هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

صلوات الله وسلامه عليه نتوسّل ونستجير :

إنّ الاستدلال بالآية المباركة يكون تارة بجعل الأمر بالوفاء مولويا ، وأخرى إرشادا إلى صحة المعاملة بالمعنى الأعم ، ولمّا كان مختار المصنف هو الأوّل كان اللازم الاقتصار على المقدمات الدخيلة في إثبات مقصوده قدس‌سره.

الأولى : أنّ الأصل الأوّلي في مدلول هيئة «افعل» هو الوجوب التكليفي وبعث المكلّف نحو المادّة ، وهذا أصل متّبع لا يرفع اليد عنه إلّا بقرينة ، كما التزموا به في صرف الأمر بأجزاء المركبات إلى الإرشاد إلى الجزئية. وأمّا في المقام فلا قرينة تقتضي الحمل على الإرشاد إلى صحة المعاملة ولزوم العقد ، فيبقى الأمر بالوفاء على ظاهره من الوجوب المولوي.

الثانية : أنّ معنى الوفاء الذي وقع في حيّز الأمر هو القيام بمقتضى العقد ، كما عن البيضاوي ، فإذا دلّ عقد البيع على تمليك العاقد ماله لغيره وجب عليه العمل بمقتضاه من تسليمه الى المشتري ، وترتيب آثار مملوكيته له ، فلا يجوز أخذه منه بغير رضاه ، فإذا تصرّف البائع فيه بغير رضى المشتري كان ذلك نقضا للعقد لا وفاء به.

ثم إنّ في هذا الوفاء المأمور به مدلولا آخر ، وهو إطلاقه الأزماني والأحوالي ، وربما يعبّر عن الأوّل بعمومه بحسب الأزمان ، كما في دوران الأمر بين الرجوع الى حكم العام واستصحاب حكم المخصّص.

الثالثة : أنّ «العقود» التي يجب الوفاء بها تكليفا والعمل بمقتضاها قد اختلفت كلماتهم في المراد بها في خصوص الآية المباركة ، كما اختلفت كلمات أعلام اللغة في أصل معنى العقد ، فينبغي الإشارة إلى كلا الاختلافين.

أمّا في معناه اللغوي ففي اللسان : «العقد نقيض الحل» (١) وفي المفردات : «الجمع بين أطراف الشي‌ء ، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل وعقد البناء ، ثم يستعار ذلك

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٣ ، ص ٢٩٦.

٥٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

للمعاني نحو عقد البيع» (١) وفي القاموس : «عقد الحبل والبيع والعهد يعقده : شدّه» (٢) وفي الصحاح : «عقدت البيع والحبل والعهد فانعقد» (٣) وعن البيضاوي : «العقد : العهد المشدّد».

وفي مجمع البيان : «العقود جمع عقد بمعنى معقود ، وهو أوكد العهود. والفرق بين العقد والعهد : أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق والشّد ، ولا يكون إلّا بين متعاقدين ، والعهد قد ينفرد به الواحد ، فكل عهد عقد ، ولا يكون كل عقد عهدا. وأصله : عقد الشي‌ء بغيره ، وهو وصله به ، كما يعقد الحبل» (٤).

هذه بعض كلماتهم ، ولعلّها تتلخّص في معنيين :

أحدهما : مطلق العهد والالتزام النفساني سواء أكان بين شخصين كالعقود ، أم شخص واحد كالحلف واليمين ، وسواء أكان مشدّدا لا يجوز فسخه والعدول عنه أم غير مشدّد.

ثانيهما : خصوص العهد المؤكّد الذي يقتضي بحسب طبعه العمل بمقتضاه ، وعدم الرجوع عنه. هذا بحسب اللغة.

وأما اختلاف المفسّرين في خصوص ما يراد من العقود في هذه الآية المباركة ، فقد نقل أمين الإسلام أقوالا أربعة بعد تفسير العقود بالعهود.

أحدها : العهود التي كان أهل الجاهلية يعاهد بعضهم بعضا على النّصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمهم.

ثانيها : العهود التي أخذها الباري جلّ وعلا على عباده بالايمان به وطاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم عليهم.

__________________

(١) مفردات ألفاظ القرآن الكريم ، ص ٣٤١.

(٢) القاموس المحيط ، ج ١ ، ص ٣١٥.

(٣) صحاح اللغة ، ج ٢ ، ص ٥١٠.

(٤) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٥١.

٥٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ثالثها : العقود التي يتعاهدها الناس كعقد الأيمان وعقد النكاح والعهد والبيع ، أي العقود الفقهية والمعاملات بالمعنى الأعم.

رابعها : العهود المأخوذة من أهل الكتاب على العمل بما فيها من تصديق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم رجّح أمين الإسلام قدس‌سره القول بعموم العهود لكلّ ما أوجبه الله تعالى على العباد والفرائض والحدود والعقود الفقهية المتداولة بين العقلاء (١).

وهذه المعاني الأربعة أنهاها الفاضل النراقي إلى ستة أو ثمانية ، فراجع كلامه (٢).

وكيف كان فتقريب الاستدلال بالآية الشريفة على لزوم المعاطاة هو : أنّ العقد ـ سواء أكان مطلق العهد أم خصوص المؤكّد ـ يصدق على المعاطاة ، إذ لا شبهة في أنّ عنوان العقد لا يتقوّم باللفظ ، لحصول المعاقدة ـ والربط بين التزامين ـ بكلّ من اللفظ والفعل ، فيجب الوفاء بما يقتضيه العقد من تمليك أو تزويج أو غيرهما ، ويحرم نقضه.

ومن المعلوم أنّ الوفاء بالعقد ليس مجرّد ترتيب الأثر عليه حدوثا ، بل يدور صدق الوفاء مدار القيام بمقتضى العقد بقاء أيضا ، فلو لم يستمرّ العاقد في العمل بمقتضى العقد لم يصدق الوفاء به ، بل صدق مقابله وهو النقض الذي هو رفع اليد عن بقاء مقتضى العقد.

