هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه فلا ربط لحكم الشارع ـ باللزوم والجواز ـ بقصد المتعاقدين أصلا ، إذ لا عبرة بقصدهما في لزوم العقد وجوازه.

فإن قلت : هذا الشق الثاني من المنفصلة ممنوع ، لمنع الملازمة بين قوله : «وان كان الثاني لزم إمضاء .. إلخ» وحينئذ لا سبيل لإحراز كون الملك المنشأ في العقود أمرا بسيطا حتى يرجع الاختلاف باللزوم والجواز إلى التعبد الشرعي ، بل يحتمل كون الملك الجائز مغايرا للملك اللازم حقيقة ، فلا يتم استصحاب الشخص حينئذ ، ولا بد من استصحاب القدر المشترك.

وجه منع الملازمة : أنّ المصنف قدس‌سره صرّح في مناقشة أول استبعادات كاشف الغطاء قدس‌سره بأنّ مورد قاعدة تبعية العقود للقصود هو العقد الصحيح الذي أمضى الشارع ما قصده المتعاقدان ، فإن أحرز الإمضاء تعيّن ترتب الأثر المقصود على العقد ، وإن لم يحرز فلا.

وعلى هذا فلمّا كانت المعاطاة معاملة فعلية لم يحرز إمضاؤها شرعا لم يكن بأس بتخلّفها عن التمليك اللازم الذي قصده المتعاطيان. فلا مانع من كون الملك طبيعيا جامعا بين اللازم والجائز ، ويتوقف حصول كل واحد من النوعين أو الفردين على تعيين الشارع. ولم يلزم منه مخالفة قاعدة التبعية أصلا ، لأنّ هذه القاعدة مخصوصة بالعقود الصحيحة. ونتيجة ذلك عدم إثبات شخصية الملك حتى يرجع اللزوم والجواز إلى محض التعبد الشرعي.

قلت : بل الملازمة ثابتة ، فإنّها مبتنية على مقدمتين مسلّمتين :

الأولى : أنّ أصالة اللزوم لا تختص بالمعاملة الفعلية المملّكة ، بل تجري في العقد اللفظي المملّك ، مثلا لو شكّ في أنّ الملكية المنشئة بعقد السبق والرماية جائزة يجوز الرجوع فيها قبل إصابة النصل ، أو لازمة لا يجوز الرجوع فيها؟ جرى استصحاب شخص الملك الحادث بالعقد ، ويحكم بلزومه. ولا ريب في أنّ الملكية المنشئة بالعقد اللفظي حقيقة واحدة لا تعدد فيها بالنوع والمرتبة والفرد ، ويرجع اللزوم والجواز إلى تأثير السبب المملّك ، لا إلى نفس الملك.

الثانية : أنّه ثبت عدم القول بالفصل بين موارد حصول الملك ، فسواء كان اللزوم والجواز من خصوصيات السبب القولي أم من خصوصيات المسبّب ـ في المعاملة الفعلية ـ

٥٠١

لما (١) تقدّم (٢) أنّ العقود المصحّحة عند الشارع تتبع القصود. وإن أمكن (٣) القول بالتخلّف هنا في مسألة المعاطاة بناء على ما ذكرنا سابقا (٤) انتصارا للقائل

______________________________________________________

تجري أصالة اللزوم في الملك ، لبنائهم على حجية هذا الأصل في العقود القولية والمعاملات الفعلية ، ولمّا كان المستصحب في العقد اللفظي شخص الملك الحادث بالعقد كان كذلك في السبب الفعلي أيضا.

ونتيجة هاتين المقدمتين : أنّ قاعدة التبعية وإن لم تجر في المعاملة الفعلية كالمعاطاة ، إلّا أنّ قاعدة اللزوم لا تختص بالمعاطاة ، بل تشمل العقود اللفظية المفيدة للملك أيضا ، فحينئذ نجري فيها الدليل المزبور ، وهو «أنّ اللزوم والجواز إن كانا من خصوصيات الملك بحكم الشارع لزم إمضاء الشارع العقد على غير الوجه الذي أنشأه العاقد ، فيلزم تخلف العقد عنه ، وهو باطل بالضرورة».

