هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

بقي الكلام في الخبر الّذي تمسّك به في باب المعاطاة تارة على عدم إفادة المعاطاة إباحة التصرف (١) ، وأخرى على عدم إفادتها اللزوم ، جمعا (٢) (*) بينه (٣) وبين

______________________________________________________

المضارع ، والمشتملة على الإيجاب ب «نعم» والقبول بالأمر. (١)

هذا تمام الكلام في الوجوه الثلاثة الموجبة لخروج المعاطاة عن قاعدة اللزوم في الملك.

وقد استقرّ رأى المصنف قدس‌سره أخيرا على اعتبار الإنشاء القولي في البيوع الخطيرة ، وإن لم يكن جامعا لكلّ ما يعتبر في الصيغة ، وسيأتي تتمة بحث أصالة اللزوم ، وهي تحقيق مفاد الأخبار الدالة على حصر المحلّل والمحرّم في الكلام.

(١) وكونها بيعا فاسدا ، وهذا مبني على أوّل الوجوه الأربعة التي سيذكرها المصنف قدس‌سره في معنى قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» والمراد بأوّل الوجوه هو : أن يكون النطق والكلام تمام المناط في تحليل شي‌ء وتحريمه ، فلا يتحقق شي‌ء من الحلّ والحرمة بالقصد المجرّد عن الكلام ، ولا بالقصد المدلول عليه بالأفعال دون الأقوال. وعليه فلا تكون المعاطاة سببا للإباحة ولا للملك.

(٢) قيد لقوله : «عدم إفادتها اللزوم» يعني : استدلّ بعضهم بهذا الخبر على إناطة اللزوم باللفظ ، لا أصل صحة المعاطاة ، والوجه في هذا هو الجمع بين هذا الخبر وبين الأدلة المتقدمة على إفادة المعاطاة للملك.

(٣) أي : بين الخبر وهو قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلل الكلام .. إلخ» وبين ما دلّ على صحة البيع مطلقا كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فيجمع بينهما بحمل «إنما يحلّل الكلام» على أنّ

__________________

(*) لكنه جمع تبرّعي لا شاهد له ، ومقتضى القاعدة وقوع المعارضة بينهما ، وحيث انّ النسبة بينهما عموم من وجه يرجع في المجمع ـ وهو البيع الفعلي المعاطاتي ـ إلى أصالة الفساد. وعليه فلا يؤثر المعاطاة في الملكية.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ١٩٤ ، الباب ١ من أبواب عقد النكاح ، الحديث : ٣ و ١٠ وغيرهما.

٥٨١

ما دلّ على صحة مطلق البيع كما صنعه في الرياض (١) ، وهو قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» (٢).

وتوضيح المراد منه يتوقف (٣) على بيان تمام الخبر ، وهو ما رواه ثقة الإسلام في باب «بيع ما ليس عنده» والشيخ (٤) في باب «النقد والنسيئة» عن ابن أبي عمير عن يحيى بن الحجّاج عن خالد بن الحجّاج أو ابن نجيح ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرّجل يجيئني ويقول : اشتر لي هذا الثوب وأربحك كذا وكذا ، فقال : أليس إن شاء أخذ ، وإن شاء ترك؟ قلت : بلى ، قال : لا بأس ، إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» (١).

______________________________________________________

اللزوم منوط بالكلام ، فيراد بقوله عليه‌السلام : «يحلّل الكلام» أنّه يلزم الكلام ، فالمعاطاة وإن كانت صحيحة ، لكنها غير لازمة ، بل هي مفيدة للملك الجائز. أمّا الملكية فلكونها بيعا ، وأمّا غير اللزوم فلعدم الكلام.

(١) وفي مفتاح الكرامة وشرح كاشف الغطاء على القواعد وغيرهما أيضا. قال في الرياض : «ففي الصحيح وغيره من المعتبرة : أنه إنّما يحلل الكلام ، وهي وإن اقتضت حرمة التصرف ، إلّا أنّها محمولة على اللزوم وعلى ما بعد الرجوع ، جمعا بينه وبين ما دلّ على الإباحة بالتراضي ..» (٢).

(٢) هذا المضمون ورد في روايات متعددة ، ولكن المقصود فعلا التعرض لرواية خالد كما سينقله المصنف في المتن.

(٣) وجه التوقف تطرّق احتمالات عديدة في الجملة المستدل بها ، وهي «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» فلا بد من التأمل في جميع فقرات الرواية ، عسى أن يكون صدرها قرينة معيّنة لما يراد من الذيل.

(٤) ظاهر العطف يقتضي اتحاد طريقي الشيخ والكليني ، واشتراك السند من

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٧٦ ، الباب ٨ من أبواب أحكام العقود ، الحديث : ٤.

(٢) رياض المسائل ، ج ١ ، ص ٥١١ ، مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٧.

٥٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ابن أبي عمير الى الامام الصادق عليه‌السلام ، ونتيجة ذلك تردّد الراوي عن الإمام ـ في الكافي والتهذيب ـ بين «خالد بن الحجاج وخالد بن نجيح».

مع أنّ الأمر ليس كذلك ، لعدم اختلاف نسخ التهذيب في هذا السند ، بل الظاهر توافقها في ضبط الراوي بعنوان «خالد بن الحجاج». وإنّما حكي اختلاف نسخ الكافي المصحّحة ، ففي بعضها «خالد بن نجيح» وفي بعضها «خالد بن الحجاج».

وعليه كان المناسب أن يقتصر المصنف قدس‌سره على سند الكافي الذي تردّد الراوي فيها بين ابن الحجاج وابن نجيح ، ثم تعقيبه بذكر سند الشيخ بأن يقول ، «ورواه الشيخ في باب النقد والنسيئة عن خالد بن الحجاج».

وكيف كان فلا بأس بالإشارة إلى سند الرواية ، ففي الكافي «عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن نجيح ، قال : قلت لأبي عبد الله .. إلخ» (١).

ورواها شيخ الطائفة عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن يحيى بن الحجاج عن خالد بن الحجاج ..» (٢).

والظاهر اعتبار السند برواية الشيخ ، لأنّ إسناده إلى الحسين بن سعيد صحيح ، كما لا يخفى على من راجع مشيخة التهذيب (٣).

