هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

١
٢

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما الإمام المبين وغياث المضطر المستكين عجل الله تعالى فرجه الشريف ، واللعن على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين.

وبعد غير خفي على أهل العلم والفضل أن كتاب «المتاجر» الذي صنّفة فخر الطائفة ، تاج الفقهاء والمجهدين ، عَلَم العِلم والتقى ، شيخنا المرتضى الأنصاري «نور الله مضجعه» من خير ما ألفه فقهاؤنا الأبرار في قسم المعاملات من الفقه الشريف ، لما أودع فيه ـ بفكره الثاقب ـ من آراء بديعة وأنظار دقيقة وتحقيقات شامخة جملتة محوراً للدراسات العليا في الحوزات العلمية ، وأقبل عليه جهابذة الفقه بالبحث والتدريس ، والشرح والتعليق.

وقد كان من فضِل الله عليّ أن وفقنى لشرح شطرٍ وأفٍ من هذا الكتاب الشريف أثناء اشتغالي ببحثه حينما كنت متشرًفاً بجوار باب مدينة علم الرسول «صلّى الله عليهما وآلهما» ولم يتيّسر نشره إلاّ في هذا الأوان ، فأعدت النظر فيه ـ على ما أنا عليه من ضعف الحال وانحراف المزاج ـ ونهجتُ فيه منهج شرحي على الكفاية من الفصل بين توضيح المتن والتعليق عليه ، عسى أن يكون عوناً لإخواني المحصلين في اتقان مطالبة وتفهم نكاتة. وأسأله سبحانه وتعالى التوفيق لإتمامه ، وأن يتقبل هذا الجهد يقبولٍ حسن ، وأن يجعله خير الزاد ليوم المعاد.

قم المقدسة ـ ١٧ ربيع الأول ١٤١٦

محمد جعفر الموسوي الجزائري

المروج

٣

لغت النظر

كان المأمول العثور على مصوّر النخة الأصلية من كتاب «المكاسب» بخطّ شيخنا الأعظم ليقول عليها في الشرح ولئلا يتكلّف التلفيق بين الطبعات المختلفة ، الا أنه لم يتيسر لنا ـ مع الأسف ـ ذلك رغم الفحص عنها ، والسؤال ممّن له خبرة بالمخطوطات. ولكن حصلنا ـ والحمد الله ـ على مصوّرة نسخة معتبرة ، وهي المطبوعة عام ١٢٨٦ ، وبها مشها تصحيحات بخطّ سيدنا الاستاذ العلاّمة الورع آية الله السيد علي النوري تغمده الله برحمته ، كان يعتمد عليها في التدريس ، قائلاً : انها مصححة على نسخة المؤلف بواسطة واحدة أو بدونها ـ والتردد لبعد العهد ـ فاعتمدنا ناها دون الطبعات الاخرى. هذا بالنسبة الى ما عدا الأخبار وكلمات الأصحاب. وأما هما فقد راجعنا المصادر ونبّهنا غالباً على موارد الاختلاف.

٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم إلى يوم الدين.

كتاب البيع (١)

______________________________________________________

(١) الذي هو من كتب ثاني الأقسام الأربعة المنقسم إليها الفقه الشريف ، ولعلّ التعرض له دون غيره من سائر العقود المعاوضية لأجل كثرة الابتلاء به ودورانه بين الناس ، ووقوع أكثر المعاوضات والمبادلات المالية به.

وكيف كان فلا بأس قبل الخوض في تعريف البيع بتقديم أمور :

الأوّل : أنّ العقد عبارة عن الربط الخاص الحاصل بين التزامين ، مثلا إذا قال أحد المتعاقدين : «بعت كتابي بدينار» وقال الآخر : «قبلت» فهنا أمور ثلاثة :

أحدها : التزام كل منهما بمبادلة الكتاب بالدينار اعتبارا ، وهذان الالتزامان قائمان بهما ، وكلّ منهما أمر خارجي حقيقي يتعلق به الإرادة تارة والكراهة أخرى ، ويكون الالتزام الأوّل إحداثا ، والثاني إمضاء ، نظير الإعطاء والأخذ ، والإقباض والقبض ، فالالتزام الثاني منفعل بالالتزام الأوّل ، والأوّل فاعل له. وهذا الربط الخاص بين الالتزامين يسمّى عقدا ، فلو لم يكن هذا الربط الخاص بين التزامين كما إذا التزم أحدهما ببيع الكتاب بدينار ، والتزم الآخر بشراء دفتر بدرهم لم يكن ذلك عقدا ، لعدم الربط بينهما ، بل كل منهما أجنبي عن صاحبه.

وبالجملة : فالعقد هو الربط الخاص المتحقق بين التزامين ، لا الإيجاب والقبول ، لأنّهما

٥

.................................................................................................

______________________________________________________

موضوعان للعقد أي الربط ، فإطلاق العقد عليهما مسامحة. والوجه في هذا الإطلاق المسامحي هو قيام الربط بهما.

فملخص هذا الأمر : أنّ العقد حقيقة هو نفس الربط الحاصل بين الالتزامين لأنفسهما وإن أطلق عليهما مسامحة.

ثانيها : الأمر الاعتباري الذي هو إضافة محضة قائمة بالكتاب والدينار ، المعبّر عنه بمبادلة مال بمال ، ولا وجود له في الخارج ، والالتزم ـ الذي هو الأمر الأوّل ـ يتعلق بهذه الإضافة ، فكل من الالتزامين متعلق بها ، فهذه الإضافة ملتزم بها ، وهي الأمر المعهود به.

