وعياله منها ، فأصابها داء يقال له النقاب ، فماتت كلها . فأصاب أبا ذر وابنته الجوع ، فقالت ابنته :

أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئا ! فقال لي أبي : يا بنية ، قومي بنا الى الرمل ، نطلب العبب ( نبت له حب ) فصرنا الى الرمل ، فلم نجد شيئا ، فجمع أبي رملا ، ووضع رأسه عليه ، ورأيت عينيه قد انقلبتا ، فبكيت ، فقلت له ، يا أبه كيف أصنع بك ، وأنا وحيدة ؟

فقال : يا بنيتي لا تخافي ، فاني اذا مت ، جائك من أهل العراق من يكفيك أمري ، فاني أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، فقال لي : يا أبا ذر تعيش وحدك ، وتموت وحدك ، وتدخل الجنة وحدك ، يسعد بك أقوام من أهل العراق ، يتولون غسلك ، وتجهيزك ، ودفنك ، فاذا أنا مت فمدي الكساء على وجهي ، ثم اقعدي على طريق العراق ، فاذا أقبل ركب ، فقومي اليهم وقولي :

ـ هذا ابو ذر صاحب رسول الله قد توفي .

قالت : فدخل اليه قوم من أهل الربذة ، فقالوا : يا أبا ذر ، ما تشتكي ؟ قال : ذنوبي ! قالوا : فما تشتهي ؟ قال : رحمة ربي ! قالوا : هل لك بطبيب ؟ قال : الطبيب أمرضني ! !

قالت ابنته : فلما عاين ، سمعته يقول : مرحبا بحبيب أتى على فاقة ، لا أفلح من ندم ! اللهم خنقني خناقك ، فوحقك إنك لتعلم أني أحب لقاءك .

قالت ابنته : فلما مات ، مددت الكساء على وجهه ، ثم قعدت على

١٥٨
 &

طريق العراق ، فجاء نفر ، فقلت لهم : يا معشر المسلمين ، هذا أبو ذر ، صاحب رسول الله ( ص ) قد توفي .

فنزلوا ، ومشوا يبكون ، فجاؤا ، فغسَّلوه وكفَّنوه ودفنوه ، وكان فيهم الأشتر .

فروي انه قال : دفنته في حلَّة كانت معي ، قيمتها أربعة آلاف درهم ١ .

__________________

(١) أعيان الشيعة / ٣٧٢ نقلا عن الدرجات الرفيعة و ٣٧٣ .

١٥٩
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

١٦٠