وعليه فإذا ثبت عدم كون اللزوم والجواز في العقود اللفظية من خصوصيات الملك ـ بحكم الشارع ـ ثبت عدم كونهما من خصوصيات الملك في العقود الفعلية بحكم الشارع أيضا ، لعدم القول بالفصل في حقيقة الملك بين سببها القولي والفعلي ، فاللزوم والجواز خارجان عن حقيقة الملك مطلقا من دون فرق بين موارده من العقود اللفظية والفعلية.

(١) تعليل لبطلان الشق الثاني من المنفصلة ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «يعني : إذا كان تخصيص القدر المشترك بإحدى الخصوصيتين .. إلخ».

(٢) حيث قال في مناقشة استبعادات كاشف الغطاء قدس‌سره : فإنّ تبعية العقد للقصد وعدم انفكاكه عنه إنما هي لأجل دليل صحة ذلك العقد .. إلخ.

(٣) غرضه رفع محذور منافاة إمضاء الشارع لقاعدة تبعية العقود للقصود ، ومحصل ما أفاده في رفع المنافاة هو : أنّ مورد قاعدة تبعية العقود للقصود هو العقود القولية لا الفعلية ، وقد تقدّم توضيحه بقولنا : «فان قلت : هذا الشق الثاني من المنفصلة ممنوع .. إلخ».

(٤) عند التعرض لأجوبة استبعادات بعض الأساطين ، حيث قال : «أما حكاية تبعية العقود وما قام مقامها .. الى أن قال : أمّا المعاملات الفعلية التي لم يدلّ على صحتها دليل فلا يحكم

٥٠٢

بعدم الملك من (١) منع وجوب إمضاء المعاملات الفعلية على طبق قصود المتعاطيين.

لكن (٢) الكلام في قاعدة اللزوم في الملك يشمل العقود أيضا (٣).

______________________________________________________

بترتب الأثر المقصود عليها».

(١) بيان لقوله : «ما ذكرنا».

(٢) هذا جواب قوله : «وإن أمكن القول بالتخلف» وغرضه تصحيح الشق الثاني من المنفصلة المتقدمة ، وقد أوضحناه بقولنا : «قلت ، بل الملازمة ثابتة .. إلخ».

(٣) يعني : كما تشمل المعاملات الفعلية ، فقاعدة تبعية العقد للقصد وإن اختصت بالعقود اللفظية ، لكن أصالة اللزوم لا تختص بالمعاطاة ، بل تعمّ العقود اللفظية أيضا (*).

__________________

(*) فتحصّل : أن المستصحب شخص الملك الحادث بالمعاطاة ، واللزوم والجواز حكمان على هذا الموضوع ، ولا اختلاف في حقيقته ، إذ لو كان فإمّا أن يستند الى قصد المالك أو إلى الشارع ، وكلاهما ممنوع ، لما تقدّم في التوضيح.

لكن قد يشكل بأنّ اختلاف الملك الجائز واللازم وإن كان مستندا الى السبب المملّك ، إلّا أنّه لا ريب في اقتضاء الأسباب المختلفة مسببات كذلك ، فعقد الهبة يقتضي ملكا جائزا ، وعقد الصلح يقتضي ملكا لازما ، ولو لا تفاوت اقتضاء هذين العقدين لم يعقل ترتب أمرين متفاوتين عليهما ، لاستحالة تأثير المتباينين أثرا واحدا ، وعليه يستكشف اختلاف المسبّب من اختلاف السبب ، لامتناع تأثير أسباب مختلفة في مسبّب واحد. وبهذا يشكل استصحاب شخص الملك ، إذ لا علم بالخصوصية اللاحقة.

