أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه

أبوذر الغفاري رمز اليقظة في الضمير الإنساني

المؤلف:

الشيخ محمّد جواد آل الفقيه


الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٧
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

رقَابَة المُسْلِمين

لقد كان المسلمون الأوائل يراقبون عن كثب ، سلوك الخليفة ، وتحركاته وتصرفاته ، سواء في ذلك ما تعلق به شخصياً ، من حسن السيرة ، وإحقاق الحق والحكم بين الناس بالعدل ، أو ما يتعلق بالمسلمين بشكل عام ، كالمساواة في العطاء ـ إلا ما أمر الله ـ وحُسنِ إختيار الولاة من أهل الكفاءة والدين والعدالة وما الى ذلك . وهذا هو الذي أعطى الخلافة هيبتها ، وضمن لها الاستمرار فترة ما .

فكان المسلمون لا يألون جهدا في تقويم ما اعوج ومالَ عن خط الاسلام ، قدر الإمكان ، فكانوا يستنكرون التصرفات الشاذة ، ويعلنون احتجاجهم عليها ، بل ربما استعملوا العنف حين لا تنفع الكلمة ، كما جرى بين أبي بكر وعمر بشأن خالد بن الوليد حين قتل ـ هذا الاخير ـ مالك بن نويرة ، ودخل بامرأته ليلة مقتله . فقد احتج عمر على ابقاء خالد في قيادة الجيش ، وحين رأى أن أبا بكر يعتذر عنه ، بأنه « ما أول من تأوَّل فأخطأ » نهض اليه عمر بنفسه ، ـ وكان خالد قد دخل المسجد ، وقد غرز في عمامته أسهما ـ فنزعها عمر وحطمها ، ثم قال له « قتلت إمرء مسلما ، ثم نزوت على إمرأته والله لأرجمنك بأحجارك . »

__________________

(١) الكامل ٢ / ٣٥٩ .

١٠١
 &

وقد أفسح أبو بكر المجال أمام الصحابة ، في إلفاته ، وتنبيهه على أخطائه ، وذلك ، حين قال في خطبته بعد السقيفة :

« وَليتُ أمركم ولست بخيركم ، فاذا أحسنت فأعينوني ، واذ أسأت فقَوِّمُوني ، إن لي شيطاناً يعتريني ، فاياي واياكم اذا غضبت . . الخ . » ١

وجاء عهد عمر بن الخطاب ، وتولى زمام الامور بعد أبي بكر ـ بوصية وعهد منه ـ وذلك : أنه حين مرض أبو بكر مرض الموت ، أحضر عثمان بن عفان ، فقال له :

إكتب ، بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهده أبو بكر بن أبي قحافة الى المسلمين ، ثم أغمي عليه ، فكتب عثمان : أما بعد فاني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، ولم آلكم خيرا ، ثم أفاق أبو بكر ، فقال : إقرأ علي ، فقرأ عليه ، فكبر أبو بكر وقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن مِتّ في غشيتي . . » ٢

وسار عمر بسيرة صاحبه ، إلا أنه كان كثير الفتيا ، وكثير الخطأ ، على حد تعبير ابن أبي الحديد ، قال : « وكان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه ويفتي بخلافه ، قضى في ( مسألة ) الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة ، ثم خاف من الحكم في هذه المسألة . . » ٣

إلا أن وجود الإمام علي عليه السلام في المدينة ـ آنذاك ـ كان يساعد الخليفة ، وكل المسلمين على حل ما يستعصي لديهم من الامور المتعلقة بالحكم أو الفتيا ، فكان المسلمون يرجعون اليه في ذلك ، ويأخذون منه .

__________________

(١) شرح النهج ٦ / ٢٠ .

(٢) الكامل ٢ / ٤٢٥ .

(٣) شرح النهج ١ / ١٨١ .

١٠٢
 &

فكان سيد الميدان في هذا المضمار ، والمرجع الوحيد الذي لا ينازعه أحد من المسلمين .

وأصرح ما يدل على ذلك ، قول عمر بن الخطاب ، في أكثر من مناسبة :

« كاد يهلك ابن الخطاب ، لولا علي بن أبي طالب » .