فإذا باع زيد كتابا من عمرو بالمعاطاة وسلّمه إيّاه ، ولكنّه بعد ساعة رجع واستردّ الكتاب منه لم يصدق أنّه وفى بالعقد بقول مطلق ، بل صدق عليه عنوان النقض ، لأنّ وفاءه كان في الساعة الأولى خاصة ، مع أنّ مدلول الآية الشريفة وجوب ترتيب أثر العقد في جميع الآنات المتأخرة عن العقد ، وهذا هو اللزوم ، إذ لا يجوز للبائع أن يفسخ العقد ويتملّك الكتاب مرّة أخرى.

وبهذا التقريب ظهر عدم جريان توهم التمسك بالعام في الشبهة المصداقية «لاحتمال تأثير الفسخ والرجوع في رفع أثر العقد ، وعود المال إلى البائع» وجه عدم الجريان : أنّ الآية

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٥١ و ١٥٢.

(٢) عوائد الأيام ، العائدة الاولى ، ص ٢ إلى ٥.

٥٤٣

بناء (١) على أنّ العقد هو مطلق العهد كما في صحيحة عبد الله بن سنان (١) ، أو العهد المشدّد كما عن بعض أهل اللغة (٢) ، وكيف كان (٣) فلا يختص (٤)

______________________________________________________

المباركة ـ بمقتضى الإطلاق ـ تدل على وجوب الوفاء بالعقد في كل حال وفي كل زمان ، فالتصرفات الواقعة بعد الفسخ محرّمة أيضا ، لكونها نقضا للعقد ، وينتزع من حرمة هذه التصرفات تكليفا فساد الفسخ وضعا ، وعدم ارتفاع العقد به بناء على ما حرّر في الأصول من انتزاع الوضع من التكليف وعدم تأصّله في الجعل ، هذا.

(١) قد عرفت وجه هذا التقييد ، وأنّ الاستدلال بالآية يتوقف على أحد القولين في المراد بالعقد.

أحدهما : مطلق العهد ، كما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره ـ بسند صحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام.

ثانيهما : خصوص العهد المشدّد ، كما ورد في كلام جمع من اللغويين.

وأمّا لو كان المراد بالعقود في هذه الآية المباركة أمورا أخر ـ كما تقدمت في كلام مجمع البيان ـ كانت أجنبية عمّا نحن فيه.

(٢) كالفيروزآبادي والجوهري والبيضاوي ، ونحوهم صاحب معيار اللغة.

(٣) أي : سواء أكان العقد مطلق العهد أم خصوص المشدّد يتجه الاستدلال ، لعدم اختصاص مطلق العهد ـ ولا خصوص المشدّد منه ـ باللفظ ، لصدقه على إنشائه بالفعل أيضا.

وبالجملة : فالمراد بالوفاء بالعقد هو العمل به مستمرّا ، ويقابله الحلّ والنقض. والمقصود بالأمر هو وجوب الوفاء تكليفا في جميع الأزمنة التي منها زمان فسخ أحدهما ، فلا ينفذ الفسخ في انحلال العقد.

(٤) أي : لا يختص العقد باللفظ كما قيل ، إذ المعاقدة كما تحصل بالقول كذلك تحصل بالفعل ، فتكون المعاطاة عقدا ، حيث إنّ المراد بالشّد مطلق الربط وإن لم يكن لازما ، ولذا يمكن الجمع بين التفسير بالعهد الموثق وبين حسن الوفاء به ، وهو كالمفسّر لسائر كلمات أهل اللّغة ممّن عبّر بالشّد كالقاموس والمعيار والمنجد وأقرب الموارد ، فالمراد بالأحكام

__________________

(١) تفسير القمي ، ج ١ ، ص ١٦٠.

٥٤٤

باللفظ (*) فيشمل المعاطاة.

______________________________________________________

والشّد هو إيقاع الربط كما يستفاد من المحكيّ عن أقرب الموارد «عقد الحبل والبيع والعهد واليمين ونحوها عقدا : أحكمه وشدّه ، وهو نقيض حلّه» وعنه «حل العقدة حلّا : نقضها وفتحها».

__________________

(*) خلافا للمحقق النائيني قدس‌سره حيث ذهب إلى اختصاص العقد باللفظ ، فإنّه بعد تقسيم اللزوم إلى حكمي وحقي ـ وتمثيله للأوّل بالنكاح والضمان والهبة لذي الرحم ونحو ذلك من القربات التي لا رجعة فيها ، ولذا لا تصحّ فيها الإقالة ، ولا يصح جعل الخيار لأحد الزوجين في النكاح وللثاني بالعقود المعاوضية اللفظية من التنجيزيّة كالصلح والبيع والإجارة ، والتعليقيّة كالسبق والرماية ـ قال ما لفظه :

«فإنّ بقوله : بعت ينشأ أمران : أحدهما مدلول مطابقي للّفظ ، وهو تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله الذي ينشأ بالفعل أيضا ، لأنّه أيضا مصداق لعنوان البيع بالحمل الشائع الصناعي.

وثانيهما : مدلول التزامي له ، وهو التزامهما بما أنشئاه ، وهو يختص بما إذا أنشأ التبديل باللفظ دون الفعل ، فإنّ الدلالة الالتزامية بحيث يرى في العرف والعادة ملازمة بين تبديل طرف إضافة بمثله والتزام البائع بكون المبيع بدلا عن الثمن والتزام المشتري بكون الثمن عوضا عن المثمن تجري في اللفظ.

وأمّا الفعل فقاصر عن إفادة هذا المعنى ، فإنّ غاية ما يفيده هو تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله إذا قصد منه. وأمّا التزام البائع ببقاء بدلية المبيع للثمن فليس الفعل دالّا عليه ... الى أن قال : فعلى هذا لا يمكن ثبوتا أن يفيد الفعل الالتزام العقدي ، بل هو خارج بالتخصص عن عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، فإنّ العقد إنّما يسمى عقدا لكونه مفيدا للعهد المؤكّد والميثاق والتعهد ، والفعل قاصر عن إفادة هذا المعنى.

نعم يمكن إيجاد هذا المعنى بالفعل أيضا ، إلّا أنّه لا بالتعاطي ، بل بالمصافقة ونحوها. وأمّا باب الألفاظ فحيث إنّ الملازمات العرفية من أنحاء المدلولات ، والعرف يرى من أوجد البيع بلفظ ـ بعت ـ أنّه التزم ببقائه على ما أنشأه ، فيمكن أن ينشأ بلفظ ـ بعت ـ

٥٤٥

.................................................................................................

