هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

تبعا لعدم وقوع نفس الحرّ تحت اليد.

والاشكال على ضمان المنافع الفائتة بغير استيفاء تارة بعدم كونها مالا ، لأنّ المالية صفة وجودية ولو بوجود منشأ انتزاعها ، فلا تنتزع من المعدوم. واخرى بعدم صدق المال عرفا على عمل الحر ، ولذا لا يقال : إنه ذو مال ، ولأجله لا يصدق عليه المستطيع حتى يجب عليه الحج ، ولا يضمن عمله إذا حبسه الظالم ، إلّا إذا قدّر بمال كما إذا صار أجيرا للغير ، فإنّ عمله حينئذ مال له كما لا يخفى.

مندفع ، إذ في الأوّل : أنّ الوجود ليس مقوّما لمالية المال ، ولذا يحمل عليه الوجود تارة والعدم اخرى ، فيقال : المنّ من الحنطة مثلا موجود أو معدوم ، فلو كان الوجود مقوّما لها لم يصح حمل الوجود والعدم على الشي‌ء المتصف بالمالية كالمنّ من الحنطة ، وعليه فالمقوّم للمالية هو الوجود الاعتباري لا الخارجي.

والحاصل : أنّ الذمة أو الخارج ظرف لوجود المال لا مقوّم لماليته.

وفي الثاني : ـ بعد النقض بالمبيع والثمن الكليين الذميين والمنافع العملية في الإجارة ـ أنّ غاية ما يقتضيه هذا الوجه هو نفي إضافة الملكية الاعتبارية ، وعدم كونه ذا مال ، لا نفي المالية. وذلك لأن المالية والملكية اعتباران عقلائيان ، تنتزع الاولى من الشي‌ء باعتبار ما فيه من الخصوصية الذاتية الموجبة لميل الناس إليه وتنافس العقلاء عليه ، وبذلهم الأموال بإزائه ، فإنّ المنّ من الحنطة في حدّ نفسه ليس كالمنّ من التراب في انتزاع اعتبار الماليّة عن الأوّل باعتبار ما فيه من الخصوصية ، دون الثاني. والمالية وإن كانت صفة وجودية ، لكنّها اعتبارية ، والشي‌ء المتصف بالمالية الذاتية يكون موجودا تارة ، ومعدوما أخرى.

نعم فعلية بذل العقلاء مالا بإزائه موقوفة على تقدير وجوده في الذمة ، أو تقدير وجوده بوجود العين كالمنفعة التي هي من حيثيات العين وشؤونها.

وتنتزع الثانية ـ أعني بها إضافة الملكية الاعتبارية ـ من كون الشي‌ء المسمّى بالمال مضافا إلى شخص بالأصالة كمالكية السيّد لرقبة مملوكه ، أو بالتبع كمالكيته لمنفعة عبده بتبع

٨١

.................................................................................................

__________________

رقبته. فالمنّ من الحنطة قبل التعهد ، والمباحات قبل الحيازة وعمل الحرّ قبل المعاوضة عليه أموال ، وليست أملاكا بالملكية الاعتبارية ، وإن كان بعضها كعمل الحرّ مضافا الى صاحبه بالملكية الذاتية التكوينية ، فإنّ عمل كل شخص ونفسه وذمّته مملوكة له ملكية ذاتية ، وهذه المرتبة من الملكية فوق الملكية الاعتبارية ودون الملكية الحقيقية التي هي له تعالى بما أنه فاعل ما منه الوجود ، ولأوليائه عليهم‌السلام بما أنّهم فاعل ما به الوجود.

والمراد بالملكية الذاتية السلطنة على التصرف في نفسه وشؤونها ، لحكم الوجدان والضرورة والسيرة العقلائية بتسلط كل أحد على عمل نفسه وما في ذمته ، وأنّ له السلطنة على تمليك عمله بالإيجاد وغيره ، وبيع ما في ذمته ، وهذه السلطنة ممضاة شرعا وغير مردوع عنها. فالسلطنة الذاتية موضوع للسلطنة على إيجاد الملكية الاعتبارية إلّا ما خرج بالدليل ، كعدم سلطنته شرعا على التمليك الاعتباري بالنسبة الى بعض المملوك الذاتي كالخمر المصنوع له ، وآلات اللهو التي صنعها ، فإنّ الشارع ألغى الملكية الاعتبارية فيها.

وبالجملة : فالملكية الذاتية لعمل الحر ثابتة ، دون الملكية الاعتبارية ، إذ لا مجال لها مع الملكية الحقيقية ، للغويتها وكونها من تحصيل الحاصل.

وقد تحصّل مما ذكرناه أمور :

الأوّل : أنّ عمل الحرّ مال عرفي مملوك له بالملكية الذاتية التكوينية التي هي السلطنة على النفس والذمة بتمليك عمله وما في ذمّته للغير ، وليس مملوكا له بالملكية الاعتبارية. فيشترك عمل الحرّ والعبد في المالية والملكية الذاتية ، ويفترقان في إضافة الملكية الاعتبارية ، حيث إنّ عمل العبد ـ مع كونه مملوكا لنفسه ذاتا ـ مملوك لسيده تبعا لرقبته بالملكية الاعتبارية ، كسائر الأعيان المملوكة له كالدار والدابة ونحوهما. بخلاف عمل الحرّ ، فإنّه مملوك له بالملكية الذاتية دون الاعتبارية ، إلّا بعد تمليكه للغير بإجارة أو غيرها ، فإنّه يصير حينئذ مملوكا للمستأجر كمملوكية عمل العبد لمولاه. ومقتضى مملوكية عمل العبد لمولاه وجوب الحج على المولى إن كان عمله مساويا لمال يفي بالحج ، واجتمع سائر شرائط وجوبه.

٨٢

.................................................................................................

__________________

الثاني : أن عمل الحرّ مال عرفا ، فلا مانع من جعله ثمنا في البيع الذي هو مبادلة مال بمال ، إذ ليست الملكية الاعتبارية شرطا في صحة البيع العرفي ولا الشرعي ، فليس البيع مبادلة مال مملوك بالملكية الاعتبارية بمال كذلك ، بل هو مبادلة المالين العرفيين.

الثالث : أنّ عدم حصول الاستطاعة ـ التي يترتب عليها وجوب الحج ـ بعمل الحرّ إنّما هو لأجل دخل الملكية الاعتبارية أو الإباحة في حصول الاستطاعة ، وعدم كفاية الملكية الذاتية في حصولها ، فراجع نصوص الاستطاعة كما أشرنا إلى بعضها.