وقوله : « أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم أبا الحسن » .

وقوله : « الله أعلمُ حيث يجعلُ رسالته » .

وقوله : « اللهم لا تنزل بي شديدة ، إلا وأبو الحسن الى جنبي » ١

لقد كان علي عليه السلام والمخلصون من الصحابة ، يبدون النصيحة ، ولا يألون جهداً في ذلك ، وهذا هو الذي ضمن للخلافة هيبتها في تلك الفترة . فمن الواضح أن هيبة الخلافة في عهد عمر ، بلغت الى حد ، ان الدرة ( السوط ) كانت أمضى من السيف في حل الخصومات ، حتى قيل : درَّة عمر أهيبْ من سيف الحجاج .

والحقيقة أن الهيبة لم تكن إلا لتكاتف المسلمين ووحدتهم وحيطتهم على الاسلام .

__________________

(١) راجع الغدير ٦ / ١٠٣ الى ١٠٦ .

١٠٣
 &



فِقدَان الهيبَة في خِلافَة عُثمان

ويلاحظ المتتبع ، أن الخلافة بدأت تفقد هيبتها ـ كسلطة زمنية ودينية ـ في السنة الثانية من خلافة عثمان ، وأخذت تتحول الى سلطة زمنية فحسب ، تقوم على القوة ، والقهر ، والإغراء بالمال ، بعيداً عن طابعها الحقيقي .

فقد بدأ الأمويون يهيئون لهذه الخطة منذ اليوم الاول لخلافة عثمان ، وذلك ، عن طريق نفوذهم في الحكم ، حيث أصبح زمام السلطة بأيديهم يوجهونه أنى شاؤا ، دون أن يجرأ على معارضتهم في ذلك أحد ، واذا ما حاول بعض المخلصين من الصحابة ذلك ، وجدوا في الخليفة حاجزاً يحميهم ، ويداً طولى تساعدهم على تنفيذ مخططاتهم .

نعم ، بدأت فكرة التحويل من اليوم الاول لخلافة عثمان ، ويبدو ذلك واضحاً من خلال ما قاله بعض أقطاب الامويين في أكثر من مناسبة .

روى الشعبي ، قائلا : « فلما دخل عثمان رحله ـ يعني بعد البيعة ـ دخل اليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار ، ثم أغلقوها عليهم ، فقال أبو سفيان بن حرب ( وكان أعمى ) : أعندكم أحد من غيركم ؟ قالوا : لا . قال : يا بني أميَّة ، تلقفوها تلقف الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ، ما من

١٠٤
 &

عذاب ، ولا حساب ، ولا جنة ، ولا نار ، ولا بعث ولا قيامة . » ١

وقصد مرة قبر حمزة أسد الله وأسد رسوله ، فلما وصل اليه « ركله برجله ، وقال : يا أبا عمارة ، إن الامر الذي اجتلدنا عليه بالسيف ، أمسى في يد غلماننا يتلعبون به . » ٢

وفي السنة الثانية من خلافته ، مورست خطة التحويل عمليا ، فبالاضافة الى الهبات والقطائع الضخمة التي كان يمنحها الخليفة الى المقربين ـ كما ستقرأ ـ ، كان الولاة من بني أمية يستغلون منصب الولاية لتكريس مقدرات الامة لمصالحهم الشخصية ويتصرفون مع المسلمين من هذا المنطلق المنحرف عن الخط الاسلامي ، فكان بعضهم يرى أن الفيیء الذي أفاءه الله على المسلمين إنما هو بستان لقريش ليس لأحد دونها حق فيه ، كما قال سعيد بن العاص والي الكوفة مخاطبا بعض جلسائه ٣ .

بل أكد ذلك الوليد بن عقبة بقوله ، مخاطبا سعداً : « لا تجزعنَّ أبا إسحاق ، كل ذلك لم يكن ، وانما هو الملك ، يتغداه قوم ، ويتعشاه آخرون . ! » ٤

قالها الوليد حين ولي إمارة الكوفة بعد عزل سعد بن أبي وقاص عنها .