ثالثها : الصيغة الحاكية عن الإيجاب والقبول ، فإنّ قوله : «بعت الكتاب بدينار» حاك بالمطابقة عن الأثر ـ أعني به الأمر الاعتباري ـ المترتب على البيع ، وبالالتزام عن الالتزام النفساني ، بقرينة وروده في مقام الإنشاء ، وقول الآخر : «قبلت» حاك بالمطابقة عن الالتزام النفساني ، وبالالتزام عن الأمر الاعتباري ، فالقبول ـ من هذه الحيثية ـ عكس الإيجاب ، إذ مدلول «بعت» مطابقة مدلول التزامي ل «قبلت» وبالعكس.

وقد ظهر مما بينّاه في هذا الأمر : أنّ البيع القابل للإنشاء بقوله : «بعت» هو الأمر الاعتباري أعني به المبادلة. وأمّا الالتزام النفساني فهو أمر حقيقي خارجي قائم بالنفس ، نظير الطلب الحقيقي القائم بها غير القابل للإنشاء. وكذا الصيغة من الإيجاب والقبول ، فإنّها أمر خارجي متصرّم الوجود. وعليه فمفهوم البيع هو الإضافة الاعتبارية المحضة أي المبادلة بين المالين ، إذ هي القابلة للاعتبار والإنشاء سواء قلنا بمقالة المشهور من كون الإنشاء ـ قولا أو فعلا ـ إيجادا للأمر الاعتباري ، أم كونه إبرازا له كما اختاره بعض الأجلّة.

هذا ما يتعلق بأصل العقد من غير فرق بين اللازم والجائز ، وأمّا كونه مطلق العهد أو خصوص الموثّق منه فلا علاقة له بما ذكرناه ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

الثاني : أنّ العقد الذي يتوقف على إنشاءين يكون على ثلاثة أقسام :

٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أوّلها : العقود الإذنية كعقد الوكالة ، وتسمية هذا القسم بالعقد إنّما هي باصطلاح خاص ، وهو اصطلاح الفقهاء ، إذ العقد بالمعنى اللغوي والعرفي ـ كما أفيد ـ هو العهد المؤكد والالتزام المشدّد ، وهذا المعنى مفقود في العقود الإذنية ، لأنّ حقيقتها الإذن والرضا بالتصرف في ما له ولاية التصرف فيه ، وليس فيها إلزام والتزام. ولعلّ وجه التسمية بالعقد هو كونه مرتبطا بشخصين كارتباط العقد بهما.

وكيف كان فليس هذا عقدا حقيقة ، فلا يشمله قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فعدم شمول «العقود» لهذا القسم يكون من باب التخصص ، لا التخصيص حتى يلزم تخصيص الأكثر.

ثانيها : العقود العهدية التعليقية ، وهي التي يكون المنشأ فيها معلّقا على شي‌ء ب «إن» ونحوها من أدوات التعليق ، كالسبق والرماية والجعالة ، بناء على كونها عقدا منوطا بالقبول وإن كان فعلا ، وكالوصية التمليكية بناء على المشهور ، فإنّ المنشأ فيها ـ أعني به الملكية ـ معلّق على موت الموصى. وعلى هذا فالعقود العهدية التعليقية عقود حقيقة ، لما فيها من الإلزام والالتزام المنوطين بشي‌ء يتوقّع حصوله.

ثالثها : العقود العهدية التنجيزية ، وهي التي لا يكون المنشأ فيها معلّقا على شي‌ء ، كالبيع والإجارة والنكاح ، فإنّ المنشأ في الأوّل ـ على المشهور ـ تمليك العين ، وفي الثاني تمليك المنفعة ، وفي الثالث التزويج ، ولا تعليق فيما ينشأ في هذه العقود أصلا. وتنقسم العقود العهدية إلى معاوضية مالية وغير معاوضية ، فالبيع عقد عهدي تنجيزي معاوضي مالي. ويمتاز عن سائر العقود المالية كالصلح والهبة بما سيأتي في تعريفه قريبا إن شاء الله تعالى.

الثالث : أنّ الأسباب المملّكة ـ الموجبة لحصول علقة الملكية بين المال والشخص ـ تنحصر في ثلاثة أقسام ، إذ السبب إمّا أن يكون قهريّا كالإرث ، وإمّا أن يكون اختياريّا ، والسبب الاختياري إما أن يكون من الأمور الاعتبارية الإنشائية كالبيع والإجارة والهبة ، وإمّا أن يكون فعلا خارجيا كالحيازة وإحياء الموات ، ولا ترتب بين هذه الأقسام ، بل هي في

٧

.................................................................................................

______________________________________________________

رتبة واحدة ، والبيع من القسم الثاني ، فإنّه من العقود المعاوضية المالية (*).

__________________

(*) خلافا لما يظهر من المحقق الايرواني قدس‌سره من إرجاع جميع النواقل إلى حيازة المباحات ، وترتب سائر الأسباب عليها ، وقد أفاد ذلك في تعليقة مفصّلة لا بأس بالتعرض لجملة منها :

أوّلها : أنّ أمّ الأسباب المملّكة هي حيازة المباحات ، وكلّ ما عداها من المعاملات الاختيارية والنواقل القهرية ـ كالإرث ـ متفرّع عليها وارد في موضوعها ، لا أنّها أسباب في عرضها ورتبتها ، فكلّ الأموال كانت أجنبية عن الأشخاص ، وكانت نسبتها الى الكل نسبة واحدة ، وبالحيازة صارت مرتبطة بالأشخاص ، ووردت في سلطانها ، ومملوكة لها ، فالحيازة هي السبب الوحيد في حدوث الملك ، وسائر النواقل تنتهي إليها ولو بوسائط ، فإن ملكنا شيئا بالشراء فقد ملكناه بحيازتنا للثمن ولو بوسائط ، وان ملكنا شيئا بالهبة أو بالإرث فقد ملكناه بحيازة من انتقل عنه المال إلينا بما أنّ حيازته حيازتنا كما في الإرث ، أو بتفويض منه حقّ حيازته إلينا كما في الهبة.