وابن أبي عمير معلوم الحال ، ويحيى ابن الحجاج وخالد قد وثّقهما النجاشي بقوله في ترجمة يحيى : «ثقة ، وأخوه خالد» (٤) وعليه فلا شبهة في سند الرواية بنقل الشيخ.

إنّما الكلام في سندها بنقل الكافي ، ومنشأ الاشكال اختلاف نسخ الكتاب في الراوي عن الامام الصادق عليه‌السلام كما ذكرناه ، والمفروض عدم ثبوت وثاقة خالد بن نجيح بوجه

__________________

(١) الكافي ، ج ٥ ، ص ٢٠١ ، الحديث : ٦.

(٢) تهذيب الاحكام ، ج ٧ ، ص ٥٠ ، الحديث : ١٦.

(٣) تهذيب الأحكام ، ج ١٠ ، ص ٦٣ من المشيخة.

(٤) رجال النجاشي ، ص ٣١١ ، الطبعة الحجرية.

٥٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

يعتمد عليه.

وفي مثله إمّا أن يقال بترجيح النسخة المشتملة على «خالد بن الحجاج» ووقوع السهو من قبل نسّاخ الكافي ، لقرينية وحدة متن الرواية ـ سؤالا وجوابا ، واتحاد الطريق من ابن أبي عمير إلى خالد ، وكون المسؤول في كلا الطريقين الامام الصادق عليه‌السلام ـ على ضبط الراوي في النسخة الأصليّة من الكافي بعنوان «خالد بن الحجاج».

وإمّا أن يقال ـ كما هو الظاهر ـ بأنّ ما ذكر من القرائن لا يورث الاطمئنان بضبط الراوي ـ في النسخة الأصلية من الكافي ـ ب «خالد بن الحجاج» بعد شهادة غير واحد من أهل الخبرة باشتمال بعض النسخ المصحّحة على «ابن نجيح» ، وبعضها على «ابن خالد». وحينئذ يشكل الاعتماد على سند الكافي ، ويتعيّن الأخذ بسند الشيخ ، والمفروض صحته كما أشرنا إليه.

وكم له من نظير ، حيث يروى عن المعصوم عليه‌السلام كلام واحد بطريقين أو أكثر ، ويكفي صحة إحدى الطريقين في شمول أدلة حجية خبر الثقة له.

وليكن المقام منها ، فتكون الرواية ضعيفة بنقل ثقة الإسلام ، ومعتبرة بنقل شيخ الطائفة.

وأمّا احتمال سراية الضعف من سند الكافي إلى سند التهذيب فممّا لا وجه له.

نعم لو رواها الشيخ عن الكافي ـ كما في كثير من روايات كتابي التهذيب والاستبصار ـ كان لذلك الاحتمال وجه بالنظر إلى أضبطية ثقة الإسلام من الشيخ ، فتأمل. وأمّا في خصوص هذه الرواية فلا موضوع للبحث ، لأنّ الشيخ رواها بإسناده عن الحسين بن سعيد ، لا عن ثقة الإسلام.

فالنتيجة : أنّ الرواية معتبرة سندا ، والعويصة كلّها في مفاد التعليل كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

٥٨٤

وقد ورد بمضمون هذا الخبر روايات أخر (١) مجرّدة عن قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل» كلّها تدلّ على : أنّه لا بأس بهذه المواعدة والمقاولة ما لم يوجب بيع المتاع قبل أن يشتريه من صاحبه.

______________________________________________________

(١) رواها الشيخ الحرّ في الباب الثامن من أبواب العقود.

منها : معتبرة ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس بأن تبيع الرجل المتاع ليس عندك ، تساومه ، ثم تشتري له على الذي طلب ، ثم توجبه على نفسك ، ثم تبيعه منه بعد» (١).

وأمّا فقه رواية خالد سؤالا وجوابا ـ وبملاحظة رواية يحيى الآتية في المتن ـ فهو أنّ الغرض التوصّل إلى حلية الربح الذي يأخذه السمسار ، وحلّية المتاع الذي يشتريه الرجل منه.

وتوضيحه : أنّ المستفاد من السؤال أمران :

أحدهما : أنّ رجلا يراجع السمسار ويفاوضه على شراء ثوب منه ، فيقول السمسار : إنّه ليس لي ، فيأمره الرجل بشرائه من مالكه حتى يشتريه هذا الرجل من السمسار بثمن أزيد ، بأن تكون الزيادة ربح السمسار بإزاء عمله.

الثاني : أنّ مفروض الرواية شراء السمسار الثوب لنفسه ثم بيعه للرجل ، لا كونه وكيلا عن الرجل في شراء الثوب من مالكه ، ولا كونه أجيرا له ، إذ لو كان السمسار وكيلا أو أجيرا للآمر لما افتقر الى عقد جديد بين السمسار والآمر ، بل كان الآمر مالكا للثوب بنفس شراء السمسار الثوب من مالكه. هذا ما يستفاد من السؤال.

وأمّا الجواب فقد استفصل فيه الامام عليه‌السلام من السائل بأنّ الرجل الذي يريد الثوب ـ بعد استدعائه من السمسار شراء الثوب من مالكه ـ لا يخلو إمّا أن يكون ملزما بأخذ الثوب من السمسار ، وإمّا أن يكون مخيّرا بين الأخذ والانصراف.

فعلى الأوّل يبطل ، لأنّ السمسار قد باع الثوب من الآمر قبل أن يشتريه من مالكه ، وهو منهي عنه ، لكونه من بيع ما ليس عنده.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٧٥ ، الباب ٨ من أبواب أحكام العقود ، الحديث : ١.

٥٨٥

ونقول : إن هذه الفقرة ـ مع قطع النظر (١) عن صدر الرواية ـ تحتمل وجوها : (٢)

______________________________________________________

وعلى الثاني يصح ، لأنّ خياره بين الأخذ والترك كاشف عن عدم وقوع البيع بين السمسار والآمر ، بل كان الواقع مجرّد مقاولة ومواعدة ، وهما من مقدمات البيع لا نفسه ، وحينئذ يجوز للسمسار أن يبيع الثوب من الآمر بعد أن يشتريه من مالكه ، ويحلّ الربح للسمسار كما يحلّ الثوب للآمر.

وعلى هذا فما من شأنه تحليل الثوب والربح هو مجرّد المقاولة بين السمسار والآمر ، وما من شأنه تحريمهما هو إنشاء البيع اللازم. هذا كله مفاد السؤال والجواب.