وبذلك ، يتضح أن خلافة عثمان كانت فرصة لانقضاض الأمويين على مقدرات الامة وأرزاقها ، ولو لا يقظة بعض أقطاب المسلمين وحذرهم ، لتم

__________________

(١) شرح النهج ٩ / ٥٣ .

(٢) حياة الامام الحسن ١ / ٢١٢ نقلا عن ابن عساكر ٦ / ٤٠٧ .

(٣) راجع الكامل ٣ / ١٣٩ .

(٤) الكامل ٣ / ٨٣ .

١٠٥
 &

لهم ذلك بسرعة ، لكن المعارضة المستمرة كانت تحول دون ذلك ـ جزئياً ـ معارضة أبي ذر الغفاري وأمثاله .

ولو أن عثمان تقبل من مخلصي الصحابة ما كانوا يلفتونه اليه ، ويحذرونه منه ، لما انتهى الأمر الى ما انتهى ، ولظلت الخلافة الاسلامية في مركزها وهيبتها ، فان إفراطه في التغاضي عن سلوك ولاته والمقربين منه كانت نتيجته : فقدان هيبة الخلافة في أيامه .

١٠٦
 &

سيَاسَة عُثمان في إختِيَار الوُلاة

لقد اختار عثمان الولاة والعمال الاداريين ، على غير القاعدة المتعارفة لدى المسلمين ، ولدى من سبقه من الخلفاء .

فالمعروف ، أن القاعدة التي ينطلق منها هذا الاختيار ، تبتني على أسس بعيدة عن منطق القرابة ، والرحم ، والعشيرة ، بل ترتكز على دعائم اسلامية ، يجمعها التقى والصلاح ، وحسن الادارة والأمانة ، فالولاية لا تعدو كونها ممثلية صغرى للخلافة التي هي أول ممثلية ـ في المفهوم الاسلامي ـ لرسول الله صلى الله عليه وآله . لذلك ، فان اختيار الولاة كان ينصبّ على ذوي السابقة في الدين ، والجهاد في الاسلام .

والملاحظ ، أن عثمان خالف القاعدة في ذلك ، فاختار أقاربه ، وذوي رحمه ممن كانوا متهمين في دينهم ، بل كان فيهم من أمره في الفسق معروف مشهور .

فمن هؤلاء الولاة :

١ ـ عبد الله بن سعد بن ابي سرح : ولَّاه عثمان على مصر .

وكان عبد الله هذا ، قد أسلم وكتب الوحي لرسول الله ( ص ) ، فكان اذا أملى عليه : عزيز حكيم . يكتب : عليم حكيم ، وأشباه ذلك . ثم ارتد ، وقال لقريش : إني أكتب أحرف محمد في قرآنه حيث شئت ، ودينكم خير من دينه .

١٠٧
 &

فلما كان يوم الفتح ، فرَّ الى عثمان بن عفان ، وكان أخاه من الرضاعة ، فغيبه عثمان حتى اطمأن الناس ، ثم أحضره عند رسول الله ( ص ) وطلب له الأمان ، فصمت رسول الله ( ص ) طويلا ، ثم أمَّنه ، فأسلم وعاد ، فلما انصرف ، قال رسول الله ( ص ) لأصحابه : لقد صَمَتّ ليقتله أحدكم . . » ١

٢ ـ معاوية ابن ابي سفيان : وكان عاملا لعمر على دمشق والاردن ، فضمَّ اليه عثمان ولاية حمص وفلسطين والجزيرة ، وبذلك مدَّ له في أسباب السلطان الى أبعد مدى مستطاع ٢ . وأمر معاوية واضح غير خفي .

٣ ـ الوليد بن عقبة :

ولاه عثمان الكوفة سنة ٢٥ للهجرة . والوليد هذا ، هو الذي وصفه القرآن الكريم بالفسق . ففيه نزلت الآية الكريمة ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) وكان النبي ( ص ) قد بعثه في صدقات بني المصطلق ، فخرجوا لاستقباله ، فظن انهم أرادوا قتله ، فرجع الى النبي ( ص ) وأخبره انهم منعوا صدقاتهم ، الخ . . » ٣

وقد ولاه عثمان الكوفة بعد عزل سعد بن ابي وقاص ، فالتفت الوليد الى سعد مسلياً اياه ، قائلا له : « لا تجزعن أبا اسحاق كل ذلك لم يكن وانما هو الملك يتغداه قوم ، ويتعشاه آخرون » .