مثلا إذا حاز بالصيد طائرا ، وباعه ، فالمنتقل إلى المشتري ـ بحسب اللّب والواقع ـ هو سلطنة الحائز ، فكأنّ المشتري صار مالكا بالحيازة. هذا إذا لم تكن واسطة بين الحائز والمشتري ، وكذا الحال مع فرض الواسطة ، كما إذا مات الحائز وانتقل المال الى وارثه فباعه ، فإنّ المشتري صار مالكا بالحيازة بواسطة قيام الوارث مقام مورّثه.

وعلى هذا لا ينبغي جعل الناقل القهري والمعاملات الاختيارية المملّكة في رتبة الحيازة ، بل هما متأخران عنها ومتفرّعان عليها.

ثانيها : أنّ الملكية كما تحصل بالحيازة تزول بالإعراض عن المال وصرف النظر عنه ، فالحيازة والإعراض متقابلان ، كالنكاح والطلاق بالنسبة إلى علقة الزوجية إيجادا وإعداما.

٨

.................................................................................................

__________________

وقد فصّل المحقق الايرواني الكلام في مسألة زوال الملك بالإعراض في رسالة «جمان السلك» المطبوعة مع حاشية المكاسب ، فلاحظها.

ثالثها : أن المعاملات الموجبة لنقل الربط وتحويل السلطان من شخص الى آخر تنقسم إلى أقسام ، لكون اختلاف بعضها مع بعض تارة في مجرّد العبارة والألفاظ المنشئة بها ، مع اتّحاد الواقع والحقيقة ، واخرى بحسب المتعلّق ، وثالثة في كون بعضها لنقل ربط خاص ، وبعضها لنقل ربط آخر.

أمّا القسم الأوّل ـ وهو الاختلاف في مجرّد العبارة مع وحدتها جوهرا وحقيقة ـ فكالبيع والهبة والصلح ، فكل منها يقوم مقام الآخر ، إذ كان المؤدّى واحدا ، والاختلاف في مجرد التعبير ، فإذا أراد نقل كتابه إلى زيد بمبلغ كذا جاز له تأدية مقصوده بما يدلّ على كلّ واحد من هذه العقود ، لاشتراكها في نقل الملك بالعوض.

نعم تختلف في أنّ الهبة تدل على نقل الملك بالمطابقة ، سواء عبّر بها بلفظ التمليك أم الهبة ، والبيع والصلح يدلّان عليه بالكناية والالتزام. أمّا البيع فلأنّ حقيقته تبديل طرف الإضافة ، ولازم هذا التبديل الخاص نقل الملك. وأمّا الصلح فلأنّ حقيقته التسالم ، فمعنى قوله : «صالحتك عن هذا بكذا هو : أنّي مسالمك غير منازعك في هذا ، ولئن بسطت يدك لأخذ هذا ما أنا بباسط يدي إليك لأمنعك» وهذه العبارة إذا أتى بها في مقام التمليك أفادته بنحو أبلغ.

وعلى هذا فاختلاف ألفاظ العقود الثلاثة في تأدية نقل الملك بالعوض يكون بالصراحة والظهور ، نظير تأدية معنى واحد بعبارات متفاوتة ، كقولك : «زيد جواد ، ومهزول الفصيل ، وكثير الرماد» إذ المراد الجدّي هو الإخبار عن كرم زيد وسخائه ، وهو مدلول مطابقي للجملة الاولى ، وكنائي للأخيرتين.

ومقتضى اتحاد البيع وأخويه حقيقة اشتراكها في الآثار والشرائط ، لكن اختلاف التعبيرات المؤدّية إليها صار منشأ لاختلاف الآثار. ولا غرو في ذلك ، فإذا أنشأ إعطاء سلطانه

٩

.................................................................................................

__________________

لآخر بعوض بلسان التبديل بين الأصل والعوض كان بيعا ، وجرى فيه خيار المجلس ، واعتبر فيه معلومية العوضين ، وغير ذلك. وإذا أنشأه بلسان التصالح أو بنفس إعطاء السلطنة ـ لا بلسان آخر ـ لم يجر فيه أحكام البيع.

وأما القسم الثاني ـ وهو الاختلاف في المتعلق ـ فيمكن التنظير له بالبيع والوديعة مثلا ، لكون المقصود بالأوّل نقل الملك ، وبالثاني الاستيمان في الحفظ.

وأما القسم الثالث ـ وهو كون بعض العقود لنقل ربط خاصّ غير ما ينقله الآخر ـ فكالبيع والإجارة ، فإنّ نقل المنفعة بالبيع والهبة والصلح وإن كان صحيحا ، ولا يختص البيع بنقل الأعيان كما توهم ، إلّا أنّ الفارق بين الإجارة والبيع هو عموم الثاني لنقل العين والمنفعة والحق ، واختصاص الأوّل ـ إذا تعلق بالعين ـ بنقل المنفعة ، فإذا أراد نقل رقبة الدار تعيّن التعبير بالبيع ، وإذا أراد نقل سكناها تعيّن التعبير بلفظ الإجارة ، فالإجارة شأنها نقل ربط خاص غير ما هو شأن البيع ، فصحّ أنّ الفرق بين الإجارة والبيع معنوي ، لا في مجرد العبارة كما في الفرق بين البيع وأخواته» (١). هذا محصل جملة مما أفاده قدس‌سره في المطالب الثلاثة ، وتركنا جملة أخرى من إفاداته خوفا من الإطالة.

