هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

نعم (١) نسب (٢) إلى بعض الأعيان (٣) الخلاف فيه (٤).

ولعلّه (٥) لما اشتهر في كلامهم من «أنّ البيع لنقل الأعيان».

______________________________________________________

(١) استدراك على نفي البعد عن تحقق الإجماع على وقوع المنفعة ثمنا في البيع ، وحاصله : أنّه نسب الى بعض الأعيان اعتبار كون العوض عينا كالمعوّض ، ومع وجود المخالف في المسألة لا تتجه دعوى نفي الخلاف.

(٢) الناسب هو الفقيه الكبير الشيخ جعفر النجفي في شرحه على بيع القواعد ، قال فيه : «ومنع بعض الأعيان ناش من قول بعض الفقهاء : انه موضوع لنقل الأعيان. وليس إلّا نظير قولهم : الإجارة موضوعة لنقل المنافع».

(٣) وهو الوحيد البهبهاني قدس‌سره في رسالته الفارسية في المعاملات ، قال فيها ما ترجمته : «ومن شرائط البيع كون المبيع والثمن عينا لا منفعة ، إذ البيع انتقال عين بإزاء انتقال عين. وأمّا المنفعة فيمكن انتقالها بعنوان اللزوم بعقد إجارة أو صلح» (١). ووافقه الفاضل النراقي قدس‌سره (٢).

(٤) أي : في جواز كون العوض منفعة.

(٥) أي : ولعلّ خلاف بعض الأعيان ، ومقصوده قدس‌سره توجيه فتوى الوحيد البهبهاني قدس‌سره من اعتبار عينية كلا العوضين ، وهذا التوجيه مذكور في مفتاح الكرامة والجواهر (٣) ، وسبقهما في التنبيه عليه الفقيه الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره. وتوضيحه : أنّه يمكن أن يكون خلاف بعض الأعيان ناظرا إلى ما اشتهر في كلمات الفقهاء «رضوان الله عليهم» في مقام الفرق بين البيع والإجارة «أن البيع نقل الأعيان ، والإجارة نقل المنافع» وعليه لا يصدق مفهوم البيع

__________________

(١) آداب التجارة ، ص ٢٥ ، وهذا نصّ كلامه : واز جملة شرائط بيع آن است كه مبيع وثمن عين باشند نه منفعت ، چه بيع انتقال عين بإزاء انتقال عين است. وأما منفعت پس انتقال آن بعنوان لزوم بعقد إجاره مى‌شود يا صلح.

(٢) مستند الشيعة ، ج ٢ ، ص ٣٧١.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٤٨ ؛ جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٩.

٦١

والظاهر (١) إرادتهم بيان المبيع ، نظير قولهم : إنّ الإجارة لنقل المنافع.

______________________________________________________

إلّا إذا كان كلا العوضين عينا ، فمثل «تمليك كتاب بسكنى دار شهرا» ليس بيعا.

(١) هذا ردّ التوجيه المزبور ، وحاصله : أنّ المراد بهذه الجملة المعروفة بين الفقهاء تعيين حال المعوّض خاصة ، سواء في باب البيع والإجارة ، فمرادهم بوضع البيع لنقل الأعيان هو اعتبار عينية المبيع ، كما أنّ مقصودهم بوضع الإجارة لتمليك المنافع هو اعتبار كون المعوّض منفعة ، من دون نظر الى بيان حال العوض. والشاهد على هذه الدعوى تصريح بعضهم ـ كما تقدم في عبارة قواعد العلامة ـ بجواز كون عوض الإجارة عينا ومنفعة ، فإذا آجر داره سنة للسكنى جاز أن يجعل الأجرة مائة دينار ، كما جاز أن يجعلها خياطة ثوب أو بناء غرفة ، ونحوهما. وهذا كاشف عن كون قولهم : «الإجارة لنقل المنافع» ناظرا إلى المعوّض خاصة ، بلا نظر الى العوض ، فيتعيّن حينئذ أن يراد بقولهم : «البيع لنقل الأعيان» اختصاص المعوّض بالعين ، فالعوض إنّما تعتبر ماليّته سواء أكان عينا أم منفعة أم حقّا ، على خلاف في الأخير سيأتي بيانه.

هذا تمام ما أفاده المصنف في المقام الأوّل مما يتعلق بالعوض ، وصار حاصله : جواز كون المنافع ثمنا في البيع ، إلّا صنفا خاصّا منها وهو عمل الحرّ كما سيأتي (*).

__________________

(*) ما أفاده المصنف قدس‌سره من نفي الاشكال عن كون العوض منفعة لا بدّ أن يكون لصدق «المال» عليها حتى ينطبق عنوان البيع أي «مبادلة مال بمال» على تمليك عين بمنفعة.

ولكنه ينافيه تردّده في مالية المنافع فيما يتعلق بالمقبوض بالعقد الفاسد من قوله تارة : «بعد تسليم كون المنافع أموالا حقيقة» وأخرى : «بناء على صدق المال على المنفعة» وإن كان الصحيح ما اختاره هنا ، من كفاية كون الثمن منفعة ، إذ لا وجه لتخصيص الأموال بالأعيان كما هو ظاهر.

وكيف كان فيمكن الانتصار لمذهب الوحيد البهبهاني قدس‌سره بوجوه اخرى غير ما تقدم

٦٢

.................................................................................................

__________________

في كلامه من كون البيع لنقل الأعيان.

الأوّل : انصراف أدلة البيع الى المتعارف من البيوع المتداولة بين الناس ، من كون الأثمان أعيانا كالدراهم والدنانير ، لا منافع وإن كانت أموالا حقيقة.

وفيه : أن الموجب لانصراف الإطلاق إلى حصة من الطبيعي هو التشكيك في الصدق ، لا مجرد غلبة الوجود. فمع الاعتراف بمالية المنافع كالأعيان ـ وصدق «مبادلة مال بمال» حقيقة على تمليك عين بمنفعة ـ لا وجه للشك في شمول الأدلة له كما هو واضح. نعم لا بأس بهذا الانصراف في مثل أدلة مانعية لبس ما لا يؤكل في الصلاة عن أجزاء الإنسان مع كونه من أفراده.

الثاني : الترديد في صدق «المال» على المنفعة ، إمّا للجمود على ظاهر كلام ابن الأثير وغيره من عدم تسلّم صدقه على المنفعة ، فيتوقف صدق البيع على كون العوضين من الأعيان. وإمّا لأنّ المنافع معدومة حال العقد ، ولا مالية للمعدوم ، كما لعلّه يستفاد من كلام الشهيد قدس‌سره في قواعده من أنّ «مورد الإجارة العين لاستيفاء المنفعة ، لأنّ المنافع معدومة» (١).

