هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

وعلى كلا التقديرين لا معنى لحلّيته إلّا باعتبار ما يناسبه كالتصرف ، فيراد من حلية المال حلية التصرف فيه ، كما أنّ المراد من حلية المأكولات حلّية استعمالها الأكلي ، فمعنى الرواية : أنّ الشارع المقدس لم يرخّص في التصرف في مال امرء إلّا بطيب نفسه ، فتكون أجنبية عما نحن فيه (١).

لكن يمكن أن يقال : إنّ الاستدلال لا يتوقف على إرادة الحلّية الوضعية ، لتماميته مع إرادة الجامع أيضا. بل يتم حتى مع ظهورها في التكليف خاصة ، لدلالة حرمة التصرف الخارجي ـ في مال الغير بعد الفسخ ـ التزاما على عدم تملكه بالفسخ ، إذ مع نفوذ تملكه لا وجه لحرمة التصرف فيه تكليفا. وعليه فلو سلّمنا اختصاص التصرف بالخارجي دون الاعتباري ، والحلّ بالتكليفي تمّ الاستدلال بالحديث أيضا على المدعى.

وأمّا استفادة خصوص الحلية التكليفية عند الإضافة إلى الأعيان فلا تخلو من غموض. فإنّ الحلية المسندة إلى الأعيان يراد بها كلّ من التكليف والوضع ، كقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ، وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ، وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (٢) فإنّ الحلّ المضاف الى الطيبات والطعام تكليفي ، والمضاف الى المحصنات وضعي ، لأنّ المراد به العقد عليهن. وكذا في قوله تعالى في المطلقة ثلاثا (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) (٣).

وبالجملة : فإطلاق «الحلّ» المضاف إلى الأعيان على كلّ من الحلّ التكليفي والوضعي ممّا لا ينبغي التأمل فيه.

بل يمكن أن يقال : بعدم الحاجة الى التقدير حتى يقال : إنّ المقدّر هو التصرف الخارجي ، بتقريب : أنّ إطلاق إضافة الحلّ الى ذات المال مبنيّ على الادّعاء ، ضرورة أنه لا معنى

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٣٩.

(٢) المائدة ، الآية : ٥.

(٣) البقرة ، الآية : ٢٣٠.

٥٢١

.................................................................................................

__________________

لكون الذات حلالا أو حراما ، وبديهي أنّ صحّة هذا الادعاء منوطة بكون المال بجميع شؤونه غير حلال ، فلا تصح هذه الدعوى إذا كان المال ببعض شؤونه حلالا. ولا ريب في كون التصرفات المعاملية من أوضح شؤون المال وتحولاته ، فلو حلّ لغير المالك تلك التحولات المعامليّة كان ادّعاء عدم حلية الذات له مستهجنا.

ودعوى «عدم كون التحولات المعامليّة من التصرفات» مدفوعة ، بما عرفت من أنّ التصرفات المعاملية من التحولات الشائعة في المال ، كما يشهد به مراجعة العقلاء ، فإنّ المعاملات تعدّ عندهم من أوضح التصرفات. ولو تنزّلنا عن صدق التصرف على المعاملة كفى كونها من الشؤون البارزة للمال بحيث لا تصحّ دعوى نفى حلّ ذات المال بدونها.

فلا يمكن المساعدة على ما في تقرير سيدنا الخويي : من كون المقدّر خصوص التصرف ، فيراد من نفي الحل نفي الترخيص ، وهو أجنبي عما نحن فيه من نفي تملك الغير الذي هو حكم وضعي.

فالمتحصّل : أنّ كون المعاملات من التصرف مما لا ينبغي الارتياب فيه. ويشهد له التبادر ، فإنّه بالنسبة إلى التصرفات الخارجية والمعاملية سواء.

وقد ظهر مما ذكرنا ـ من كون التحولات المعاملية تصرفا حقيقة بمقتضى التبادر لا مجازا ـ صحة التمسك على أصالة اللزوم في الملك بموثقة سماعة المتقدمة من دون ورود شي‌ء من الإشكالات عليه ، من كون التمسك بها بعد رجوع المالك الأصلي تشبّثا بها في الشبهة المصداقية ، ومن كون متعلق الحلّ المضاف الى المال خصوص التصرفات الخارجية ، ومن كون ظاهر «لا يحلّ» بقرينة السياق والمورد الحلية التكليفية المتعلقة بالتصرفات الخارجية ، ومن كون الجمع بين إرادة الحكم التكليفي والوضعي استعمالا للفظ في أكثر من معنى. فإنّه بعد النظر الى مقدمات ثلاث ، قبل الاستدلال بالموثّقة يظهر عدم ورود شي‌ء من هذه الإشكالات.

المقدّمة الأولى : كون الحلّ بمعنى المضيّ وعدم المنع عنه في الشريعة ، وهذا المعنى أعمّ من التكليف والوضع مع وحدة المعنى.

٥٢٢

ويمكن الاستدلال أيضا (١) بقوله تعالى (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (١).

______________________________________________________

الدليل الرابع : حرمة أكل المال إلّا بالتجارة عن تراض

(١) يعني : كما أمكن الاستدلال بما مضى من حديثي السلطنة والحلّ. وكان الأنسب تقديم الاستدلال بهذه الآية المباركة ـ وآية وجوب الوفاء بالعقود ـ على الاستدلال بالحديثين الشريفين.

__________________

المقدمة الثانية : أنّ التصرف أعمّ من الخارجي والاعتباري بحكم التبادر.

المقدمة الثالثة : كون الحذف أمارة على كون المقدّر عامّا ، بل قد عرفت عدم الحاجة إلى التقدير وكفاية الادّعاء في صحة الاستدلال ، وإرادة جميع التحولات في الذات وإن لم تسمّى تصرفا ، إذ لا يصح إطلاق عدم حلية الذات إلّا بملاحظة كون المنفي جميع الشؤون والتحولات.

وربما يشهد به مورد الرواية وهو حبس الأمانة وعدم ردّها ، إذ ليس الحبس تصرّفا محسوسا كالأكل والشرب ، فلو كان المراد خصوص التصرفات الحسّيّة لم تنطبق الكبرى الكلية على المورد ، وهو حبس الأمانة ، واستهجانه غير خفي.

وأمّا عطف حرمة المال فيها على حرمة دم المسلم فليس قرينة على تعيّن إرادة الحرمة التكليفيّة فيه من جهة عدم تصوّر حرمة الدم وضعا. ووجه عدم القرينية ما ذكرناه من أعمية الحلية من التكليف والوضع.