لكن في كلماته قدس‌سره مواقع للنظر ينبغي ذكر بعضها :

فمنها : ما أفاده في المطلب الأوّل من انتهاء جميع النواقل إلى حيازة المباحات ، ووافقه بعض الأجلة كالسيد المحقق الخويي قدس‌سره على ما في تقرير بحثه الشريف (٢).

إذ فيه : أنّ الظاهر عدم انتهاء النواقل إلى الحيازة خاصة ، لاختصاص مملكية الحيازة بالمنقول ، مثل ما يحاز بالاحتطاب ، أو بالصيد أو بالغوص ، وأمّا غير المنقول ـ كالأرض ـ فالظاهر توقف ملكيتها على الإحياء ، وعدم كفاية التحجير وإن أوجب حقّا. بل لا يتمّ ذلك

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧١ ، لاحظ رسالة «جمان السلك في أحكام الملك» ص ٢١٦.

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٥ الى ٧ ، مستند العروة الوثقى ، كتاب الإجارة ، ص ٣٥٨.

١٠

.................................................................................................

__________________

حتى في المنقول كلّيّة ، كما في بيع الحرّ عمله للغير ، لتصريح المحقق الايرواني قدس‌سره بجوازه ، لكونه من شؤون سلطنته على نفسه ، ولا معنى لمالكيّته بالحيازة. وكذا في تملك غنائم الحرب ، واسترقاق العبيد والإماء ، لأجنبية ذلك كلّه عن الحيازة المصطلحة.

هذا إذا كان المقصود من كون الحيازة أمّ الأسباب هو الملكيّات المتعارفة بين العقلاء. ولو كان مقصوده قدس‌سره إنهاء جميع النواقل إليها حتى ما ليس متداولا فعلا كان أوضح منعا ، فإنّ مالكية النبي والامام «صلى الله عليهما وآلهما» للأنفال ـ كرؤوس الجبال والمعادن والأرض الميتة التي لا ربّ لها ـ بالملكية الاعتبارية ابتدائية بتفضّله تعالى ، وغير مسبوقة بحيازة ولا بسبب آخر ، ومن المعلوم أنّ الملكيات المتأخرة بهبة الإمام عليه‌السلام وبيعه ووقفه وتحليله لا تنتهي إلى الحيازة التي جعلها المحقق الإيرواني قدس‌سره أمّ الأسباب المملّكة.

ولو سلّم انتهاء جميع النواقل إلى الحيازة لم يكن ذلك مصحّحا لقيام المنتقل إليه مقام الحائز ، على ما صرّح به في آخر كلامه بقوله : «فان ملكنا شيئا بالشراء فقد ملكناه بحيازتنا للثمن ولو بوسائط ، أو ملكنا شيئا بالهبة أو بالإرث فقد ملكناه بحيازة من انتقل المال منه إلينا بما أنّ حيازته حيازتنا ..» وذلك لتوقف مملّكية الحيازة التي هي فعل اختياري على التصدي لها مباشرة أو تسبيبا بالاستنابة. وأمّا مجرّد الشراء من الحائز الفاقد لكل من المباشرة ، والتسبيب فلا يوجب صدق الحيازة عليه قطعا خصوصا مع كثرة الوسائط.

ومنها : ما أفاده في المطلب الثاني من تقابل الحيازة والإعراض. إذ فيه : عدم كون الإعراض بنفسه مزيلا لعلقة الملكية الحادثة بالحيازة ، وليس كالطلاق الرافع لعلقة الزوجية الحادثة بالنكاح ، بل الظاهر كون الاعراض رافعا للمانع عن تملك الغير بالأخذ ووضع اليد على ما أعرض عنه مالكه ، فلو لم يأخذه الغير كان باقيا على ملك المعرض ، لوضوح توقف زوال الملك ـ كإحداثه ـ على الجعل الشرعي ولو بإمضاء سيرة العقلاء الحاكمة بإباحة تملك الغير لا بزوال ملك المعرض بمجرد الإعراض.

١١

.................................................................................................

__________________

ولو شك في ذلك كان مقتضى إطلاق دليل السبب المملّك ـ أحواليا وأزمانيا ـ بقاء سلطنة المعرض إلّا ما أخرجه الدليل ، ومن المعلوم أنّ المتيقن من السيرة في باب الإعراض هو رفع المانع عن تملك الغير ، لا كونه بنفسه مزيلا للعلقة والربط.

ولو فرض كون دليل السبب المملّك لبيّا لا لفظيا حتى تجري المقدمات فيه كان مقتضى استصحاب الملكية بقاءها وعدم زوالها بالإعراض.

ومنها : ما أفاده قدس‌سره في المطلب الثالث من اشتراك البيع والصلح والهبة المعوضة في جامع التمليك بالعوض ، وافتراقها في مجرد التعبير. وهو كما ترى غير متضح المراد ، فان كان مقصوده اتحاد النتائج المترتبة على كلّ منها ـ وإن تعددت المنشئات حقيقة ـ كان متينا ، إذ لا ريب في حصول هذا النقل الخاص ـ أعني به نقل الملك بعوض ـ سواء أنشئ بعنوان البيع أم الهبة أم الصلح. ولا ينافيه اختلاف الآثار والأحكام بتبع اختلاف المضمون المؤدّي إلى ذلك النقل الخاص.

