أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &



مَوقف أبي ذَرّ مِن مُعَاويَة

ففي الشام ، كان المجال لأبي ذر أوسع من أي بلد آخر . كما كانت نظرته الى معاوية ، تختلف عن نظرته الى عثمان .

فهو يعرف معاوية على حقيقته ، ويعرف إسلام معاوية واسلام أبيه من قبله ، لذلك كان صريحا في أقواله ، وخطبه ، ومواعظه ، وواضحا في دعوته ومنهجه . .

كان صريحا في موقفه الذي ربما تكتم منه بعض الشيء في المدينة ، فكان يركز على الانحراف السائد آنذاك ، واستئثار الولاة بالفيء ، وعدولهم عن جادة الحق ، واطفائهم للسنة ، واحيائهم للبدعة . الى غير ذلك ، مما يدعو الى اثارة الناس .

وبذلك فتح على عثمان جبهة جديدة ـ ربما لم تخطر على باله ـ استهدفته ومعاوية معاً .

« كان يقوم في كل يوم ، فيعظ الناس ، ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله ، ويحذرهم من ارتكاب معاصيه ، ويروي عن رسول الله ( ص ) ما سمعه منه في فضائل أهل بيته عليه وعليهم السلام ويحضهم على التمسك بعترته . » ١

__________________

(١) الاعيان ١٦ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦ .

١٢١
 &

وكان يقول : « أما بعد ، فانا كنا في جاهليتنا ، قبل أن ينزل علينا الكتاب ، ويبعث فينا الرسول ، ونحن نوفي بالعهد ، ونصدق الحديث ، ونحسن الجوار ، ونقري الضيف ، ونواسي الفقير . فلما بعث الله تعالى فينا رسول الله ، وأنزل علينا كتابه ، كانت تلك الاخلاق يرضاها الله ورسوله ، وكان أحقّ بها أهل الاسلام ، وأولى ان يحفظوها ، فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا .

ثم ان الولاة ، قد أحدثوا أعمالا قِباحا لا نعرفها . من سنَّة تُطفى ! وبدعة تحيى ! وقائل بحق مكذَّب ، وأثرة لغير تقى ، وأمين ـ مُستأثر عليه ـ من الصالحين . . . »

وكان يعيد هذا الكلام ويبديه ! ١

وكان أبو ذر ، ينكر على معاوية ، أشياء يفعلها ، فبعث اليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار !

فقال أبو ذر لرسوله : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، أقبلها ، وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها . وردّها عليه ٢ .

وكان أبو ذر يقول بالشام : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا في سنة نبيه ( ص ) والله إني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيا . . . الخ . .

ولم يكن أبو ذر ، غريبا عن الشام ـ أرض الجهاد ـ على حد تعبيره ، وعن معسكر المسلمين هناك ، فقد اشترك في غزوة الصائفة ( الروم ) كما شارك في فتح قبرص ، وكان أحد الصحابة البارزين في تلك المعارك ـ كما مر معنا .

__________________

(١) المصدر السابق .

(٢) شرح النهج ٨ / ٣٥٦ .

١٢٢
 &

فكان يحدث بأحاديثه تلك أمام العامة والخاصة ، كما كان يحدث بها أمام الجند ، مما دفع حبيب بن مسلمة الفهري ـ أحد القادة ـ الى تحذير معاوية من مغبَّة ذلك ، وهذا ما يؤكده قول إبن بطَّال ـ المتقدم ـ من أنه كان كثير المنازعة لمعاوية والاعتراض عليه ، وكان في جيشه مَيل له .