وقد علّل عليه‌السلام هذا التفصيل بجملة «إنما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» ولمّا كان اللازم مناسبة هذا التعليل للحكم المعلّل به فينبغي أن يكون المراد من الكلام المحلّل هو المقاولة الواقعة بين الرجل والسمسار ، ومن الكلام المحرّم هو إنشاء البيع.

وبهذا يظهر أجنبية التعليل عن مقصود القائلين بتوقف صحة العقد أو لزومه على اللفظ ، ولهذا أشار المصنف قدس‌سره بقوله : «مع قطع النظر عن صدر الرواية» إلى أنّه لا بدّ من فرض جملة «انما يحلّل ..» منفصلة عن ذلك السؤال والجواب حتى يتطرّق فيها احتمالات أربعة أو أزيد.

وأمّا لو أريد التحفظ على علّيته لجوابه عليه‌السلام لم تجر الوجوه الأربعة فيه ، بل يتعين وجه واحد وهو الاحتمال الثالث منها ، كما سيأتي مشروحا.

(١) إذ مع النظر الى صدر الرواية لا يتطرّق إلّا وجه واحد لئلّا يكون تعليله عليه‌السلام أجنبيا بالمرة عمّا علّله به من حلية المقاولة والمواعدة ، وحرمة إنشاء البيع.

(٢) مقصوده قدس‌سره أنّ ذيل الرواية ـ مع قطع النظر عن صدرها ـ يبحث عنه في مقامين ، أحدهما الثبوت ، والآخر الإثبات. فيقع الكلام أوّلا في محتملات فقه الذيل ، ثم في استظهار

٥٨٦

الأوّل (١) أن يراد من الكلام في المقامين (٢) اللفظ الدال على التحريم والتحليل ، بمعنى أنّ تحريم شي‌ء وتحليله لا يكون إلّا بالنطق بهما (٣) ، فلا يتحقق بالقصد المجرّد عن الكلام (٤) ولا بالقصد المدلول عليه بالأفعال (٥)

______________________________________________________

أحدها إن لم يصر مجملا.

(١) هذا الاحتمال هو ظاهر الجملة بدوا ، وقد استظهره كلّ من استدلّ بها على دخل الإنشاء القولي في اللزوم ، بل مقتضى إناطة التحليل والتحريم بالكلام عدم تأثير المعاطاة في الإباحة فضلا عن الملك الجائز ، لكنّهم رفعوا اليد عنه للجمع بين الأدلة كما تقدم في عبارة الرياض ، ونحوها ما في مفتاح الكرامة وغيرها.

وكيف كان فمحصّل هذا الاحتمال الأوّل : أنّ الملحوظ هو نفس طبيعة الكلام مع الغضّ عن مدلوله. فموضوع التحليل والتحريم هو نفس اللفظ ، بخلاف المعاني الآتية ، فإنّ اللفظ لوحظ فيها حاكيا ومرآة ، ولذا لا يكون جامع بين هذا المعنى الأوّل وبين سائر المعاني الآتية ، لامتناع اجتماع اللحاظين الآلي والاستقلالي.

فإن أمكن إرادة هذا المعنى من قوله عليه‌السلام : «انما يحلل ..» صحّ الاستدلال به على المقام ، لفقد الإنشاء اللفظي في المعاطاة حتى يوجب الإباحة أو الملكية ، إذ القصد المجرّد عن الكلام ـ أو المبرز بغير اللفظ ـ لا يترتب عليه أثر.

(٢) أي : في مقام التحريم والتحليل ، فإذا كان شي‌ء حراما لم يحلّ بغير الكلام ، وإن كان حلالا لم يحرم إلّا باللّفظ.

(٣) أي : بالتحليل والتحريم ، فلو لا النطق لا يحرّم الحلال ، ولا يحللّ الحرام شي‌ء آخر من القصد ، أو الكاشف الآخر كالكتابة والتقابض والإشارة ونحوها.

(٤) كالنذر ، لإناطة وجوب الوفاء به بالتلفظ بصيغة النذر ، ولا تكفي النية المجرّدة عنه. على المشهور. وكذا الحال في الظهار والطلاق.

(٥) كما في المعاطاة ، لوجود الكاشف عن القصد الى البيع وهو التعاطي ، ولكنه غير

٥٨٧

دون الأقوال (*).

______________________________________________________

كاف ، لتوقف حلية التصرف في المأخوذ بالمعاطاة على الإنشاء اللفظي المفقود حسب الفرض.

__________________

(*) لا يخفى أنّه قد تقدّم سابقا عدم اختلاف بين الحلّ والحرمة التكليفيّين والوضعيّين في المفهوم ، فالمراد بالمحلّلية والمحرّمية أعمّ من التكليف والوضع ، كإباحة وطي الأمة مثلا بقوله : «أحللت لك وطي أمتي» وكالملكية الحاصلة بقوله : «بعت». كما أنّ إطلاق مفهوم الحلّ والحرمة يقتضي عدم الفرق بين التحليل والتحريم مع الواسطة وبدونها.

أمّا المحلل تكليفا بلا واسطة كتحليل مالك الأمة ، ومع الواسطة كعقد النكاح الموجب لتحقق الزوجية التي هي توجب حلية الاستمتاعات.

وأمّا المحرّم تكليفا بلا واسطة كالظهار ، ومعها كالطلاق القاطع للزوجية ، والموجب لحدوث الأجنبية التي تترتب عليها حرمة الاستمتاعات.

وأمّا المحلّل الوضعي فكالعقود الصحيحة الموجبة للنفوذ وحصول الانتقال ، أو غيره مما هو مقصود في المعاملة.

وأمّا المحرّم الوضعي فكالعقود الفاسدة كالبيع الربوي والغرري ، وكالشروط المفسدة لها.

بل مقتضى إطلاق موضوعية طبيعة الكلام هو كون كلام واحد محلّلا ومحرّما كالفسخ ، فإنّه يحرّم المثمن على المشتري ، والثمن على البائع ، أو محلّلا فقط أو محرّما كذلك.

بل مقتضى الإطلاق المزبور شمول الكلام لكلام الشارع ، فمحللية المعاطاة وضعا بواسطة الكلام هو عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود ونحوه ، فكلام الشارع في مقام

٥٨٨

.................................................................................................