وإن كان مقصوده قدس‌سره وحدة هذه العناوين الثلاثة ماهية وحقيقة ـ فضلا عن اتحاد نتائجها ـ وكون الاختلاف بينها في مجرّد العبارة كما ربما يستفاد من تنظيرها في إفادة التمليك بعوض بباب الحقيقة والكناية فهو غير ظاهر ، لوضوح مغايرة البيع والصلح والهبة مفهوما ، فالبيع في حدّ ذاته متقوّم بالمبادلة بين مالين كما سيأتي نقله عن المصباح ومصطلح الفقهاء.

والهبة هي العطية الخالية عن الأعواض والأغراض كما في عدة من كتب اللغة ، فالمجّانيّة مأخوذة في حقيقتها ، ولذا كان العوض ـ في الهبة المعوضة ـ في قبال الفعل لا العين ، ولازم ذلك صدق العنوان حتى مع تخلّف الموهوب له عن الوفاء بالشرط. فيستند استحقاق ردّ العين الى تخلف الشرط ، لا الى انتفاء العنوان. وهذا بخلاف المبادلة في باب البيع ، فإنّه لولا العوضان لم يصدق العنوان قطعا.

وأما الصلح فمفهومه ـ كما قالوا ـ التراضي والتسالم بين المتنازعين ، وهو عقد شرّع

١٢

.................................................................................................

__________________

لقطع المنازعة ، فالمنشأ فيه هو التسالم على مبادلة مالين أو على أمر آخر ، ولا ربط له بنفس المبادلة.

والحاصل : أن البيع والهبة والصلح أمور اعتبارية متمايزة حقيقة ، ولذا يعتبر في تحقق كل منها في وعاء الاعتبار إنشاؤه بما يصلح عرفا للدلالة عليه صراحة أو ظهورا ولو بمعونة القرينة. ولعلّ اختلاف حقائقها منشأ اختلاف أحكامها كاشتراط الهبة بالقبض ، واختصاص البيع بخيار المجلس ونحوه ، ومن المعلوم أجنبية هذا المعنى عن إفادة مقصود وحداني بالمطابقة تارة وباللزوم أخرى ، كما في الإخبار عن جود زيد بعبارات متفاوتة صراحة وظهورا.

ووجه الفرق كون المخبر به في المعاني الكنائية واحدا حقيقة ، بحيث يكون مدار صدق الخبر وكذبه هو نفس المخبر به كالجود ، لا هزال الفصيل ولا كثرة الرماد ، وهذا أجنبي عن التمليك المشترك بين البيع وأخويه.

ومنها : ما أفاده من تعلق البيع والهبة والصلح بكل من العين والمنفعة والحق. إذ فيه : أنّه مخالف للمشهور ـ بل لما تسالموا عليه ـ من اعتبار كون المعوّض عينا ، وإن أصرّ هذا المحقق قدس‌سره على الأعمية وادعى القطع بها.

ومنها : ما أفاده من «أنّ النسبة بين البيع والإجارة العموم المطلق ، لكون البيع ناقلا للعين والمنفعة ، والإجارة للمنفعة خاصة» وهو لا يخلو من تهافت لكلامه الآتي بعد أسطر من : أنه لو أراد نقل العين تعيّن الإنشاء بعنوان البيع ، ولو أراد تمليك المنفعة تعيّن الإنشاء بعنوان الإجارة. ووجه التنافي ظاهر ، إذ بناء على صدق البيع على نقل متعلق السلطان ـ عينا كان أو منفعة أو حقّا ـ بعوض لا وجه لتعين نقل المنفعة بعنوان الإجارة ، لاقتضاء هذا التعيّن عدم أعمية البيع واختصاصه بنقل الأعيان.

هذا بعض ما يتعلق بكلام المحقق الايرواني قدس‌سره وإن أمكن التأمل في بعض آخر من

١٣

وهو (١) في

______________________________________________________

(١) هذا الضمير راجع إلى البيع في قوله : «كتاب البيع» وليس المراد به فعل البائع. توضيحه : أن «البيع» يطلق على معان ثلاثة :

الأوّل : فعل البائع ـ وهو باذل السلعة غالبا ـ سواء كان بالإنشاء القولي مثل «بعت الكتاب بدينار» أم الفعلي بإعطاء المثمن وأخذ الثمن. والبيع بهذا المعنى يقابل الشراء الذي هو فعل المشتري القابل. وإطلاق البيع على إنشاء الموجب شائع ، بل هو المتبادر منه.

الثاني : فعل القابل ، وهو معنى حقيقي للبيع أيضا ، لكونه من الأضداد كما صرّح به ابن منظور (١) وغيره. واستشهد على إرادة الشراء من البيع بما رواه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ، ولا يبع على بيع أخيه ، قال أبو عبيد : كان أبو عبيدة وأبو زيد وغيرهما من أهل العلم يقولون : إنما النهي في قوله : لا يبع على بيع أخيه إنّما هو لا يشتري على شراء أخيه ، فإنّما وقع النهي على المشتري لا على البائع .. إلخ» (٢).

الثالث : المعاملة البيعية المعدودة من العقود المعاوضية ، وهي في قبال سائر المعاملات من الصلح والإجارة. وهذا المعنى شائع في الأدلة وفي الكتب الفقهية ، وهو المراد في قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (وَذَرُوا الْبَيْعَ) وفي قوله عليه‌السلام في دليل خيار المجلس : «وجب البيع» وفي قول الفقهاء : «كتاب البيع ، أحكام البيع» ونحوها.