ولا يغرب عن بالنا ، أن معاوية ـ بالاضافة الى تكريس نفسه أميرا على الشام ـ كان يمني نفسه بالخلافة مع أول فرصة تلوح ، وكان يمهد لذلك أيام إمارته . لذا ، فانه يرى أن وجود أبي ذر وأمثاله من المبرزين ، ضمن دائرة سلطانه ، قد يحول دون استقامة هذا الامر له ، فكان أحرص على إبعاده عنه ، من ابعاد عثمان إياه عن المدينة . فكتب الى عثمان فيه :

« انك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر . » ١

والواقع : أنه أفسدها على معاوية وعلى عثمان معاً ، لأنه كان يندد بأعمال الولاة ، وانجرافهم ، واستئثارهم بالفيء ، بحجة انه « مال الله » ، وكأن الله سبحانه قد أوكل بهذا المال ـ المال الذي أفاءه الله على المسلمين بفضل جهادهم ـ الى عثمان ، كي يبيح لمعاوية صرفه في سبيل غاياته الشخصية . وكي يعطيه لمروان بن الحكم ، وللحكم ابن ابي العاص ( طريد رسول الله ) ، ولأبي سفيان ! ! ولعبد الله بن سعد ! ومن هم على شاكلتهم ممن جرّوا الويلات على هذه الامة بتحكمهم في رقاب الناس ، وفي مقدراتهم .

ويظهر ان عثمان ـ بعد ورود كتاب معاوية عليه ـ وجد مبرراً للانتقام من أبي ذر ، وتأديبه كما يشتهي ، فكتب الى معاوية :

« أما بعد ، فاحمل جندبا الي على أغلظ مركب وأوعره . . » ٢

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ١٧٢ .

(٢) الغدير ٨ / ٢٩٣ .

١٢٣
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

١٢٤
 &



ودَاع أهل الشّام لَه

١٢٥
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

١٢٦
 &



ودَاع أهل الشّام لَه

أرسل معاوية الى أبي ذر ، فدعاه ، وأقرأه كتاب عثمان ، وقال له : النجاء الساعة !

فخرج أبو ذر الى راحلته فشدها بكورها وأنساعها ، فاجتمع اليه الناس ، فقالوا :

يا أبا ذر ، رحمك الله أين تريد ؟

قال : أخرجوني اليكم غضباً علي . وأخرجوني منكم الآن عبثاً بي ، ولا يزال هذا الامر فيما أرى ، شأنهم فيما بيني وبينهم ، حتى يستريح برّ ، أو يستراح من فاجر .

ومضى ، فسمع الناس بمخرجه فاتبعوه ، حتى خرج من دمشق ، فساروا معه حتى انتهى الى دير المرّان ، فنزل ، ونزل معه الناس ، فاستقدم ، فصلى بهم .

ثم قال : أيها الناس ، إني موصيكم بما ينفعكم ، وتارك الخُطب والتشقيق ، احمدوا الله عز وجل . قالوا : الحمد لله .

قال : اشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .

فأجابوه بمثل ما قال :

فقال : أشهد أن البعث حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأقر

١٢٧
 &

بما جاء من عند الله ، واشهدوا علي بذلك .

قالوا : نحن على ذلك من الشاهدين .

قال : ليبشر من مات منكم على هذه الخصال ، برحمة الله وكرامته ، ما لم يكن للمجرمين ظهيرا ، أو لأعمال الظلمة مصلحا ، أو لهم معينا .

أيها الناس : إجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضبا لله عز وجل اذا عُصي في الارض ، ولا ترضوا أئمتكم بسخط الله . وإن أحدثوا ما لا تعرفون ، فجانبوهم ، وازروا عليهم وأن عُذِّبتم وحُرمتم وسُيِّرتم حتى يرضى الله عز وجل ، فان الله أعلى وأجل ، لا ينبغي أن يُسخط برضا المخلوقين . غفر الله لي ولكم ، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله .

فناداه الناس : أن سلَّم الله عليك ورحمك ، يا أبا ذر ، يا صاحب رسول الله ! ألا نردّك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك ؟ ألا نمنعك ؟

فقال لهم : إرجعوا ، رحمكم الله ، فاني أصبر منكم على البلوى ، واياكم والفرقة والاختلاف ١ .

وهذه الرواية ، لا تتنافى مع الروايات الاخرى التي تؤكد على أنه حمل على ناقة مسنة ، بلا غطاء ولا وطاء ، حتى وصل الى المدينة وقد تسلخ فخذاه .