ولو سلّمت قرينيّتها عليها لم يقدح في الاستدلال ، لما تقدم أيضا من اقتضاء حرمة مطلق التصرف في مال الغير ـ بدلالتها الالتزامية ـ على عدم تملّكه بالفسخ.

فالمتحصل : أنّ الاستدلال بالموثقة وما بمضمونها ـ على فرض اعتباره ـ على أصالة اللزوم في الملك وجيه كما اختاره المصنف قدس‌سره.

__________________

(١) النساء ، الآية : ٢٩.

٥٢٣

ولا ريب (١) أنّ الرجوع ليست تجارة (٢) ولا عن تراض (٣) ،

______________________________________________________

وكيف كان فهذه الآية دليل على أصالة اللزوم في الملك ، وللمصنف تقريبان للاستدلال بها.

أحدهما : بالنظر الى مجموع المستثنى والمستثنى منه : وهو رابع الأدلة على اللزوم.

والآخر : مقصور على استفادة الحكم من عقد المستثنى منه بلا ضمّ الاستثناء ، وهو خامس الأدلة وسيأتي توضيح كلا الوجهين إن شاء الله تعالى.

(١) هذا شروع في تقريب الوجه الأوّل ـ أعني به دلالة المستثنى منه والمستثنى معا على لزوم الملك ـ وحاصله : أنّ الأكل كناية عن التصرف كما هو الشائع ، يعني : أنّ مجوّز التصرف في مال الغير منحصر ـ بمقتضى الحصر ـ في التجارة عن تراض ، فالآية في مقام سلب سببيّة الباطل للنقل والتمليك ، ومن المعلوم أنّ الرجوع ليس تجارة عرفا ، بل حلّا وفسخا لها ، ولا عن تراض ، لعدم رضا المالك الفعلي برجوع المالك الأصلي.

وعليه فمقتضى انحصار السبب الناقل والمملّك للأموال في التجارة عن تراض هو عدم كون الرجوع مملّكا وناقلا ، لكونه باطلا عند العقلاء عرفا وشرعا. فالآية الشريفة تدلّ على بطلان الفسخ وعدم تأثير رجوع المتعاطي فيما أعطاه للآخر ، وذلك لأنّ المدار في جواز أكل مال الغير هو صدق التجارة عن تراض على السبب المحلّل له ، وحيث إنّه لا يصدق أصل التجارة ـ ولا بقيد التراضي ـ على الرجوع استكشف منه حرمة التصرف في المال بعد الرجوع ، وهو دليل لزوم المعاطاة ، وكون الرجوع لغوا.

(٢) وجه عدم صدق عنوان التجارة على رجوع المتعاطي هو كون التجارة لغة : الإعطاء والأخذ بقصد الاسترباح ، وهذا المفهوم منحصر في المعاملات الموجبة لنموّ رأس المال وزيادته. ومن المعلوم أنّ المتعاطي عند رجوعه لا يحصّل ربحا ، وإنّما يستردّ عين ماله التي تعاطى بها.

(٣) وجه عدم كون الرجوع تجارة عن تراض ـ لو سلّم صدق التجارة عليه ـ واضح ،

٥٢٤

فلا يجوز (١) أكل المال.

والتوهم المتقدم في السابق (٢) غير جار هنا ، لأنّ (٣) (*) حصر مجوّز أكل المال

______________________________________________________

لفرض عدم رضا المتعاطي الآخر به ، وإلّا كان إقالة من الطرفين.

(١) يعني : فلا يجوز لأحد المتعاطيين أن يتصرف فيما أعطاه للآخر ، لأنّ تصرّفه فيه أكل لمال غيره بالباطل.

(٢) يعني : في تقريب الاستدلال بحديثي السلطنة وعدم حلّ مال غيره إلّا بطيب نفسه. والتوهّم المزبور هناك هو : أنّ التمسك بهما من التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقيّة ، ضرورة أنّه بعد رجوع المالك الأصليّ يشكّ في كون المال ملكا للغير ، لاحتمال رجوع المال إليه ، فلا يكون أكله حينئذ أكلا لمال غيره ، بل لمال نفسه. ومع هذا الشك لا تحرز الإضافة التي هي موضوع السلطنة وحرمة التصرّف ، فيكون التمسّك بالدليل تشبّثا به في الشبهة الموضوعية.

(٣) تعليل لعدم جريان التوهّم المزبور ، وحاصل وجه عدم جريانه هنا هو : أنّ المستفاد من الآية حصر سبب تملّك أموال الناس في التجارة عن تراض ، بحيث يكون تصرف الآكل فيه تصرفا في ماله لا في مال غيره ، ومن المعلوم أنّ هذا الحصر ينفي سببيّة رجوع المالك الأصلي بتملّكه ، لعدم كون رجوعه تجارة عن تراض ، بل من الأسباب الباطلة ، فهذه الآية الشريفة نصّ في عدم كون رجوع المالك مملّكا ، لعدم اندراج الرجوع في «التجارة عن تراض» وكلّ ما لم يكن كذلك يعدّ من الأسباب الباطلة.

وبالجملة : فمفاد الآية الشريفة هو : أنّه لا يجوز للإنسان أن يأكل مالا على أنّه ماله ، وهو مال لغيره واقعا ، إلّا إذا كان بسبب التجارة عن تراض. وليس مفادها عدم جواز تصرفه في مال الغير حتى يقال : إنّه بعد رجوع المالك يشكّ في أنّه مال الغير ، فلا يصح التمسك بالآية ، لكونه من التشبث بالدليل في الشبهة المصداقية.

__________________

(١) هذا التقريب ـ كما عرفت ـ ناظر إلى سلب سببية الباطل للتملك.

ويمكن أن يقرّب على وجه آخر ، وهو : أنّ النهي عن الأكل ناظر إلى حرمة الأكل ابتداء ،

٥٢٥

في التجارة إنّما يراد به أكله على أن يكون ملكا للآكل (١) لا لغيره.

ويمكن التمسّك أيضا بالجملة المستثنى منها (٢) ، حيث إنّ أكل المال

______________________________________________________

(١) يستفاد هذا القيد في المستثنى منه بقرينة المقابلة للمستثنى ، بداهة أنّ المترتب على المستثنى هو الأكل بعنوان كون المال ملكا للآكل ، لأنّ أثر التجارة عن تراض التي هي سبب شرعي للنقل والتمليك هو كون المتصرّف ـ بعد وقوع هذه التجارة ـ مالكا للمال ، وقرينة المقابلة تقتضي كون المأكول في المستثنى منه أيضا ـ بعنوان كونه ملكا لذي اليد ، وعدم جواز أخذه منه.