قال المسعودي : ثم عزله عثمان فيما بعد ، لما شاع وذاع من فسقه ، فقد كان يشرب مع ندمائه ومغنيه الى الصباح . وذات يوم آذنه المؤذنون

__________________

(١) الكامل ٢ / ٢٤٩ .

(٢) ثورة الحسين / ٤٠ .

(٣) مجمع البيان ٩ / ١٣٢ / الحجرات .

١٠٨
 &

بصلاة الصبح ، فخرج متفضلا في غلائله ، فتقدم الى المحراب ، فصلى بهم الصبح أربعاً ، وقال أتريدون أن أزيدكم ؟

فقال له بعض من كان في الصف الاول خلفه : ما تزيد ؟ لا زادك الله من الخير ، والله لا أعجب إلا ممن بعثك الينا والياً وعلينا أميراً . . » ١ الى آخر الحكاية .

٤ ـ سعيد بن العاص :

عيَّنه عثمان والياً على الكوفة ، بعد ان عزل الوليد عنها ولم يكن سعيد ، ليخفي ما في نفسه من الرغبة في التسلط على فيیء المسلمين إن امكنت الفرصة من ذلك . بل أكد على ذلك بقوله لبعض جلسائه : « انما هذا السواد بستان قريش » ٢

٥ ـ عبد الله بن عامر بن كريز :

وكان عبد الله هذا من أبرز الدعاة الى سياسة التضييق والافقار والاشغال ، التضييق على المسلمين الذين نادوا مطالبين عثمان بالعدالة ، ورفع الجور ، وعزل العمال .

فقد أشار على عثمان بذلك حين استشاره ، بقوله : « أرى لك يا أمير المؤمنين ، أن تشغلهم بالجهاد عنك ، حتى يذلوا لك ، ولا يكون هِمَّةُ أحدهم إلا في نفسه ، وما هو فيه من دُبُر دابته وقُمَّل فروته . . » ٣

__________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٣٤ .

(٢) للتفصيل راجع الكامل ٣ / ١٣٩ .

(٣) نفس المصدر / ١٥٠ .

١٠٩
 &

سَياستهُ في المَال

يصف المؤرخون عثمان ، بأنه كان جوادا وصولا بالأموال . وقدم أقاربه وذوي أرحامه على سائر الناس . وسوَّى بين الناس في الأعطية . وكان الغالب عليه مروان بن الحكم ، وأبو سفيان بن حرب ١ .

وان تقريبه بني أمية وتقديمه اياهم على سائر المسلمين ، كان سببا في جرأة بعض الصحابة عليه . حتى ان بعضهم وصمه بالكذب على مرأى ومسمع من حشود المسلمين ، حين كان يخطب لصلاة الجمعة . فقد أقبل عبد الله بن مسعود ـ خازن بيت المال ـ فقال مخاطبا المسلمين :

« أيها الناس ، زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته ، وانما كنت خازنا للمسلمين ، وهذه مفاتيح بيت مالكم . . » ٢

« ولو كانت هذه الهبات من أمواله الخاصة ، لما أثارت اعتراض أحد ، ولكنها كانت من بيت المال . » ٣

فقد ورد في حديث عبد الرحمن بن يسار قوله : « وكان عثمان اذا أجاز أحدا من أهل بيته بجائزة ، جعلها فرضا من بيت المال . » ٤

__________________

(١) اليعقوبي ٢ / ١٧٣ .

(٢) نفس المصدر ـ ١٦٩ .

(٣) ثورة الامام الحسين / ٣٦ .

(٤) اليعقوبي ٢ / ١٦٨ .

١١٠
 &

اغداقه على الامويين

ومجمل القول ، فان هبات عثمان لاقربائه وذوي أرحامه ، بلغت حدا بفوق الوصف ، ولا سيما بالمقايسة مع طبيعة المجتمع الاسلامي آنذاك .

وعلى سبيل المثال ، نذكر بعض النصوص التي تعطينا صورة مجملة عن ذلك .