__________________

الجعل قد يكون محلّلا كما في المعاطاة ، وقد يكون محرّما كما في بيع المجهول ونحوه سواء أكان مع الوسط أم بدونه.

وبالجملة : فيمكن الاستدلال على محلّلية المعاطاة وضعا بأنّ الكلام محلّل ، والمراد بالكلام هو مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ).

وعلى هذا المعنى يندفع إشكال تخصيص الأكثر الآتي في كلام المصنف قدس‌سره ، إذ جميع المحرّمات والمحلّلات ترجع إلى سببية الكلام لهما ، فإنّ تنجّس المأكولات والمشروبات يوجب حرمتهما بكلام دلّ عليها ، كما أنّ حليّتهما بتطهيرهما أيضا مما دلّ عليه كلام الشارع.

وكذا محلّلية التذكية وذهاب الثلثين ، وتخليل الخمر ، واستبراء الحيوان الجلّال وتخميس المال المختلط بالحرام ، وغير ذلك من موارد التحليل. وكذا محرّمية موت الحيوان بغير التذكية ، وغليان العصير ، والجلل ، وخلط المال الحرام بالمال الحلال ، إلى غير ذلك من موارد التحريم ، فإن التحليل والتحريم في الجميع مما دلّ عليه كلام الشارع.

إلّا أن يقال : إنّه مع البناء على تعميم الكلام لكلام الشارع لا يستفاد الحصر أيضا ، لأنّ الأحكام الثابتة بقاعدة الملازمة خارجة عن هذا الحصر ، فالحصر الحقيقي لا يتصور في محلّليّة الكلام ومحرّميّته ، فلا بدّ من حمله على الحصر الإضافي.

والحق أنّ دلالة كلمة «إنّما» على الحصر محلّ تأمل كما ذكر في محله.

لكن هذا التوجيه أجنبي عن مقالة المستدل بهذه الرواية على اعتبار اللفظ في إنشاء المعاملات. وعليه فتوجيه كلامه بأنّ المحلّلات والمحرّمات تنتهي بأسرها إلى بيان الشارع ممّا يأباه كلام المستدل جدّا.

٥٨٩

الثاني (١) أن يراد بالكلام (٢) اللّفظ مع مضمونه ، كما في قولك : «هذا الكلام صحيح أو فاسد» (٣) ، لا مجرّد اللفظ أعني الصوت. ويكون المراد (٤) : أنّ المطلب الواحد يختلف حكمه الشرعي حلّا وحرمة باختلاف المضامين المؤدّاة بالكلام.

______________________________________________________

(١) محصل هذا الاحتمال الثاني : أنّ المقصود الواحد يختلف حكمه باختلاف المضامين المؤدّاة بالكلام ، يعني : أنّ المقصود الواحد إذا أدّى بعبارة مخصوصة صار حلالا ، وإن أدّى بعبارات اخرى لم يحل ، مثلا : يكون الغرض من النكاح السلطنة على بضع المرأة ، وهو يحصل بقولها : «متعتك نفسي» ولا يحصل بقولها : «سلّطتك على بضعي أو آجرتك بضعي».

وكذا البينونة المقصودة بالطلاق ، فإنّها تحصل بقول الزوج : «أنت طالق» ولا تتحقق بقوله : «أنت خليّة أو مسرّحة أو مطلّقة أو بريّة».

فملخص هذا الوجه هو ملاحظة المطلب الوحداني المقصود الذي يمكن أداؤه بمضامين متعددة ، فيكون أداؤه بمضمون محرّما وبمضمون آخر محلّلا. وعليه فليس المراد في هذا الوجه الثاني محلّلية وجود اللفظ ومحرّمية عدم اللفظ كما كان في الاحتمال الأوّل ، إذ على الاحتمال الثاني يوجد اللفظ في الجميع ، لكن المراد من «إنما يحرم ويحلل الكلام» هو محلليّة لفظ ومحرّمية لفظ آخر ، مع اشتراكهما في تأدية المطلب الواحد.

ويؤيّد إرادة هذا الاحتمال ما ورد في أخبار عقد المزارعة ، وسيأتي بيانها.

(٢) في قوله عليه‌السلام : «انما يحلل الكلام ويحرم الكلام».

(٣) حيث إنّ مقصود القائل : «هذا الكلام صحيح» هو صحة مضمونه ، لا مجرّد صحة الألفاظ والكلمات إعرابا وبناء ، فالمنظور إليه هو المفاد والمدلول اللّذان يتوصل إليهما بالألفاظ.

(٤) أي : ويكون المراد من محلّلية الكلام ومحرّميته : أنّ المطلب الواحد .. إلخ.

٥٩٠

مثلا المقصود الواحد ـ وهو التسليط على البضع مدة معيّنة ـ يتأتّى بقولها : «ملّكتك بضعي أو سلّطتك عليه أو آجرتك نفسي أو أحللتها لك» وبقولها : «متّعت نفسي بكذا» فما عدا الأخير موجب لتحريمه (١) ، والأخير محلّل.

وعلى هذا المعنى (٢) ورد قوله عليه‌السلام : «إنّما يحرّم الكلام» في عدة من روايات المزارعة :

منها (٣) : ما في التهذيب عن ابن محبوب عن خالد بن جرير عن أبي الربيع

______________________________________________________

(١) المراد من إيجاب تلك العبارات لحرمة المرأة هو عدم تأثيرها شرعا في حلّية البضع ، وإلّا فالحرمة ثابتة قبل هذه الألفاظ من جهة كونها أجنبيّة.

(٢) أي : على هذا الوجه الثاني ـ من معنى الكلام المحلّل والمحرّم ـ ورد قوله عليه‌السلام في روايات المزارعة : «إنّما يحرّم الكلام» وغرضه تأييد هذا الاحتمال الثاني.

وتقريب التأييد : أنّ قوله عليه‌السلام : «إنّما يحرّم الكلام» في باب المزارعة هو نفس التعبير الوارد في رواية خالد بن نجيح من قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» وحيث إنّ المقصود بالجملة الواردة في المزارعة واضح لا إجمال فيه ، فليكن التعليل في رواية خالد ـ من جهة مطابقة المتن ـ محمولا على هذا الاحتمال الثاني الذي هو ظاهر رواية المزارعة أيضا.