وعلى هذا فلا يرد عليه التخصيص بمثل الضيافة وغيرها مما يجوز الأكل فيه بدون تجارة عن تراض ، لأنّ خروجها بناء على هذا المعنى موضوعي ، إذ المفروض أنّ المالك أجاز للآكل أن يتصرف فيه.

نعم يرد عليه التخصيص بالإرث ونحوه ، كانتقال مال المرتد الفطري إلى وارثه بالارتداد ، فإنّ الوارث يتصرف في المال على أنّه مال الآكل مع عدم كون السبب المحلّل تجارة عن تراض.

الدليل الخامس : حرمة الأكل بالباطل

(٢) يعني : مع الغضّ عن الاستثناء ، بخلاف التقريب الأوّل الذي كان تمسّكا بمجموع جملتي المستثنى منه والاستثناء.

ومحصّل تقريب الاستدلال بالوجه الثاني : أعني به جملة المستثنى منها ـ مع قطع النظر

__________________

وإلى بطلان السبب ثانيا ، فدلالته على حرمة الأكل مطابقية ، وعلى بطلان السبب الذي ينشأ منه الأكل التزاميّة ، حيث إنّ النهي يدلّ مطابقة على حرمة الأكل ، والتزاما على بطلان سببها ، إذ لا منشأ لحرمة الأكل إلّا بطلان منشأها وسببها ، فيعلم من حرمة الأكل عدم صحة سببه وكونه من الباطل ، فحرمة الأكل تكشف عن كون الفسخ والتّرادّ سببا باطلا عرفا وغير نافذ شرعا.

والفرق بين التقريبين واضح ، لأنّ الأوّل مدلول مطابقي ، والثاني التزامي.

٥٢٦

ونقله عن مالكه (١) بغير رضى المالك أكل وتصرف بالباطل عرفا (٢). نعم (٣) بعد إذن المالك الحقيقي وهو الشارع ـ وحكمه التسلّط على فسخ المعاملة من دون رضا المالك ـ يخرج (٤) عن البطلان (*)

______________________________________________________

عن الاستثناء ـ هو : أنّ تملّك أموال الناس قهرا وبغير رضى منهم تملّك بالباطل ، وهو حرام بمقتضى النهي عنه ، فيكون تملّك المال بالفسخ بدون رضى مالكه أكلا له بالباطل ، إلّا إذا أذن له الشارع في الفسخ ، فحينئذ يخرج التملك بالفسخ عن الباطل ويكون جائزا ، كما ثبت ذلك شرعا في موارد :

منها : أكل المارّة من ثمرة الشجرة الممرور بها ، فإنّه بعد إذن الشارع يخرج عن أكل المال بالباطل.

ومنها : الأخذ بالشفعة والفسخ بالخيار.

ومنها : تملك أموال المرتد الفطري بالارتداد. وغير ذلك من الأسباب القهريّة لتملّك أموال الناس ، فإنّ إذن الشارع يخرجها عن الباطل.

هذا بحسب الكبرى. وتطبيقها على المقام هو : أنّ الشارع لمّا لم يأذن في فسخ المعاطاة ـ لفرض عدم ثبوت جواز الرجوع بعد ـ كان التصرف في مال الغير بإخراجه عن ملكه أكلا له بالباطل ، وهو حرام تكليفا ووضعا.

(١) وهو الذي اشترى المال بالمعاطاة وصار مالكا له.

(٢) هذه الكلمة صريحة في أنّ موضوع حرمة الأكل هو الباطل العرفي الصادق على فسخ أحد المتعاطيين ورجوعه فيما انتقل عنه ، وليس المراد به الباطل الشرعيّ حتى تتجه شبهة التمسّك بالدليل في الشبهة المصداقية.

(٣) استدراك على موضوعية الباطل العرفي لحرمة الأكل ، يعني : أنّ ترخيص الشارع لأكل مال الغير كاشف عن كونه سببا حقّا لا باطلا.

(٤) ظاهر الخروج عن البطلان هو الخروج الموضوعي لا الحكمي بالتخصيص ،

__________________

(*) لكن مقتضى خروجه عن البطلان موضوعا عدم جواز التمسك بالآية فيما إذا كان

٥٢٧

ولذا (١) كان أكل المارّة من الثمرة الممرور بها أكلا بالباطل لو لا إذن المالك الحقيقي (٢) ، وكذا الأخذ بالشفعة (٣) ، والفسخ بالخيار (٤) ، وغير ذلك من الأسباب القهرية (٥) (*).

______________________________________________________

فمقصوده ظاهرا تخطئة الشارع نظر العرف فيما يرونه باطلا كأكل المارّة من ثمرة الشجرة الممرور بها ، فهذا سبب حق عرفي بعد التفاته إلى إباحة الأكل شرعا.

والوجه في الخروج الموضوعيّ لا الحكمي هو : أن عنوان «الباطل» كالعلّة التامة لحرمة الأكل غير قابل للتخصيص ، وعليه فموارد ترخيص الشارع في الأكل خارجة عن الباطل تخصصا.

(١) يعني : ولأجل خروج موارد ترخيص الشارع في الأكل عن «الباطل» موضوعا كان أكل المارّة باطلا بنظر العرف لو لا إذن الشارع ، وأمّا بعد إذنه فليس أكله باطلا.

(٢) يعني : وبعد إذن المالك الحقيقي يخرج الأكل عن كونه أكلا بالباطل إلى كونه أكلا بالحق.

(٣) حيث إنّ الشريك مسلّط على فسخ عقد المشتري ببذل مثل الثمن إليه ، فيضمّ حصة المشتري الى حصة نفسه قهرا وإن لم يرض المشتري به ، وهذا أكل للمال بالباطل بنظر العرف لو لا اطّلاعه على ترخيص المالك الحقيقي.

(٤) الظاهر إرادة الخيار التعبّدي كخياري المجلس والحيوان ، فإنّ الفسخ بهما باطل عرفا ، ما لم يطلع على تخيير الشارع للمتعاقدين أو لصاحب الحيوان. وأمّا الأخذ بالخيارات المستندة إلى شرط ارتكازي أو إلى جعل نفس المتعاقدين فليس أكلا للمال بالباطل عرفا من أوّل الأمر ، بل هو سبب حقّ بنظرهم.