وأجاب المحقق الأصفهاني قدس‌سره عنه بما توضيحه : أن الأسباب وإن كانت مختلفة ، إلّا أنّه لا يلزم تعدد حقيقة المسبب المترتب عليها ، وذلك لأنّ السببين المملّكين بينهما جهة اشتراك ، وجهة امتياز ، فبالنظر إلى الجهة الأولى يؤثّران في الملك ، وإلى الثانية يؤثّران في الحكم باللزوم والجواز. فالبيع العقدي والمعاطاة يؤثّران بجامعهما في تمليك عين بعوض ، وخصوصية البيع العقدي ـ وهي الصيغة الجامعة لشرائط التأثير ـ تؤثر في جعل اللزوم ،

٥٠٣

.................................................................................................

__________________

كما تقتضي خصوصية البيع الفعلي جعل الجواز. وبهذا يتجه استصحاب شخص الملك الذي اقتضته الحيثية الجامعة بين السببين (١) ، هذا.

لكن يمكن أن يقال : لا يبعد أن يكون مراده قدس‌سره إمكان تأثير الجامع بين السببين في الملك ، ومن المعلوم أنّ مجرد إمكان ذلك لا يجدي في استصحاب شخص الملك الحادث المترتب على السببين المختلفين ، بل لا بد من إحراز وحدته. فلو شكّ في كونهما مؤثّرين بجامعهما في أصل الملك أو بخصوصيتهما حتى يكون الملك الجائز مغايرا للازم لم يتجه التمسك بدليل الاستصحاب لإحراز الشخص ، بل هو مندرج في الشك في كون المستصحب الفرد أو الكلّي ، وهو التقريب الثالث المتقدّم في المتن.

مضافا الى : اختصاص هذا التوجيه بالشبهة الحكمية أعني بها المعاطاة التي يحتمل فيها بقاء الملك بعد الرجوع وعدمه. ويشكل تطبيقه على الشبهة الموضوعية ، كما لو تردّد العقد الخارجي بين الهبة والصلح ، إذ لا جامع أصيل بين إنشاء التسالم والتمليك المجّاني ، وسببية العقود أمر واقعي وإن كان اعتباريا ، ولا يكفي فيه الجامع الانتزاعي كعنوان المعاملة. مع أنّه سيأتي من المصنف قدس‌سره التصريح بحجية أصالة اللزوم في الشبهة الموضوعية كالحكمية.

ولعلّ الأولى في حسم مادة الاشكال أن يقال : إن المستصحب شخصي لا كلّي ، لأنّ كلية الملكيّة إمّا أن تكون بالنوع أو بالمرتبة أو بالفرد ، والكل ممنوع. فإنّ الملكية العقلائية والشرعية إمّا اعتبار مقولة الجدة ، وإمّا اعتبار مقولة الإضافة ، وإمّا اعتبار أمر آخر ، وعلى كل منها لا مجال للتنوع فيها ، لبساطتها.

وأمّا الاختلاف بالشدة والضعف فكذلك ، لفقدان مناط التشكيك فيها ، إذ مناطه أن يكون لحقيقة الشي‌ء عرض عريض كالنور والسواد والبياض ونحوها ممّا يكون بعض مراتبه أشدّ من بعض. وأمّا إذا كان هناك شيئان تصدق الطبيعة عليهما على السواء ـ وإن كان أحدهما باقيا لبقاء علته والآخر زائلا بزوال علّته ـ كان أجنبيا عن الكلي المشكّك ، فلا يصح أن

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٣٣.

٥٠٤

.................................................................................................

__________________

يقال : ان زيدا مالك للشي‌ء الكذائي وأملك للآخر ، ولا أنّ الشي‌ء الفلاني مملوك والآخر أشدّ مملوكا منه.

مع أنه تقرّر عند أهله اختصاص الشدة والضعف بالحركة ، والأمور الاعتبارية أجنبية عن الاشتداد والضعف المخصوصين بالمقولة الواقعية كالكيف. وعليه فليست الملكية اللازمة مرتبة قوية والجائزة ضعيفة.