ووجه ظهورها : أنّ مقصود المالك والعامل جعل حصة الأوّل ثلثا وحصّة الثاني ثلثين ، وهذا المطلب الواحد إذا أنشئ باشتراط ثلث للبقر وثلث للبذر لم يقع صحيحا ، بل هو عقد فاسد ، وإذا أنشئ بقول الزارع : «أزرع في أرضك ولك منها ثلث ولي ثلثان» كان صحيحا. ثم علّل عليه‌السلام بطلان الإنشاء الأوّل بقوله : «فإنّما يحرّم الكلام» ومن المعلوم أنّ مسانخة العلّة للحكم المعلّل بها ضرورية ، فيتعيّن أن يراد بجملة «إنّما يحرّم الكلام» إنشاء عقد المزارعة بلفظ دون لفظ آخر.

وحيث إن رواية خالد قد اشتملت على هذا المتن كان المناسب حمل «الكلام» على هذا الاحتمال الثاني ، وهو اللفظ مع مضمونه.

(٣) وكذا يشتمل على التعليل روايتان أخريان :

٥٩١

الشامي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر ، فيشترط عليه ثلثا للبذر وثلثا للبقر ، فقال : لا ينبغي له أن يسمّي بذرا ولا بقرا ، ولكن يقول لصاحب الأرض : أزرع في أرضك ، ولك منها كذا وكذا ، نصف أو ثلث أو ما كان من شرط ، ولا يسمّي بذرا ولا بقرا ، فإنّما يحرّم الكلام» (١).

الثالث (١) أن يراد بالكلام في الفقرتين :

______________________________________________________

الأولى : صحيحة الحلبي قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثا ، وللبقر ثلثا ، قال : لا ينبغي أن يسمّي شيئا ، فإنّما يحرّم الكلام» (٢).

الثانية : معتبرة سليمان بن خالد ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرّجل يزارع ، فيزرع أرض آخر ، فيشترط للبذر ثلثا وللبقر ثلثا ، قال : لا ينبغي أن يسمّي بذرا ولا بقرا ، فإنّما يحرّم الكلام» (٣).

(١) هذا الاحتمال الثالث مبني على حمل «الكلام» في جملة التحريم والتحليل على تعبير واحد وجملة واحدة ، مع كون محرميته ومحلّليته بحسب تعدد المحلّ أو الوجود والعدم.

ويمكن توضيحه بوجهين :

الأوّل : ما يظهر من الفاضل النراقي (٤) ، وحكي عن المحقق القمي في جامع الشتات وسبقهما المحدث الكاشاني ، حيث قال : «الكلام هو إيجاب البيع ، وإنّما يحلّل نفيا ، وإنّما يحرّم إثباتا» (٥).

ومحصله : أنّ المراد بالكلام في الفقرتين لفظ واحد يكون محرّما في حال وجوده ، ومحرّما في حال عدمه ، أو بالعكس ، بأن يكون وجوده محلّلا وعدمه محرّما. فالأوّل وهو

__________________

(١) تهذيب الأحكام ، ج ٧ ، ص ١٩٤ ، باب المزارعة ، الحديث : ٨٥٧ ، وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٠١ ، الباب ٨ من أبواب أحكام المزارعة والمساقاة الحديث : ١٠.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٩٩ ، الباب ٨ من أبواب المزارعة والمساقاة ، الحديث : ٤.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٠٠ ، الباب ٨ من أبواب المزارعة والمساقاة ، الحديث : ٦.

(٤) مستند الشيعة ، ج ١ ، ص ٣٦٢.

(٥) الوافي ، ج ٣ ، ص ٥٩ ، الطبعة الحجرية.

٥٩٢

الكلام الواحد (١) ، ويكون تحريمه وتحليله باعتبار وجوده وعدمه ، فيكون وجوده محلّلا وعدمه محرّما ، أو بالعكس. أو (٢) باعتبار محلّه وغير محلّه ، فيحلّ في محلّه ويحرّم في غيره.

ويحتمل (٣) هذا الوجه الروايات الواردة في المزارعة.

______________________________________________________

محرّمية وجود الكلام نظير تسمية البذر والبقر في إنشاء المزارعة ، فإنّه محرّم أي يوجب استمرار الحرمة السابقة على العقد ، وعدم هذه التسمية محلّلة. والثاني نظير إذن المالك ـ قولا ـ لغيره في التصرف في ماله ، فإنّ وجود هذا اللفظ محلّل ، وعدمه محرّم.

الثاني : أنّ المراد بالكلام وجوده ، ويكون اتصافه بالمحلّلية والمحرّمية باعتبار وجوده في محلّ أو زمان ، فاللفظ الواحد محرّم في محلّ ومحلّل في محل آخر. مثلا : صيغة «أنكحت وقبلت» إن صدرت من المحرم كانت محرّما غير مؤثّر في حدوث علقة الزوجية ، وإن صدرت من المحلّ كانت محلّلا ومؤثّرا في التزويج. وكالعقد على ذات العدّة ، فإنّه محرّم أبدا ، وعلى الخليّة محلّل.

(١) يعني : فالمتصف بالتحليل والتحريم حينئذ كلام واحد مع اتحاد مضمونه ، وهذا هو الفارق بين هذا الوجه الثالث وبين سائر الوجوه. بخلاف الوجه السابق ، فإنّ المتصف بهما كلامان ، حيث إنّ تسمية البذر والبقر محرّم ، والتعبير بالنصف أو الثلث كلام محلّل.

فالفرق بين هذا الوجه وسابقه هو : تعدد الكلام المتصف بالتحليل والتحريم هناك واتحاده هنا.

كما أنّ فرق هذا الاحتمال مع الاحتمال الأوّل هو : أنّ المناط في التحريم والتحليل هناك كان في طبيعة الكلام في مقابل الفعل ، لا بما أنّه كلام واحد أو متعدّد ، ولا باعتبار وجوده في محلّ وعدمه في محل آخر.

(٢) معطوف على «باعتبار» وهذا إشارة إلى الاحتمال الثاني المذكور في الوجه الثالث.

(٣) أي : الوجه الثالث ، فيقال : انّ وجود تسمية البذر والبقر محرّم ، وعدمها محلّل. أو يقال : انّ قول الزارع للمالك : «لي الثلثان ولك الثلث» محلّل ، وعدمه محرّم.