(٥) كالإرث والارتداد والإتلاف في حال الغفلة كالنوم ، فإنّ هذه أسباب باطلة للتملك ما لم يطّلع العرف على جعل الشارع ، وأما مع الاطلاع فيحكم العرف أيضا بحقية هذه الأسباب للأكل.

__________________

باطلا عرفا مع احتمال إذن الشارع فيه ، للشك في الموضوع ، إذ مع الإذن الشرعي يخرج عن الباطل حقيقة ، فالشك حينئذ يكون في عنوان الباطل كما حرّرناه في التعليقة الآتية فلاحظ.

(*) قد يمنع دلالة الآية الشريفة على لزوم الملك بما في تقرير السيد الخويي قدس‌سره من : أنّ الاستدلال بها مبني على أن يكون المراد بالباطل هو الباطل العرفي ليكون متميزا عند العرف

٥٢٨

.................................................................................................

__________________

عن السبب الصحيح. أمّا لو أريد الباطل الواقعي كما هو قضية وضع الألفاظ للمفاهيم الواقعية أو احتملت إرادة ذلك من كلمة الباطل في الآية فلا يمكن الاستدلال بها على المقصود ، لاحتمال أن يكون الفسخ من الأسباب الصحيحة الواقعية لا الباطلة كذلك. فحينئذ يكون التمسك بالآية لكون الفسخ سببا باطلا من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية. (١) انتهى ملخّصا.

وفيه : أنّ المراد بالباطل هو الباطل العرفي ، لكون المخاطب بهذا الخطاب هو العرف كسائر الخطابات ، ما لم يثبت كون موضوع الخطاب مخترعا شرعيا ، لأنّه لا بد حينئذ من الرجوع الى الشارع ، إذ لا سبيل للعرف الى معرفته ، والالتزام بكون الباطل هو الواقعي الذي لا سبيل للعرف إليه يستلزم سقوط الخطاب عن الاعتبار ، لصيرورته حينئذ مجملا.

بل تطبيق الآية على القمار الذي هو مورد نزول هذه الآية المباركة ـ كما في صحيحة زياد بن عيسى : «قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله عزوجل (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) فقال : كانت قريش يقامر الرجل بأهله وماله ، فنهاهم الله عزوجل عن ذلك» (٢) وقريب منه ما عن نوادر أحمد بن محمد بن عيسى ونحوهما غيرهما» (٣) ـ يدلّ على كون المراد بالباطل هو العرفي حيث إنّ القمار عند العرف والعقلاء من مصاديق الباطل ، فليتأمّل.

ثم إنّه على تقدير كون الباطل هو الواقعيّ يمكن التمسك أيضا بالآية المباركة لأجل الإطلاق المقامي ، فإنّه لو لم يكن نظر العرف حينئذ معتبرا في مقام التمييز كان الخطاب ساقطا ، للإجمال كما مرّت الإشارة إليه.

وبالجملة : فالباطل العرفي هو موضوع حرمة الأكل في الآية المباركة ، وإذا شككنا في تخصيصه فمقتضى أصالة العموم هو عدم التخصيص ، فمن هذه الناحية لا يرد إشكال على

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٤١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١١٩ ، الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

(٣) المصدر ، ص ١٢١ ، الحديث : ١٤.

٥٢٩

.................................................................................................

__________________

التمسك بالآية الشريفة.

نعم يرد عليه : أنّ عنوان «الباطل» معلق على عدم ورود دليل من الشارع ، إذ مع وروده يخرج موضوعا عن الباطل ، ويكون خروجه بالتخصص لا التخصيص ، لإباء الآية المباركة عن التخصيص الحكمي كما لا يخفى. فالتعليق على عدم الورود من الشارع بشي‌ء من قيود موضوع الحكم ، فكأنه قيل : الباطل العرفي هو المعلّق على عدم ورود شي‌ء من الشرع على خلافه كأكل المارّة والأخذ بالشفعة والفسخ بالخيار ، فإنّها باطلة عرفا ، لكن مع ورودها من الشرع تخرج حقيقة عن الباطل ، فالتمسك بالآية الشريفة ـ مع احتمال ورود دليل من الشارع على خلافه ـ يكون تشبثا بالدليل في الشبهة المصداقية.

ففرق بين هذه الآية وبين حديث السلطنة ، حيث إنّ احتمال إعماله تعالى سلطنته من قبيل المخصّص الذي يكون الموضوع محفوظا معه. بخلاف الباطل ، فإنّه معلّق موضوعا على عدم حكم الشارع ، إذ مع حكمه لا يكون باطلا حقيقة ، فالتمسك بالآية حينئذ تشبث بالدليل في الشبهة المصداقية ، هذا.

إلّا أن يقال : إنّ مرجع ذلك الى كون المراد بالباطل هو الشرعي ، إذ لا أثر للباطل العرفي بدون كونه باطلا شرعيا. والبناء عليه يوجب كون الباطل في الآية المباركة عنوانا مشيرا إلى ما جعله الشارع باطلا كالقمار وبيع الحصاة والبيع الربوي ، ونحوها ، وهذا خلاف ظاهر العناوين المأخوذة في الخطابات ، ويكون النهي عن أكل المال مؤكّدا لسلب سببية الباطل الشرعي للتمليك ، ولا يكون حكما تأسيسيا ، ومن المعلوم أنّ حمل الباطل والنهي عن الأكل على المشيرية والتأكيد خلاف الأصل ، فلا محيص عن الالتزام بكون المراد بالباطل هو العرفي ، غاية الأمر أنه يخرج عن حكمه في بعض الموارد ، كالشفعة والخيار وأكل المارّة من ثمرة الشجرة ، مع صدق الموضوع وهو الباطل العرفي عليه. نظير سلب الماليّة عن بعض الأموال العرفية كالخمر والخنزير ونحوهما مما يعدّ مالا عرفا ، والشارع الأقدس ألغى ماليّتها ، فيكون خروج بعض الموارد عن الباطل العرفي بالتخصيص ، لا التخصّص حتى لا يجوز التمسك بالآية الشريفة في صورة الشك في كون الرجوع سببا باطلا أو صحيحا ، لكون الشبهة مصداقية.

٥٣٠

.................................................................................................