وأمّا الاختلاف الفردي بأن يكون الملك اللازم والجائز فردين لطبيعة نوعية واحدة كزيد وعمرو ، فممنوع أيضا ، ضرورة أنّ الملكية المنشئة بالعقد الخياري أو بالهبة الجائزة تصير بنفسها لازمة بانقضاء الخيار أو بتصرف المتهب ، لا أنّ الملكية الجائزة تنعدم ويحدث فرد آخر ، أو تنقلب إليه. لاستحالة كليهما.

أمّا انعدام فرد وحدوث آخر فلتوقف الحدوث على الإنشاء سواء قلنا بالتسبيب أم بالموضوع والحكم ، والمفروض عدم حدوث إنشاء آخر غير العقد الخياري أو العقد الجائز.

وأما الانقلاب فلما قيل من استحالة انقلاب الموجود عمّا هو عليه.

وبالجملة : فالبرهان يقتضي الالتزام بكون الملكية المنشئة حقيقة واحدة في السبب المفيد للجواز واللزوم ، فيحكم عليها في برهة بالجواز ، وفي أخرى باللزوم.

بل هذا هو مقتضى مقام الإثبات أيضا ، فإنّ قوله عليه الصلاة والسلام : «فإذا افترقا وجب البيع» ظاهر في صيرورة نفس البيع الجائز لازما بالتفرق عن مجلس المعاملة ، لا حدوث فرد آخر أو مرتبة اخرى.

هذا كله في امتناع تعدد الملكية الاعتبارية في نفسها.

وأمّا احتمال كون اللزوم والجواز موجبين للتعدد النوعي أو الصنفي أو الفردي ، فيدفعه : أنّ هذا الاختلاف ليس بذاته مع الغضّ عن الأسباب المملّكة ، بل بملاحظتها ، بداهة اختلاف الأسباب في اقتضاء اللزوم والجواز عند العقلاء ، فإنّ العقد عندهم على قسمين لازم وجائز ، فالملك يتبع سببه أيضا كذلك.

٥٠٥

.................................................................................................

__________________

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ العقد اللازم إمّا سبب قهريّ للملك اللازم وواسطة ثبوتية له ، بأن ينسب اللزوم إلى الملك حقيقة ، وإمّا واسطة عروضية له بحيث ينسب اللزوم الى العقد أوّلا وبالذات وإلى الملك ثانيا وبالعرض. لا سبيل إلى الأوّل كما ثبت في محله من امتناع السببية الحقيقية للأسباب العقلائية والتشريعية ، فيتعين الثاني وهو الوساطة العروضية ، وكون اتصاف الملك باللزوم والجواز بالعرض والمجاز ، ومن المعلوم أنّه لا يوجب الاختلاف نوعا أو صنفا أو شخصا.

فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنّ استصحاب الملك شخصي ، ولا إشكال فيه ، وليس كلّيا.

وقد ظهر مما بيّنا ضعف الاستدلال لاختلاف المسبّبات بسبب اختلاف الأسباب.

وكذا ضعف الاستدلال «بأنّ اختلاف الأسباب لو لم يكن موجبا لاختلاف المسببات لا يقتضي اختلاف الأحكام» وذلك لأنّه إن أريد باختلاف الأحكام اختلاف أحكام الأسباب ، فهو لا يقتضي إلّا اختلاف الأسباب ، لا اختلاف المسبّبات.

وإن أريد به اختلاف أحكام المسبّبات ـ مع كون المقصود بالأحكام اللزوم والجواز ـ ففيه : أنّه مصادرة.

وإن أريد به كشف الأسباب المختلفة عن المسببات المختلفة ، ففيه : أنّه غير صحيح ، لما عرفت من عدم السببية الحقيقية في الأسباب العقلائية والتشريعية. هذا.