وأمّا تقريب احتمال حمل أخبار المزارعة على الوجه الثالث فهو : نهي الامام عليه‌السلام عن

٥٩٣

الرابع (١) أن يراد من الكلام المحلّل خصوص المقاولة والمواعدة ، ومن الكلام المحرّم إيجاب البيع

______________________________________________________

تسمية ثلث للبذر وثلث للبقر ، فهذه التسمية محرّمة وموجبة لفساد العقد وحرمة التصرف ، وعدم هذه التسمية محلّل ، بأن يقول ـ كما علّمه عليه‌السلام ـ : «لي الثلث ولك الثلثان» مثلا.

فإن قلت : إنّ احتمال إرادة هذا الوجه الثالث من روايات المزارعة ينافي تصريح المصنف قدس‌سره في الوجه الثاني بقوله : «وعلى هذا المعنى ورد قوله عليه‌السلام : إنّما يحرّم الكلام». والمنافاة واضحة ، لأن أخبار المزارعة إمّا أن تكون مجملة محتملة لكل من الوجه الثاني والثالث ، وإمّا أن تكون ظاهرة في خصوص الاحتمال الثاني ، فإن كانت محتملة لكلا الوجهين لم يصحّ قوله في الوجه الثاني : «وعلى هذا المعنى ورد ..» وإن كانت ظاهرة في خصوص الاحتمال الثاني لم يصح قوله هنا : «ويحتمل هذا الوجه الروايات الواردة في المزارعة».

قلت : لا تنافي بين كلامي المصنف قدس‌سره ، لأنّ مدعاه في الاحتمال الثاني هو ظهور أخبار المزارعة فيه ، وأنّ المطلب الواحد يمكن تأديته بعبارتين : إحداهما محلّلة والأخرى محرّمة. ومن المعلوم أنّ هذا الظهور لا ينافي احتمال تنزيل تلك الأخبار على الوجه الثالث ، بأن يقال : إنّ وجود الكلام ـ أي تقييد حصّة العامل بالبذر والبقر ـ محرّم ، وعدم هذا التقييد محلّل.

والحاصل : أنّ ظهور الكلام في معنى لا ينافي احتمال إرادة معنى آخر منه. وإنما يتحقق التهافت بينهما إذا ادّعي تارة صراحة الكلام في مؤداه ، واخرى احتماله لمعنى آخر.

(١) محصّل هذا الوجه : أنّ المراد بالكلام المحلّل ـ بالنظر إلى صدر الرواية ومورد السؤال فيها ـ خصوص المقاولة ، وبالكلام المحرّم إيجاب البيع ، لأنّه بيع قبل الشراء ، وهو غير جائز. وتقدم مزيد توضيح لهذا الوجه عند بيان فقه الرواية قبل الشروع في المقام الأوّل المنعقد لبيان محتملات التعليل.

ثم إنّه ينبغي تتميم الكلام ببيان فوارق هذه المحتملات الأربعة ، فنقول : انّ الكلام في هذا الوجه الرابع متعدّد ، لكون المقاولة التي هي الكلام المحلل مغايرة لإيجاب البيع الذي هو الكلام المحرّم. فهذا الوجه الرابع يغاير الوجه الثاني في أنّ المضمون فيه متعدد ، إذ المواعدة غير الإيجاب.

وبعبارة أخرى : المقاولة والبيع مطلبان ، لا مطلب واحد.

٥٩٤

وإيقاعه (١) (*).

______________________________________________________

بخلاف الوجه الثاني ، فإنّ المقصود من الكلام شي‌ء واحد ، وهو كون ثلثي الزرع للزارع ، والاختلاف إنّما يكون في التأدية ، وعليه فيكون المعنى الرابع أخص من الثاني.

ويشارك هذا الوجه الرابع الوجه الثاني في تعدد الكلام الموضوع للتحليل والتحريم هذا.

والوجه الرابع يغاير الوجه الثالث بالمباينة ، لأنّ الكلام المحلّل والمحرّم متعدد في الرابع ، ومتّحد في الثالث.

كما أنّ هذا هو الفرق أيضا بين الوجه الثاني والثالث ، فإنّ الكلام المحلّل والمحرّم في الوجه الثاني متعدد ، وفي الثالث متّحد.

كما أنّه ظهر الفرق بين مجموع هذه الوجوه الثلاثة وبين الوجه الأوّل ، بكون الملحوظ استقلالا في الأوّل هو اللفظ مع الغض عن معناه ، بخلاف الوجوه الثلاثة ، فإنّ الملحوظ فيها استقلالا هو المعنى ، واللفظ ملحوظ فيه آليّا ، كما تقدم آنفا. فالفرق بين الوجه الأوّل وبينها هو التباين.

(١) فاللّام في قوله عليه‌السلام : «الكلام» على هذا المعنى الرابع يكون للعهد ، فلا يستفاد منه ضابط مطّرد في جميع الموارد.

هذا تمام الكلام في مقام الثبوت ، وسيأتي الكلام في مقام الإثبات.

__________________

(*) وفي التعليل احتمال خامس وسادس ، فالأوّل ما احتمله المحقق النائيني قدس‌سره قال المقرر : «أن يراد من الكلام نفس معنى اللفظ ، لا اللفظ بمعناه ، فيصير حاصله : أنّ البيع قبل الشراء محرّم ، وبعده محلّل. وهكذا في باب المزارعة ، فإنّ جعل شي‌ء بإزاء البقر والبذر محرّم ، وجعله بإزاء عمل الزارع محلّل» (١).

وقد سبقه إلى هذا المعنى صاحب الجواهر (٢) والمحقق الخراساني وغيرهما (٣).

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٦٦.

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢١٧.

(٣) حاشية المكاسب ، ص ١٥.

٥٩٥

.................................................................................................

__________________

ومحصّل هذا الوجه : أنّ المراد بالكلام هو الالتزام المعاملي السالب عرفا للاختيار ، والمراد بالتحريم والتحليل بالإضافة إلى شخصين ، وهما البائع والمشتري ، لا إلى كلامين من شخصين ، بحيث يكون أحدهما محرّما والآخر محلّلا ، فإن المثمن يحرم على البائع بالتزامه المعاملي ، ويحلّ للمشتري ، وفي الثمن بالعكس. وإطلاق الكلام على الالتزام شائع. ومنه «كلام اللّيل يمحوه النهار» كما قد يطلق عليه القول ، فيقال : «أعطيت قولا بذلك» وقوله تعالى (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ) (١).