__________________

فالظاهر أنّ الآية الشريفة وزانها وزان حديث السلطنة ، فكما لا مانع من التمسّك به لعدم نفوذ رجوع المالك الأصلي ، فكذلك لا مانع من التمسك بهذه الآية لذلك. فالفرق بينهما «بالتخصّص في الآية ، فلا يجوز التمسك بها ، والتخصيص في حديث السلطنة فيجوز ذلك فيه» لا يخلو من غموض.

مع أنّه بعد تسليم كون المراد بالباطل هو الشرعي يمكن التمسك بالآية أيضا بمقتضى الإطلاق المقامي ، بأن يقال : إنّ المقصود بالباطل وإن كان شرعيا ، لكن تمييزه منوط بنظر العرف ، فكلّما كان باطلا عرفا فهو باطل شرعا إلّا ما ثبت خروجه.

ثم إن المحقق الايرواني قدس‌سره ناقش في الاستدلال بالآية المباركة بأنّ الاستدلال بها إنّما يصح إذا قلنا إن الفسخ والرجوع من الأسباب المفيدة للملك. أمّا إذا قلنا بأنّ شأنهما رفع أثر السبب المملّك ، ثم الملك يكون حاصلا بما كان من السبب أوّلا ، لم يكن الأكل بسبب الفسخ أكلا بالباطل (١).

لكن لا يخفى ما فيه ، لأنّ هذه المناقشة إنّما تتجه بناء على دلالة الآية على حرمة الأكل إن حصل المال بسبب باطل مستقل. لكنه ليس كذلك ، لظهورها في إبقاء تأثير الباطل مطلقا وإن كان جزء العلة ، فإنّ تأثير الفسخ في دفع المانع عن تأثير السبب الأوّل أكل للمال بالباطل ولو بنحو جزء العلة.

والحاصل : إنّ التسبب بالباطل لأكل مال الناس ـ ولو بنحو دفع المانع ـ حرام ولو بمناسبة الحكم والموضوع ، إذ المناسب للباطل هو عدم دخله في سببيّته للنقل والتمليك حتى بنحو جزء السبب أو الشرط أو عدم المانع.

فتحصّل مما ذكرناه : أنه يمكن التمسك تارة بالمستثنى منه مع الغض عن الاستثناء بما تقدّم من التقريبين ، أحدهما : سلب سببية الباطل للنقل والتمليك.

والآخر : النهي عن أكل المال الحاصل بسبب باطل.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٨١.

٥٣١

.................................................................................................

__________________

وأخرى بالمستثنى ، بأن يقال : إنّ إطلاق تجويز أكل المال الحاصل بالتجارة يقتضي جوازه بعد الرجوع والفسخ أيضا ، وهذا الإطلاق الأحوالي يكشف عن عدم نفوذ الفسخ ، وإلّا لم يكن وجه لجواز الأكل حينئذ.

وثالثة : بالحصر المستفاد من مجموع الجملتين.

لكن ابتنى السيد قدس‌سره في حاشيته الاستدلال بالحصر على كون الاستثناء متّصلا بأن يقال في تقريب الاتصال : كأنّه قيل : لا تأكلوا أموال الناس إلّا أن تكون تجارة ، فإنّ كل أكل باطل نظير قولك : «لا تعبد غير الله شركا» أي فإنّه شرك ، فيكون المستثنى منه الأموال ، وقوله تعالى : «بِالْباطِلِ» قيدا توضيحيا ، وذكره لبيان علة الحكم ، لا احترازيا. أو يقال : انّ المستثنى منه محذوف أي : لا تأكلوا أموال الناس بوجه من الوجوه إلّا بوجه التجارة فإنّ الأكل لا بهذا الوجه باطل (١).

وأنت خبير بما فيه ، إذ الكلام في ظهور الآية في كون الاستثناء متّصلا ، لا في إمكانه حتى يتكلّف في وجه تصوره بما ذكره. وما أفاده في وجه الاتصال خلاف الظاهر وتأويل مخالف لفهم العقلاء ولكلمات المفسرين وللروايات الواردة في نزول الآية المباركة ، وقد تقدم بعضها كصحيحة زياد بن عيسى ، فإنّ ظاهر تلك الروايات كظاهر نفس الآية هو النهي عن الأكل بالسبب الباطل ، فالقيد احترازي لا توضيحي ، فالاستثناء حينئذ منقطع كقوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢).

والحاصل : أنّ الاستثناء ليس متصلا أوّلا. وعلى فرض الاتصال يمكن منع دلالة الآية على الحصر في التجارة ثانيا ، لأنّ قوله تعالى «بِالْباطِلِ» تعليل لحرمة الأكل ، إذ المتفاهم العرفي منه كون البطلان موجبا لذلك ، كما أنّ الظاهر المتفاهم عرفا أنّ استثناء التجارة في مقابل الباطل لكونها حقّا.

وعلى هذا فالمستفاد حلية الأكل بكل حقّ ، وحرمته بكل باطل ، فلا يختص الحق

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٧٤.

(٢) الواقعة ، الآية : ٢٥.

٥٣٢

هذا كلّه (١) مضافا إلى ما دلّ على لزوم خصوص البيع (٢) ، مثل قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» (١).

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ الأدلة المتقدمة على أصالة لزوم الملك ـ من الاستصحاب وحديثي السلطنة والحلّ ، وآية النهي عن أكل أموال الناس بالباطل ـ كانت أدلة عامة على لزوم الملك سواء أكان السبب المملّك فعلا اختياريّا من العناوين المعاملية والحيازة ونحوها ، أم قهريّا كالإرث والارتداد. وهذا بخلاف الدليل الآتي فإنّ مفاده لزوم الملك الحاصل بالبيع خاصّة.

الدليل السادس : أخبار خيار المجلس

(٢) هذا دليل سادس على لزوم الملك ، وهي طائفة من الأخبار الواردة في خيار المجلس ، وتقريب الاستدلال بها يتم بوجوه ثلاثة :

الأوّل : جعل الخيار في البيع ، حيث إنّ جعله مختص بالبيع اللازم ، ومقتضى إطلاق الجعل ثبوت الخيار في البيع المعاطاتي ، فثبوت الخيار فيه يكشف عن اللزوم ، فتكون المعاطاة بيعا لازما لأجل ثبوت الخيار فيها ، الذي هو من خصائص البيع اللازم.