وفيه : أنّ المال صادق عرفا على المنافع بل الحقوق أيضا ، فلو شكّ في سعة مفهومه لها لغة كفى التعويل على معناه لدى العرف العام ، مع أنّ ظاهر القاموس تعميم المال للمنافع ، لقوله : «ما ملكته من جميع الأشياء» إلّا أن يدّعى عدم إطلاق الشي‌ء إلّا على الأعيان ، فليتأمّل.

وأمّا مجرد كون المنفعة معدومة فلا يقتضي سلب المالية عنها ، لما تقدم في بيع الكلي من أن المناط في الملكية والمالية وجود مصحّح الاعتبار العرفي أو الشرعي ، لا وجود ذات المال والملك خارجا. وعليه فسكنى الدار مثلا مما يبذل بإزائه المال ويرغب فيه ، ومعه لا وجه لنفي مالية المعدوم ولا ملكيته بقول مطلق.

الثالث : أن المنافع غير مملوكة ، وهو إشكال حكاه المحقق الأصفهاني قدس سره في

__________________

(١) القواعد والفوائد ، ج ٢ ، ص ٢٧٢ ، القاعدة : ٢٦٤.

٦٣

.................................................................................................

__________________

بيعه وإجارته عن بعض أهل الدقة ـ ووافقه بعض الأجلة ـ من المنع عن جعل المتعلق في إجارة الأعيان هو المنفعة ، بل لا بد أن يكون تمليك العين في جهة خاصة. ومحصل الاشكال : أن المقصود من تمليك المنفعة تسليط الطرف المقابل على حيثية من حيثيات العين ذات المنفعة كالدار للسّكنى فيها ، والدابة للركوب عليها. وهذا مما يمتنع تحققه ، لعدم كون السكنى من أعراض الدار حتى تكون مملوكة لمالك الدار بتبعها ، بل هي عرض قائم بالساكن ، وعرض الساكن لو كان مملوكا لكان لموضوعه لا لغيره ، وإذا لم يملكه الموجر فكيف يملكه المستأجر؟

ولأجله لا بد من تعريف الإجارة بأنها «تمليك العين في جهة خاصة في مدة مخصوصة» في قبال البيع الذي هو تمليك العين من جميع الجهات بلا تقيد بجهة ولا مدّة (١).

وهذا الاشكال ـ لو تمّ ـ منع عن تمليك المنفعة وحدها ، بل يتعين تمليك العين في جهة استيفاء منفعتها ، ولا فرق في كون الاستيفاء عرضا قائما بمن يستوفيها ـ لا بالعين التي تقع موردا للإجارة ـ بين جعل المنفعة معوّضا كما في باب الإجارة ، وبين جعلها عوضا كما في البيع. ولا يقدح اختلافهما في قصر السلطنة في الأوّل على حيثية معيّنة من العين ، وشمولها في الثاني لجميع شؤونها ، ووجه عدم الفرق استحالة تمليك المنفعة وحدها.

وأجاب عنه المحقّق الأصفهاني قدس‌سره بمنع مبنى العدول عن تعريف المشهور للإجارة إلى تعريفها بتمليك العين في جهة خاصة. ومحصّل ما أفاده : ـ بتوضيح منّا ـ أنّ سكنى الدار ليست عرضا قائما بالمستأجر خاصة حتى يتوهم عدم مملوكيتها للموجر حتى يمتنع تمليكها للمستأجر ، بل سكنى الدار كما هي مبدأ لعنوان الساكنية المنتزع من ذات الساكن ـ أي المستأجر ـ كذلك هي مبدأ لعنوان المسكونية المنتزع من الدار ، كما هو حال كل عنوانين متضايفين ، فما هو من شؤون الدار وحيثياتها هي حيثية المسكونية ، لا حيثية

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٧ (رسالة الحق) ، كتاب الإجارة ، ص ٥.

٦٤

.................................................................................................

__________________

الساكنية التي هي عرض قائم بالمستأجر. غاية الأمر أن حيثية المسكونية لها نحوان من الوجود.

أحدهما : وجودها الاستعدادي القائم بالدار على حدّ وجود المقبول بوجود القابل كالنطفة والطفل ، وهو في الدار قابليتها للسكنى ، وهذا أمر قارّ غير متدرج في الوجود ، وباق ما دامت الدار باقية على حالها ولم تسقط عن قابلية السكنى فيها.

وثانيهما : وجودها الفعلي أي المنفعة التدريجية ، حيث إنّ فعليّتها تكون بفعلية مضايفها القائم بالمستأجر في مقام الاستيفاء ، ومن المعلوم أنّ متعلق الإجارة هو هذه الحيثية التي تكون من شؤون الدار ، ولا ريب في أن شؤون العين قابلة لعروض الملكية لها بتبع مملوكية العين.

والحاصل : أنّ مورد الإجارة هو حيثية المسكونية الفعلية المضايفة للساكنية الفعلية ، وما هو من أعراض المستأجر حيثية الساكنية ، وليست هي محطّ النظر.

هذا مضافا إلى : أن حقيقة السكنى ـ التي هي مبدأ عنواني الساكنية والمسكونية ـ وإن كانت هي عين الكون في الدار ، وهو عرض لذات الكائن لا للدار ، إلّا أنّ هذا العرض حيث إنه من الأعراض النسبية التي لها نسبة إلى غير موضوعاتها ـ في قبال الأعراض غير النسبية ـ جاز أن يكون زمام أمره بيد مالك الدار ، ولا نعني بالملكية إلّا ذلك.

فتحصّل : أن منافع الأعيان مملوكة بتبع الأعيان ، لكونها من شؤونها وحيثياتها. وعليه فلا وجه للتحاشي عن تعريف الإجارة بتمليك المنفعة.

ولو فرض تسليم الاشكال فتعريفها «بتمليك العين من جهة» لا يجدي في دفع الغائلة ، إذ لو كان معروض الملكية نفس تلك الجهة ـ كالسكنى في الدار ـ لا العين عاد محذور تعلق الملكية بالمنفعة. ولو كان معروضها نفس العين المخصّصة بجهة بما هي مقيّدة بها لزم اجتماع ملكين استقلاليين على عين واحدة. وتقيّد مملوكيتها للمستأجر بجهة ، وإطلاقها للموجر لا يوجب تعدد الموضوع. ودعوى خروجها عن ملك الموجر موقّتا ، وصيرورتها ملك

٦٥

.................................................................................................