وبعبارة أخرى : لا يراد بالكلام اللفظ ، ولا دخله في الأثر ، إذ المؤثّر هو المعنى ، والكلام بما أنّه فإن في معناه ، إذ هو ما به ينظر لا فيه ينظر ، فالكلام المحلّل والمحرّم هو الالتزام المعاملي المحرّم للمبيع على البائع والمحلّل له للمشتري.

وهذا المعنى الذي أفاده صاحب الجواهر قد يساعده الذوق الفقهي السليم ، ويتأيّد بكثير من النصوص الواردة في بيع الدلّال ، كصحيحة ابن سنان الآتية في المتن وغيرها ممّا رواها ثقة الإسلام في باب بيع ما ليس عنده ، وأنّه إن كان مجرّد مفاوضة ومقاولة فلا بأس ، وإن كان إيجاب البيع ففيه بأس.

لكن الإنصاف أنّ هذا الوجه يستلزم إسقاط خصوصية الكلام المأخوذ موضوعا للتحليل والتحريم ، ولغوية ذكره ، وهو بمكان من الفساد. فمقتضى ظاهر التعليل هو كون الكلام المنشأ به إيجاب البيع قبل الشراء محرّما ، وبعده محلّلا ، فالمناط في التحريم والتحليل هو الكلام ، فيدل قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلل الكلام ويحرم الكلام» على كون إيجاب البيع المتحقق بالكلام دون غيره قبل الشراء محرّما ، وبعده محلّلا ، فلا عبرة بإيجاب البيع بغير الكلام كإنشائه بالمعاطاة.

وما أفاده المحقق الايرواني قدس‌سره في تأييده بإطلاق الكلام على الالتزام المجرّد عن

__________________

(١) السجدة ، الآية : ١٣.

٥٩٦

.................................................................................................

__________________

اللفظ استشهادا بمثل «كلام الليل يمحوه النهار» غير ظاهر ، إذ لو سلّم الإطلاق المزبور لم يقتض سقوط أصالة الحقيقة في معنى الكلام ، وحمله على الالتزام المجرّد عن النطق. ولو كان المحلّل والمحرّم هو الالتزام البيعي لكان المناسب أن يقال : «يحلل البيع ويحرم البيع».

هذا مضافا إلى : لزوم جعل الحصر إضافيا ، أي كون البيع محرّما بالإضافة إلى المقاولة التي ليست محرّمة ، مع ظهور «انما» في حصر المحلّل في البيع بالإضافة الى كل شي‌ء.

الاحتمال السادس : ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره وهو : «أنّ الإيجاب الصحيح في ذاته يؤثر تارة في الحلّ واخرى في الحرمة ، كالنكاح المؤثّر في الحلية ، والطلاق المؤثّر في الحرمة. والمراد : أنّ السبب المؤثر تارة في الحلية واخرى في الحرمة منحصر في الكلام. لا أنّ الصحيح المحلّل ، والفاسد المحرّم منحصر في الكلام حتى يورد عليه بالإشكال في المحلّلية والمحرّمية» (١).

وحاصله : أنّ الموصوف بالمحلّلية والمحرّمية هو خصوص الإنشاء الصحيح ، ولا عبرة بالإنشاء الفاسد أصلا. فالكلام الصحيح المحلّل كالعقد في النكاح ، والمحرّم كالطلاق.

وبعبارة أخرى : شأن طبيعة الكلام الصحيح : التحليل والتحريم ، فهو ينقسم الى قسمين. لا أنّ الكلام الواحد محلّل وجودا ومحرّم عدما. أو بالعكس. أو أنّ الكلام إن كان مقاولة فهو محلّل ، وإن كان بيعا فهو محرّم ، وغير ذلك من المحتملات.

وهذا ينطبق على مورد الرواية وهو بيع ما ليس عنده ، فإنّ الدلّال إذا أوجب البيع قبل أن يتملّك المبيع كان إنشاؤه الصحيح محرّما ، وإن أوجبه بعد تملكه له كان محلّلا ، هذا.

وهذا الاستظهار وإن كان وجيها ، لكن تطبيقه على مورد سؤال خالد لا يخلو من شي‌ء ، لأنّه سأل عن حكم الربح وبيع الثوب من الآمر ، فأجابه عليه‌السلام ـ وكما في روايات أخرى ـ بأنّ الآمر إن كان بالخيار فلا بأس ، وإلّا ففيه بأس ، ثم علّله بمحلّلية الكلام ومحرّميته.

ولا يبعد حمله على المعنى الثالث من عدم محرّمية المقاولة ومحرّمية إيجاب البيع ،

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٣٧.

٥٩٧

ثم (١) إنّ الظاهر عدم إرادة المعنى الأوّل (٢) ، لأنّه (٣) ـ مع لزوم تخصيص الأكثر ،

______________________________________________________

(١) هذا ناظر إلى المقام الثاني وهو الإثبات ، وأنّ أيّ واحد من تلك الوجوه الأربعة يكون ظاهر الكلام ومرادا منه.

(٢) مع أنّ المجدي للاستدلال بذيل رواية خالد بن الحجاج على عدم لزوم الملك بالمعاطاة هو إرادة هذا المعنى الأوّل.

(٣) أي : لأن المعنى الأوّل يوجب ، وهذا وجه عدم إرادة الاحتمال الأوّل ، وهو يرجع إلى وجهين :

أحدهما : أنّ المعنى الأوّل يستلزم تخصيص الأكثر ، لأنّ مقتضاه حصر المحلّل والمحرّم في الكلام ، مع أنّه ليس كذلك ، لكثرة المحرّمات والمحلّلات في الشريعة ، مع عدم كون المحلّل والمحرّم فيها كلاما ، كمحرّمية الغليان ، ومحلّلية ذهاب الثلثين ، ومحرّمية الموت بغير التذكية للحيوان القابل للتذكية ، ومحلّلية التذكية ، ومحرّمية الجلل ، ومحلّليّة الاستبراء منه ، إلى غير ذلك.