الرابع : أنّ مقتضى مالية عمل الحرّ عرفا ضمانه بالتفويت ، إلّا أنّه قد ادّعي ظهور أدلة الضمان في اعتبار إضافة الملكية الاعتبارية فيه ، ولذا قال في الشرائع في عبارته المتقدمة : «لو حبس صانعا لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به .. إلخ». لكنه يشكل المساعدة عليه ، لأنّ حكمه بالضمان في صورة انتفاع الحابس به إن كان لأجل كون المنفعة ملكا اعتباريا للحرّ ، ففيه ما لا يخفى ، لما عرفت من أن مالكية الشخص لعمله ذاتية لا اعتبارية.

وإن كان لأجل كفاية الملكية الذاتية في الضمان وعدم إناطته بالملكية الاعتبارية فقد ثبت المطلوب.

والحاصل : أنّ قاعدة اليد أو الإتلاف أو الاحترام أو غيرها من موجبات الضمان ـ لو سلّم دلالتها على اعتبار الملكية الاعتبارية في الضمان ـ يمكن أن يقال : إنّ مقتضى الجمع بينها وبين ما دلّ على جواز الاعتداء بالمماثل والتّقاص به ونحوه مما يدل على الضمان من دون تقييد بالملكية الاعتبارية هو : أن المضمون لا بد أن يكون مضافا إلى شخص أو هيئة حتى تقوم تلك الإضافة بالمضمون به ، فإذا أتلف الزكاة أو الخمس أو عوائد الوقف الخاص ـ كالوقف على الذريّة ، ومثله الوقف على العناوين كالفقراء والزّوار والعلماء ـ قامت إضافة الوقفية ببدل التالف ، ويتصف البدل بالعنوان الذي كان قائما بالمبدل التالف.

ولا فرق بين كون الإضافة ذاتية واعتبارية ، إلّا إذا ألغى الشارع ماليّة المملوك الذاتي كالخمر ، فإنّ المسلم إذا صنعه كان مالكا لها بالملكية الذاتية ، لكن الشارع أسقط ماليّتها المعتبرة

٨٣

.................................................................................................

__________________

في الضمان ، فلا يضمنها المسلم إذا غصبها من مسلم. فالملكية الذاتية توجب الضمان ما لم يلغ الشارع ماليّة المملوك الذاتي. ولذا نقول بضمان منافع الحرّ إذا استوفاها الحابس ، مع أنّ عمل الحرّ قبل وقوع المعاوضة عليه ـ مع كونه مالا ـ ليس ملكا لأحد بالملكية الاعتبارية.

ولو كان الضمان منوطا بالملكية الاعتبارية لزم الاقتصار في ضمان الحابس على ما إذا قدّر عمله بإجارة أو صلح ، وعدم تضمينه بمجرد الاستيفاء. مع أنّ ضمانه في مورد الانتفاع به لعلّه إجماعي عندهم ، مستدلّين عليه «بأنه أخذ منه ماله بلا عوض ، فكأنّه غصب منه مالا وحقّا أو أتلفه ، فيضمن».

مع أن الضمان لو كان دائرا مدار غصب المال المضاف الى مالكه بالملكية الاعتبارية أو إتلافه توجه سؤال الفرق بين استخدام الحرّ قهرا واستعماله وبين منعه عن العمل ، إذ المفروض عدم كون عمله ملكه بالملكية الاعتبارية ما لم تقع معاوضة عليه ، بل هو مملوك له ذاتا ، فكيف يحكم بضمان الحابس لو استعمل الحرّ؟

وقد مرّ أن سبب الضمان غير منحصر في اليد حتى يوجّه ضمان الحابس في صورة الاستخدام بوضع اليد العادية عليه ، دون ما إذا منعه عن العمل ، لعدم صدق وضع اليد عليه هذا.

الخامس : أنّ عمل الحرّ الصانع المحبوس مضمون على الحابس إذا لم يكن مانع عن وجود عمله إلّا الحبس ، بمعنى أن يكون المقتضي لوجوده ـ وهو إرادة الحرّ لإيجاد العمل ـ موجودا ، ولم يكن مانع عن وجوده إلّا الحبس بحيث يتصف الحبس بالمانعية والتفويت ، ويستند العدم إليه لا إلى عدم المقتضي.

ولا فرق في ذلك بين الحبس والمنع ، لوحدة المناط وهو المانعية.

وعليه فما في الجواهر من قوله : «أما لو منعه من العمل من غير حبس ، فإنّه لا يضمن منافعه وجها واحدا ، لأنّه لو فعل ذلك بالعبد لم يضمن منافعه فالحرّ أولى». وكذا ما ذكره بقوله : «على أن التسبيب الذي ذكره ـ يعني صاحب الرياض ـ إنّما يقتضي الضمان إذا تعلق بتلف الأموال ، ومنفعة الحرّ معدومة ، فلا يتصور التسبيب لتلفها». الى أن قال ما محصله : «انّه لو بني

٨٤

.................................................................................................

__________________

على شمول قاعدة الضرر وغيرها من الآيات للفرض وهو ضمان عمل الحرّ المحبوس لأثبتت فقها جديدا ، لاقتضائها الضمان بالمنع عن العمل أو الانتفاع بماله ، وغير ذلك مما عرفت عدم القول به من العامة الذين مبنى فقههم على القياس والاستحسان ، فضلا عن الإمامية الّذين مبنى فقههم على القواعد المقرّرة الثابتة من أهل بيت العصمة عليهم‌السلام ، فلا وجه للضمان في الفرض كما قطع به الأصحاب ، لأنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد على وجه تدخل منافعه معه كالمال ولو شرعا ، بل منافعه في قبضته كثيابه باقية على أصالة عدم الضمان وان ظلم وأثم بحبسه أو منعه» (١) في غاية الإشكال ، لعدم استلزام القول بالضمان فقها جديدا ، فإنّ التفويت من موجبات الضمان. ومعدومية عمل الحر لا تقتضي سقوطها عن المالية كما مرّ مفصّلا ، والإجماع المدّعى على نفي الضمان في الحبس والمنع معلوم المدرك ، فلا يصلح للاعتماد عليه ولا لردع السيرة العقلائية على تغريم المانع عن الكسب والعمل.

كما أنّ تخصيص السيرة ـ في كلام السيد الخويي قدس‌سره ـ بالمنع دون الحبس لم يظهر له وجه ، إذ لا فرق في بنائهم على التغريم بين الحبس ومجرد المنع عن العمل. ولو أريد رعاية الإجماع المنقول على عدم الضمان في الحبس فقيل بالضمان في المنع خاصة دون الحبس ففيه ما لا يخفى ، ضرورة ظهور كلام العلّامة قدس‌سره في التذكرة «بعدم الضمان وجها واحدا» ـ مع تعبيره بالأقوى في الحبس ـ في اتّفاق عامّة المسلمين على نفي الضمان في المنع دون الحبس ، ومثله أولى بالرعاية في الفتوى ، وعدم مخالفته.