والظاهر أن مقصود المصنف من التعرض لكلام المصباح هو بيان معنى المعاملة البيعية المقابلة لسائر المعاملات كالإجارة والهبة والصلح ، فلذا يكون المناسب إرجاع ضمير «هو» الى البيع بهذا المعنى ، لا بمعنى فعل البائع أو المشتري.

__________________

إفاداته كجعل مآل عقد النكاح والمزارعة والمساقاة إلى الإجارة ، وجعل القرض هبة واستئمانا ، فراجع كلامه بتمامه زيد في علوّ مقامه.

__________________

(١ و ٢) لسان العرب ، ج ٨ ، ص ٢٣.

١٤

الأصل كما عن المصباح (١)

______________________________________________________

تعريف البيع لغة

(١) قال في المصباح : «والأصل في البيع مبادلة مال بمال ، لقولهم : بيع رابح وبيع خاسر ، وذلك حقيقة في وصف الأعيان ، لكنه أطلق على العقد مجازا ، لأنّه سبب التمليك والتملك ، وقولهم : صح البيع أو بطل ونحوه : أي صيغة البيع ، لكن لمّا حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ـ وهو مذكّر ـ أسند الفعل إليه بلفظ التذكير» (١).

ويستفاد من كلامه : أن كلمة «البيع» تطلق على أمرين ، أحدهما حقيقي ، وهو المبادلة بين المالين ، وثانيهما مجازي ، وهو العقد المؤلّف من الإيجاب والقبول ، من باب إطلاق اللفظ الموضوع للمسبّب على سببه. وعلى هذا فالمراد بالأصل بقرينة قوله : «أطلق على العقد مجازا» هو المعنى اللغوي الحقيقي الذي كان متداولا في الأيام السالفة بين عامّة الناس. ولعلّ الوجه في التنبيه على مجازية إطلاقه على العقد هو شيوع هذا الإطلاق بحيث ربما يتوهم كون البيع مشتركا بين المبادلة والعقد ، أو كونه منقولا عن المعنى الأوّل إلى الثاني (*).

__________________

(*) وقد يقال : بإمكان إرادة معنى آخر من الأصل «وهو ما كان متعارفا في الأيام السالفة من كون البيع عبارة عن مطلق المبادلة بين الأموال ، بديهة أنّه لو كان غرض الفيّومي من هذه الكلمة هو اللغة لوجب أن يصدّر كلامه بلفظ الأصل عند شرح كل مادة ترد عليه. وقد وقع التصريح بما ذكرناه في لسان العرب ومجمع البحرين في مادة المال» (٢).

لكن قد يشكل بأنّ كون البيع في الأيام السالفة عبارة عن مطلق المبادلة بين المالين لا ينافي إرادة الموضوع له من «الأصل» بعد مقابلته للمعنى المجازي بقوله : «ثمّ أطلق على العقد مجازا» لصلاحية هذه المقابلة للقرينية على إرادة المعنى بحسب الوضع الأوّلي من كلمة

__________________

(١) المصباح المنير ، ج ١ ، ص ٦٩.

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٠.

١٥

.................................................................................................

__________________

«الأصل» بناء على تسليم كون اللغوي من أهل الخبرة بالأوضاع لا بمجرد موارد الاستعمال ، كما هو غير بعيد بالنسبة إلى أئمة اللغة الّذين كان دأبهم استكشاف معاني الألفاظ من تتبع موارد الاستعمال واستعلامها من محاورات أهل البوادي والقرى بلا إعمال نظر من أنفسهم حتى يكون إخبارهم حدسيّا.

وأمّا الاستشهاد بما في لسان العرب والمجمع فلم يظهر صراحة كلاميهما في أنّ المراد بالأصل هو المعنى المتعارف في الأيام السالفة ـ لا المعنى الحقيقي اللغوي ـ قال في اللسان : «قال ابن الأثير : المال في الأصل : ما يملك من الذهب والفضة ، ثم أطلق على كل ما يقتني ويملك من الأعيان ، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل ، لأنها كانت أكثر أموالهم» (١). إذ المذكور في هذه العبارة معان ثلاثة للمال ، أحدها الذهب والفضة ، ثانيها كل عين متمولة. ثالثها الإبل. وحيث إن إطلاق المال على الأخيرين حدث في عصر متأخر بمقتضى قوله : «ثم أطلق» كان مقصوده من الأصل هو المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ أوّلا ، ثم نقل الى وضع تعيني ثانيا وهو مطلق الأعيان المتموّلة.

وعلى هذا فلا يبعد أن يراد بالأصل في كلام المصباح واللسان معنى واحد ، وهو الموضوع له ، والنكتة في تصدير الكلام بالأصل هو التنبيه على أنّ الموضوع له أوّلا مغاير لما يستعمل فيه اللفظ في عهد متأخر ، وأنّ هذا المعنى الحادث إمّا مجاز بعلاقة السببية والمسببية كما في استعمال البيع في العقد ، وإمّا حقيقي أيضا من باب النقل أو الاشتراك كما في إطلاق المال على كل عين متمولة. فلو لم يكن للفظ معان متعددة لم يكن وجه لتصدير المعنى بالأصل ، كما لم نظفر بذلك في موارد وحدة المعنى. نعم عبارة المصباح لا تخلو من مسامحة سيأتي بيانها ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٦٣٦.