ثانيهما : أنّ الفقرة المذكورة ـ أعني بها : محلّلية الكلام ومحرّميته ـ علّة للحكم المذكور قبله ، وإرادة المعنى الأوّل منها توجب عدم ارتباطها بالحكم المزبور وعدم انطباقها عليه ، لأنّ الحكم ـ على ما يستفاد من جملة من الروايات ـ هو الجواز إذا لم يوجب السمسار البيع قبل الشراء من مالكه ، ولا دخل للكلام في هذا الحكم أصلا ، بل المدار في الجواز وعدمه هو الإيجاب قبل الشراء. وعدم الإيجاب قبله ، فليس المدار في التحليل والتحريم هو النطق حتى يصحّ تعليل الحكم بالجواز وعدمه به ، فإنّ إيجاب البيع من قبيل المعنى دون اللفظ ، فلا يصحّ التعليل به.

__________________

أو على المعنى الخامس. وأمّا مجرّد انقسام الكلام الصحيح إلى محلّل تارة ومحرّم اخرى ، فلا يظهر انطباقه على مورد السؤال.

ولعلّ الاعتراف بعدم وضوح أمر التطبيق أولى من التصرف في ظاهر التعليل ، والله العالم بحقائق الأمور.

٥٩٨

حيث (١) إنّ ظاهره حصر أسباب التحليل والتحريم في الشريعة في اللفظ ـ يوجب (٢) عدم ارتباطه بالحكم المذكور في الخبر جوابا عن السؤال ، مع (٣) كونه كالتعليل له ، لأنّ ظاهر الحكم ـ كما يستفاد من عدة روايات أخر (٤) ـ تخصيص الجواز (٥) بما إذا لم يوجب البيع على الرجل قبل شراء المتاع من مالكه ، ولا (٦) دخل (*)

______________________________________________________

(١) هذا تعليل للزوم محذور تخصيص الأكثر ، يعني : أنّ ظهور التعليل في حصر سبب التحليل والتحريم الشرعيين في اللفظ يوجب ورود الاشكال عليه ، وذلك لكثرة الأسباب المحلّلة والمحرّمة التي لا دخل للفظ فيها أصلا ، وهذا يكشف إنّا عن إباء التعليل عن الحمل على الاحتمال الأوّل ، بل لا بد من إرادة معنى آخر منه لا يترتب عليه محذور تخصيص الأكثر وغيره.

(٢) خبر «لأنه» وهذا إشارة إلى الوجه الثاني من وجهي الإشكال على الاحتمال الأوّل ، ومحصله : أجنبية التعليل عن الحكم المعلّل به ، مع وضوح اعتبار المناسبة والسنخيّة بين الحكم الشرعي وعلته.

(٣) أي : والحال أنّ قوله عليه‌السلام : «إنّما يحلل الكلام ويحرم الكلام» يكون كالعلة لقوله عليه‌السلام : «لا بأس» وهل يتصور تعليل حكم بأمر أجنبي عنه؟

(٤) كمعتبرة ابن سنان المتقدمة في ص ٥٨٥ ، ورواية يحيى ابن الحجاج الآتية في ص ٦٠٧.

(٥) المستفاد من قوله عليه‌السلام : «لا بأس».

(٦) يعني : والحال أنّ الجواز المزبور لا دخل للفظ فيه حتى يعلّل بحصر المحلّل والمحرّم في الكلام.

__________________

(*) بل له دخل في التحليل والتحريم ، لما عرفت من دلالة قوله عليه‌السلام : «انما يحلل الكلام» على كون مناط التحليل والتحريم هو الإيجاب المتحقق بالكلام قبل شراء الثوب من مالكه وبعده ، دون غير الكلام من الفعل ، فلا يتحقق بالمعاطاة بيع ما ليس عنده.

٥٩٩

لاشتراط النطق في التحليل والتحريم في هذا الحكم أصلا ، فكيف يعلّل به (١)؟

وكذا (٢) المعنى الثاني ، إذ ليس هنا (٣) مطلب واحد حتى يكون تأديته بمضمون محلّلا وبآخر محرّما.

فتعيّن المعنى الثالث (٤) ، وهو : أنّ الكلام الدالّ على الالتزام بالبيع لا يحرّم

______________________________________________________

(١) يعني : فكيف يكون «إنّما يحلّل» علّة لمشروعيّة المقاولة بين الدلّال والمشتري للثوب ، وعلّة لعدم مشروعية إيجاب البيع قبل شراء الثوب من مالكه؟

(٢) معطوف على «المعنى الأوّل» أي : أنّ الظاهر عدم إرادة المعنى الثاني كعدم إرادة المعنى الأوّل ، ووجه عدم إمكان حمل التعليل ـ في رواية خالد ـ على الاحتمال الثاني هو : أنّه لو كان في مورد الرواية مطلب واحد يؤدّى بتعبيرين أو أكثر كما في النكاح المنقطع أمكن تطبيق التعليل على الاحتمال الثاني ، ولكن مورد السؤال وجواب الامام عليه‌السلام مطلب واحد ـ وهو إيجاب بيع ما لا يملكه السمسار ـ وهذا يؤدّي بإنشاء واحد لا بكلامين حتى يكون أحدهما محلّلا والآخر محرّما.

(٣) يعني : ليس في مورد الرواية مطلب واحد حتى يكون أداؤه بمضمونه محرّما وبمضمون آخر محلّلا ، بل الموجود في الرواية مطلب واحد يعبّر عنه بكلام واحد ، غايته أنّ هذا الكلام الواحد عدمه محلّل ووجوده محرّم ، يعني : أنّ إنشاء البيع ـ قبل أن يشتري السمسار الثوب من مالكه ـ محرّم ، لكونه من بيع ما ليس عنده ، وهو منهي عنه.

(٤) أو المعنى الرابع ، فإنّ مجرّد بطلان الوجهين الأوّلين غير كاف في تعيّن الاحتمال الثالث ، بل لا بد من إبطال الاحتمال الرابع أيضا. ولكن مقصوده قدس‌سره ملاءمة التعليل لمورد الرواية ، وتطبيقه عليه سواء قلنا بالاحتمال الثالث ، أم الرابع كما سيأتي تصريحه بقوله :

__________________

وكذا يظهر دخل الكلام بناء على الاحتمال الثاني ، لأنّ مقتضى حصر المحلّل والمحرّم في الكلام هو عدم تحقق بيع ما ليس عنده إلّا بالكلام ، فهذا الحصر ينفي تحقق إيجابه بغير الكلام ، وهذا كاف في إثبات عدم ترتب أثر على المعاطاة في غير هذا المورد.

٦٠٠