ولعل مقصوده قدس‌سره من المنع عن العمل ما يشمل الحبس ، أي تفويت المنافع عليه قهرا ، وهو مورد بناء العقلاء على الضمان ، وقد أمضاه الشارع ولو بعدم الردع ، بعد ما عرفت من قصور ما استدل به على نفي الضمان.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بعمل الحر.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٤٠.

٨٥

وأمّا الحقوق (١) [الأخر]

______________________________________________________

أقسام الحقوق ووقوعها عوضا في البيع

(١) معطوف على قوله : «وأمّا عمل الحرّ» ومقصوده قدس‌سره تحقيق حال الحقوق من حيث قابليتها لوقوعها عوضا في البيع وعدمها. وقد أشرنا في شرح قوله : «وأما العوض» الى : أنّ الثمن في البيع ـ بعد عدم اشتراطه بكونه عينا ـ يجوز أن يكون منفعة ، ووقع الخلاف بينهم في عمل الحرّ والحقوق ، وقلنا : إنّ البحث يقع في مقامات ثلاثة ، وتقدّم الكلام في مقامين ، وهما كون العوض منفعة وحكم عمل الحر ، وانتهى البحث الى المقام الثالث ، وهو ما عنونه بقوله : «وأما الحقوق».

ثم إنّه ينبغي بيان أمور ثلاثة قبل شرح المتن ، فنقول وبه نستعين :

الأمر الأوّل : أنّ كلمة «الأخر» موجودة في بعض النسخ المصحّحة دون جميعها ، والأولى حذفها ، لعدم سبق ذكر لبعض الحقوق حتى يحترز بها عن سائر الحقوق. وعلى فرض وجودها في النسخة الأصليّة بقلم المصنف أعلى الله مقامه لا بدّ من توجيهها إمّا بالاحتراز عن العين والمنفعة ، لكونهما من الحقوق بالمعنى الأعمّ حيث يقال : يحقّ للمالك أن ينتفع ، وللحرّ المختار أن يعمل ، فالمراد بالحق هو الثبوت. وإمّا بالاحتراز عن خصوص عمل الحرّ إذا استحقه شخص بالإجارة ونحوها من المملّكات ، فيكون عمل الحرّ بعد تملّك الغير له من الحقوق ، يعني يستحقه المستأجر.

وكلا الأمرين لا يخلو من تكلف. واحتمل بعض الأجلّة قدس‌سره أن كلمة «الأخر» لم تذكر هنا ، وإنّما يناسب وقوعها أوّل القسم الثالث ، بأن كانت العبارة هكذا .. : «وأما الحقوق فان لم تقبل المعاوضة .. وأما الحقوق الأخر القابلة للانتقال كحق التحجير ..» والأمر سهل بعد وضوح المطلب.

الأمر الثاني : في معنى الحق ، ولم يظهر من المتن تعريف عام لكافّة الحقوق ، لكنه في القسم الثاني منها جعل الحقّ سلطنة فعلية ، فبناء على هذا التفسير يكون ذو الحق سلطانا على المتعلق ، وأدنى مراتب السلطنة هو جواز إسقاط حقه على ما ذكره قدس‌سره في الخيارات. كما في

٨٦

.................................................................................................

______________________________________________________

مثل حق الخيار في العقود اللازمة أو الجائزة ، فإنّ ذا الخيار إمّا مالك لأمر العقد من حيث الفسخ والإمضاء ، وإما لمتعلقه من حيث الرد والاسترداد.

والحقّ ـ بناء على كونه سلطنة ـ يشارك الحكم المصطلح من التكليفي والوضعي في كونه مجعولا شرعيا تأسيسا أو إمضاء ، ويفارقه في أنّ الملحوظ في الحقوق نوع سلطنة على المتعلق ، بخلافه في الحكم ، حيث لا يعتبر فيه إلّا الرخصة وعدم المنع من الشي‌ء ، مثلا يطلق على جواز فسخ العقد بالخيار : أنه حقّ ، وعلى جواز الرجوع في الهبة : أنّه حكم.

والوجه فيه أنّ ذا الخيار اعتبره الشارع مسلّطا على أمر العقد ، ومن آثار سلطنته جواز إسقاطه ورفع اليد عنه. ولكن الجواز في الهبة حكمي ، بمعنى أنّ الشارع رخّص للواهب في الرجوع عن هبته ، كترخيصه في سائر المباحات ، ولم يعتبر سلطنة على الرجوع ، ولذا لا يرتفع هذا الجواز الحكمي بإسقاط الواهب ، بل يبقى ما دامت العين الموهوبة باقية بعينها.

هذا معنى الحق ، وقد ذكرناه بنحو الإجمال والإشارة ، وإن شئت الوقوف على أنظار الأعلام في تعريفه فلاحظ التعليقة الآتية إن شاء الله تعالى بعد الفراغ من توضيح المتن.

الأمر الثالث : في ما هو المقصود من جعل الحق ثمنا في البيع ، إذ يحتمل فيه وجهان :

أحدهما : أن يراد بالحق نفس الإضافة الاعتبارية المعبّر عن بعض أقسامها في المتن بالسلطنة الفعلية ، ومعنى وقوع الحقّ عوضا في البيع تفويض هذه السلطنة الاعتبارية إلى البائع بدلا عن سلطنته على المبيع ، فإذا باع زيد كتابا من عمرو وجعل عمرو ثمنه حقّ الخيار الثابت له في معاملة أخرى ، انتقل حقّ الخيار إلى زيد ، وصار كتابه ملكا لعمرو.

ثانيهما : أن يراد بالحق متعلقة ، بدعوى عدم قابلية نفس الحق ـ بمعنى الإضافة والسلطنة ـ للنقل إلى الغير ، لأنّ الإضافة نسبة قائمة بين طرفيها ـ وهما من له الحق ، وما يتعلق به الحق ـ سواء أكان عينا كالأرض المحجرة التي هي متعلق حق المحجّر ، أم منفعة أم عمل حرّ. هذا.

والظاهر أنّ مقصود المصنف قدس‌سره من البحث عن حكم جعل الحقوق عوضا هو

٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتمال الأوّل ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّه قدس‌سره تعرّض لحكم العوض في البيع ، وأفاد جواز كونه عينا ـ كالمعوّض ـ ومنفعة ـ عدا عمل الحر ـ ثم تعرّض للبحث عن قابلية الحقوق لوقوعها عوضا وعدمها. وهذا يقتضي أن يكون مراده من الحق نفس الإضافة أي السلطنة ، إذ لو كان مقصوده منه متعلّقه لما كان وجه لإفراد الحقوق بالبحث ، فإنّ متعلق الحق إمّا عين كما في مثل حق التحجير والرّهانة ، وإمّا منفعة كما في مثل حقّ الاستمتاع بالزوجة ، وإمّا عمل حرّ كما في مثل حق الولاية وحق الحضانة ، وليس متعلق الحق أمرا خارجا عن هذه الأقسام حتى يختص بالبحث والنظر. وعليه فعقد أحكام الحقوق على حدة كاشف عن أنّ المبحوث عنه قابلية نفس الحق لوقوعه عوضا ، لا متعلقة.