__________________

معنيان : أحدهما نفس التبديل ، وثانيهما التزامهما بما التزما به من التبديل» (١).

وأنت خبير بأن ما أفاده قدس‌سره مما لم يقم عليه دليل ، إذ قوله : «بعت» مثلا لا يدلّ بمادته ولا بهيئته على الالتزام ببقاء بدليّة المبيع عن الثمن ، وذلك لأنّ معنى مادّة ـ بعت ـ هو التبديل أو التمليك ، فمدلول المادة ليس غير تبديل طرف الإضافة. والهيئة تدلّ على نسبة البيع الى المتكلم نسبة صدورية. وأمّا الالتزام باستمرار البدليّة بين المالين فهو معنى اسميّ أجنبيّ عن مدلول كل من المادة والهيئة.

فالحق أن يقال : إن كان الالتزام المزبور من لوازم التبديل المذكور عرفا ، فهذا اللازم ثابت له بمجرد تحققه ، لأنّه من لوازم ذات التبديل ، لا بما أنّه مفاد اللفظ ، فإذا ثبت المعنى وهو التبديل بلفظ أو فعل ثبت لازمه المزبور. وعليه فيمتنع التفكيك بين التبديل المتحقق باللّفظ أو الفعل وبين الالتزام ببقائه.

وإن لم يكن الالتزام المزبور من لوازم التبديل لم يدلّ التبديل عليه ، سواء أنشئ التبديل باللفظ أم بالفعل ، ومن المعلوم أنّ بناء العرف في تبديل الأموال بالبيع على استمرار البدلية بين الثمن والمبيع ، فنفس التبديل من غير فرق بين إنشائه باللفظ أو الفعل يدلّ على الالتزام المزبور. فدعوى «عدم صدق العقد على المعاطاة لخلوّها عن اللفظ ، فلا تدل على الالتزام بالبقاء» خالية عن البرهان.

فلا فرق بين اللفظ والفعل في الدلالة على الالتزام المذكور ، فصدق العقد على المعاطاة مما لا ينبغي الارتياب فيه ، فيشملها عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ويدل على نفوذ التبديل الحاصل من المعاطاة ، والالتزام ببقائه وعدم نقضه هذا.

وقد أورد على الاستدلال بالآية المباركة بوجوه :

الأوّل : ما في حاشية المحقق الايرواني قدس‌سره وغيرها من : أنّ التمسك بالآية بعد الفسخ غير جائز ، لكونه من التشبث بالدليل في الشبهة المصداقية ، إذ من المحتمل كون الفسخ موجبا لانحلال العقد وارتفاعه ، فلا يحرز معه وجود العقد وبقاؤه حتى يشمله عموم «أَوْفُوا» ، هذا (٢).

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٦٤.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٨١.

٥٤٦

.................................................................................................

__________________

وفيه : أنّه إن أريد بالعقد الإنشائي أو النفساني المقيّد بالإنشاء فلا إشكال في زواله بنفسه لا بالفسخ. وإن أريد به العهد النفساني فزواله بالفسخ منوط بجعل الفسخ رافعا له ، ومقتضى الإطلاق الأحوالي هو بقاء العقد ، ويترتب عليه وجوب إبقائه وعدم نقضه.

وكذا لو كان المشكوك فيه موضوع العقد كالمبادلة التي وقع العقد عليها.

تقرير الشبهة : أنّه يحتمل ارتفاع المبادلة بالفسخ ، فلا معنى حينئذ لوجوب الوفاء بالعقد عليها ، للشك في موضوع العقد ، الموجب للشك في اندراجه في موضوع وجوب الوفاء.

والجواب عن ذلك : أنّ الإطلاق الأحوالي يقتضي لزوم الوفاء في جميع الحالات التي منها حال الفسخ ومقتضى هذا الإطلاق وجود العقد بعد الفسخ ، فالمبادلة مثلا باقية بعد ، فيجب الوفاء بالعقد عليها.

وبالجملة : الإطلاق الأحوالي يحرز بقاء موضوع العقد بعد الفسخ.

الثاني : أنّ خطاب «أَوْفُوا» يمنع تكليفا عن الفسخ واسترجاع العين ، لا وضعا ، والمدّعى هو عدم تأثير الفسخ في حلّ العقد لا حرمة التصرف تكليفا ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّ وجوب الوفاء ليس تكليفيّا ، بل هو إرشاد إلى صحة المعاملة في جميع الأزمنة والحالات التي منها حال الفسخ ، إذ لا معنى لحرمة التلفظ بكلمة «فسخت أو رجعت» بل المراد هو الإرشاد إلى صحة العقود ونفوذها حدوثا وبقاء ، بحيث لا يؤثّر الفسخ في انحلال العقد ونقضه.

وثانيا : أنّ حرمة التصرف في العين بعد الفسخ تكشف عن عدم نفوذ الفسخ في رجوع الفاسخ ، إذ لا وجه لحرمته فيها بعد الفسخ إلّا بقاء العين على ملك مالكه الفعلي وعدم رجوعه الى ملك الفاسخ ، فحرمة التصرف لازم بقاء العقد وعدم انفساحه ، وهذه الدلالة الالتزامية كافية في إثبات بقاء العقد وعدم تأثير الفسخ فيه ، ولا نعني باللزوم الّا بقاء العقد بعد الفسخ ، هذا.

الثالث : أنّ الآية لا تجدي في إثبات اللزوم عموما ، وإنّما تجدي لإثباته في خصوص ما إذا كان العقد متعلّقا بالفعل حتى يخاطب بخطاب «أَوْفُوا» فلا تشمل الآية العقد الواقع على

٥٤٧

.................................................................................................

__________________

النتيجة كالمقام ، إذ العقد المعاطاتيّ واقع على النتيجة. هذا محصل ما يظهر من حاشية المحقق الايرواني قدس‌سره (١).

وفيه : أنّ البيع المعاطاتي كالقولي يتعلق بالتمليك أو التبديل ، من دون فرق بين العقد القولي والفعلي ، فكلّ منهما يتعلق بالتبديل مثلا الذي هو فعل يتعلق به خطاب (أَوْفُوا) ، هذا.