__________________

المستأجر خاصة فلا يلزم اجتماع مالكين على عين واحدة ، ممنوعة ، للقطع بمشروعية التصرفات المالكية فيها للموجر من بيعها وهبتها وسائر الآثار المترتبة على ملك الموجر لها غير المزاحمة لانتفاع المستأجر بها. وكلّ ذلك دليل على بقاء الرقبة على ملك الموجر (١).

ونتيجة هذا البحث : أنّ المنع عن وقوع المنافع عوضا في البيع ومعوّضا في الإجارة ممّا لا وجه له ، لا من جهة التشكيك في ملكية المعدوم ، ولا في مالية المنفعة.

ولو انتهى البحث الى الشك في صدق المال على المنفعة لزم الاقتصار على القدر المتيقن من مفهوم البيع وهو عينية كلا العوضين ، لكون الشبهة مفهومية ، وفي مثلها لا مجال للتمسك لنفيه بإطلاق ما دلّ على حلية البيع ـ كما في بعض الكلمات ـ لكون الشك في موضوع الدليل حسب الفرض.

نعم لا بأس بالتمسك لصحة هذه المعاوضة بما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود ، وبحليّة الأكل بالتجارة عن تراض ونحوهما من العمومات ، وإن لم يترتب عليها الأحكام المختصة بالبيع.

هذا بناء على عدم كون عنوان «العقد» مشيرا إلى خصوص العقود المتعارفة في عصر التشريع ، وإلّا امتنع التمسك بالآية أيضا لمشروعية تمليك العين بالمنفعة ما لم يحرز التّعارف في ذلك العصر. إلّا أنّ الحمل على المشيرية مخالف لظهور العناوين المأخوذة في الخطابات في الموضوعية ، كما هو ظاهر.

هذا كله فيما يتعلق بجعل المنفعة عوضا ، وسيأتي الكلام في المقام الثاني وهو عمل الحر.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٧ و ٨ (رسالة الحق) ؛ كتاب الإجارة ، ص ٥.

٦٦

وأمّا (١) عمل الحرّ

______________________________________________________

جواز وقوع عمل الحرّ ثمنا في البيع

(١) استدراك على قوله : «وأمّا العوض فلا إشكال في جواز كونه منفعة» وعمل الحرّ وإن كان صنفا من طبيعيّ المنفعة ، إلّا أنّ وجه إفراده بالبحث هو الشبهة في ماليّته ، بخلاف سائر المنافع التي لا ريب في ماليّتها. وقد أشرنا إلى أنّ الثمن إمّا أن يكون عينا أو منفعة أو عمل حرّ أو حقّا ، وتقدم الكلام في مطلق المنفعة ، وجواز وقوعه عوضا ، ويقع الكلام في المقام الثاني وهو استثناء عمل الحرّ عن حكم كلّي المنفعة ، للشك في صدق مفهوم «المال» عليه.

وتوضيح ما أفاده المصنف قدس‌سره : أنّ منفعة الآدمي ـ التي يقصد جعلها ثمنا في البيع ـ إمّا أن تكون خدمة مملوك ، وإمّا أن تكون عمل حرّ ، والثاني إمّا أن تقع المعاوضة عليه قبل البيع ، وإمّا لا ، فالأقسام ثلاثة :

الأوّل : أن تكون المنفعة عمل مملوك كما إذا أراد السيّد شراء كتاب وجعل ثمنه خدمة مملوكه يوما ، ولا شبهة في صحة هذا البيع ، لكون الثمن مالا مملوكا بتبع ملك رقبته ، ومن المعلوم سلطنة السيّد على أنحاء التصرفات المشروعة في ماله ، ومنها جعل عمل عبده أو أمته ثمنا في شراء سلعة.

الثاني : أن تكون المنفعة عمل حرّ قد عومل بها ، كما إذا آجر زيد نفسه لخياطة ثوب عمرو بدينار ، وصارت الخياطة مملوكة للمستأجر في ذمة أجيره ، فإذا اشترى المستأجر كتابا من بكر صحّ جعل عوضه الخياطة التي يملكها في ذمة زيد ، وتصير مشغولة حينئذ لبكر بعد ما كانت مشغولة لعمرو. والوجه في الصحة كون هذه المنفعة الخاصة مالا مملوكا للمستأجر ، ولا يعتبر في البيع إلّا صدق «مبادلة مال بمال» والمفروض تحققه في عمل الحرّ بعد وقوع معاوضة عليه بإجارة أو صلح.

الثالث : أن تكون المنفعة عمل حرّ وأريد جعله ثمنا في البيع ابتداء من دون سبق معاوضة عليه ، وهذا هو مورد البحث فعلا ، كما إذا اشترى الحرّ الكسوب كتابا وجعل ثمنه

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

خياطة ثوب ، بأن يقول البائع : «بعتك كتابي بخياطة هذا الثوب» وقبله المشتري. وفي صحة هذا البيع وجهان أحدهما الصحة ، والآخر البطلان.

ووجه الأوّل : انطباق تعريف البيع عليه ، إذ المراد بالمال كل ما يتنافس العقلاء عليه ويبذلون بإزائه شيئا ، عينا أم منفعة أم عمل حرّ أم خدمة عبد ، ومن الواضح صدق المال على عمل الحرّ كخياطته ونجارته سواء وقعت معاوضة عليه أم لم تقع ، فالمناط كون العمل في حدّ نفسه مما يرغب فيه النوع. ولولاه لزم بطلان إجارة عمل الحرّ ، لوضوح اعتبار مالية المنفعة في باب الإجارة أيضا ، مع أنّه لا ريب في صحتها. ومن المعلوم أن وزان الإجارة وزان البيع في مبادلة الأموال ، غايته أن هذا يفيد تمليك الأعيان ، وتلك تفيد تمليك المنافع.

ووجه الثاني : ـ وهو البطلان ـ احتمال اعتبار مالية العوضين ـ في حدّ ذاتهما ـ قبل ورود البيع عليهما ، لظهور تعريف المصباح في وقوع المبادلة بين شيئين اتّصفا بالمالية مع الغض عن المعاوضة ، ومن المعلوم أن عمل الحرّ ـ قبل المعاوضة عليه بإجارة أو صلح ـ ليس مالا ، بل ماليته تتوقف على المعاوضة عليه ، فالخيّاط بمجرد معرفته بالخياطة ليس ذا مال ، وإنّما يصير كذلك إذا ملّك عمله للغير بعوض.