الثاني : أنّ المصنف قدس‌سره استشكل في وقوع الحقوق عوضا في البيع ـ حتى ما يقابل بالمال في الصلح كحق التحجير ـ بدعوى اعتبار المالية في العوضين ، وهي مشكوكة الصدق على الحقوق. ولو كان محطّ البحث والنزاع متعلّق الحق لما كان وجه للتشكيك في ماليّة حق التحجير ، إذ لا ريب في ماليّة الأرض المحجّرة وتنافس العقلاء عليها ، فلا بد أن يكون المقصود من الحق المشكوك ماليّته هو نفس الإضافة الاعتبارية لا متعلّقه.

وبهذا ظهر غموض ما في بعض الكلمات من «أن المراد عوضية متعلقات الحقوق بدعوى عدم قابلية نفس الحق للعوضية والمعوّضية» وذلك لأنّه على فرض تسليمه ليس بيانا لما أفاده المصنف كما تقدم.

إذا عرفت ما ذكرناه فنقول : اختلف الفقهاء قدس‌سرهم في صحة جعل الحقوق عوضا في البيع ، فذهب الشيخ الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره الى المنع مطلقا ، واختار صاحب الجواهر قدس‌سره الجواز كذلك. وفصّل المصنف بين أقسام الحقوق فجزم بالمنع في قسمين منها ـ وهما ما لا يقبل المعاوضة وما لا يقبل النقل ـ وتردّد في القسم الثالث وهو ما يقبل الانتقال القهري والنقل بالصلح ، وإن كان مآله الى عدم وقوعه عوضا كالقسمين الأوّلين :

كما أنّه قدس‌سره تعرّض في القسم الثاني للفرق بين بيع الدين ممن هو عليه وبين نقل الحق

٨٨

فإن لم تقبل (١) المعاوضة (٢) بالمال كحقّ الحضانة والولاية (٣) فلا إشكال (٤).

______________________________________________________

الى من عليه الحق ، بجواز الأوّل دون الثاني ، وسيأتي توضيح تمام ما أفاده بعونه تعالى.

القسم الأوّل : الحقوق غير القابلة للإسقاط

(١) هذا هو القسم الأوّل من التقسيم الثلاثي للحقوق بنظر المصنف ، وضابطه ـ على ما قيل ـ كل حقّ روعي فيه مصلحة غير من قام به الحق كحقّ الحضانة التي لوحظ فيه مصلحة الطفل من حيث تربيته وإصلاح شأنه ، وكحقّ الولاية المراعى فيه مصلحة المولّى عليه وغبطته ، فليس زمام الحق في هذين الموردين بيد من له الحق وهو الامّ والولي كالأب والجد حتى يجوز لكل منهما التصرف فيه بنقله الى الغير أو إسقاطه للتخلص من تبعاته. فإذا اشترت الامّ سلعة لم يجز لها جعل الثمن حق حضانتها لولدها ، وكذا لا يجوز للولي جعل حق ولايته ثمنا لمتاع يشتريه من المولّى عليه.

والوجه في عدم جواز جعل هذا القسم عوضا هو : أنّ البيع مبادلة مال بمال ، وتمليك للغير ، وهو غير محقّق فيما كان الثمن هذا الصّنف من الحقوق ، لفرض قيامه بذي الحق وعدم انفكاكه عنه ، فهو غير قابل للإسقاط عمّن عليه الحق فضلا عن أن ينتقل الى غيره.

(٢) ظاهر كلمة «المعاوضة» هو المبادلة بين المبيع وبين الحق ، لكنه غير مراد هنا بقرينة ما سيأتي في القسم الثاني من الحق غير القابل للنقل ، فيكون المقصود بالمعاوضة هو إسقاط الحق ، وإطلاق المعاوضة عليه من جهة وقوع إسقاط الحق عوضا عن المبيع.

(٣) أي : حق الولاية للحاكم الشرعي ولسائر الأولياء كالأب والجدّ له.

(٤) يعني : فلا إشكال في عدم وقوع هذا القسم عوضا في البيع ، لعدم دخول شي‌ء في ملك البائع الذي خرج المعوّض عن ملكه.

٨٩

وكذا (١) لو لم تقبل النقل

______________________________________________________

القسم الثاني : الحقوق غير القابلة للنقل

(١) يعني : وكذا لا إشكال في عدم وقوع القسم الثاني من الحقوق عوضا في البيع. والمقصود بهذا القسم هو الحقّ الذي استفيد من دليله جواز إسقاطه مجّانا ومع العوض ، لكنه لا يقبل الانتقال الى الغير بحيث يقوم الحق بالمنتقل إليه على نحو قيامه بالمنتقل عنه.

ومثّل المصنف قدس‌سره له بحق الخيار وحق الشفعة ، كما إذا باع زيد كتابه من عمرو بدينار على أن يكون له الخيار إلى شهر مثلا ، ثم أراد شراء سلعة من عمرو ـ وهو من عليه الخيار ـ بجعل الثمن حقّ الخيار الذي كان له في بيع الكتاب بدينار.

والوجه في عدم قابلية هذا القسم من الحقوق لوقوعه عوضا هو : تقوّم مفهوم البيع بالتمليك من الطرفين ، وحيث إنّ مثل حق الخيار لا ينتقل الى الغير ، لامتناع اتحاد المسلّط والمسلّط عليه ـ كما سيأتي توضيحه ـ لم يصح جعله عوضا. نعم لا بأس بأخذ المال بإزاء إسقاطه عمّن عليه الخيار ، لكونه قابلا للإسقاط ، بخلاف القسم الأوّل الذي دلّ دليله على عدم سقوطه عمّن يقوم به فضلا عن انتقاله الى الغير.

فإن قلت : لا وجه لجعل القسم الأوّل مقابلا للقسم الثاني ، فإنّ ما لا يقبل المعاوضة لا يقبل النقل المعاوضي إلى الغير. وعليه فكل حقّ استفيد من دليله عدم قابليته لأخذ العوض بإزائه كان غير قابل للنقل أيضا ، وكلّ حقّ دلّ دليل تشريعه على عدم نقله عمّن له الحق فهو غير قابل للمعاوضة عليه. وعليه ينبغي جمع القسمين تحت عنوان واحد ، وهو ما لا يقبل المعاوضة والنقل.

قلت : قد أفاد بعض أجلة المحشين قدس‌سره ـ وتقدمت الإشارة اليه ـ إنّ المعاوضة أعم من النقل ، فالمراد بالحق غير القابل للمعاوضة هو ما لا ينتقل الى الغير ، ولا يجوز إسقاطه أصلا سواء أكان الإسقاط مجانا أم بإزاء عوض. والمراد بالحق غير القابل للنقل هو القابل لأخذ العوض بإزاء إسقاطه.