١ ـ « أرجع الحكم : ـ طريد رسول الله ـ من منفاه ، ووصله بمائة ألف » .

٢ ـ أقطع مروان بن الحكم فدك ، وكانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها ( ص ) بدعوى الميراث تارة ، وأخرى بالنحلة ، فدُفعت عنها .

٣ ـ أعطى عبد الله بن أبي سرح ـ أخاه من الرضاعة ـ جميع ما أفاء الله على المسلمين من فتح افريقية ، من غير أن يشركه فيه أحد .

٤ ـ افتتحت ارمينية في أيامه ، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان » .

٥ ـ زوج ابنته عائشة من الحرث بن الحكم بن العاص ، فأعطاه مائة ألف درهم .

٦ ـ زوّج ابنته من عبد الله بن خالد بن أسيد ، وأمر له بستماية ألف درهم ، وكتب الى عبد الله بن عامر أن يدفعها اليه من بيت مال البصرة .

٧ ـ حمى المراعي حول المدينة كلها ، من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية .

٨ ـ والاغرب من ذلك « أن رسول الله ( ص ) تصدق على المسلمين بموضع سوق بالمدينة يعرف بـ « مهزور » فأقطعه عثمان للحرث بن الحكم أخي مروان .

١١١
 &

٩ ـ أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال ، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال ١ .

١٠ ـ قدمت ابل الصدقة على عثمان ، فوهبها للحرث بن الحكم .

وكان عثمان يقول في ذلك : « هذا مال الله اعطيه من شئت ، وامنعه من شئت فأرغم الله أنف من رغم » ويقول : « لناخذنّ من ذلك حاجتنا ، وان رغمت أنوف أقوام . » ٢

تقريبه لذوي النفوذ والثراء

لم تقتصر هبات عثمان على آله وذوي رحمه ، بل شملت المبرزين في قريش من ذوي النفوذ ، وخصوصا بعض أعضاء الشورى ، الذين امتدت أعناقهم الى الخلافة ، فزرعت في نفوسهم نوعا من الشعور بالحرمان ، يقابله نوع من الطموح الى الحكم ، فكان عثمان يغدق عليهم من بيوت الاموال .

بالاضافة الى ذلك ، فقد سهل لهم تنمية هذه الثروات « فقد قام باجراء مالي فتح به للطبقة الثريَّة أبوابا من النشاط المالي ، وأتاح لها فرص التمكين لنفسها وتنمية ثرواتها ، وذلك ، حين اقترح أن ينقل الناس فيئهم من الارض الى حيث أقاموا ، فمن كان له أرض في العراق أو الشام أو في مصر ، له أن يبيعها ممن له أرض بالحجاز ، أو نميره من بلاد العرب .

وقد سارع الاثرياء الى الاستفادة من هذا الاجراء ، فاشتروا بأموالهم المكدسة أرضين في البلاد المفتوحة ، وبادلوا أرضهم في الحجاز ، أرضين في البلاد المفتوحة ، وجلبوا لها الرقيق والاحرار ، يعملون فيها ويستثمرونها ،

__________________

(١) شرح النهج ١ / ١٩٨ ـ ١٩٩ والغدير ٨ / ٢٦٧ الى ٢٨٠ .

(٢) الغدير ٨ / ٢٨١ .

١١٢
 &

وبذلك نمت هذه الثروات نموا عظيما وازدادت هذه الطبقة الطامحة الى الحكم ، والطامحة الى السيادة قوة الى قوتها . » ١

ونذكر من اولئك النفر الذين صار اليهم مال عظيم وثراء فاحش في عهد عثمان .

١ ـ الزبير بن العوام : أحد أعضاء الشورى .

« ترك احدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودار بالكوفة ، ودارا بمصر ، وكان له أربع نسوة ، فأصاب كلَّ إمرأة بعد رفع الثلث ( مليون ومائتا الف ) قال البخاري : فجميع ماله : خمسون ألف ألف وثمانمائة الف الخ . . » ٢

وقال المسعودي : وخلف الزبير ألف فرس ، وألف عبد وأمة ٣ . .