ثم إنّه بناء على كون الملك كلّيا ، وأنّ اللزوم الجواز من الخصوصيات المنوّعة له يشكل جريان الاستصحاب فيه ، لا لأجل الإشكالات التي أوردوها على استصحاب الكلي في الأصول ، لأنّها واضحة الدفع ، بل لأجل عدم وجود للجامع بين الأفراد الذي هو موضوع الأثر ، إذ الموجود في كل فرد حصة من الكلي متخصصة بخصوصية مباينة لخصوصية اخرى مخصصة لحصة أخرى من الطبيعة ، فلا يصدق شي‌ء من الحصص الموجودة على الأخرى ، لمباينتها لها ، ومع عدم وجود الجامع كيف يصح استصحابه؟ فحينئذ يصعب جريان استصحاب الكلي وينحصر في الشخصي ، فتدبّر.

ويمكن دفعه بأن يقال : إنّ موضوع الحكم إن كان وجود الكلي بحده الجنسي

٥٠٦

وبالجملة (١) فلا إشكال في أصالة اللزوم في كل عقد (٢) شكّ في لزومه شرعا.

وكذا (٣) لو شكّ في أنّ الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو الجائز كالصلح من

______________________________________________________

(١) هذه خلاصة ما حقّقه المصنف قدس‌سره في جريان استصحاب الملك في الشبهة الحكمية ـ عند الشك في لزومه وجوازه ـ بتقاريب ثلاثة تقدمت مفصّلا.

(٢) مملّك ، لا كلّ عقد ولو غير مملّك أيضا ، ولذا لا تجري قاعدة اللزوم في العقد المردّد بين كونه قرضا وبين كونه وديعة ، لعدم إحراز أصل الملك حتى تجري أصالة اللزوم في الشك في اللزوم والجواز كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في جريان أصالة اللزوم في الشبهة الحكمية التي هي المقصد الأصلي من عقد البحث ، إذ الغرض المهم في المقام هو إثبات ترتب الملك اللازم على المعاطاة بعد الفراغ عن ترتب أصل الملك عليها. وسيأتي لهذا الأصل تتمة في جريانه في الشبهة الموضوعية إن شاء الله تعالى.

(٣) هذا إشارة إلى حجية أصالة اللزوم في الشبهة الموضوعية كالحكمية. وكلامه قدس‌سره يتضمن جهتين من البحث :

إحداهما : بيان الحكم الكلّي ، أي ما يفتي به الفقيه في كل مورد تردّد العقد الخارجي

__________________

لا الفصلي فالمعلوم هو نفس الجنس ، ولا مانع من استصحابه وإن كان الجنس لا يوجد إلّا بالفصل ، لكن لمّا لم يكن الفصل ملحوظا في مقام موضوعية الجنس فيصح أن يقال : إنّ الكلي علم بوجوده وشك في بقائه ، فيستصحب.

وهذا نظير الحدث الذي هو موضوع لحرمة مسّ الكتاب العزيز فإذا علم بحدث مردّد بين الأصغر والأكبر جاز استصحابه ، فالمراد باستصحاب الكلي هو استصحاب الجنس المعلوم وجوده في ضمن فصل. إلّا أن الفصل لعدم دخله في موضوع الحكم غير ملحوظ حال الشك في بقاء الكلي ، فإذا كانت الخصوصية الفصلية أو الفردية دخيلة في موضوع الحكم وتردّدت بين الخصوصيتين لا يجري استصحاب الجامع ، لكونه مثبتا ، بداهة مثبتية الأصل الجاري في الكلي لإثبات أحد الفردين أو كليهما ، بل يعامل معه معاملة العلم الإجمالي بوجود موضوع ذي حكم مردّد بين موضوعين ، فيحتاط بالجمع بين كلتا الوظيفتين.

٥٠٧

دون عوض ، والهبة (١).