فان الغاية كانت ، هي الانتقام من أبي ذر شخصيا ، وفي وسع معاوية أن لا يثير على نفسه تساؤلات الناس ، وكبار الشاميين ممن عرف أبا ذر ، وأخذ منه وسمع عنه . فتركه يخرج من الشام بصورة طبيعية ، ثم بعد أن

__________________

(١) أعيان الشيعة ١٦ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧ نقلا عن كتاب المجالس .

١٢٨
 &

صار خارج حدودها نفذ فيه أمر عثمان ، فحمل على الصورة المعروفة .

وترك معاوية إتمام هذه المأساة ، مأساة أبي ذر الصحابي الجليل ليكملها غيره .

فحمل من المدينة الى الربذة ، حتى مات هناك وحيدا غريبا .

وبدوري ، فانني أترك للمؤرخين تفصيل ذلك .

١٢٩
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

١٣٠
 &

الفَصْل الثالِث

تسْيير أبي ذَر إلى الربذَة

وَوَداع أمير المؤمنين علي عَليه السّلام له

كما وصفه المؤرخون

* منَ الشّـام إلى المَدينَة إلى الرّبذَة

* في الرّبذَة

* بَين أبي ذَرّ وّحُذيفَة بن اليَمان

* يَمشي وَحْدَهُ وَيمُوتُ وَحْدَه

* المَأسَاة

١٣١
 &

أبو ذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني ـ الشيخ محمّد جواد آل فقيه

١٣٢
 &



منَ الشّام إلى المَدينَة إلى الرّبذَة

روى البلاذري : ١

لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث ابن الحكم إبن أبي العاص ، ثلاثمائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عز وجل : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . » فرفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان . فأرسل الى أبي ذر ، ناتلا مولاه : أن انته عما يبلغني عنك .

فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله . وعيب من ترك أمر الله ؟ فوالله ، لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي ، وخير لي ، من أن أسخط الله برضاه .

فاغضب عثمان ذلك ، واحفظه ، فتصابر ، وكف .

وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟

فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !

فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ؟

__________________

(١) الغدير ٨ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ عن الانساب ٥ / ٥٢ / ٥٤ .

١٣٣
 &

فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك بأصحابي ؟ إلحق بمكتبك ، وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله ( ص ) فيأذن له في ذلك ، وانما صار مكتبه بالشام ، لأنه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعا ١ ، اني سمعت رسول الله يقول : اذا بلغ البناء سلعا ، فالهرب ، فاذن لي أن آتي الشام فأغزو هناك . فأذن له .

وكان ابو ذر ينكر على معاوية اشياء يفعلها ، وبعث اليه معاوية بثلاث مائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ؟ قبلتها ! وان كانت صلة فلا حاجة لي فيها . وبعث اليه مسلمة الفهري بمائتي دينار ، فقال : أما وجدت أهون عليك مني ، حين تبعث الي بمال ؟ وردَّها .

وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله ؟ فهي الخيانة ، وان كانت من مالك ؟ فهذا الاسراف . فسكت معاوية ، وكان ابو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا سنة نبيه . والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه .

فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : ان أبا ذر مفسد عليك الشام ، فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة . فكتب معاوية الى عثمان فيه .

وجاء في شرح النهج :

عن جلّام بن جندل الغفاري قال : كنت غلاما لمعاوية على قنسِّرين والعواصم ، في خلافة عثمان ، فجئت اليه اسأله عن حال عملي ، اذ سمعت صارخا على باب داره يقول : أتتكم القطار ، تحمل النار ! اللهم العن الآمرين بالمعروف ، التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له .

__________________

(١) سَلع : موضع بقرب المدينة ( معجم البلدان ـ ٣ / ٢٣٦ ) .

١٣٤
 &

فازبأرَّ ١ معاوية ، وتغير لونه وقال : يا جلّام أتعرف الصارخ ؟ فقلت : اللهم لا .