١٦

«مبادلة (١) مال بمال» (٢).

______________________________________________________

(١) فالبيع اسم للمبادلة التي هي الملتزم بها ، لا للعقد الذي هو نفس الالتزامين المرتبطين ، ومن المعلوم مغايرة الالتزام للملتزم به ، لكون الثاني نتيجة للأوّل ، فإطلاق البيع على العقد مجاز بعلاقة التسبيب ، كما تقدم في كلام المصباح بقوله : «ثم أطلق على العقد مجازا».

(٢) قد تقدم آنفا كلام ابن الأثير في معنى المال ، ونحوه عبارة مجمع البحرين ، لكن فسّره في القاموس بأنّ «المال ما ملكته من كلّ شي‌ء» (١) ويحتمل التعميم لغير الأعيان ، من المنافع والحقوق ، فيكون مخالفا لمن خصّه بالأعيان ، كما يحتمل إرادة عدم اختصاص المال بالذهب والفضة ، وشموله لكل عين متموّلة ، بلا نظر إلى إطلاقه على المنافع ، وعلى هذا الاحتمال الثاني لا يختلف معنى «المال» بحسب اللغة ، لكون «الأعيان» هي القدر المتيقن من «المال».

ثم إنّ مقتضى الجمود على تعريف المصباح اعتبار عينية كلا العوضين في صدق مفهوم البيع.

لكن الظاهر إطلاق المال على ما هو أعم من الأعيان ، وصدقه على المنافع أيضا. ولو لم يكن المال حقيقة في الأعم فلا أقل من استقرار اصطلاح الفقهاء عليه ، كما يظهر بمراجعة كلماتهم ، ولذا حكم المصنف قدس‌سره بجواز وقوع المنافع عوضا في البيع ، وهو كاشف عن إطلاق المال عليها حقيقة كإطلاقه على الأعيان المتمولة. وكذا لا ريب في كون الإجارة من نواقل الملك ، مع أنّ العوضين أو أحدهما من المنافع.

نعم تفترق الإجارة عن البيع من جهة المتعلق ، فالبيع تمليك عين بعوض ، والإجارة تمليك منفعة كذلك. وسيأتي في المتن اعتبار عينية المبيع (*).

__________________

(*) بقيت أمور تتعلق بتعريف المصباح :

الأوّل : أنّ المبادلة بين المالين قد تكون خارجية بحسب المكان والزمان ونحوهما كجعل شي‌ء مكان آخر كتبديل ثوب برداء ، وقد تكون اعتبارية. ولما كان البيع من نواقل الملك تعيّن إرادة المبادلة الاعتبارية في الإضافة القائمة بالمالين ، لما أفيد من أنّها من سنخ

__________________

(١) القاموس المحيط ، ج ٤ ، ص ٥٢.

١٧

.................................................................................................

__________________

المعاني التي لا استقلال لها في التحصّل ، بل لا بدّ أن تكون بلحاظ أمر كالحكومة والرئاسة والملكية ، وحيث كانت مضافة هنا إلى المال ـ بما هو مال ـ علم منها إرادة التبديل المعاملي ، والتسبب الى جعل شي‌ء مكان شي‌ء في الملكية أو الحقيّة أو المصرفية ، وإن كان أظهر خواص البيع التمليك كما لا يخفى.

ثم إنّه بناء على كون الملكية إضافة اعتبارية ، تتحقّق أمور ثلاثة ، الأوّل : المضاف إليه ، وهو المالك ، الثاني : المضاف وهو المال ، الثالث : نفس النسبة الخاصة والإضافة المتحققة بين المالك والمملوك ، المعبّر عنها بالملكية.

البيع تبديل الإضافة وطرفها

ولا ريب في اقتضاء البيع ـ وسائر النواقل ـ التبديل في المضاف أعني به المالين المملوكين ، فكلّ من المتعاملين يخلع يده عن ماله ويحلّ ربطه به ويشدّها بعوضه ، إنما الكلام في أنّ البيع هل يقتضي بدليّة إحدى الإضافتين عن الأخرى بعد الفراغ عن اقتضائه بدليّة المضاف ، أم يؤثّر في بدليّة المضاف خاصة وبقاء الإضافة على حالها؟ ذهب شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره إلى الثاني ، ولأجله فسّر تعريف البيع «بالمبادلة بين مالين» بأنّه : تبديل أحد طرفي الإضافة بطرف إضافة أخرى ، لا نفس تبديل إضافة بإضافة أخرى.

ومحصل كلامه قدس‌سره : أنّ التبديل إمّا أن يكون بين المالكين أو بين المملوكين ، ولا معنى للتبديل بين الملكيتين ، فالملكية الاعتبارية تكون كالخيط الذي أحد طرفيه بيد المالك ، وطرفه الآخر بالمملوك ، ففي باب الإرث يحلّ الربط الملكي عن المورّث ويشدّ بالوارث مع بقاء الربط والمال على حاليهما ، ولذا لو كان المال متعلق حق الغير انتقل الى الوارث كذلك.

وفي العقود المعاوضية ـ وكذا الخالية عن العوض كالهبة ـ يحدث التغيير في الطرف الآخر وهو المملوك ، فيحلّ ربط المالك عن ماله ويشدّ بالعوض ، ولا يحدث تغيير في المالكين ولا الملكيتين. وهذا هو المقصود من اقتضاء البيع بدلية أحد المضافين عن الآخر ،

١٨

.................................................................................................

__________________

لا بدلية إحدى الملكيتين عن الأخرى.