نعم (٢) لو تداعيا احتمل

______________________________________________________

المملّك بين كونه مفيدا للزوم والجواز ، كما لو شك في أنّ المنشأ صلح على هذه العين بلا عوض حتى يكون العقد لازما ، أم هبة حتى يكون العقد جائزا يصح فيه الرجوع؟ فيبني على لزوم العقد باستصحاب الملك ، وإن لم يترتب عليه أحكام عقد الصلح ، لقصور الأصل الجاري في الجامع بين الخصوصيتين عن إثبات خصوصية الحادث. والظاهر أنّ المستصحب هنا هو الكلّي لا شخص الملك.

ثانيتهما : بيان حكم ترافع المتعاقدين ، وادّعاء أحدهما وقوع عقد لازم ، والآخر وقوع عقد جائز حتى يصح معه الرجوع. والحكم هنا يبتني على ما هو مذكور في كتاب القضاء من أنّ العبرة بالغرض من الترافع أم بمصبّ النزاع؟ وسيأتي بيان حكم هذه الصورة.

(١) أي : هبة غير ذي رحم ، وإلّا كان العقد الواقع لازما على كل حال ، لكون الصلح لازما.

فتحصل : أنّ أصالة اللزوم تجري في الملك مطلقا من غير فرق بين كونه ناشئا من العقود اللفظية والفعلية ، فإنّ للملك حقيقة واحدة في جميع العقود.

(٢) استدراك على قوله : «وكذا لو شك .. إلخ» وهذا إشارة إلى الجهة الثانية مما تعرض له في الشبهة الموضوعية ، يعني : أنّ مقتضى أصالة اللزوم ـ مع شك كلّ من المتعاقدين في كون الواقع عقدا لازما أو جائزا ـ هو البناء على اللزوم ، وعدم تأثير رجوع المالك الأصلي في الفسخ لكنه في صورة الاختلاف والترافع هو التحالف ، كما لو ادّعى أحدهما العلم باللزوم لكون العقد الواقع صلحا ، وادعى الآخر العلم بالجواز وأنّه هبة.

توضيحه : أنّه تارة يكون الغرض من الدعوى تعيين خصوصية السبب الواقع ، وأنّه صلح أو هبة ، وأخرى يكون الغرض بقاء الملك بالرجوع وعدمه.

ففي الصورة الأولى يرجع الى التحالف ، لعدم أصل يقتضي تعيين العقد الواقع ، وقول كلّ منهما مخالف للأصل ، فكلّ منهما مدّع لشي‌ء ينكره الآخر ، فينطبق على هذه الصورة ضابطة التحالف التي هي ادّعاء كلّ من المتداعيين على الآخر ما ينفيه الآخر ، بدون الاتفاق على أمر واحد ، كما في الحدائق التصريح به (١).

__________________

(١) الحدائق الناظرة ، ج ١٩ ، ص ١٩٧.

٥٠٨

التحالف (١) في الجملة (٢).

ويدل (٣) على اللزوم ـ مضافا إلى ما ذكر (٤) ـ عموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [قولهم] : «الناس مسلّطون على أموالهم (٥)» (١)

______________________________________________________

وإن شئت فقل : إنّ قول كلّ منهما موافق للأصل من جهة ومخالف له من جهة أخرى.

وفي الصورة الثانية يقدّم قول من يدّعي انتفاء الملكيّة بالرجوع ، لمخالفة قوله لقاعدة اللزوم.

(١) ويقابل هذا الاحتمال ما عن المشهور من احتمال كون اليمين على مدّعي الجواز ، وإن كانت صورة الدعوى تعيين العقد. وهذا وجيه ، لأنّ المدار في المرافعات على أغراض المترافعين ونتيجة دعواهم ، ومن المعلوم أنّه لا أثر لتعيين العقد إلّا ما يترتب عليه من الأثر وهو اللزوم أو الجواز.

وما عن الجواهر من «احتمال التحالف مطلقا سواء أكانت صورة الدعوى تعيين العقد أم الجواز واللزوم» لا يخلو من غموض. والتفصيل في محله.