مع أنّ العقد الواقع على النتيجة يتعلق ب «أَوْفُوا» باعتبار مقتضياته ، فإنّ الملكية يترتب عليها آثار من حرمة تصرف غير المالك أو حرمة مزاحمته ، فالوفاء بالملكية عبارة عن التصرفات المترتبة عليها ، كما لا يخفى.

الرابع : احتمال إرادة غير ما تعارف بين الناس من المعاطاة ونحوها مما لا يكون مفاده غير التمليك والتملك ، بأن يكون مرادهم بالعقد ـ زائدا على الصيغة ونحوها ـ التشديد والإحكام بقول أو عمل ، فلا تشمل الآية المعاطاة المبحوث عنها في المقام ، فحينئذ لا يصح الاستدلال بالآية للزوم المعاطاة ، هذا.

وفيه : أنّه لا منشأ لهذا الاحتمال إلّا ما ورد في كلام بعض اللغويين من تفسير العقد بالعهد المشدّد. لكنّه غير وجيه ، لما فيه أوّلا من عدم ثبوته ، والظاهر أنّه بمعنى العقدة ، وهي أعم من المشدّدة ، فهي بالفارسية بمعنى «گره» سواء أكانت محكمة مبرمة أم لا ، ففي المنجد : «وعقد الخيط جعل فيه عقدة» (٢).

والتبادر يقضي بأنّه مطلق ما جعل في الحبل والخيط.

ويشهد لعدم اعتبار الاستيثاق والتوكيد في معناه قول من فسّره بمطلق العهود

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨١.

(٢) المنجد في اللغة ، ص ٥١٨ ، الطبعة العشرون.

٥٤٨

.................................................................................................

__________________

كابن عبّاس وجماعة من المفسرين على ما في مجمع البيان (١). وعلى هذا فاستعير عقد الحبل لمطلق الربط في الأمور الاعتبارية سواء أكان فيها شدّ أم لا.

وثانيا : من معارضة من قال من اللغويين باعتبار الشدّ فيه لقول من لا يقول باعتباره منهم ، فلا دليل حينئذ على اعتبار الشدّ فيه ، فلا مانع من التمسك بالآية الشريفة للزوم المعاطاة.

الخامس : لزوم تخصيص الأكثر ، لخروج المعاملات الجائزة ، وهي أكثر من العقود اللازمة ، بل وخروج العقود الخيارية ، فيخرج بسبب خيار المجلس مثلا مطلق البيوع ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّه لا يلزم ذلك ، لكثرة العقود اللازمة ، وقلة العقود الجائزة.

وثانيا : أنّ كل تخصيص أكثري ليس مستهجنا ، وأنّ المستهجن منه هو ما إذا كان الباقي تحت العام بعد التخصيص في غاية القلّة ، بحيث يكون التعبير عن القليل ببيان العام مستهجنا عند أبناء المحاورة ، وخارجا عن طريقة البيان عندهم ، هذا وأمّا الخيارات فهي من باب التقييد لا التخصيص ، والخيار يكون حينئذ من قبيل اعتبار التقابض في صحة بيع الصرف ، فالبيع المشدّد المعبّر عنه باللازم مقيّد بعدم الخيار فيه ، فالتقييد تارة يكون في ناحية الصحة ، وأخرى في ناحية اللزوم.

ثمّ إنّ هذا الإشكال ـ أي : لزوم تخصيص الأكثر ـ مبني على كون الآية المباركة بصدد بيان الوجوب التكليفي أو اللزوم الوضعي. وأمّا إذا كانت بصدد الإرشاد إلى الصحة فلا إشكال ، إذ ليس مفادها حينئذ إلّا الصحة المشتركة بين العقود ـ بأسرها ـ اللازمة والجائزة ، فلا يلزم تخصيص أصلا كما لا يخفى. لكن لازمه أجنبية الآية عن أدلة اللزوم بناء على ما يستفاد من المصنّف قدس‌سره من عدم كونها من أدلة صحة البيع ، حيث إنه لم يستدل بها عليها.

السادس : أنّ المراد بالعقود هي العقود المتعارفة في زمان نزول الآية الشريفة ، فلا عموم فيها يشمل المعاطاة.

وفيه : أنّ الجمع المحلّى باللام ظاهر في العموم الشامل للعقود المتعارفة في

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٥١.

٥٤٩

.................................................................................................

__________________

ذلك الزمان وغيره ، ومن المعلوم أنّ حمل اللام على العهد إلى عقود خاصة خلاف الأصل.

ونظير هذا الاشكال ما يقال أيضا من : أجنبية الآية عن العقود الفقهية والعهود المتعارفة ، إذ المراد بها العقود التي أخذها الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين من الإقرار بولاية أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين ، كما يظهر ممّا رواه القمّي عن أبي جعفر الثاني عليه‌السلام ، قال عليه‌السلام : «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقد عليهم لعليّ عليه‌السلام بالخلافة في عشرة مواطن ، ثم أنزل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) التي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليه‌السلام» (١).

وعليه فلا موضوع للاستدلال بهذه الآية على اللزوم من كون الأمر بالوفاء مولويا أو إرشاديا ، ومن كون العقود مطلق العهود أو خصوص الموثّق منها.

لكن يمكن أن يقال : بأنّ ورود الآية المباركة في الأمر بالوفاء بالميثاق المأخوذ من المسلمين ـ بل من كافّة أهل السماوات والأرضين ـ وتطبيقها عليه لا يمنع من عموميّتها المستفادة من الجمع المحلّى باللام ، ومن تفسيره بمطلق العهود كما في صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة ، فالمأمور به هو الوفاء بكل عقد وعهد التزم به المؤمن وأقرّ به ، سواء أكان التزاما معامليا أم نذرا أم عقد القلب على الانقياد للإمام المفترض الطاعة ، والقيام بما يقتضيه.

وعليه فلا مانع من هذه الجهة عن الأخذ بالعموم ، والله العالم.