وعليه فمحصّل الفرق هو قابلية القسم الثاني للإسقاط مطلقا ، وعدم قابلية القسم الأوّل له كذلك ، فلا تداخل بين القسمين. كما أنّ القسم الثالث في كلام

٩٠

كحق الشفعة (١) وحق الخيار ، لأنّ (٢) البيع تمليك الغير.

ولا ينتقض (٣) ببيع الدّين

______________________________________________________

المصنف قدس‌سره هو القابل للإسقاط وللانتقال القهري بالإرث ، وللنقل الاختياري ببعض وجوهه كالصلح ، ولكن يشكل جعله ثمنا في البيع.

(١) وهو استحقاق الشريك الحصّة المبيعة في شركته ، كما إذا كانت الدار مشتركة بين زيد وعمرو ، فباع زيد حصّته من بكر ، فيحدث لعمرو حقّ على البيع الواقع بين زيد وبكر ، ويجوز له دفع الثمن الى بكر وضمّ الحصة المبيعة إلى حصته. فلو اشترى عمرو من بكر كتابا فهل يجوز له جعل ثمنه حقّ شفعته من الدار حتى لا يتمكن من فسخ العقد الواقع بين زيد وبكر أم لا؟ قد أفاد المصنف قدس‌سره عدم جوازه ، لما تقدم من إناطة البيع بانتقال كل من العوضين الى ملك الآخر ، وحيث كان الحق قائما بصاحبه بحيث لا ينتقل الى غيره ـ وإن جاز إسقاطه ـ لم يتحقق الانتقال الملكي.

(٢) هذا تعليل لعدم قابلية وقوع مثل حقّي الشفعة والخيار ـ مما يقبل الإسقاط ولا يقبل النقل الى الغير ـ عوضا في البيع ، ومحصله : كون البيع من نواقل الأملاك ، فإذا تعذّر انتقال الحق الى غير من له الحق لزم كون المبيع بلا عوض ، ومن المعلوم

عدم صدق مفهوم البيع عليه حينئذ.

الفرق بين إسقاط الحق وبيع الدين

(٣) يعني : ولا ينتقض عموم قولنا : «لأن البيع تمليك الغير» ـ في مقام تعليل عدم قابلية القسم الثاني من الحقوق لوقوعه عوضا ـ ببيع الدين ممّن هو عليه ، إذ لا تمليك فيه ، بل هو إسقاط لما في ذمة المديون.

ولا يخفى أن كلام المصنف هنا إلى آخر القسم الثاني من الحقوق تعريض بما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره من تصحيح جعل الحقوق عوضا في البيع ، خلافا لشيخه الفقيه كاشف الغطاء ، ولمسيس الحاجة الى توضيح الأمر لا مناص من بيان مرام كل منهم قدس الله أسرارهم الزكيّة ، فنقول وبه نستعين : إنّ هنا مطالب ثلاثة ، أوّلها كلام كاشف الغطاء ، ثانيها مناقشة

٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

صاحب الجواهر فيه ، ثالثها تحقيق المصنف.

أما الأوّل ، فقد ذكر فيه الفقيه الكبير في شرحه على القواعد ما لفظه : «وأما الحقوق فالظاهر أنّها لا تقع ثمنا ولا مثمنا» ومقتضى إطلاقه عدم قابلية شي‌ء من الحقوق لوقوعها ثمنا في البيع. وأمّا عدم كونها مثمنا فمن مسلّماتهم ، لاختصاص المعوض بالعين ، فليس نقل المنفعة والحق بيعا عندهم.

وأما الثاني ، فقد قال فيه في الجواهر : «نعم في شرح الأستاد اعتبار عدم كونه ـ أي الثمن ـ حقّا ، مع أنه لا يخلو من منع ، كما عرفته من الإطلاق المزبور المقتضي لكونه كالصلح الذي لا إشكال في وقوعه على الحقوق ، فلا يبعد صحة وقوعها ثمنا في البيع وغيره ، من غير فرق بين اقتضاء ذلك سقوطها كبيع العين بحق الخيار والشفعة على معنى سقوطهما ، وبين اقتضائه نقلها كحقّ التحجير ونحوه. وكأنّ نظره في المنع إلى الأوّل ، باعتبار كون البيع من النواقل لا من المسقطات ، بخلاف الصلح. وفيه : أنّ من البيع بيع الدين على من هو عليه ، ولا ريب في اقتضائه حينئذ الإسقاط ولو باعتبار أن الإنسان لا يملك على نفسه ما يملكه غيره عليه ، الذي بعينه يقرّر في نحو حقّ الخيار والشفعة ، والله أعلم» (١).

ولا بأس بتوضيحه ، فنقول : قد أفاد صاحب الجواهر قدس‌سره أنّ المراد بالثمن في باب البيع ـ على ما صرّح به السيد بحر العلوم قدس‌سره في مصابيحه ـ هو مطلق المقابل للمثمن ، لا خصوص العين الشخصية ، ولذا جاز أن يكون العوض عينا كلّية ومنفعة. وكذا يجوز كونه حقا سواء أكان قابلا للنقل الى الغير كحق التحجير ، أم لا ولكن جاز إسقاطه كحق الشفعة. والدليل على جواز كون الحقوق ثمنا وجوه ثلاثة :

أحدها : إطلاق أدلة صحة البيع كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لاقتضائه حليّة كل ما صدق عليه البيع عرفا ، ولم ينهض دليل على تقييد الحلية والصحة بما إذا لم يكن العوض

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٨ ، ٢٠٩.

٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

حقّا حتى يدّعى بطلان عوضية الحقوق.

ثانيها : إطلاق الفتاوى بصحة البيع سواء كان العوض عينا أم منفعة أم حقّا. وظاهره دعوى اتفاق الفقهاء على ذلك.

ثالثها : الاستشهاد بما ذكروه من جواز الصلح على العين بحق الخيار والشفعة والتحجير ، وإن كانت ثمرة الصلح على الحقوق مختلفة ، فإذا صالح الكتاب على حقّ التحجير انتقل الحق من المتصالح الى المصالح ، وإذا صالح الكتاب على حقّ الخيار سقط الحق ولم ينتقل الى المصالح. ولمّا كان الصلح على الحقوق نافذا شرعا فليكن بيع الأعيان بالحقوق صحيحا أيضا.

ولعلّ نظر كاشف الغطاء ـ المانع من جعل الحقوق عوضا في البيع ـ الى خصوص الحقوق التي لا تنتقل الى الغير كحقّ الشفعة القائم بشخص الشريك ، لا إلى مطلق الحقوق حتى ما كان قابلا للنقل الى الغير كحق التحجير.