(٢) وهو الصورة الأولى ، وهي كون الغرض تعيين العقد الواقع.

الدليل الثاني : حديث السلطنة

(٣) هذا هو الدليل الثاني على أصالة اللزوم ، وهذا وما بعده من عمومات الكتاب والسنة تدل على أصالة اللزوم في الملك بما أنّها أصل لفظي لا عملي ، ولذا كان الأنسب تقديم هذه الأدلة السبعة على ما ذكره من الاستصحاب كما لا يخفى وجهه.

(٤) وهو أصالة اللزوم في الملك.

(٥) هذا تقريب الاستدلال بالحديث الشريف النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أصالة اللزوم في الملك بالإطلاق.

ومحصّل تقريب الاستدلال ـ على نحو لا يرد عليه إشكال الشبهة المصداقية ـ هو : أنّه قد تقدم في أدلة مملكية المعاطاة أنّ هذا الحديث وان كان قاصرا عن إثبات مشروعية

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٧٢ ، عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٢.

٥٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الأسباب ، إلّا أنّه يدل على سلطنة المالك على أنحاء التصرفات في ماله ، سواء أكان تصرفا خارجيا أم اعتباريا.

وعلى هذا نقول : إنّ مقتضى تشريع سلطنة مطلقة للمالكين على أموالهم هو جواز كل تصرف للمالك بمجرّد تحقق التعاطي المفيد للملك حسب الفرض ، ومنع الغير عن التصرفات المزاحمة ، ومن المعلوم أنّ فسخ المالك الأوّل وتملّكه لما انتقل عنه بالمعاطاة ينافي تلك السلطنة المطلقة ، فيدفع بإطلاق السلطنة ، ويثبت به عدم نفوذ فسخه ، ولا نعني بلزوم الملك إلّا عدم تأثير فسخ المالك الأوّل فيه.

فإن قلت : إنّ التمسك بهذا الحديث للزوم الملك تشبّث به في الشبهة المصداقية ، لأنّ موضوع السلطنة هو المال المضاف إلى المالك ، وأنّ السلطنة مترتبة على هذه الإضافة ترتّب الحكم على موضوعه ، ومن المعلوم أنّ إطلاق السلطنة ـ كسائر الأحكام ـ لا يقتضي حفظ الموضوع ، إذ ليس شأن الحكم ذلك ، بل الحكم يثبت على تقدير وجود الموضوع من باب الاتفاق ، فانحفاظ ملكيّة المال للمالك خارج عن مدلول السلطنة التي هي متفرعة على هذه الإضافة ، ولعلّ رجوع المالك الأوّل يرفع موضوع السلطنة وهو ملكيّة المال للمالك الآخذ ، لاحتمال خروجه عن ملكه برجوع مالكه الأصلي ، وحينئذ لا يمكن تطبيق القاعدة ، لعدم إحراز موضوعها.

ولو قيل بأنّ الاستصحاب يقتضي بقاء المال على ملك من انتقل إليه بالمملّك الشرعي ، قلنا : انه رجوع عن الاستدلال بقاعدة السلطنة على اللزوم إلى الاستصحاب ، هذا.

قلت : لا يرد هذا الاشكال ، وذلك لأنّ مقتضى إطلاق السلطنة الفعليّة للمالك على ماله هو المنع عن المزاحمات التي منها تملّك الغير له بالفسخ ، فإنّ تملّك الغير ينافي سلطنة المالك بداهة ، فالقاعدة تقتضي عدم تأثير الفسخ في رجوع المال إلى ملك مالكه الأوّل ، ولا نعني باللزوم إلّا عدم نفوذ تملك المالك الأصلي له بالفسخ.

وبالجملة : فاحتمال خروج المال عن ملك المالك بلا إذنه منفي بقاعدة السلطنة ، فليست الشبهة مصداقيّة حتى لا يجوز التمسك بالقاعدة.