ويكشف عن عدم مالية عمل الحرّ ـ في حد ذاته ـ ما ذكروه في مسائل :

الأولى : في الاستطاعة المالية للحج ، حيث لا يعدّ الكسوب المحترف مستطيعا من ناحية كسبه وصنعته ، وتتوقف استطاعته المالية على أن يؤجر نفسه للغير ـ قبل الحج ـ بما يفي بمئونة حجه ، فلو خرج مع الرّفقة ولا يجد ما يحجّ به لا يجب عليه أن يؤجر نفسه في الطريق بما يكفي لنفقته ، لأنّه تحصيل للاستطاعة ، ومن المعلوم عدم وجوب تحصيلها. ولو كان نفس عمل الحر وصنعته مالا ـ سواء آجر نفسه للغير أم لا ـ لكان مستطيعا قبل الإجارة وواجدا لما يحجّ به ، ووجب عليه إجارة نفسه مقدمة لأداء الحج الواجب عليه.

٦٨

فان قلنا (١) إنّه قبل المعاوضة عليه (٢) من الأموال فلا إشكال ، وإلّا (٣)

______________________________________________________

الثانية : في ضمان حابس الحرّ الكسوب لمنافعه الفائتة منه في الحبس ، حيث فصّلوا بين كون المحبوس أجيرا لغيره ـ قبل الحبس ـ فيضمنها الحابس ، وبين عدم كونه أجيرا فلا يضمنها. ولو كان ذات عمله ومنفعته متصفة بالمالية لزم تغريم الحابس مطلقا ، ولم يبق وجه للتفصيل المزبور.

الثالثة : في حجر المفلّس ، حيث إنه محجور بالنسبة إلى أمواله ، لتعلق حق الغرماء بها ، وليس محجورا بالنسبة إلى أعماله. ولو كانت أعماله أموالا لكان محجورا بالنسبة إليها أيضا.

والحاصل : أن الترديد في صدق المال على عمل الحرّ ـ قبل المعاوضة عليه ـ يكفي في المنع عن جعله عوضا في البيع ، ولا يلزم الجزم بعدم ماليّته ، لوضوح مانعية الشك في المالية عن التمسك بإطلاق أدلة الإمضاء ، لكونه من الشك في موضوع الدليل.

هذا توضيح كلام المصنّف قدس‌سره في عمل الحرّ. ومحصله : عدم صلاحية عمل الحر لوقوعه ثمنا في البيع ، وذلك لمقدّمتين :

الاولى : عدم كون عمله في حدّ نفسه مالا ، والبيع مبادلة بين مالين.

ثانيتهما : أنّه يعتبر مالية العوضين قبل البيع ، ولا يكفي اتصاف عمل الحرّ بالمالية بنفس البيع.

وقد ظهر مما ذكرناه وجه تقييد العمل بكونه عمل الحرّ ، وهو الاحتراز عن عمل العبد ، فإنّه مال مملوك لمولاه بلا ريب كما تقدم.

(١) هذا وجه تصحيح جعل عمل الحرّ ـ كسائر المنافع ـ ثمنا في البيع ، وكأنّه قال : «وأما عمل الحر ففيه وجهان فان قلنا ..» وكيف كان فقد عرفت توضيح وجه الصحة بقولنا : «ووجه الأوّل انطباق تعريف البيع عليه .. إلخ».

(٢) هذا الضمير وضمير «انه» راجعان الى عمل الحرّ.

(٣) أي : وإن لم نقل بكون عمل الحر مالا في حد نفسه ـ بل تتوقف ماليته على المعاوضة عليه ـ أشكل وقوعه ثمنا في البيع. وقد عرفت وجه الاشكال بقولنا : «ووجه الثاني ـ

٦٩

ففيه (١) إشكال ، من حيث احتمال اعتبار كون العوضين في البيع مالا قبل المعاوضة (٢) ، كما يدلّ عليه (٣) ما تقدّم عن المصباح (*).

______________________________________________________

وهو البطلان ـ احتمال اعتبار ..».

(١) أي : ففي جواز كون عمل الحرّ عوضا في البيع إشكال ، منشؤه احتمال اشتراط البيع بمالية العوضين ذاتا ، لا حدوث المالية لهما أو لأحدهما بالبيع.

(٢) أي : قبل المعاوضة البيعية ، يعني : سواء استؤجر على عمله قبل البيع أم لم يستأجر عليه ، فليس المراد بكلمة «المعاوضة» هنا مطلق المعاملة ، إذ لو آجر الحرّ نفسه لخياطة ثوب فقد صحّ أنه عاوض على عمله ، فيقع عمله المملوك للمستأجر عوضا عن المبيع.

(٣) أي : على اعتبار كون العوضين مالا قبل إنشاء البيع. ووجه دلالة تعريف المصباح عليه هو : أن «مبادلة مال بمال» مؤلّفة من موضوع ومحمول ، فالموضوع هو المالان ، والمحمول هو المبادلة بينهما ، ولا ريب في ظهور التعريف في وقوع المبادلة بين المالين الفعليين ، لا بين ما سيصير مالا بنفس البيع ، ولو فرض عدم هذا الظهور كان نفس الشك في الموضوع كالقطع بانتفائه في عدم جواز التمسك بدليل الإمضاء.

__________________

(*) لا يخفى ظهور المتن في أن المراد بعمل الحرّ هو فعله بمعناه المصدري كما مثّلنا له بالخياطة ونحوها من الحرف ، كما أنّ منشأ تردّد المصنف قدس‌سره في كونه عوضا في البيع هو عدم اتصافه بالمالية قبل المعاوضة عليه ، لا عدم كونه ملكا.

وقد يقال : إنّ المقصود من العمل معناه الاسم المصدري ، وهو أثره ككون الثوب مخيطا ، وتوضيحه : أن المالية صفة وجودية تنتزع من الموجود ، وفعلية الأمر الانتزاعي وشأنية منشئه غير معقولة ، والعمل المتصف بالمالية بعد المعاوضة عليه هو الأثر ، ضرورة كون العمل قبل الشروع فيه وبعد الفراغ منه معدوما ، وهو في حال التلبس به معدوم أيضا بمقتضى تدرجه في الوجود وعدم كونه قارّا ، والمعدوم ليس بمال. فما يقبل الاتصاف بالمالية

٧٠

.................................................................................................