قال : من عذيري من جندب بن جنادة ! يأتينا كل يوم ، فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ! ثم قال : أدخلوه عليَّ .

فجيء بأبي ذر بين قوم يقودنه ، حتى وقف بين يديه ، فقال له معاوية :

يا عدو الله وعدو رسوله ! تأتينا في كل يوم ، فتصنع ما تصنع ! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان ، لقتلتك ، ولكني أستأذن فيك .

قال جلّام : وكنت أحب أن أرى أبا ذر ، لأنه رجل من قومي ، فالتفت اليه ، فاذا رجل أسمر ضَرْب ٢ من الرجال ، خفيف العارضين ، في ظهره جَنأ ٣ فأقبل على معاوية وقال :

ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله . أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر . ولقد لعنك رسول الله ( ص ) ودعا عليك مرّات ألا تشبع .

سمعت رسول الله ( ص ) يقول : اذا ولي الامة الأعين ، الواسع البلعوم ، الذي يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الامة حذرها منه .

فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل .

قال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ، اخبرني بذلك رسول الله ( ص ) وسمعته يقول ـ وقد مررت به ـ : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه الا بالتراب . . الخ . .

__________________

(١) ازبأرّ : غَضِب .

(٢) ضرب : الخفيف اللحم .

(٣) الجنأ : يقال جنیء ، جنأ ، اذا اشرف كاهله على ظهره حدبا .

١٣٥
 &

فكتب عثمان الى معاوية : ان أحمل جندبا اليّ على اغلظ مركب ، وأوعره ، فوجَّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف ١ ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة ، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد .

دخوله على عثمان

وفي رواية الواقدي : أن أبا ذر لما دخل على عثمان ، قال له :

لا أنعم الله بقين عينا

نعم ولا لقاه يوماً زينا

تحية السخط اذا التقينا

فقال أبو ذر : ما عرفت اسمي ( قيناً ) قط .

وفي رواية أخرى : لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب !

فقال أبو ذر : أنا جندب ، وسماني رسول الله ( ص ) عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله ( ص ) الذي سماني به على اسمي .

فقال له عثمان : أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وان الله فقير ونحن أغنياء !

فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا ، لأنفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله ( ص ) يقول . « اذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا ، جعلوا مال الله دُوَلا ، وعباده خَوَلا ، ودينه دَخَلا » .

فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله ؟

قالوا : لا .

قال عثمان : ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله ؟

__________________

(١) الشارف : الناقة المسنَّة .

١٣٦
 &

فقال أبو ذر لمن حضر : أما تدرون أني صَدقتُ ! ؟

قالوا : لا والله ، ما ندري .

فقال عثمان : ادعوا الي عليا . فلما جاء ، قال عثمان لأبي ذر : أقصص عليه حديثك في بني العاص . فأعاده .

فقال عثمان لعلي عليه السلام : أسمعت هذا من رسول الله ( ص ) .

قال : لا . وقد صَدق أبو ذر .

فقال : كيف عرفت صِدقهُ ؟

قال : لأني سمعت رسول الله يقول : « ما أظلَّتِ الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء ، من ذي لهجة أصدقُ من أبي ذَرِّ . »

فقال من حضر : أما هذا ، فسمعناه كُلُّنا من رسول الله .

فقال أبو ذر : أحدثكم اني سمعت هذا من رسول الله ( ص ) فتتهموني ! ما كنت أظن اني أعيش حتى اسمع هذا من أصحاب محمد ١ .

وجاء في رواية الواقدي ، عن صهبان مولى الاسلميين .

قال : رأيت أبا ذر يوم دُخل به على عثمان . فقال له : أنت الذي فعلت ، وفعلت ! ؟

فقال ابو ذر : نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ، فاستغشني !

قال عثمان : كذبت ، ولكنك تريد الفتنة ، وتحبها ، قد انغلت ٢ الشام علينا .

فقال أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك ، لا يكن لأحد عليك كلام .

فقال عثمان : ما لك وذلك ، لا أمّ لك !