السابع : ما عن الفاضل النراقي قدس‌سره من أنّه يحتمل أن يكون المراد بالعقود في الآية سائر معاني العهد كالوصية والأمر والضمان ، قال : «ولو سلّمنا أنّ للعهد معنى يلائم العقود الفقهية ، فإرادة ذلك من الآية غير معلومة». (٢)

وفيه : أوّلا : أنّه لم يظهر مرادفة العقد للعهد ، بل الظاهر خلافه.

وثانيا : أنّ المتسالم عليه بين اللّغويّين والفقهاء وغيرهم شمول «العقد» للعقود الفقهية.

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٤٣١.

(٢) عوائد الأيام ، ص ٨.

٥٥٠

وكذلك (١) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمنون عند شروطهم» (١)

______________________________________________________

الدليل الثامن : الأمر بالعمل بالشرط

(١) كما دلت آية وجوب الوفاء بالعقود على اللزوم ، كذلك يدلّ عليه ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «المؤمنون عند شروطهم» وهذا هو الدليل الثامن ، وذلك آخر الأدلة التي استدل بها المصنف قدس‌سره على أصالة اللزوم في الملك.

وينبغي التعرض لأمرين قبل تقريب الاستدلال :

الأوّل : أنّ هذا الحديث الشريف روي مرسلا عن النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وربما يرمى بالضّعف للإرسال ، لكنّه روي مسندا في نصوص معتبرة أسنده الإمام عليه‌السلام في بعضها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يسندها إليه في بعضها الآخر ، وإن كان كلام أوّلهم وآخرهم صلى الله عليهم أجمعين نورا واحدا نابعا من الوحي الإلهي وترجمانا له.

__________________

الثامن : ما عنه قدس‌سره أيضا من : أنّ العهد الموثق إمّا العقد اللازم شرعا ، فلا بدّ من إحرازه. ومعه لا حاجة الى التمسك بالآية. أو الموثّق العرفي ، فلا بدّ من إثباته. وليس مجرّد بنائهم على الإبقاء على مقتضى العقد توثيقا له ، لأنّ ما لا يقصد فيه الإتيان البتّة ليس عهدا ، فحصول التوثيق يحتاج إلى أمر آخر ، وعلى المستدل إثبات التوثيق عرفا (٢).

وفيه : ما عرفته من أنّ المراد بالتوثيق هو العرفي ، ولا موجب لإرادة اللزوم الشرعي من العقود اللازمة ، بعد ما مرّ من عدم كون الوثاقة أمرا زائدا على نفس الربط أو خصوص اللازم منه على الاحتمالين المتقدّمين ، فيصحّ التمسّك بالآية لصحّة كلّ معاملة على الثاني ، ولصحّة المعاملات المبنيّة على اللزوم عند العرف على الأوّل.

نعم مع الشك في الموضوع ـ أعني به العقدية ـ لا مجال للرجوع الى الآية المباركة كما هو واضح.

فتحصل : أنّه يصح التمسك بالآية على صحة المعاطاة بناء على كون (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بصدد بيان صحة العقود ، وعلى لزومها بناء على كونها بصدد اللزوم الوضعي ، هذا.

__________________

(١) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢١٨ ، الحديث : ٨٤ ، وص ٢٩٣ ، الحديث : ١٧٣.

(٢) عوائد الأيام ، ص ٨.

٥٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

ففي معتبرة منصور بن بزرج ـ الآتية في التعليقة ـ استدلّ الامام الكاظم عليه‌السلام بهذه الجملة على وجوب الوفاء بالشرط فقال : «فان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : المؤمنون عند شروطهم». (١)

وفي موثقة إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام : «أنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يقول : من شرط لامرأته شرطا فليف لها به ، فإنّ المسلمين عند شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما». (٢)

وكذا في معتبرتي عبد الله بن سنان عن الصادق عليه‌السلام (٣).

وفي معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث : «والمسلمون عند شروطهم ..». (٤)

وعليه فهذا المضمون قد قامت الحجة على صدوره من أهل بيت الوحي عليهم الصلاة والسّلام ، ومجرّد روايتها مرسلة في عوالي اللئالي غير قادح في الاعتبار.

مضافا الى : أنّها من الروايات المعتمد عليها في الكتب الفقهية من عصر شيخ الطائفة كما لا يخفى على المتتبع.

الثاني : أنّ المحقق الأردبيلي قدس‌سره استدل بهذا الحديث الشريف على اللزوم ، حيث قال : «لعلّه يظهر عدم الخلاف في أنّ مقتضى البيع هو اللزوم ، مستندا إلى الكتاب والسنة ، مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، ومثل قول أبي عبد الله عليه‌السلام : المسلمون عند شروطهم ، إلّا كل شرط خالف كتاب الله ، فإنّه لا يجوز ، في صحيحة عبد الله بن سنان ، وغير ذلك كما سيجي‌ء ، فهو مؤيّد لما قلناه من اللزوم في بيع المعاطاة ، فتذكّر» (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٠ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، الحديث : ٤.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٥٣ ، الباب ٦ من أبواب الخيار ، الحديث : ٥.

(٣) المصدر ، الحديث : ١ و ٢.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٤٠٨ ، الباب ٢١ من أبواب موانع الإرث ، الحديث : ١.

(٥) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ٣٨٣.

٥٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وقد حكاه المصنف عنه في أوّل الخيارات عند ذكر هذا النبوي في عداد أدلة اللزوم ، لكنه ناقش في دلالته بمنع صدق الشرط على الالتزامات الابتدائيّة ، فراجع.

وأمّا تقريب الاستدلال بهذا النبوي على لزوم كل عقد سواء أكان مقتضاه الملكية أم غيرها فهو : أنّ الشرط أطلق على الالتزام الابتدائي ـ لا خصوص الالتزام المأخوذ في ضمن عقد ومعاملة ـ في موارد :

منها : قوله عليه‌السلام في ردّ من اشترط على نفسه عدم التزويج بامرأة اخرى : «انّ شرط الله قبل شرطكم» حيث أطلق الشرط الأوّل على حكم الله الأوّلي من تشريع التزويج بأربع.

ومنها : قوله عليه‌السلام في خيار الحيوان : «الشرط في الحيوان ثلاثة أيّام» إذ المقصود بالشرط ليس الالتزام المجعول في عقد البيع ، بل نفس كون المشتري بالخيار إلى ثلاثة أيام.