__________________

هو أثره المحسوس كالخياطة والصباغة ، وهذا بخلاف ما لا يبقى أثره كصلاة الأجير وصومه ، فإنّ صدق المال عليه مشكل ، هذا ما قيل.

لكنك خبير بإمكان اتصاف المعدوم بالمالية والمملوكية ، كما في الكلي المبيع ، والثمن في النسيئة ، والمنفعة المتدرجة الوجود في باب الإجارة. ولو سلّم قيامهما بالموجود العيني لا الاعتباري لم يكن وجه لصرف العمل عن معناه الحدثي إلى أثره بعد ظهور الكلام بل صراحته في إرادة جعل العمل ـ بما هو صنف من طبيعي المنافع ـ عوضا في البيع ، ومن المعلوم كون المنفعة متصرّمة الوجود لا قرار لها ، ولازمه الالتزام بمنع مالية مطلق المنافع ، لا خصوص عمل الحرّ ، وهو كما ترى.

ثم إنّ الاشكال في عمل الحرّ كما ينشأ من الترديد في ماليته أو الجزم بعدمها ، فكذا ينشأ من انتفاء ملكيته ، لعدم كونه مضافا إليه بإضافة الملكية الاعتبارية ، مع أنّ البيع مبادلة المالين في الملكية ، ويظهر من بعض أهل النظر حمل المتن ـ من الشك في المالية ـ على انتفاء الملكيّة بين الحرّ وعمله ، وإن كان هذا التنزيل خلاف الظاهر جدّا.

وكيف كان فالمسألة ذات وجوه :

أحدها : كون عمله مالا مطلقا سواء أكان قبل المعاوضة عليه أم بعدها ، كما يظهر من تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره (١).

ثانيها : عدمه كذلك.

ثالثها : التفصيل بين وقوع المعاوضة عليه وعدمه كما في المتن.

رابعها : التفصيل بين عمل الكسوب وغيره كما مال إليه السيد قدس‌سره (٢).

ولا يبعد أن يقال بمالية عمله مطلقا ، لصدق حدّ المال عليه من «كونه شيئا يبذل بإزائه المال» أو «شيئا يدّخر لوقت الضرورة والحاجة» أو «شيئا يجري فيه الشّح» فعمل الحرّ كعمل

__________________

(١) المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ٩٢

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٥٥

٧١

.................................................................................................

__________________

العبد في الرغبة والنفع والأثر ، فكما لا تكون المعاملة على خدمة العبد سفهية ، فكذا على عمل الحرّ ، ولذا يصحّ جعله صداقا في النكاح ، وأخذ العوض بإزائه في الإجارة والصلح.

والجزم بعدم ماليته قبل المعاوضة عليه أو الشك فيها إمّا أن يكون لاختصاص المال بالأعيان ذوات المنافع ، وإمّا أن يكون لتقوّم مالية الشي‌ء بوجوده فعلا لا قوّة. وكلاهما ممنوع كما مرّ آنفا ، وفي بحث جعل مطلق المنفعة عوضا في البيع.

بل يمكن الالتزام بصحة وقوعه عوضا في البيع ـ قبل المعاوضة عليه ـ مع اعتبار مالية العوضين ، لكفاية ماليّته بنفس البيع كما تقدّم في تصوير الملكية الآنامّائية في بيع الكلّي سلفا ونحوه.

وأما إشكال عدم تملك الإنسان لعمل نفسه بالملكية الاعتبارية ففيه : ـ بعد تسليم اعتبار الملكية بهذا المعنى في صحة المعاوضة ـ أنّ البيع مبادلة مال بمال ، لا مبادلة مال مملوك بمثله ، بشهادة جواز بيع الوقف عند طروء المسوّغ ، وشراء الحاكم الشرعي آلات البناء للمساجد مثلا بسهم سبيل الله ، مع أنه ليس ملكا لأحد.

وعليه فلا مانع من جعل عمل الحرّ عوضا في البيع بعد صدق المال عليه عرفا.

وأمّا ما تقدم في التوضيح ـ من الاستشهاد على عدم مالية عمله قبل المعاوضة عليه بمسألة الاستطاعة وضمان الحابس ونحوهما ـ فلا ينفي ماليته ، بل مالكيته لعمله بالملكية الاعتبارية العقلائية.

توضيحه : أمّا الاستطاعة فلأنّها ـ كما يظهر من أخبارها ـ منوطة بوجدان نفقة الحج فعلا من الزاد والراحلة ونحوهما من المؤن ، وعدم كفاية مجرّد التمكن من تحصيلها ، ففي معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام تفسير السبيل بقوله عليه‌السلام : «أن يكون له ما يحجّ به» (١) وفي معتبرة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في تفسير آية الاستطاعة : «من كان صحيحا في بدنه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٢٢ ، كتاب الحج ، الباب ٨ من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، الحديث : ٣.

٧٢

.................................................................................................

__________________

مخلّى سربه ، له زاد وراحلة» (١) ونحوهما غيرهما (٢) ، وظهور اللام في الملك مما لا ينكر ، ومن المعلوم أنّه لا يصدق على أرباب الأعمال ـ قبل المعاوضة عليها ـ أنّهم مالكون للأموال. وإضافة العمل الى الحرّ ليست كإضافة الكتاب الى زيد اعتبارا في «كتاب زيد» بل من إضافة العرض الى موضوعه في القيام به تكوينا. نعم للحرّ سلطنة على تمليك عمله للغير ، لكونها ـ كما أفيد ـ من مراتب سلطانه على النفس بجميع شؤونها.

فان قلت : إنّ مقتضى نصوص الاستطاعة وإن كان ملك الزاد والراحلة فعلا ، وعدم كفاية القدرة على تحصيلها في وجوب الحج ، إلّا أنّ الحرّ الكسوب وذا الصنعة ممّن يستطيع الحج أيضا ، وذلك لأنّ الأخبار المفسّرة للاستطاعة كما ورد فيها ما يكون ظاهرا في ملك النفقة فعلا كقوله عليه‌السلام : «له ما يحج به» كذلك ورد فيها كفاية وجدان المؤن ، كما في رواية حذيفة بن منصور عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «انّ الله عزوجل فرض الحجّ على أهل الجدة ..» (٣).