الثاني : دلالة مفهوم الغاية ، ببيان : أنّ ماهيّة الخيار مغيّاة بعدم الافتراق ، لقوله عليه‌السلام :

__________________

بالتجارة ، بل يندرج فيه كل حق ليس بتجارة كالإباحات والقرض ، والتملّك في مجهول المالك ، وغيره من الحقوق الواجبة والمستحبة ، ولا ينتقض الحصر بها حتى نحتاج الى بعض التكلّفات كما صدر عن بعضهم.

كما أنّه على فرض كون الاستثناء منقطعا تدل الآية على التنويع بين الباطل والحق بمناسبة الحكم والموضوع ، فلا فرق في دلالة الآية عرفا على سقوط الباطل لبطلانه عن السببية ـ أو صيرورته موجبا لحرمة الأكل من المال الحاصل بالباطل ، وثبوت سببية الحق لحقّيّته ـ بين كون الاستثناء متصلا ومنقطعا ، فلا يتوقف الاستدلال بالآية الشريفة على أن يكون الاستثناء متّصلا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٤٦ ، الباب الأوّل من أبواب الخيار ، الحديث : ٣ وغيره.

٥٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

«فإذا افترقا وجب البيع» إذ مفهومه بقاء الخيار قبل الافتراق ، ومعه يسقط الخيار ، وسقوطه ملازم للزوم ، ومن المعلوم أنّ مقتضى إطلاق البيع على المعاطاة هو صدق البائع على من باع معاطاة ، فتكون لازمة.

الثالث : قوله عليه‌السلام : «فإذا افترقا وجب البيع» بتقريب : أنّ الإطلاق يقتضي أن يكون البيع واجبا فعليا من جميع الجهات ، لكن يقيّد بأدلة سائر الخيارات أمّا لو أريد جعل اللزوم من حيث خيار المجلس لا مطلقا فلا يدل سقوط الخيار ـ من حيث المجلس ـ على اللزوم من سائر الحيثيّات ، وحينئذ يشترك المعاطاة مع البيع بالصيغة في أنّ المدلول عليه برواية خيار المجلس هو اللزوم الحيثي أي من حيث خيار المجلس ، وأمّا من سائر الجهات فلا دلالة فيها على اللزوم.

وعلى كلّ فهذا المقدار من اللزوم الثابت للمعاطاة كاف لإثبات المدّعى وهو اقتضاء طبع البيع مطلقا للّزوم (*).

__________________

(*) لا يخفى أنّه بناء على جواز جعل الخيار في البيع الجائز ذاتا لا يدلّ جعله على لزومه ، لأنّ الخيار حينئذ لازم أعم ، ومن المعلوم أنّه لا يدل على الملزوم الخاصّ وهو البيع اللازم ، فالإستدلال حينئذ على التقريب الأوّل ساقط ، لما عرفت من عدم دلالة اللازم الأعمّ على الملزوم الخاص.

وبناء على عدم صحة جعل الخيار للجائز ذاتا بحسب حكم العقل أو العقلاء ، فان كان هذا الحكم كالقيد الحافّ بالكلام كان إطلاق قوله عليه‌السلام : «البيّعان بالخيار» مقيّدا بالبيع اللازم ، فمع الشك في لزوم بيع كالمعاطاة لا يصح التمسك بإطلاقه ، لكون الشبهة مصداقية.

وإن كان الحكم المذكور كالمخصّص المنفصل الذي لا يوجب تقيّد الموضوع عند صدور الخطاب المطلق ، بل يقيّده لبّا ، لكون القيد لبيّا منفصلا ، فعلى القول بجواز التمسك

٥٣٤

.................................................................................................

__________________

بالعام في الشبهة المصداقية في مثله ـ كما قيل ـ فيصح التمسك بإطلاق «البيعان بالخيار» لإثبات الخيار في المعاطاة وكشف لزومها. نظير التمسك بقوله عليه‌السلام : «لعن الله بني أميّة قاطبة» في مورد الشك في أيمان واحد منهم لجواز لعنه ، وكشف عدم إيمانه.

وبالجملة : فبناء على جواز التمسك بالعام في المخصص اللّبيّ المنفصل يجوز التمسك بمثل «البيّعان بالخيار» لإثبات الخيار في المعاطاة وكشف لزومها.

وعلى القول بعدم جواز التمسك بالعام في الشبهات المصداقيّة مطلقا من غير فرق بين المخصصات اللفظية واللبية المتصلة والمنفصلة كما هو المنصور فلا يصح التمسك بالإطلاق لكشف حال الموضوع ، هذا.

فان قلت : إنّ الشبهة المصداقية للمخصّص اللّبيّ الذي لا يجوز فيها التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة هو ما إذا خرج عن العام عنوان بحسب حكم العقل كالمؤمن الذي خرج عن حيّز عموم «لعن الله بني أمية» وشك في مورد أنّه مصداق الخارج أو لا. وأمّا إذا شك في أصل الخروج ولو من جهة عدم إحراز مصداق للعنوان العقلي ـ كما فيما نحن بصدده ، إذ لم يحرز أنّ للبيع مصداقا جائزا ـ فليس الشك فيه من قبيل الشبهة المصداقية للمخصّص المحرزة مخصّصيته.

قلت : لا فرق في عدم جواز التمسك إذا كان المخصص عقليا بين ما ثبت تحقق أفراد من العنوان الخارج عن العام وشكّ في فرد آخر ، وبين ما لم يثبت ذلك لأنّ تحقق الفرد وعدمه لا دخل له في الحكم العقلي بالتخصيص.

مثلا حكم العقل بعدم جواز لعن المؤمن ثابت ، وموجب لعدم دخوله في قوله : «لعن الله بني أميّة قاطبة» من غير نظر إلى خصوصيات المصاديق وخروجها ودخولها ، فلو شك في فرد أنّه مؤمن أو لا مع العلم بعدم إيمان غيره منهم يكون من الشبهة المصداقية للمخصّص ، لا من الشبهة في أصل التخصيص ، لأنّ التخصيص بحكم العقل ثابت على النحو الكلي لا الجزئي ، إذ لا شكّ في خروج المؤمن عن هذا العام ، فالشك في أيمان واحد منهم يندرج في

٥٣٥

.................................................................................................

__________________

الشك في مصداق المخصص ، لا في أصل التخصيص.

وما نحن فيه من هذا القبيل بناء على كون عدم الدخول أو التخصيص بحكم العقل ، فإنّ البيع الواقع بين البيّعين مخصّص بعدم كونه جائزا بالذات ، فإذا شكّ في أنّ المعاطاة جائزة بالذات أو لا ، لا يجوز التمسك بمثل : البيّعان بالخيار ، هذا.