ومنها : ما ورد في دعاء الندبة : «بعد أن شرطت عليهم الزهد في هذه الدنيا» فإنّ المقصود بالشرط هو الميثاق المأخوذ من الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام من الإعراض عن زخارف الدنيا والزهد فيها.

ومنها : غير ذلك مما سيأتي في التعليقة.

فإطلاق الشرط في النصوص على التعهّد الابتدائي مسلّم.

وكذا ورد في كلام بعض اللغويين ، قال في المنجد : «الشرط : إلزام الشي‌ء والتزامه» (١) وظاهره أعمية الشرط من الالتزام الابتدائي والضمني ، فكما يصدق الشرط على الالتزام بخياطة ثوب في ضمن بيع كتاب بدينار ، كذلك يصدق على نفس بيع الكتاب بدينار ، لما فيه من الالتزام بالمعاملة والمبادلة بين المالين.

وعليه فيشمل الشرط الالتزامات المعاملية ، من غير فرق بين كونها مبرزة بمظهر قولي كالبيع بالصيغة ، وفعلي كالبيع المعاطاتي ، فكأنّه قيل : إنّ المؤمن ملزم بشرطه ، وأنّه لا يزول شرطه بالفسخ ، فالبيع المعاطاتي من الالتزامات التي لا تزول بالفسخ ، وليس هذا إلّا اللزوم ،

__________________

(١) المنجد في اللغة ، ص ٣٨٢ ، الطبعة العشرون.

٥٥٣

فإنّ الشرط لغة (١) مطلق الالتزام (٢) فيشمل ما كان بغير اللفظ (٣).

______________________________________________________

فيدل الحديث المزبور على لزوم المعاطاة (*).

(١) لا بد أن يكون مقصود المصنف من اللغة : بعض اللغويين ، وإلّا لما صحّ نسبته إلى اللغة بقول مطلق ، إذ فيما بأيدينا من كتبهم تخصيص الشرط بالالتزام الضمني ، ففي اللسان : «إلزام الشي‌ء والتزامه في البيع ونحوه» (١) ونحوه في القاموس وأقرب الموارد. بل في المنجد أيضا قبل عبارته المتقدمة ، حيث قال : «شرط عليه في بيع ونحوه : ألزمه شيئا فيه».

وعليه فكون الشرط في اللغة بمعنى مطلق الالتزام غير ثابت. وتمام الكلام في التعليقة الآتية.

(٢) يعني : سواء أكان ابتدائيا أم ضمنيا ، وسواء أكان قوليا أم فعليا ، وعليه فالإطلاق هنا من ناحيتين.

(٣) كالمعاطاة ، فإنّ الالتزام القلبي فيها يكون كالالتزام في البيع القولي ، فيشمله الحديث الدال على وجوب الوفاء به بقول مطلق ، ومن المعلوم أنّ رجوع أحد المتعاطيين فيما انتقل عنه بالمعاطاة نقض للشرط ، وهو منهي عنه تكليفا ، وليس بنافذ وضعا ، وهذا هو المقصود من لزوم المعاطاة.

__________________

(*) فيه : أنّ الاستدلال المزبور مبني على كون الشرط مطلق الالتزام ، لا خصوص الالتزام الضمني ، وذلك غير ثابت ، لما عرفت من اختلاف اللغويين في معنى الشرط ، وذهاب أكثرهم إلى كونه التزاما في ضمن بيع ونحوه. ومقتضى القاعدة التساقط ، والمتيقّن ـ بل المتبادر ـ خصوص الالتزام الضمني ، فلا يطلق على الابتدائي حقيقة حتى يصح الاستدلال به على المعاطاة ، ولا أقلّ من الشك في الشمول.

لا يقال : إنّ استعماله في الشروط الابتدائية في الروايات كاف في ردّ قول بعض أهل اللغة ممّن خصّ الشرط بالضمني ، وإثبات كونه أعمّ منه ومن الابتدائي ، فيطلق «الشرط» على

__________________

(١) لسان العرب ، ج ٧ ، ص ٣٢٩.

٥٥٤

.................................................................................................

__________________

نفس البيع كما يطلق على الالتزام الواقع في ضمنه.

فمن تلك الروايات : قول أبي جعفر عليه‌السلام ـ في ردّ من اشتراط عدم التزويج بامرأة أخرى ـ : «ان شرط الله قبل شرطكم» (١) إذ المراد بشرط الله جلّ وعلا هو نفس تشريع التزويج بالثانية ، فأطلق الشرط على الحكم الأوّلي على حدّ إطلاقه على الالتزام الضمني ، المدلول عليه بقوله عليه‌السلام : «شرطكم».

ومنها : قول عائشة لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في قضية شراء بريرة ـ «إنّ أهل بريرة اشترطوا ولاءها» (٢) فتأمل.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «.. وشرط الله آكد». (٣)

ومنها : قوله عليه‌السلام : «الشرط في الحيوان ثلاثة أيّام» (٤).

ومنها : قول الامام السجّاد عليه‌السلام في دعاء التوبة : «وأوجب لي محبّتك كما شرطت.

ولك يا ربّ شرطي أن لا أعود في مكروهك». (٥)

ومنها : ما ورد في دعاء الندبة من قوله عليه‌السلام : «بعد أن شرطت عليهم الزّهد .. إلخ». هذا.

فإنّه يقال : بعد تسليم كونه مستعملا في الموارد المذكورة في الشرط الابتدائي ـ أنّ الاستعمال أعم من الحقيقة. مع إمكان التفصّي عن ذلك : أمّا في قوله عليه‌السلام : «شرط الله قبل شرطكم» و«شرط الله آكد» فبكونهما مجازا بقرينة المشابهة ، حيث إنّ شرط الرجل في ضمن عقد النكاح عدم التزويج على امرأته مشابه لشرطه تعالى جواز تعدد التزويج في النكاح.

وأمّا مثل قوله عليه‌السلام : «الشرط في الحيوان .. إلخ» فبأنّ المراد به ظاهرا غير الإلزام

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٤٦ ، الباب ٣٨ من أبواب المهور ، الحديث : ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٤٠ ، الباب ٣٧ من كتاب العتق ، الحديث : ١.