ومادة الوجود والوجدان وإن كانت ظاهرة في حصول الشي‌ء فعلا ، فهي مساوقة لقوله عليه‌السلام : «له ما يحج به». إلّا أنّ هذا المضمون ورد أيضا في نصوص زكاة الفطرة الظاهرة في حصر المكلّفين في صنفين ، أحدهما من يجب عليه أن يزكّي وهو «الواجد والغني وذو المرّة» ، وثانيهما من لا يجب عليه ذلك ، وهو «الفقير ومن لا يجد».

ففي رواية عبيد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما‌السلام : «قال : ليس على من لا يجد ما يتصدّق به حرج» (٤). وفي رواية الفضيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : قلت له : لمن تحلّ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٢٣ ، الباب ٨ من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، الحديث : ٧.

(٢) المصدر ، الحديث : ١ و ٤ و ٩.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ١١ ، الباب ٢ من أبواب وجوب الحج وشرائطه ، الحديث : ٢ ، ونحوه الحديث ٤ و ٥.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٢٢٣ ، الباب ٢ من أبواب زكاة الفطرة ، الحديث : ٢.

٧٣

.................................................................................................

__________________

الفطرة؟ قال : لمن لا يجد ، ومن حلّت له لا تحلّ عليه ، ومن حلّ عليه ، لم تحلّ له» (١).

وظاهرهم حمل الوجدان على التمكن والقدرة على تحصيل المال ، لا مالكيّته فعلا ، قال السيد قدس‌سره في العروة : «وكذا لا يجوز ـ يعني أخذ الزكاة ـ لمن كان ذا صنعة أو كسب يحصّل منهما مقدار مئونته» (٢) ومقتضاه عدم كون الحرّ المحترف فقيرا مستحقا للزكاة ، بل هو غني بمجرّد تمكنه من الكسب وإعمال صنعته ، وأنّ فقده للنقد ليلة العيد لا يقدح في غناه وواجديته لما يتصدّق به ، ولا يوجب فقره واستحقاقه للزكاة.

وعليه فليكن المراد من الوجدان في نصوص الاستطاعة المالية مجرّد القدرة على تحصيل الزاد والراحلة ، لا مالكيتهما فعلا بملك النقد والثمن.

والحاصل : أنه لا وجه للتفكيك بين الاستطاعة والزكاة ، فإمّا أن يراد من كلمة «يجد» في المقامين فعليّة المال ، التي مقتضاها عدم وجوب الزكاة على الكسوب ، بل هو مستحق لها ، وإمّا أن يراد منها في المقامين ما يعمّ القدرة على التحصيل ، ولازمه وجوب الحجّ على الكسوب الفاقد للنقود ، القادر على تحصيلها بالعمل في الطريق.

قلت : لا منافاة بين المقامين ، لأنّ «الجدة والوجود والوجدان» وما يشتق منها غير ظاهرة في الغنى وإصابة المال فعلا ، بل قد يراد بها ذلك وقد يراد بها اليسار والتمكن ، والتعيين منوط بالقرينة. وكذلك وردت في اللغة ، ففي اللسان : «التهذيب : يقال : وجدت في المال ـ وجدا ووجدا ووجدا ووجدانا وجدة أي : صرت ذا مال .. والوجد .. اليسار والسعة» (٣). وفي المفردات : «ويعبّر عن التمكن من الشي‌ء بالوجود ، نحو : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، أي : حيث رأيتموهم .. فلم تجدوا ماء : فمعناه : فلم تقدروا على الماء ، وقوله : من وجدكم أي :

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٢٢٤ ، الحديث ٩.

(٢) العروة الوثقى ، ج ٢ ، ص ٣٠٦ ، كتاب الزكاة ، الفصل السادس في أصناف المستحقين.

(٣) لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٤٤٥.

٧٤

.................................................................................................

__________________

تمكنكم وقدر غناكم ، ويعبّر عن الغنى بالوجدان والجدة ، وعن الضالّة بالوجود ..» (١).

وفي بعض أخبار التيمم تفسير وجدان الماء بالتمكن منه ولو بالشراء مع عدم إصابته فعلا ، كرواية الحسين بن أبي طلحة عن العبد الصالح عليه‌السلام : «قال : فان لم تجدوا بشراء وبغير شراء» (٢) فالقدرة على تحصيل الماء بالشراء وجدانه حقيقة.

والحاصل : أن هذا المبدأ يستعمل تارة في حضور الشي‌ء فعلا والقدرة الفعلية على التصرف فيه ، واخرى في التمكن من تحصيله مع فقده فعلا. ويتوقف استظهار كلّ منهما على قرينة معيّنة.

وعليه فلا وجه لجعل نصوص الاستطاعة وزكاة الفطرة من باب واحد ، لفرض إجمال مادة الوجدان والوجود ، واحتمال إرادة اليسار والغنى الفعليين ، وإرادة القدرة على تحصيله. ومن المعلوم أنّ النصوص المشتملة على «لام» الملك كقوله عليه‌السلام : «له ما يحج به» ظاهرة جدّا في إصابة المال والقدرة الفعلية على التصرف فيه ، وعدم كفاية التمكن من تحصيله ، فتكون قرينة على المراد من «الجدة» في الأخبار المشتملة عليها. ولذا قال السيد قدس‌سره في باب الاستطاعة : «إذا لم يكن عنده الزاد ، ولكن كان كسوبا يمكنه تحصيله بالكسب في الطريق لأكله وشربه وغيرهما من بعض حوائجه هل يجب عليه أو لا؟ الأقوى عدمه ، وإن كان أحوط» (٣).

وهذا بخلاف باب زكاة الفطرة ، إذ لم يرد فيها ما يصرف اللفظ عن ظهوره في التمكن من التحصيل ، ولذا أفتوا بعدم كون الكسوب مستحقا للزكاة لكونه ممّن يجد المال.

والحاصل : أن عمل الحرّ وإن كان مالا عرفا ، إلّا أنّه لا يوجب الاستطاعة ، من جهة اعتبار وجدان المال فعلا فيها ، إمّا بملك أو بإباحة كما في الحج البذلي.

وأما فرع ضمان حابس الحرّ ظلما لما فات من منافعه عنه في الحبس ، فتفصيله : أنّ في

__________________

(١) مفردات ألفاظ القرآن ، ص ٥١٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٢ ، ص ٩٩٨ ، الباب ٢٦ من أبواب التيمم ، الحديث : ٢.

(٣) العروة الوثقى ، ج ٢ ، ص ٤٣٠ ، كتاب الحج ، الفصل ٢ (شرائط وجوب الحج) الشرط الثالث ، المسألة : ٥.