والفارق بين البيع والصلح بنظره قدس‌سره ـ حيث يجوز الصلح على مطلق الحقوق سواء القابل منها للإسقاط فقط أم القابل له وللنقل الى الغير ، ولا يجوز جعلها ثمنا في البيع ـ هو كون البيع من نواقل الملك ، وهو غير صادق على ما إذا كان العوض حقّا لا يقبل النقل إلى الغير كحق الخيار ، إذ لا يتحقق النقل الملكي من الجانبين. وهذا بخلاف الصلح ، فإنّه من المسقطات ، لا من النواقل ، فيجوز جعل الحق غير القابل للنقل عوضا عن المتصالح عليه ، ويكون أثره سقوط الحق عمّن عليه الحق وهو المصالح.

كما إذا صالح من عليه حق الشفعة مع من له الحق على كتاب بعوض حقّ الشفعة ، فإنّه صلح نافذ ، وأثره سقوط حق الشريك ، وزوال سلطنته على حلّ عقد شريكه مع المشتري.

ثم أورد صاحب الجواهر على شيخه الفقيه قدس‌سرهما بالنقض عليه ببيع الدين ، حيث يظهر به عدم كون الفارق المذكور بين البيع والصلح مانعا عن جعل الحقوق عوضا في البيع.

وتقريب النقض : أنّه إذا كان زيد مديونا لعمرو بمائة منّ من الحنطة جاز لعمرو أن يبيع هذا المملوك الذمي من زيد ، بأن يقول له عمرو : «بعتك ما أملكه في عهدتك بدينار» ويقول

٩٣

.................................................................................................

______________________________________________________

زيد : «قبلت» ولا ريب في صحة بيع الدين ممّن هو عليه ، مع عدم ترتب النقل من طرف البائع إلى المشتري ، لعدم إعطائه إياه شيئا ، وإنّما أسقط دينه المستقرّ على عهدة زيد ، وفرغت ذمّته عما اشتغلت به لعمرو.

وعليه فإذا كان أثر البيع في بعض الموارد إسقاط الدين كان كالصلح في إفادته النقل تارة والإسقاط أخرى. وهذا النقض كاشف عن بطلان عموم التعليل المتقدم في المتن من «أن البيع تمليك الغير» لما عرفت من صحة بيع الدين ، مع أنّ التمليك يكون بدينار من طرف المشتري فقط ـ وهو المديون ـ لا من الجانبين. هذا توضيح ما أفاده صاحب الجواهر في تصحيح جعل الحق القابل للإسقاط عوضا في البيع.

ونتيجة هذا البيان : أنّ القسم الثاني من الحقوق يجوز كونه ثمنا في البيع ، وليس البيع منوطا بالمبادلة الملكية من الطرفين ، بل يكفي تمليك أحدهما ، وإسقاط الآخر لحقّه ، بشهادة مشروعية بيع الدين ممن هو عليه ، مع انحصار أثره في السقوط وفراغ ذمة المديون.

وأما الثالث : وهو إشكال المصنف على صاحب الجواهر قدس‌سرهما فمحصله : أنّ النقض ببيع الدين ممّن هو عليه ممنوع ، للفرق بينه وبين وقوع الحق عوضا ، وبيانه : أنّ تحقق عنوان البيع في جميع الموارد منوط بالانتقال الملكي من الجانبين ، وهذا المعنى حاصل أيضا في بيع الدين من المديون ، وذلك لأن الدائن يملّك دينه للمديون ، ويتملك المديون لما في ذمة نفسه ، لكن لما لم يعتبر العقلاء مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه دائما فلذا يتملك المديون دينه آنا ما ، ثم يسقط عما في ذمته. لا أنّ البيع يفيد سقوط الدين كما زعمه صاحب الجواهر. بل المديون يتملّك الدّين ثم يسقط عن عهدته.

وعليه فالتعليل المتقدم وهو «أن البيع تمليك الغير» كبرى تامة لم يرد عليها تخصيص ، لا ببيع الدين ولا بغيره. وهذا بخلاف الصلح على الحق الذي أثره سقوطه عمّن عليه الحق ، لعدم توقف الصلح على النقل والانتقال الملكي ، بل يكفي نفس الصلح في ترتب السقوط عليه.

وبعبارة أخرى : الذي يقتضيه البيع في جميع الموارد حدوث تمليك الغير لا بقاؤه ،

٩٤

ممّن (١) هو عليه ، لأنّه (٢) لا مانع من كونه (٣) تمليكا ، فيسقط (٤) ، ولذا (٥) جعل الشهيد

______________________________________________________

والذي يقتضيه نقض صاحب الجواهر ببيع الدين هو امتناع بقاء تملّك الإنسان لما في ذمة نفسه ، لا حدوثه. ومع اختلاف الاقتضاءين لا مانع من الالتزام بصحة بيع الدين ممّن هو عليه ، لكونه كسائر أفراد البيع تمليكا من الطرفين هذا.

وقد ظهر الفرق بين المقيس ـ أعني به الحق القابل للإسقاط دون النقل ـ وبين المقيس عليه أعني به بيع الدين ، فإنّ الدين قابل لدخوله في ملك المديون آنا مّا ـ أي حدوثا ـ وإن امتنع بقاؤه على ملكه ، بخلاف الحق غير القابل للنقل ، فإنّ عدم قابليته للدخول في ملك من عليه الحق حدوثا وبقاء مانع عن جعله عوضا في البيع المتوقف على التمليك من الجانبين.

وعليه فقياس الحق بالدين مع الفارق. هذا توضيح ما أجمله المصنف قدس‌سره في المتن من النقض ببيع الدين والجواب عنه.

(١) يعنى : المديون.

(٢) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لقوله : «ولا ينتقض» وقد تقدم تقريب عدم ورود النقض بقولنا : «ان تحقق عنوان البيع في جميع الموارد منوط بالانتقال الملكي .. إلخ». ومحصله : أنّ المعتبر في البيع ـ سواء أكان المبيع عينا شخصية أم كلّية ـ هو حدوث ملكية العوضين للمتبايعين ، وأمّا بقاؤها فغير معتبر فيه ، ومن المعلوم حدوث تملك المديون لما في ذمة نفسه آنا ما ، وسقوطه في الآن اللاحق غير قادح في تحقق عنوان البيع. وهذا المناط غير محقّق في نقل الحق الى من عليه الحق ، لاستحالة اجتماع المتقابلين ـ ولو آنا ما ـ وهما من له الحق ومن عليه الحق.

(٣) أي : كون بيع الدين من المديون تمليكا للمديون ، وأثره فراغ الذمة.

(٤) الفاء تدل على ترتب سقوط الدين ـ عن الذمة ـ على تملكه فورا ، وهذا النحو من الملك يعبّر عنه بالملكية الآنيّة.