__________________

(١) شرح النهج ٨ ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ـ ٢٥٩ وج ٣ منه .

(٢) النغل : الافساد بين القوم .

١٣٧
 &

قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذرا ، إلا الامر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .

فغضب عثمان ، وقال : اشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب ، إما ان أضربه ، أو أحبسه ، أو أقتله ، فانه قد فرَّق جماعة المسلمين ، أو أنفيَه من أرض الاسلام .

فتكلم علي عليه السلام ـ وكان حاضرا ـ فقال :

أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون « وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ » .

فأجابه عثمان بجواب غليظ . وأجابه علي عليه السلام بمثله ١ . .

وجاء في مروج الذهب :

وكان في ذلك اليوم قد أتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال ، فنثرت البدر ، حتى حالت بين عثمان وبين الرجل الواقف ، فقال عثمان :

إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا ، لأنه كان يتصدق ، ويقري الضيف ، وترك ما ترون .

فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين .

فشال أبو ذر العصا ، فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم ، وقال :

يا ابن اليهودي ، تقول لرجل مات وترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على الله بذلك ، وانا سمعت النبي ( ص ) يقول :

__________________

(١) نفس المصدر السابق .

١٣٨
 &

ما يسرني أن أموت ، وأدَعَ ما يزن قيراطاً ١ .

قال الواقدي : ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ، أو يكلموه ، فمكث كذلك أياماً .

ثم أتي به ، فوقف بين يديه ، فقال أبو ذر : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله ( ص ) ورأيت أبا بكر وعُمر ! هل هَدْيُكَ كهديِهم ، أما إنَّك لتبطُش بي بطشَ جبَّار ! .

فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا ـ ٢ الى آخر الرواية .

وفي مروج الذهب :

فقال له عثمان : وارِ عني وجهك .

فقال : أسير الى مكة . قال : لا والله ؟

قال : فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت ؟ قال : إي والله .

قال : فالى الشام ، قال : لا والله .

قال : البصرة . قال : لا والله ، فاختر غير هذه البلدان .

قال : لا والله ما اختار غير ما ذكرت لك . ولو تركتني في دار هجرتي ، ما أردت شيئا من البلدان ، فسيرني ، حيث شئت من البلاد .

قال : فاني مسيرك الى الربذة .

قال : الله أكبر ، صدق رسول الله ( ص ) قد أخبرني بكل ما أنا لاق .

قال : عثمان : وما قال لك ؟

قال : اخبرني بأني أمنع عن مكة ، والمدينة ، وأموت بالربذة ، ويتولى

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٠ .

(٢) شرح النهج ٨ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ .

١٣٩
 &

مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز ١ .

نفيه الى الربذة

جاء في شرح النهج ، عن ابن عباس ، قال :

لما أخرج أبو ذر الى الربذة ، أمر عثمان ، فنودي في الناس : ألّا يكلم أحد أبا ذر ، ولا يشيِّعه وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به . فخرج به ، وتحاماه الناس . إلا عليّ بن ابي طالب عليه السلام وعقيلا أخاه ، وحسنا وحسينا عليهما السلام ، وعمارا فانهم خرجوا معه يشيعونه .

فجعل الحسن عليه السلام ، يكلم أبا ذر . .

فقال له مروان : إيها يا حسن ، ألا تعلم ان أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ ! فان كنت لا تعلم ، فاعلم ذلك .

فحمل علي عليه السلام على مروان ، فضرب بالسوط بين أذني راحلته ، وقال : تنحَّ ، لَحَاك الله الى النار !

فرجع مروان مغضبا الى عثمان ، فأخبره الخبر ، فتلظى على عليّ ( عليه السلام ) ٢ .

كلام الامام ( ع ) لابي ذر

وودع علي عليه السلام أبا ذر ( رض ) قائلا له :

يا أبا ذر ، انك غضبت لله ، فأرجُ من غضبتَ له إن القومَ خافوك

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٠ ـ ٣٤١ .

(٢) شرح النهج ٨ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣ .

١٤٠