(٣) مستدرك الوسائل ، ج ١٣ ، ص ٣٠٠ ، الباب ٥ من أبواب الخيار ، الحديث : ٢.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٥١ ، الباب ٤ من أبواب الخيار ، الحديث : ١.

(٥) الصحيفة السجادية ، الدعاء الحادي والثلاثون : دعاء التوبة.

٥٥٥

.................................................................................................

__________________

والالتزام. وإطلاق الشرط عليه باعتبار الشرط الأصولي وهو كون اللزوم معلّقا على انقضاء الثلاثة ، فلزومه معلّق على انقضائها ، وجوازه معلّق على بقاء الثلاثة.

والحاصل : أنّ شرط جواز البيع هو عدم مضي الثلاثة ، فإطلاق الشرط على خيار الحيوان بهذه العناية.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «وأوجب لي محبّتك كما شرطت» فبإرادة التعليق منه أيضا ، حيث إنّ الحبّ معلّق على التوبة ، فليس المراد به الإلزام أو الالتزام كما هو مورد البحث.

وأمّا قوله عليه‌السلام : «ولك يا ربّ شرطي» فالمراد به هو الضمني ، لأنّ شرط عدم العود وقع في ضمن التوبة.

وأمّا شرط الولاء للبائع في قصّة شراء بريرة فظهوره في الالتزام الضمني لا الابتدائي مما لا يخفى ، فراجع الرواية الثانية من نفس الباب ، فإنّها كالصريحة في أنّ موالي بريرة شرطوا الولاء في ضمن البيع ، فقضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن الولاء للمعتق لا للبائع.

وأمّا إطلاقه على البيع في روايات باب من باع سلعة بثمن حالّا وبأزيد منه مؤجّلا ـ كقوله عليه‌السلام في رواية عمار في حديث «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث رجلا إلى أهل مكة ، وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع» (١) وفي رواية سليمان بن صالح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سلف وبيع ، وعن بيعين في بيع» (٢) ورواية الحسين بن زيد عن الصادق عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام في مناهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قال : ونهى عن بيعين في بيع» (٣) ـ فالظاهر أنّه من الإطلاق على الشرط بمعنى التعليق ، لا بمعنى الالتزام الابتدائي حتى يتم مدّعى المستدل.

توضيحه : أنّ المراد هو بيع سلعة بثمنين مختلفين ـ زيادة ونقيصة ـ باختلاف كونه

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ، ص ٣٦٧ و ٣٦٨ ، الباب ٢ من أبواب أحكام العقود ، الحديث : ٣ و ٤ و ٥.

٥٥٦

.................................................................................................

__________________

مؤجلا وحالّا ، فكأنه قال : إن كان حالّا فبكذا ، وإن كان مؤجّلا فبكذا ، فإطلاق الشرط على البيع حينئذ باعتبار هذا التعليق الذي هو شرط ، لا بمعنى الإلزام والالتزام حتى يكون التزاما ابتدائيا ، ويثبت به إطلاق الشرط على الالتزام مطلقا وإن كان ابتدائيا ، وباعتبار التبادل يصدق «بيعان في بيع».

وأمّا الروايتان الواردتان في أبواب المهور فهما :

الأولى : ما رواه منصور بن بزرج عن عبد صالح عليه‌السلام قال : «قلت له : إنّ رجلا من مواليك تزوّج امرأة ، ثم طلّقها ، فبانت منه ، فأراد أن يراجعها ، فأبت عليه إلّا أن يجعل لله عليه أن لا يطلقها ولا يتزوّج عليها ، فأعطاها ذلك ، ثم بدا له في التزويج بعد ذلك ، فكيف يصنع؟ فقال : بئس ما صنع ، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار؟ قل له : فليف للمرأة بشرطها ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : المؤمنون عند شروطهم». (١)

الثانية : ما رواه ابن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل قال لامرأته : إن نكحت عليك أو تسرّيت فهي طالق ، قال : ليس ذلك بشي‌ء إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من اشترط شرطا سوى كتاب الله فلا يجوز ذلك له ولا عليه». (٢)

ونقول فيهما : أمّا الرواية الأولى التي استدلّ بها على إلحاق الشروط الابتدائية بالضمنيّة حكما ـ وإن لم يصدق عليها الشرط موضوعا ـ فالجواب عنها ـ بعد الغض عن ظهورها في الشرط الضمني الواقع في ضمن العقد أو وقوع العقد مبنيّا عليه ـ هو : أنّ الإلحاق الحكمي إنّما يصح بعد اعتبار الرواية. وليس كذلك ، لأنّها معارضة بما دلّ على بطلان هذا النحو من

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٣٠ ، الباب ٢٠ من أبواب المهور ، الحديث : ٤.

وكلمة : «بزرج» بضم الباء الموحدة ـ وقد تفتح ـ وضمّ الزاء المعجمة ، وسكون الراء المهملة ثم الجيم ، معرّب : بزرگ أي الكبير ، نصّ عليه في القاموس ، كما نقله العلامة المامقاني قدس‌سره في تنقيح المقال.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٤٧ ، الباب ٣٨ من أبواب المهور ، الحديث : ٢.

٥٥٧

.................................................................................................

__________________

الشروط ، ولذا حملت على التقية أو الاستحباب ، هذا.

وأمّا الرواية الثانية الظاهرة في كون شرطيته مفروغا عنها ، وأنّ عدم الجواز إنّما هو لأجل مخالفته لكتاب الله ، ولا أقلّ من إثبات الإلحاق حكما ، ففيها : ـ مضافا إلى عدم ثبوت كونه ابتدائيا ، لقوة احتمال أن يكون الشرط في ضمن العقد ولو بوقوع عقد النكاح مبنيّا عليه ـ أن الاستدلال المزبور مبني على التقيّة ، حيث إنّ الطلاق لا يقع بهذا النحو مطلقا وإن كان الشرط سائغا ، ولعلّ بناء الناس على إدراج هذا النحو من الالتزام في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمنون عند شروطهم» إنّما كان لأجل قرائن ، لا لكونه مقتضى العرف واللغة.

والحاصل : أنّ دلالة هذين الخبرين على أعمية الشرط للابتدائي ـ وإلحاق الابتدائي بالضمني حكما ـ في غاية المنع.