٢ ـ طلحة بن عبيدالله التيمي : أحد أعضاء الشورى أيضا .

كانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار . وترك ما قيمته ثلاثين مليون درهما ٤ .

٣ ـ عبد الرحمن بن عوف الزهري : أحد اعضاء الشورى .

قال ابن سعد في طبقاته : ترك عبد الرحمن الف بعير ، وثلاثة آلاف شاة ، ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً .

وقال : وكان فيما خلفه : ذهب قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة ، فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا .

__________________

(١) ثورة الحسين ـ بتصرف ٣٦ ـ ٣٧ .

(٢) الغدير ٨ / ٢٨٢ نقلا عن صحيح البخاري .

(٣) المسعودي ٣ / ٣٣٣ .

(٤) الغدير ٨ ص ٤٨٤ نقلا عن الطبقات لابن سعد ٣ / ٩٦ و ٣ / ١٠٥ .

(٨)

١١٣
 &

٤ ـ سعد بن ابي وقاص : ترك يوم مات ، مائتين وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق ١ .

٥ ـ زيد بن ثابت : خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس ، غير ما خلف من الاموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار .

٦ ـ يعلي بن منية : خلف بعد موته خمسمائة ألف دينار ، وديونا على الناس ، وعقارات ، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار .

قال المسعودي : وهذا باب يتسع ذكره ، ويكثر وصفه فيمن تملك من الاموال في أيامه ٢ .

هذه لمحة سريعة عن سياسة عثمان ، حيال المال ، ونهجه في اختيار الولاة ، وتقريبه للامويين ، وفتحه المجال أمامهم ، وأمام غيرهم من خاصته للوصول الى مراكز النفوذ في الدولة الاسلامية .

قال العقاد : فكانت له نظرة للامامة ، قاربت أن تكون نظرة الى الملك ، وكان يقول لابن مسعود ـ كلما ألحَّ عليه في المحاسبة ـ « مالك ولبيت مالنا ؟ » وقال في خطبته الكبرى ، يرد على من أخذوه بهباته الجزيلة . . « فضل من مال ، فلِم لا أصنعُ في الفضل ما أريد ، فلِمَ كنت إماما . ؟ » ٣

في قبال هذه الفئة المتخمة من الناس ، كانت هناك فئة أخرى من خيرة الصحابة حرمهم عثمان من عطائهم ، كأبي ذر ، وعبد الله بن مسعود ( رض ) . ونقم عليهم عثمان ، لأنهم كانوا صريحين في جنب الله ، لا تلومهم في الله لومة لائم ، فشرَّد الاول ، وكسر أضلاع الثاني .

__________________

(١) الغدير ٨ / ٢٨٤ .

(٢) المسعودي ٣ / ٣٣٣ .

(٣) عثمان ٢١١ / ٢١٢ .

١١٤
 &



معَارضَة أبي ذرّ

إن هذا الانحراف الواضح في سياسة عثمان ، هو الذي فتح عليه أبواب المعارضة في عدة جبهات . في المدينة ، والشام ، ومصر ، والعراق ! ومن اجلّاء الصحابة وعظمائهم .

فقد ألزمتهم هذه السياسة بالتحرك المعاكس لها ، أملا في ارجاع الحق الى نصابه . وتداركا لما قد تسببه من نتائج خطيرة على المجتمع الاسلامي كافة .

وهم ـ مع هذا كله ـ كانوا لا يتوانون في إسداء النصيحة للخليفة ، واضعين في حسابهم وحدة المصير . لكنه كان لا يلتفت اليهم ، ولا الى نصائحهم ، بل يقابلهم بأسلوب خشن ، في حين كان يصغي لمروان بن الحكم ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية ، واضرابهم من المنحرفين وممن أمرهم في الاسلام واضح .

لقد كان أبو ذر ( رض ) من جملة أولئك المخلصين ، فلم يتلكأ في ابداء النصيحة لعثمان بل كان يجهد في ذلك ، فيصارحه ، ويصارح غيره من ولاته بما أحدثوه وبدَّلوه في مسرى الخلافة الاسلامية ، وحرفهم إياها عن الطريق المميز لها .