لكنه لا يخلو من غموض ، لأنّ الشبهة المصداقية هي الشبهة الموضوعية التي يرجع في رفع الشك عنها الى غير الشارع. وليس المقام كذلك ، لأنّ المرجع في لزوم المعاطاة وجوازها هو الشارع لا غيره ، وإن كانت بالنظر الى المخصص العقلي شبهة مصداقية ، للشك في مصداقيتها له كما هو واضح ، لكن في كون هذا النحو من الشبهة المصداقية مانعا عن التمسك بإطلاق دليل التشريع منع.

فالحقّ : أنّ مثل هذه الشبهة تلحق بالشبهة الحكمية التي مرجعها الى الشك في التخصيص ، لا مصداق المخصص المعلوم ، فلا مانع من هذه الحيثية من التمسك بإطلاق مثل «البيّعان بالخيار» لإثبات لزوم المعاطاة ، هذا.

وأمّا الاستدلال بمفهوم الغاية ففيه : أنّ نفي ماهية الخيار لا يكون ملازما للزوم ، ونفي الجواز ، ضرورة مغايرة ماهية الخيار للجواز الحكمي ، لما ثبت في محله من أنّ الخيار حق مجعول لذي الخيار قابل للنقل والاسقاط والإرث ، بخلاف الجواز الحكمي ، حيث إنّه حكم للمعاملة كالهبة والوكالة ، وليس حقّا مجعولا لأحد حتى يقبل ما ذكر في الخيار ، فنفي ماهية الخيار لا ينافي بقاء الجواز الحكمي.

وأمّا الاستدلال بذيل الرواية وهو قوله عليه‌السلام : «فإذا افترقا وجب البيع» ففيه : أنّه يقع التعارض بين إطلاق الصدر وإطلاق الذيل بعد وضوح كون الموضوع فيهما واحدا من حيث الإطلاق والتقييد ، يعني أنّه لو أريد من الصدر مطلق البيع أو مقيّدة كان في الذيل كذلك.

توضيحه : أنّ أصالة الإطلاق في الصدر تقتضي كون البيع بلا قيد موضوع الحكم ، فإطلاقه يشمل البيع القولي والمعاطاتي سواء أكانت المعاطاة لازمة واقعا أم جائزة. وأصالة

٥٣٦

.................................................................................................

__________________

الإطلاق في الذيل تقتضي الوجوب مطلقا بعد الافتراق في الموضوع المأخوذ في الصدر ، فيقع التعارض بينهما ، لأنّ الوجوب المطلق يضادّ البيع الجائز. فلا بدّ من رفع اليد عن إطلاق الذّيل أو الصدر. وعلى التقديرين لا يصح التمسك بالذيل لإثبات اللزوم في مورد الشك فيه.

أمّا على الأوّل فلأنّ الوجوب الحيثي لا ينافي الجواز ، فوجوب البيع من حيث خيار المجلس لا ينافي جوازه من حيث الذات وسائر الحيثيات ، فهذا الوجوب لا يثبت اللزوم في مورد الشك كالمعاطاة. وعلى القول بالوجوب الفعلي وارتكاب التقييد بالنسبة إلى الجائز ـ على فرض وجوده ـ كان التمسك به تشبثا بالدليل في الشبهة المصداقية للمخصص لاحتمال كون المعاطاة مصداقا للمخصص ، فلا تكون لازمة.

وأمّا على الثاني فلأنّ البيع في الصّدر إذا اختصّ بالبيع اللازم كان في الذيل كذلك ، فتصير الشبهة مصداقية ، لأنّه يشك في أنّ المعاطاة مثلا من النوع الجائز بالذات أو اللازم ، فيشك في موضوعيّته للدليل ، فلا يصح التمسك به مع هذا الشك ، من دون فرق بين كون التخصيص متصلا ومنفصلا ، لفظيا ولبيّا.

وبالجملة : فلا يصح التمسك بالعام لإثبات لزوم ما يشك في لزومه كالمعاطاة مطلقا ، سواء أقلنا بتقييد إطلاق الصدر أم الذيل ، لما عرفت من أنّ تقييد الذيل بالوجوب الحيثي لا يثبت اللزوم ، لعدم منافاة بين الجواز وبين الوجوب الحيثي. ومن أن تقييد الصّدر بالبيع اللازم يوجب كون الشبهة في مشكوك اللزوم مصداقية.

هذا كله مع الغض عن الروايات.

وأمّا مع النظر إليها فهي على طوائف ثلاث :

الأولى ـ وهي أكثر ما في الباب ـ ما لم يصرح فيها بالمفهوم كقوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم : «البيّعان بالخيار حتى يفترقا ، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام» (١). ونحوها

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٤٥ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الحديث : ١ ، رواه الكليني عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان عن العلاء عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قال رسول الله : البيّعان ..» الحديث والرواية صحيحة ، لكون الرواة بأجمعهم ثقات ، فلاحظ تراجمهم.

٥٣٧

.................................................................................................

__________________

في عدم التصريح بالمفهوم صحيحة زرارة (١) ورواية علي بن أسباط (٢) والحسين بن عمر بن يزيد (٣) وغيرها.

الثانية : ما صرّح فيه بالمفهوم ، كصحيحة فضيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : ما الشرط في الحيوان؟ فقال لي : ثلاثة أيّام للمشتري. قلت : وما الشرط في غير الحيوان؟ قال : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما» (٤).

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «أيّما رجل اشترى من رجل بيعا فهما بالخيار حتّى يفترقا ، فإذا افترقا وجب البيع» (٥).

الثالثة : ما يتضمن حكاية فعل المعصوم عليه‌السلام لما يوجب البيع ، كصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله «عليه الصلاة والسّلام» أنّه قال : «إنّ أبي اشترى أرضا يقال لها العريض ، فلما استوجبها قام فمضى ، فقلت له : يا أبة عجلت القيام؟ فقال : يا بنيّ أردت أن يجب البيع» (٦) ونحوها غيرها.

أمّا الطائفة الأولى فلا ريب في عدم دلالتها على المقصود ، إذ فيها ـ مضافا إلى ما مرّ من : أنّ نفي طبيعة الخيار لا ينافي الجواز الحكمي ، لأنّ الخيار حق والجواز حكم ، ونفي الأوّل لا ينفي الثاني ، فلا يثبت نفي الخيار اللزوم في مشكوك اللزوم ـ أنّ دلالتها على المدعى منوطة بكون المراد بالخيار المجعول ماهيّته المطلقة حتى تدلّ الغاية النافية للخيار على سلب ماهيّته ، كي يدّعى أنّ هذا السلب ملازم للزوم. ومن المعلوم عدم إرادة ماهية الخيار ، إذ لا معنى

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٤٥ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الحديث : ٢.