وأمّا ما ورد في باب اشتراء الطعام وتغيّر السعر قبل قبضه من الروايات (١) ـ التي يظنّ منها إطلاق الشرط على البيع ، أو مطلق القرار ، وكذا في باب السلف وغيره ـ ففيه : أنّ المراد به ظاهرا هو الشرط بمعنى التعليق ، أو الشرط الضمني ، فلا تجدي في المقام ، ولا تثبت إطلاق الشرط على الالتزام الابتدائي حتى يقال : إنّ المعاطاة أيضا التزام ابتدائي ، فيشمله حديث : المؤمنون عند شروطهم.

فتلخص من جميع ما ذكرنا : أنّه لم يثبت إطلاق الشرط لغة وعرفا على الالتزام الابتدائي الذي جعل المصنّف قدس‌سره الاستدلال مبنيّا عليه ، هذا.

ولا يخفى أنّه يمكن منع صحة الاستدلال بالحديث المزبور ولو بعد تسليم أعمية الشرط للشرط الابتدائي موضوعا أو حكما ، وذلك لأنّ البيع مبادلة خاصة أو تمليك عين متمولة بعوض متمول على ما تقدم في محله ، وعلى التقديرين لا يندرج البيع وغيره من

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٤٠١ ، الباب ٢٦ من أبواب أحكام العقود.

٥٥٨

.................................................................................................

__________________

العقود في الشرط الذي معناه الالتزام ، ومن المعلوم أنّ الإلزام أو الالتزام ليس معنى مطابقيا للمعاملات ، ولا التزاميا لها. نعم بناء العقلاء على لزوم بعض المعاملات وإن كان مسلّما ، لكنه غير كون المعاملة إلزاما والتزاما ، كما هو مورد البحث ، فدعوى تماميّة الاستدلال بناء على أعمية الشرط للشروط الابتدائية غير مسموعة.

نعم لو ثبت كون الشرط مطلق الجعل والقرار ـ أو مطلق الجعل المستتبع للإلزام والضّيق كما عن بعض حواشي المتن ـ لكان البيع ونحوه داخلا فيه ، ولصحّ التمسك بحديث : المؤمنون عند شروطهم.

لكنهما ضعيفان ، إذ لازم الأوّل صحة إطلاق الشرط على جعل النصب والإشارات ، وهو كما ترى.

ولازم الثاني صحة إطلاق الشرط على جعل الأمارة الشرعية المستتبعة للضيق والإلزام ، ولم يعهد هذا الإطلاق أصلا.

نعم يمكن إلغاء الخصوصية عرفا والتعدي إلى الشروط الابتدائية ـ بل الى مطلق الجعل والقرار ـ بمناسبة الحكم والموضوع ، بدعوى : أنّ العرف يفهم من مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمنون عند شروطهم» أن ما يكون المؤمن ملزما به هو نفس الجعل وقراره من غير دخالة لعنوان الشرط فيه ، فالضمنيّة والابتدائية والشرط وسائر عهوده على السواء في ذلك ، فيتجه الاستدلال حينئذ بحديث «المؤمنون عند شروطهم» على لزوم المعاطاة ، هذا.

لكنه لا يخلو من تأمل ، لأنّ إلغاء الخصوصيّة منوط بالعلم بوحدة المناط ، أو ظهور اللفظ في العموم ولو بقرينة توجب كون اللفظ ظاهرا فيه عرفا. والكل مفقود في المقام.

ومجرد الاحتمال غير مجد كما لا يخفى. فالاستدلال بالحديث لإثبات لزوم المعاطاة وكونها كالبيع بالصيغة غير وجيه. هذا.

فتلخص ممّا ذكرنا : أنّ الاستدلال بحديث «المؤمنون عند شروطهم» لا يستقيم بشي‌ء من الوجوه المزبورة : من أعمية الشرط للشروط الابتدائية ، ومن إلغاء خصوصية الشرط ،

٥٥٩

والحاصل (١) أن الحكم باللزوم

______________________________________________________

(١) لمّا فرغ المصنف قدس‌سره من إقامة الدليل على أصالة اللزوم نبّه على ما تحصّل منها تمهيدا للمناقشة في ترتب الملك اللازم على خصوص المعاطاة في البيع. وحاصل تلك الأدلة الثمانية أمران :

الأوّل : أنّ الأصل في كل عقد مملّك هو اللزوم ، سواء حصل بالبيع أم الصلح أم الهبة أم غيرها ، وتزلزله منوط بدليل خاص.

الثاني : أنّ الأصل في خصوص البيع هو اللزوم ، سواء أنشئ باللفظ أم بالتعاطي. وعليه فلا يبقى مجال لسائر الأقوال في المسألة ، مثل كون المعاطاة بيعا فاسدا كما في نهاية العلامة ، وكونها مفيدة للإباحة المحضة كما نصّ عليه المشهور في كلماتهم ، وكونها مفيدة للملك اللازم بشرط كون الدال على التراضي لفظا كما نقله الشهيد الثاني عن بعض مشايخه ، ووافقه جمع.

ومقصود المصنف فعلا تمهيد الكلام لرفع اليد عن هذا الأمر الثاني ، وأنّ أصالة اللزوم في العقود المملّكة والبيع اللفظي وإن كانت حجة ، إلّا أنها في خصوص المعاطاة معارضة

__________________

ومن جعل الشرط مطلق الجعل أو خصوص الجعل المستتبع للإلزام والضيق ، ولا من إطلاق الشرط على البيع في بعض الروايات المتقدمة ، وذلك لما عرفت من المناقشة في الجميع.

ثم إنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المؤمنون عند شروطهم» جملة خبرية استعملت في مقام الإنشاء كسائر الجمل الخبرية المستعملة في الإنشاء ، والمنشأ هو الوجوب كما يقتضيه الغلبة. فدعوى : «كون المستفاد منها حكما أخلاقيا مسوقا لما يقتضيه الايمان ويقود إليه ، نظير : المؤمن إذا وعد وفى» كما أفاده المحقق الايرواني قدس‌سره (١) غير مسموعة. فدلالة الحديث على وجوب الوفاء بالشروط مما لا مساغ لإنكاره. وبقية الكلام في هذا المقام موكولة إلى مبحث الشروط.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨١.

٥٦٠