١١٥
 &

يظهر هذا من قول ابي ذر له : « نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني . » ١

لكن الطرف الثاني ، كان يعير لهذه النصائح أذنا صمَّاء . ويتمادى في سياسته تلك غير آبه ولا مكترث بما يجري من حوله . واذا أراد أن يجيب في بعض الاحيان ، فانه يرمي من ينصحه ، بالكذب والافتراء تارة ، وبتدبير المكائد وشق عصا الامة ، تارة أخرى ! الى غير ذلك مما يبعث في نفس الناصح نوعا من الشعور باليأس ، والاشمئزاز ، والفشل في مهمته الاصلاحية ، فيجعله مضطرا للمجاهرة بقول الحق ، في كل مناسبة . وكل مكان ، بوحي من ضرورة وجوب : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو من ركائز الاسلام ومقوماته .

وهذا ما حصل فعلا لأبي ذر مع عثمان حين أمعن بالاستمرار في سياسته .

لقد جاهر أبو ذر ( رض ) بمعارضته للولاة والمقربين ، وكشف أوراقهم ، غير خائف ولا مكترث .

وفي هذه المرحلة ، نرى أبا ذر ( رض ) قد اتصف بصفة مميزة عن باقي الصحابة حول هذا الامر . يصح لنا تسميتها بصفة : الاقحام . فهو في دوره هذا ينسى نفسه بعض الاحيان ، فيتحرر من الذات وعلائقها ، ومن كل تقاليد محيطه ، ويُقحم نفسه ليحرر كلمته ، فكانت المناسبات منبرا له ، منبرا حرا غير مقيد بزمان ولا بمكان ، وكانت كلمته ، الكلمة الجريئة التي لا تعرف الوجل ، ولا الرياء ، ولا المداهنة . كان يقولها في الطرقات وفي الشوارع وبين الناس ، وعلى أبواب قصر الخضراء ، يقولها ، حفاظا لعهد رسول الله ( ص ) وحيطة على الاسلام .

__________________

(١) شرح النهج ٨ / ٢٥٩ .

١١٦
 &

قال ابن ابي الحديد : « إن عثمان لما أعطى مروان وغيره بيوت الاموال ، واختص زيد بن ثابت بشيء منها ، جعل أبو ذر يقول بين الناس ، وفي الطرقات ، والشوارع : بشر الكانزين بعذاب أليم ! ويرفع بذلك صوته ، ويتلو قوله تعالى : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . » ١

وهذه الآية إنما تندد وتتوعد فئة معينة من أصحاب الثروة . وهم الذين يجمعونها من طرق غير مشروعة ، كالذين كانوا يأخذون ما أفاء الله على المسلمين ، ويستأثرون به دون غيرهم ، في عهد عثمان ، بأرقام خيالية ، كما عرفنا . أو الذين يأخذونها عن طرق مشروعة ـ كالكسب ـ ولكن لا يؤدون زكاتها المفروضة .

فقد ورد عن النبي ( ص ) لما نزلت هذه الآية . قال : « كل ما يؤدي زكاته فليس بكنز ، وان كان تحت سبع أرضين ، وكل مال لا يؤدى زكاته ، فهو كنز ، وان كان فرق الارض ٢ .

وقد ذكر البخاري هذه الآية في كتاب الزكاة ٣

وأبو ذر ، رضي الله عنه ، أكرم مقاما وأعلى شأنا من أن يتخذ مذهبا معينا في المال ، في قبال ما هو ضروري في الاسلام ـ كما يدعي بعض المؤرخين ـ كيف وهو نفسه كان يمتلك الشياه والمواشي ، ويأخذ عطاءه كل سنة والبالغ أربعمائة دينار ذهباً . ؟

إذن كان تكريره لهذه الآية على سبيل إلفات المسؤولين ـ آنذاك ـ

__________________

(١) المصدر السابق / ٢٥٦ .

(٢) الميزان ٩ / ٢٥٦ .

(٣) البخاري / باب اثم مانع الزكاة ٢ / ١١٠ .

١١٧
 &

الى أن ما جمعوه أو أعطوه على حساب بقية المسلمين ، انما هو جريمة في حقهم . وأنهم سيلقون جزاءهم العادل يوم القيامة .