٧٥

.................................................................................................

__________________

المسألة قولين :

أحدهما : ـ وهو المشهور بل المدّعى عليه الإجماع ـ عدم ضمان منافعه.

وثانيهما : الضمان ، ذهب إليه المحقق الأردبيلي (١) ، ووافقه جمع من أعيان الفقه كالوحيد البهبهاني والسيد الطباطبائي.

قال في الشرائع : «ولو حبس صانعا لم يضمن أجرته ما لم ينتفع به ، لأنّ منافعه في قبضته» (٢). وعلّق عليه صاحب الجواهر قدس‌سره بقوله : «فضلا عن غير الصانع ، بلا خلاف أجده فيه. بل في الكفاية : هو مقطوع به في كلام الأصحاب ، وإن عبّر في التذكرة بلفظ الأقوى مشعرا باحتمال الضمان فيه. بل في مجمع البرهان : قوة ذلك ، لقاعدة نفي الضرر مع كونه ظالما وعاديا ، فيندرج في قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) و (جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) وغيرهما مما دلّ على المقاصّة والعقاب بمثل ما عوقب به ، فالضمان حينئذ لذلك ، لا للغصب الذي لا يقتضيه باعتبار عدم كون المغصوب مالا تتبعه منافعه ولو شرعا في الدخول تحت اليد واسم الغصب وغيرهما. وحكاه في الرياض عن خاله العلّامة في حواشيه عليه ، حيث قال : إن ثبت إجماع على ما ذكره الأصحاب ، وإلّا فالأمر كما ذكره الشارح ، ومال إليه في الرياض ، حيث يكون الحابس سببا مفوّتا لمنافع المحبوس .. إلخ» (٣).

والمستفاد منه أنّ في المسألة قولين كما تقدم بيانه. والمهمّ صرف النظر إلى أدلتهما ، فنقول : يمكن أن يستدل على الضمان بوجوه :

الأوّل : ما في كلام المحقق الأردبيلي قدس‌سره من الآيات الدالة على جواز الاعتداء بمثل ما اعتدى ، وجواز سيئة سيئة مثلها ، وجواز القصاص بالعقاب بمثل ما عوقب به ، بتقريب : أن

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥١٣.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٣ ، ص ١٨٥.

(٣) جواهر الكلام ، ج ٣٧ ، ص ٣٩.

٧٦

.................................................................................................

__________________

حبس الحرّ ظلما اعتداء عليه وعقاب وسيئة ، فيجوز المقاصّة والعقاب بمثل ما عوقب به (١). هذا.

لكن الظاهر أنّ الحكم الوضعي ـ أعني به الضمان ـ أجنبي عن مساق الآيات ، لكون العقاب بالمثل عبارة عن إيجاد عمل مماثل لما عوقب به ، ومن المعلوم أنّ العقاب بالمثل هو الحبس ونحوه من الاعتداء الذي وقع عليه.

إلّا أن يقال : بصحة إطلاق العقاب والسيّئة على كلّ من الحرمة الوضعية والتكليفية ، لأن كلّا منهما سيّئة واعتداء ، وعليه فالحابس ضامن ، لكون ضمانه مماثلا لحبسه.

الثاني : ما في كلامه أيضا من الاستناد إلى قاعدة نفي الضرر ، فإنّ تفويت المنفعة بلا تدارك ضرر منفيّ في الشريعة المقدّسة ، وهو أيضا مفروض فيما إذا كان الضرر مسبّبا عن الحبس ، كتسبب الضرر عن استعمال الماء في الوضوء.

إلّا أن يقال : إنّ المقام من عدم النفع ، لا الضرر الذي هو النقص ، فلا يصح التمسك بقاعدة الضرر لإثبات الضمان.

وأمّا منع جريانها في أمثال المقام بدعوى : «أنّها نافية للأحكام التي ينشأ منها الضرر كوجوب الوضوء ولزوم العقد ، وعدم الضمان ليس حكما شرعيا حتى تجري فيه القاعدة» فغير مسموع ، لأنّ العدم غير القابل للرفع بالقاعدة هو العدم الواقعي كعدم الوجوب وعدم الحرمة ، لانتفاء الجعل الشرعي ، وأمّا عدم الحكم إنشاء كأن يقول الشارع : «لا يجب أو لا يحرم» فهو لكونه مجعولا شرعيا تجري فيه الأحكام الثانوية ، لوضوح كون الأعدام بعد التشريع مجعولة ولو بالإمضاء ، فإبقاء الشارع لها جعلها بقاء لا إخبار ببقاء الأعدام الواقعية على حالها كما زعمه بعض. وهذا المقدار من الجعل كاف في نفيها بالقاعدة الامتنانية التي تقتضي حكومتها تقييد إطلاق كل ما يصح أن ينسب الى الشارع. ومن المعلوم أنّ الحكم بعدم ضمان المنافع الفائتة في الحبس ضرر على الحرّ الكسوب الذي لو لا حبسه لكان يعوّضها بالمال.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥١٣.

٧٧

.................................................................................................

__________________

وعليه فالشبهة المانعة عن جريان القاعدة هنا هو كون الفائت منفعة ، ولا يصدق «النقص» الذي هو المناط في جريانها.

وإن أمكن الخدشة فيه باختلاف الموارد ، فقد يكون المحبوس ثريّا بحيث يعدّ الفائت منه مدة حبسه منفعة ، ولا يبدو نقص في أمواله أصلا. وقد لا يكون كذلك ، بل عليه العمل في كل يوم لإعاشة عياله بحيث يلزمه الاستدانة مدة حبسه للإنفاق عليهم ، فإنّه لا ريب في صدق النقص عليه حينئذ ، ولا مانع من جريان القاعدة في حقه.

الثالث : قاعدة التفويت أعني بها المنع عن الوجود ، فإنّ الحبس يمنع عن وجود المنفعة ، فيضمنها الحابس. وهذا يفرض فيما لو كان فوات المنفعة مسبّبا عن الحبس ، لا عن تساهل المحبوس ، كما إذا حبسه الظالم في مكان يمكنه العمل فيه ، لكنه أهمل ولم يعمل باختياره وإرادته ، لا لمانعية الحبس عن عمله ، لأنّ التفويت إيجاد المانع عن الوجود ، وعنوان المانع لا يصدق إلّا بعد وجود المقتضي ـ وهو إرادة الوجود ـ إذ العدم يستند إلى أسبق علله أعني به عدم المقتضي ، لا إلى وجود المانع ، ولذا لا يصحّ أن يستند عدم احتراق الثوب مثلا إلى الرطوبة مع عدم وجود النار ، بل يستند إلى عدم المقتضي له كما لا يخفى.