(٢) المصدر ، ص ٣٤٦ ، الحديث : ٥.

(٣) المصدر ، ص ٣٤٦ ، الحديث : ٦.

(٤) المصدر ، ص ٣٤٦ ، الحديث : ٣ ، رواه الكليني عن محمد بن يحيى العطار عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن جميل عن فضيل عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، والكل ثقات ، فالرواية صحيحة.

(٥) المصدر ، الحديث : ٤.

(٦) المصدر ، ص ٣٤٧ ، الباب ٢ من أبواب الخيار ، الحديث : ١ و ٢ وغيرهما من أخبار الباب.

٥٣٨

.................................................................................................

__________________

لجعل الافتراق غاية لمطلق الخيار مع كونه غاية لخيار واحد فقط ، بداهة أنّ سائر الخيارات على كثرتها غير مغيّاة بالافتراق ، فجعل الافتراق غاية لماهية الخيار ـ مع كونه غاية لخيار واحد ومسقطا له فقط مع ثبوت سائر الخيارات ـ مستهجن عند أبناء المحاورة ، فلا بد من إرادة خيار خاصّ وهو خيار المجلس ، ومن المعلوم أنّ سلبه من السلب الخاص غير الملازم للزوم.

وأمّا الطائفة الثانية فيظهر الجواب عنها مما تقدم في الجواب عن الطائفة الأولى ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «فلا خيار» محمول على الخيار المذكور في الصدر ، لتبعية الذيل له.

مضافا إلى : ما عرفت من أنّ سلب ماهيّة الخيار مع ثبوت جميع الخيارات ـ إلّا واحدا ـ مستهجن عرفا ، فمع كون جميع الروايات بصدد بيان ثبوت خيار خاص لا طبيعة الخيار ـ وأنّ المسلوب بعد الغاية وهي الافتراق هو الخيار الخاص ، لا لأجل أنّه المفهوم ، بداهة كون المفهوم الاصطلاحي هو ما إذا علّق على الغاية سنخ الحكم لا شخصه ـ لا يبقى ظهور لصحيحة الحلبي في الإطلاق ، ولا في حكم آخر غير ما في سائر الروايات ، فلا محيص عن حمله على الوجوب الحيثي.

وبالجملة : فلو دار الأمر بين الحمل على الوجوب الفعلي المطلق ، والالتزام بخروج جميع الخيارات على كثرتها تقييدا ، وبين الحمل على الوجوب الحيثي ، فالترجيح للثاني.

فعلى هذا لا يصحّ التمسك بالروايات التي صرّح فيها بالمفهوم ، لأنّه ليس من المفهوم المصطلح ، بل من السلب الخاصّ الذي لا يترتّب عليه إلّا الوجوب الحيثيّ ، لا الوجوب الفعلي المطلق المترتّب على المفهوم المصطلح كما لا يخفى.

وأمّا الطائفة الثالثة ففيها ـ مضافا إلى ظهورها باعتبار قوله عليه‌السلام : «استوجبها» في البيع بالصيغة ، وإلى : تعارف البيع بالصيغة في الأراضي والقرى ، وبعد اشترائها معاطاة ـ أنّها قضية شخصية لا يعلم الحال فيها ، فليس لها إطلاق يشمل المعاطاة.

فتلخص : أنّ روايات خيار المجلس بطوائفها الثلاث لا تدل على لزوم المعاطاة ،

٥٣٩

وقد يستدلّ أيضا بعموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ (١)) (١)

______________________________________________________

الدليل السابع : الأمر بالوفاء بالعقود

(١) هذه الآية الشريفة دليل سابع على أصالة اللزوم ، ونسب الفاضل النراقي قدس‌سره (٢) الى المشهور استدلالهم بها على لزوم كل عقد عرفي. ولم يتعرّض المصنف قدس‌سره هنا لتقريب دلالتها على المدّعى ، وإنّما أفاده في أدلة اللزوم في أوّل الخيارات ، فينبغي توضيح كلامه هنا وعدم الإحالة على بحث الخيارات مع ما بين المبحثين من الفصل الكثير ، فنقول وبه نستعين وبوليّه

__________________

وعمدة الوجه في عدم دلالتها على ذلك هو كون الوجوب حيثيّا ، بعد وضوح جعل الافتراق غاية لخصوص خيار المجلس ، فسلب الخيار حينئذ سلب الخاص ، فكيف يترتب عليه سلب العام وهو طبيعة الخيار؟ فلا إطلاق لوجوب البيع يقتضي لزومه على وجه الإطلاق بعد الافتراق.

فما في تقرير سيدنا الخويي قدس‌سره من «أنّ إطلاقها يقتضي اللزوم على وجه الإطلاق بعد التفرّق ، فلا موجب لصرفها إلى اللزوم من ناحية خيار المجلس» (٣) في غاية الغموض ، فلاحظ وتأمّل.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ مقتضى إطلاق البيع الموضوع للخيار هو لزوم البيع بالافتراق ، سواء أكان بيعا فعليا أم قوليا ، فنفس هذا الإطلاق ينفي الفرد الجوازيّ للبيع.

وبعبارة أخرى : كأنّه قيل : كلّ فرد من أفراد البيع فيه الخيار ، ما لم يفترق المتبايعان ، فمع افتراقهما يجب البيع وجوبا مطلقا. غاية الأمر أنّ هذا الإطلاق يقيد بأدلة سائر الخيارات ، فإنّ سائر الخيارات ثابتة بأسبابها الخاصة. بخلاف خيار المجلس ، فإنّه ثابت للبيع أوّلا وبالذات ، ولذا أطلق الخيار فيه بقوله : «البيعان بالخيار» وأريد به أنّ الخيار الثابت لطبع البيع مع الغض عن خصوصية المبيع هو خيار المجلس فقط ، فلا ينافي ثبوت خيار الحيوان وغيره من الخيارات.

فدعوى دلالة أخبار خيار المجلس على لزوم البيع بسقوطه قريبة جدّا ، والله العالم.

__________________

(١) المائدة ، الآية : ١.

(٢) عوائد الأيّام ، ص ١.

(٣) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٤٣.

٥٤٠