(٥) يعني : ولأجل أنّه لا مانع من كون بيع الدين مفيدا للملكيّة الآنيّة جعل الشهيد ،

٩٥

في قواعده (١) الإبراء مردّدا بين الإسقاط والتمليك.

والحاصل (٢) : أنه يعقل أن يكون مالكا لما في ذمّته ، فيؤثّر

______________________________________________________

وغرض المصنف تأييد ما ذكره ـ في جواب صاحب الجواهر قدس‌سره ـ من أن مالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما وسقوط الدين بعده ليست محالا بل ممكنة ، فإنّ الشهيد قدس‌سره جعل إبراء الدائن لما يملكه في ذمة مديونه مردّدا بين كونه إسقاطا لما في ذمته ابتداء ، أو تمليكا له ، ثم سقوط الدين عن الذمة في الآن الثاني. ولو لم يكن أصل تملك المديون لما في ذمة نفسه ممكنا لم يكن وجه لهذا الترديد ، إذ لا يعقل الترديد بين ما هو ممتنع وما هو ممكن ، فالترديد بين شيئين كاشف عن إمكان كليهما ، وعدم كونهما من المحالات. وعليه فبيع الدين من المديون يفيد الملكية آنا ما فيسقط ، وليس أثر البيع هو السقوط من أوّل الأمر كما زعمه صاحب الجواهر قدس‌سره حتى يكون إسقاط الحق مثل بيع الدين.

(١) ذكر الشهيد ذلك في قاعدة عنونها بقوله : «قد تردّد الشي‌ء بين أصلين يختلف الحكم فيه بحسب دليل الأصلين ، منه الإقالة .. ومن المتردّد بين الأصلين : الإبراء ، هل هو إسقاط أو تمليك؟» (١).

(٢) هذا تقرير آخر لما أفاده من عدم جواز جعل القسم الثاني من الحقوق ثمنا في البيع ، وجواز بيع الدين ممن هو عليه ، توضيحه : أنّ الفرق بين الحق والملك ينشأ من مغايرتهما جوهرا وذاتا ، ولذا يترتب عليه استحالة انتقال الحق ممّن له الحق الى من هو عليه ، وإمكان مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه آنا ما.

والدليل على الفرق ما أفاده بقوله : «والسّر» وبيانه : أنّ هذا القسم من الحقوق نوع من أنواع السلطنة الاعتبارية ، وهذا المبدأ لا يتعدى بنفسه بل بحرف الاستعلاء ، كما ورد في النبوي : «الناس مسلطون على أموالهم» ومقتضى هذه التعدية تقوّم السلطنة بطرفين ، أحدهما سلطان والآخر مسلّط عليه ، وهما متقابلان يستحيل اجتماعهما في شخص واحد.

__________________

(١) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ٢٩١ ، رقم القاعدة : ١٠٢.

٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وعلى هذا فلو صحّ وقوع مثل حق الخيار عوضا في البيع بأن ينتقل الى من عليه الخيار لزم كون شخص واحد مجمعا لعنوانين متقابلين «وهما المسلّط والمسلّط عليه» واستحالته من الواضحات. مثلا : حقّ الخيار سلطنة على من عليه الحق بحلّ عقده ، كما إذا تبايع زيد وعمرو دارا بألف دينار ، وشرط زيد لنفسه الخيار ، أي السلطنة على إقرار العقد وفسخه ، فإذا اشترى من عمرو كتابا وجعل ثمنه الخيار ـ الثابت له في بيع الدار بالألف ـ لزم صيرورة عمرو ـ وهو من عليه الحق ـ مجمعا لعنوانين متقابلين آنا ما أي كونه من له الحق ومن عليه الحق ، أو السلطان والمسلّط عليه ، وقد تقرّر استحالة اجتماع المتقابلين في واحد شخصي ولو في لحظة واحدة.

وهكذا الكلام في حق الشفعة ، إذ مناط الاستحالة في المقام كون هذا الحق سلطنة ، والسلطنة بحسب طبعها تقوم بطرفين ، ويمتنع قيامها بواحد ولو آنا ما.

وهذا بخلاف الملكية ، فإنّها تتعدّى بنفسها الى المملوك ، ولا تتعدى بحرف الاستعلاء ، فيقال : «ملك زيد الدار» فهي إضافة اعتبارية ـ لا مقولية ـ وعلاقة يعتبرها العقلاء والشارع بين المالك والمملوك ، ولا يتوقف وجودها في وعاء الاعتبار على قيام المبدأ ـ أي الملكية ـ بشي‌ء آخر يكون هو المملوك عليه. وحيث كانت الملكية ربطا ونسبة صحّ اعتبارها في شخص واحد بأن يكون هو من له الملك ومن عليه الملك ـ أي مالكا ومملوكا.

وعليه لا مانع من مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه ، لتحقق المغايرة المعتبرة بين المالك والمملوك ، لكون المالك نفسه ، والمملوك المال الذي في ذمته ، وهما متغايران.

وبهذا البيان يظهر غموض تنظير صاحب الجواهر «أعلى الله مقامه» جواز جعل الحق ـ القابل للإسقاط عوضا في البيع ـ ببيع الدين لمن هو عليه. لما عرفت من أنّه يعتبر في البيع حصول التمليك من الطرفين سواء أكان مستمرا أم زائلا كما في بيع الدين للمديون ، وهذا التمليك الآنيّ لا يتحقق في نقل الحق إلى من عليه الحق ، لاستحالة اجتماع المتقابلين ولو آنا ما ، فإنّ اجتماع المسلّط والمسلّط عليه في شخص واحد يرجع الى التناقض وهو كونه سلطانا وغير سلطان ، وهو كما ترى.

٩٧

تمليكه (١) السقوط ، ولا يعقل (٢) أن يتسلّط على نفسه.

والسّر (٣) : أنّ مثل هذا الحق (٤) سلطنة فعلية (٥) لا يعقل قيام طرفيها بشخص واحد (٦) ، بخلاف الملك ، فإنّه نسبة بين المالك والمملوك (٧) ،

______________________________________________________

(١) يعني : أن تمليك البائع دينه للمديون أثره سقوط الدين عن ذمة المديون.

(٢) يعني : أنّ ما ذكرناه ـ من حدوث الملكية في بيع الدين ثم سقوطه ـ غير جار في القسم الثاني من الحقوق ، لأنّ انتقال الحق الى من عليه الحق ـ ولو حدوثا ـ يستلزم صيرورة شخص واحد سلطانا ومسلّطا عليه ، ومن المعلوم عدم الفرق في استحالة اجتماع المتقابلين بين الحدوث والبقاء.

(٣) قد عرفت أنّه تعليل للفرق بين بيع الدين وبين عوضيّة الحق ، وقد أوضحناه آنفا بقولنا : «والدليل على الفرق ما أفاده بقوله : والسر .. إلخ».