وقد كان أبو ذر في سعة من ابداء هذا النقد الصريح القاسي الذي يسبب له عيشا ضنكا في ظل سُخط الخليفة والمقربين من حوله ، وظلَّ تهديداتهم إياه بالفقر أو القتل ، على حد تعبيره : « إن بني أمية تهددني بالفقر والقتل ١ . . فقد كان بوسعه أن يحظى بكل ما يتمناه من التكريم والعطاء والقرب لدى عثمان ، لكنه مع هذا ، كان يجد في هذه السعة ضيقا ، وحرجا عليه يلزمانه بقول الحق ، وان كان مُرَّاً ، ففضَّل الضيق في الحق ، على السعة في الباطل ، وفضَّل أن يرضي الله بسخط عثمان وغضبه ، ولا يغضب الله تعالى برضا عثمان .

وكانت أقوال أبي ذر تبلغ عثمان ، فيسكت ، ويغضي حيث لا مناص عن السكوت والإغضاء وما عساه أن يفعل مع صحابي من ذوي السابقة في الدين مشهود له بالفضل على لسان رسول الله ( ص ) أيمنعه عن قراءة القرآن ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟

كيف ، وفي منعه له عن ذلك تعدّ واضح على أحكام الاسلام سوف يفتح عليه أبوابا جديدة من المعارضة .

قال ابن ابي الحديد : ثم انه أرسل اليه مولى من مواليه : أن انته عما بلغني عنك !

فقال أبو ذر : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله فوالله لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي وخير لي من أن اسخط

__________________

(١) اعيان الشيعة ١٦ / ٣٥٣ عن حلية الاولياء .

١١٨
 &

الله برضا عثمان . » ١

ويلاحظ المتتبع ، أن أبا ذر ، كان مؤدبا غاية الأدب مع عثمان نفسه ، فكان يتحاشى أن يسمعه كلاما يسيء اليه ، أو يرد عليه بأجوبة غليظة . بينما في الوقت ذاته نجده لا يتحرج من توجيه الكلام الشديد الى بطانته وبعض ولاته . ومرد ذلك لأمرين .

أحدهما : أن أبا ذر الصحابي الجليل قمة في الاخلاق والفضيلة ، والخصال الحميدة التي ينبغي للمؤمن أن يتخلَّق بها ، فلا يسب ولا يشتم ، ولا يتهم الطرف المقابل بما هو بعيد عنه .

ثانيهما : أن حواره مع الخليفة كان يبتني على الاحتفاظ بالصفة التي أعطيت له . فهو ينظر الى عثمان في محاوراته معه ، من زاوية سلطته الزمنية ، لا من زاوية ذاته .

أما نظرته الى حاشيته ، وبعض ولاته ، فانها تختلف اختلافا كليا عن ذلك ، فهو يعرفهم على حقيقتهم ، كما يعرف نواياهم ، فلا يترك لأحد منهم فرصة للتقول على الله بغير الحق ، بل يجبههم بالأجوبة المقذعة حينا ، والمسكتة حينا آخر ، ويكيل لهم الصاع صاعين في ذلك .

قال عثمان يوما ـ والناس حوله ـ : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟

فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !

فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ! أتعلمنا ديننا ؟ !

فقال عثمان : ما أكثر اذاك لي ، وأولعك بأصحابي ؟ إلحق بمكتبك ،

__________________

(١) شرح النهج ٨ / ٢٥٦ .

١١٩
 &

وكان مكتبه بالشام إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله ( ص ) فيأذن له في ذلك . »

لم يعد الخليفة يطيق وجود أبي ذر وأمثاله في المدينة ، فأمره باللحوق بالشام ، وفي هذا الامر تعجيل على أبي ذر بالرحيل اليها ، وتقييد لحريته في الإقامة بالمدينة متى أحب .

لقد غضب عثمان على أبي ذر ، فظن أن غضبه هذا سيضع حدَّاً لنشاط أبي ذر ، لكن الذي حصل هو العكس . خصوصا بعد ان انقطعت الشعرة التي كانت بينهما .

١٢٠