وقد ظهر أنّ المناط في ضمان المنافع الفائتة هو صدق التفويت أي المنع عن الوجود ، في قبال قاعدتي الاستيفاء الذي هو استخراج المنافع من القوة إلى الفعل ، والإتلاف الذي هو إعدام الموجود ، هذا.

ولا يخفى أنّهم عبّروا ـ في قبال فوت منافعه في الحبس ـ تارة بالانتفاع كما في الشرائع ، واخرى بالاستخدام كما في الإرشاد ، وثالثة بالاستعمال كما في شرحه للمحقق الأردبيلي (١) ، ورابعة بالاستيفاء كما في التذكرة ، والكل صحيح.

لكن في عبارة التذكرة مسامحة ، حيث قال : «منفعة الحرّ تضمن بالتفويت لا بالفوات ..» (٢) ثم فسّر التفويت بالاستيفاء والاستعمال ، والفوات بمجرد عدم تحقق المنفعة.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥١٣.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٢.

٧٨

.................................................................................................

__________________

والظاهر أنّ هذا مجرد اصطلاح ، وإلّا فظاهر التفويت هو الفوت المستند الى قاهر خارجي ، بخلاف الفوت الظاهر في عدم المقتضي لوجود المنفعة ، والأمر سهل.

الرابع : ما أفاده سيّدنا الخويي قدس‌سره من السيرة العقلائية القطعية على تضمين مانع الحرّ الكسوب عن عمله بحيث لولا منعه عنه لكان يكتسب المال (١).

والظاهر استقرار سيرتهم على التغريم وعدم اقتصارهم على مجرّد اللّوم والتوبيخ ، فالمناقشة في أصل السيرة لا تخلو من مكابرة. إنّما الكلام في الإمضاء. ولا يبعد كونها من السّير المرتكزة عندهم مرّ الأعصار ، من حيث كون الإنسان مدنيّا بالطبع مع الغضّ عن تديّنه بشريعة ، وليست من السّير الحادثة بعد عصر التشريع حتى يدّعى توقفها على الإمضاء ، بل الردع عنها منوط بالبيان ، وحيث لا رادع شرعا عنها فهي ممضاة ، مضافا الى وفاء الأدلة المتقدمة بإمضائها.

نعم لو نوقش في الأدلة المتقدمة وتمّ الإجماع المتضافر نقله في الكلمات على عدم الضمان أمكن جعله رادعا عن هذا البناء العملي. لكن الاعتماد عليه مشكل كما سيأتي.

هذا كله في أدلة الضمان ، وقد ظهرت تماميتها في نفسها لولا وجود المعارض وهو الدليل النافي للضمان.

ويستدل على عدم الضمان ـ كما في الجواهر ـ تارة بنفي الخلاف ، بل دعوى قطع الأصحاب بذلك كما في كفاية الفاضل السبزواري قدس‌سره من قوله : «والمقطوع به في كلام الأصحاب أنّه لو حبس صانعا حرّا مدّة لها اجرة لم يضمن أجرته ما لم يستعمله ، لأنّ منافعه في قبضته» (٢). ونحوه كلام العلامة في التذكرة.

واخرى : بأن منافعه تابعة لما لا يصحّ غصبه ، فأشبهت ثيابه وأطرافه.

وثالثة : بأنّ منافعه في قبضته ، لأنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد المضمّنة ، فمنافعه تفوت

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٣٦.

(٢) كفاية الأحكام ، ص ٢٥٥ ؛ تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٣٨٢.

٧٩

.................................................................................................

__________________

تحت يده ، فلم يجب ضمانها ، بخلاف الأموال ، هذا.

والظاهر رجوع هذا الوجه الى سابقه ، لأنّ تبعية المنافع لما لا يصح غصبه ـ كالحرّ ـ تستلزم كون المنافع تحت قبضة نفس الحرّ ، هذا.

وكيف كان ففي الوجوه المتقدمة ما لا يخفى. أمّا الإجماع ففيه : أنه لا عبرة به حتى لو سلّم اتفاق الكلّ على الفتوى ، لكونه معلوم المدرك ، وذلك لتعليل عدم الضمان في كلام المجمعين بمثل «لأنّ منافعه في قبضته» أو «لأنّ الحرّ لا يدخل تحت اليد». ومن المعلوم ظهور التعليل في أنّ المتفق عليه ليس عدم ضمان منافع الحرّ بعنوانه ، بل المجمع عليه كبرى عدم ضمان ما لم يقع تحت اليد ، فطبّق هذا العموم على منافع الحرّ. ولا ريب في أنّ مثله غير مجد ، إذ لا يستند القائل بالضمان إلى قاعدة اليد حتى توجب المناقشة في الضمان اليدي إنكار أصل الضمان المستند إلى وجوه اخرى. ولذا ذهب المحقق الأردبيلي قدس‌سره الى الضمان ، لجواز الاعتداء على الظالم بمثل ما اعتدى ، ولدفع الضرر ونحوهما ، مع اطلاعه على كون المسألة اتفاقية بينهم ، لقوله : «ولعلّهم ليس لهم خلاف فيه» (١).

والحاصل : أنّ حجية الإجماع تتوقف على كشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام أو عن حجة معتبرة ، والمفروض استناد المجمعين في المقام الى قصور حديث «على اليد» عن شموله للمنافع ، ومن المعلوم عدم منافاته لما إذا قيل بالضمان بدليل آخر غير اليد.

وأما الوجه الثاني ـ وهو تبعية المنافع لما لا يصح غصبه ـ ففيه : أنّ الضمان المدّعى ليس لتبعية المنافع للمغصوب حتى يقال : إن الحرّ لا يصح غصبه ، بل لقاعدة التفويت وغيرها مما ذكر.

وأما الوجه الثالث ـ وهو أن منافعه في قبضته ـ ففيه : أن منافعه تفوت بالتفويت الذي هو من موجبات الضمان ، وهذا أجنبي عن التعليل بعدم دخول الحر تحت اليد ، إذ ليس الإشكال في الضمان من ناحية دخول المنافع تحت اليد وعدمه حتى يقال : بعدم دخولها تحتها

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ١٠ ، ص ٥١٣.

٨٠