(٤) أي : القسم الثاني من الحقوق ، كحق الخيار والشفعة مما يقبل الإسقاط دون النقل. هذا بناء على النسخة المصحّحة المعتمد عليها.

وإن كانت العبارة : «أن الحق سلطنة ..» فلا بد أن يكون اللام للعهد الى قسم خاص من الحقوق ، وهو الذي يكون محل النزاع بين صاحب الجواهر والمصنف قدس‌سرهما ، كالقسم الثاني من الحقوق ، وليس مقصوده تفسير مطلق الحقوق بالسلطنة الفعلية المتقومة بتعدد طرفيها ، لوضوح أن حق التحجير لا يقوم بشخصين.

(٥) التقييد بالفعلية في قبال السلطنة الشأنية الموجودة في الملك كما في موارد الحجر ، فإنّ الصبي والسفيه مالكان لأموالهما بالملكية الاعتبارية ، إلّا أنّه لا قدرة لهما ـ فعلا ـ شرعا على التصرف فيهما ، للحجر. وعليه فالسلطنة وإن كانت أثرا مشتركا بين الحق والملك ، إلّا أنّها في الحق فعليّة وتتقوّم بطرفين ، وفي الملك أعم من الشأنية والفعلية ، فيصح اعتبار الملكية ولو لم تحدث قدرة فعلية على التقليب والتقلب في المملوك.

(٦) لما عرفت من استحالة اجتماع المتقابلين.

(٧) وهذه النسبة الاعتبارية مغايرة طبعا للحق ، فيصح اعتبارها بين المالك والمملوك وإن اجتمعا في شخص واحد.

٩٨

ولا يحتاج (١) إلى من يملك عليه حتى يستحيل (٢) اتحاد المالك والمملوك عليه ، فافهم (٣) (*).

______________________________________________________

(١) يعني : لا يتوقف اعتبار الملكية ـ في جميع مواردها ـ على وجود مملوك عليه ، وان احتيج إليه أحيانا ، وهذا في قبال الحق المتوقف ـ بحسب طبعه ـ على وجود مسلّط عليه.

ففي المقام إذا باع الدائن دينه من المديون لا تتوقف مالكية المديون لما في ذمة نفسه على وجود مملوك عليه ، بل يكفي وجود طرفين أحدهما المالك ، والآخر المال المملوك ، وسيأتي مزيد توضيح له في التعليقة إن شاء الله تعالى.

(٢) إذ لو توقّفت الملكية على وجود المملوك عليه استحال بيع الدين من المديون ، كما استحال انتقال حق الشفعة ممّن له الحق إلى من عليه الحق ، لوحدة المحذور ـ أعني به اجتماع المتقابلين في واحد ـ في كلا المقامين.

(٣) لعلّه إشارة إلى : أنّ استحالة قيام طرفي السلطنة بشخص واحد إنما تلزم إذا لم يكن نقل الحق إلى من هو عليه إسقاطا له ، إذ بناء عليه لا يلزم امتناع اتّحاد السلطان والمسلّط عليه. نعم يلزم إشكال اتحادهما بناء على كون نقل الحق الى من هو عليه تمليكا له.

إلّا أن يقال : إنّ لزومه مبني على بقاء الحق بعد انتقاله إلى من عليه الحق ، وأمّا بناء على سقوطه عنه بالتمليك كترتب سقوط الدين عن المديون على مجرّد تمليكه ـ كما أفاده المصنف قدس‌سره ـ فلا يلزم محذور الاتّحاد أصلا.

أو إشارة إلى : أنّ الحق هو الملك ، والسلطنة تكون من أحكامه ، لا أن الحق نفس السلطنة ، كما سيأتي في التعليقة إن شاء الله تعالى.

__________________

(*) ما أفاده المصنف قدس‌سره في القسم الثاني من الحقوق ـ وهو ما لا يقبل النقل الى الغير ـ قد ناقشه المحققون من المحشين بوجوه ، بعضها ناظر إلى تنظير الحق ببيع الدين ، وبعضها إلى منع إطلاق قيام الحق بطرفين ، وبعضها الى توقف بيع الدين على وجود من يملك عليه ، فيكون كالحق ، وبعضها إلى أصل تصوير الملكية ـ ولو آنا ما ـ في بيع الدين حتى يترتب عليه السقوط.

فمنها : ما أفاده السيد قدس‌سره تارة : بأنّ تعليل امتناع جعل الحق عوضا بمحذور استحالة

٩٩

.................................................................................................

__________________

المتقابلين أخصّ من المدّعي : الذي هو عدم قابلية الحقوق لوقوعها ثمنا في البيع سواء أكان البائع من عليه الحق أم غيره ، ومحذور الاتحاد يقتضي تخصيص المنع بما إذا انتقل الحقّ إلى من عليه الحق ، لا إلى غيره.

واخرى : بعدم لزوم محذور اتحاد المتقابلين لو انتقل الحق إلى من هو عليه ، لعدم قيامه بشخصين في مثل حقّ الخيار والشفعة ، لكون متعلق الحق في الشفعة عقد الشريك مع المشتري لحصته ، وفي حقّي الخيار عقد من عليه الخيار ، وعليه فلا موضوع لاستحالة اجتماع المتقابلين في شخص واحد.

وثالثة : بأنّ التفرقة بين الملك والحق بجعل الأوّل نسبة والثاني سلطنة غير مجد في تصحيح بيع الدين ممن هو عليه مع اعتبار ترتب الملك على البيع ، وذلك لتوقف الملك في بيع ما في الذمم على مملوك عليه ، إذ لا بدّ من التزام الذمة القابلة للتعهد بالوفاء بالكلّي ، ويعود حينئذ محذور اجتماع المسلّط والمسلّط عليه في واحد ، لفرض لزوم مغايرة المالك للمملوك عليه وتعددهما. وعليه فجعل الملك نسبة اعتبارية غير نافع لحلّ الإشكال في بيع الدين ممن هو عليه (١). هذا.

أقول : أمّا الإشكال الأوّل فتفصيله : أنه إن كان مقصود المصنف قدس سره منع جعل الحق عوضا في البيع مطلقا سواء أكان ممّن هو عليه أم من غيره تمّ ما أفاده السيد قدس سره من الأخصية. وإن كان مقصوده البحث مع صاحب الجواهر ـ القائل بجعل الحق عوضا عن مبيع يبذله من عليه الحق على وجه الاسقاط ـ لم يتّجه عليه هذا الاشكال ، لكون النظر حينئذ مقصورا على ردّ مقالة الجواهر ، فالنقض على المصنف ـ بما إذا كان البيع من غير من عليه الحق ـ في غير محلّه ، لكونه أجنبيّا عن مورد كلام الجواهر ، وإن كان أصل المطلب حقّا.

وبعبارة أخرى : محطّ الاستدلال باستحالة اجتماع المسلّط والمسلّط عليه هو صورة

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٥٧

١٠٠