ويدل عليه أمران ، أحدهما : أنّ نفوذ تصرف المالك في ماله بالتصرفات المشروعة يستند إلى قاعدة السلطنة ، ومن المعلوم أنّ المجعول هو السلطنة على الأموال لا على الملكية الاعتبارية الكائنة بين الملّاك وأموالهم ، فلو اقتضى البيع تبديل ملكية بملكية أخرى ـ لا تبديل مملوك بمثله ـ لزم إثبات سلطنة المالك على ملكيته ، والملكية هي السلطنة على أنحاء التصرفات في المال ، ولا معنى للسلطنة على السلطنة ، لما عرفت من أنّ موضوع مثل «الناس مسلطون على أموالهم» هو الأموال لا الأحكام. ولعلّه لهذا يقال بعدم زوال الملكية بالإعراض ، إذ لا دليل على ثبوت سلطنة المالك على إزالة ملكيته عن ملكه ، ولذا لم يبن الجلّ لو لا الكل على مشرّعية قاعدة السلطنة.

ثانيهما : أنّ الوجدان حاكم بأن فعل المتبايعين نقل الأموال ، لا نقل الملكية القائمة بها ، فالبائع يعطي المثمن ، لا أنه يعطي واجديّته له ، والمشتري أيضا يعطي الثمن لا واجديته له.

وكذا الحال في الهبة الخالية عن العوض ، فإنّ الواهب ينقل ماله الى المتّهب في عالم الاعتبار ، ولازمه انعدام الإضافة الاعتبارية ، وحدوث إضافة أخرى بين المتهب والعين الموهوبة ، لا أنّ فعل الواهب ـ ابتداء ـ نقل إضافته إلى المتهب. هذا محصل ما أفاده مقرر بحثه الشريف (١).

والإيراد عليه بالنقص «تارة ببيع الكلي الذي لا ريب في صحته مع أنّه لا نقل فيه من طرف إضافة البائع إلى طرف إضافة أخرى ، لعدم كونه مملوكا له. واخرى ببيع آلات المسجد بالغلّة الموقوفة عليه ، لعدم خروج شي‌ء عن طرف إضافة ملكية الى طرف إضافة ملكية اخرى» لعلّه نشأ من عدم ملاحظة تمام كلامه ، وأنّ تعريف البيع بتبديل طرفي الإضافة مخصوص بالبيوع المتعارفة بين الملّاك ، ومورده الأعيان الخارجية ، فموردا النقض خارجان عن حدّ التعريف المتقدم. أمّا بيع الكلّي فقد قال فيه المحقق النائيني : «ليس المعتبر في البيع إلّا كون

__________________

(١) المكاسب والبيع للعلّامة الحجة الشيخ الآملي ، ج ١ ، ص ٨٦ ، ٨٧.

١٩

.................................................................................................

__________________

المبيع منتقلا عن البائع إلى المشتري ، وهو حاصل بالبيع ، ولا يكون لاعتبار الأزيد منه دليل حتى يكون الالتزام به موجبا للإشكال» (١). نعم في تملك البائع للكلي بنفس البيع أو قبله آنا ما كلام لعلّه سيأتي التعرض له في اعتبار عينية المبيع.

وأمّا بيع وليّ الموقوفة فقد أفاد في حلّه بقوله : «إنّ الملكية المعتبرة في البيع عبارة عن السلطنة على البيع ، ولذا يصح بيع الولي لماله الولاية على بيعه ، مع أنه ليس ملكا له ، والمراد بالملك في قوله : ـ لا بيع إلّا في ملك ـ هو السلطنة على البيع ..» (٢).

نعم يشكل المساعدة على جملة ممّا أفاده الميرزا قدس‌سره.

منها : «جعل البيع تبديل طرفي الإضافتين ، على خلاف باب الإرث الذي يتبدل فيه المضاف إليه بمضاف إليه آخر ، مع بقاء نفس الإضافة والمضاف وهو المال على حاليهما ، فالبائع يحلّ ربطه بالمثمن ويعقده بالثمن». ووجه الاشكال فيه : أنّ القابل للنقل وإن كان هو المضاف لا الإضافة القائمة به ، إلّا أنها تزول قطعا بزوال أحد طرفيها ، إذ الإضافات تتشخّص بأطرافها ، فحلّ الإضافة من طرف المملوك ـ وهو المبيع ـ مع بقائها في طرف المالك ـ أعني به البائع ـ محال ، ضرورة امتناع بقاء الإضافة المتقومة بطرفين بعد ارتفاع أحدهما ، فإذا خرج المبيع عن ملك البائع فلا محالة تزول الإضافة عن البائع أيضا ، لتقوّمها به وبالمبيع ، فتحدث إضافة أخرى قائمة بالبائع وبالثمن. وكذا الحال في المشتري. وذلك لتضايف المالكية والمملوكية ، وهما متكافئتان في القوة والفعل. فكما لا يعقل بقاء المملوك بلا مالك ـ ولو كان كليّا ، كما في مالكية السادة للخمس ، والفقراء للزكاة ـ فكذا لا يعقل بقاء المالك بلا مملوك ، فكيف تبقى إضافة المالكية للبائع بعد زوال إضافة المملوكية عن المبيع؟ وعليه فلا بد من الالتزام بتبدل نفس الإضافة القائمة بالبائع والمبيع أيضا ، وحدوث إضافة مثلها قائمة بالبائع والثمن.

ومنه يظهر حكم باب الإرث ، لاستحالة بقاء المملوكية والملكية مع انخلاع يد

__________________

(١ و ٢) المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ٨٩.

٢٠