٥١٠

فإنّ (١) مقتضى السلطنة أن لا يخرج (٢) عن ملكيته (٣) [ملكه] بغير اختياره ، فجواز تملّكه (٤) عنه بالرجوع فيه من دون رضاه مناف للسلطنة المطلقة.

فاندفع (٥) ما ربما يتوهم من (٦) : أن غاية مدلول الرواية سلطنة الشخص على ملكه ، ولا نسلّم ملكيّته له بعد رجوع المالك الأصلي (٧) (*).

______________________________________________________

(١) هذا تقريب الاستدلال بالحديث ، ومحصله : ظهوره في أنّ المجعول هو السلطنة المطلقة غير المحدودة بشي‌ء ، فإذا تحققت إضافة الملكية بالمعاطاة مثلا وقعت جميع شؤون المملوك تحت اختيار المالك الفعلي وسلطنته ، ولم يجز لغيره ـ سواء كان هذا الغير المالك الأوّل أم شخصا أجنبيا ـ أن ينتزع المال من مالكه بدون رضاه ، ومن المعلوم أنّ المال لو لم يكن ملكا لازما للمتعاطي لجاز للمالك الأوّل أن يستردّه منه ، ولم تكن سلطنة المتعاطي مطلقة ، بل كانت مقيّدة بعدم رجوع الطرف ، مع أنّ مدلول الحديث سلطنة المالك مطلقة وغير مقيّدة برجوع الآخر وعدم رجوعه ، وهذا هو اللزوم.

(٢) الضمير المستتر وضميرا «تملّكه ، فيه» راجعة إلى المال.

(٣) هذا الضمير وضمائر «اختياره ، عنه ، رضاه» راجعة إلى المالك ، المستفاد من العبارة.

(٤) يعني : إذا جاز للمالك الأوّل أن يتملّك المال بالرجوع كان منافيا للسلطنة المطلقة للمالك الفعلي.

(٥) هذه نتيجة تقريب الاستدلال ، ومقتضاه عدم المجال لاحتمال كون المقام من التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية ، الذي تقرّر عدم جوازه في الأصول.

(٦) قد تقدّم توضيح هذا التوهم بقولنا : «فان قلت : ان التمسك بهذا الحديث .. إلخ» كما تقدّم جوابه بقولنا : «قلت : لا يرد هذا الإشكال».

(٧) إذ لعلّه عاد بالرجوع الى ملك المالك الأوّل ، ويرتفع موضوع سلطنة المالك الفعلي حينئذ. هذا تمام التوهم. ولم يذكر المصنف قدس‌سره جوابه اتكالا على ما أفاده في تقريب الاستدلال بالحديث ، وقد تقدم توضيحه.

__________________

(*) قد استشكل في هذا النبوي تارة بضعف السند.

وأخرى بأنه غير مسوق لبيان أنحاء السلطنة ليكون دليلا على لزوم العقد بمعنى عدم

٥١١

.................................................................................................

__________________

جواز الرد ، لمنافاته لإطلاقها ، بل مفاده عدم الحجر واستقلال المالك فيما ثبت مشروعيته.

وثالثة ـ بعد تسليم دلالته على جعل السلطنة ـ بأنه لا إطلاق له ، بل الثابت السلطنة في الجملة ، وهو غير مجد في المقام.

ورابعة بأنّ التمسك بالحديث لعدم نفوذ رجوع المالك الأصلي في عود المال إليه منوط بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، لأنّه يشك في كون رجوعه فسخا للمعاملة وموجبا لعود المال إلى مالكه ، ومع الشك لا مجال للتشبث بدليل السلطنة كما هو واضح ، هذا.

أقول : قد اتضح مما ذكرناه حول الحديث ـ في أدلة مملكية المعاطاة ـ حال الإشكالات الثلاثة الأول ، ولا حاجة الى الإعادة.

إنما الكلام في الاشكال المختص بالمقام وهو شبهة اندراجه في التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية ، فنقول : لا ريب في كون دليل السلطنة معلّقا على عدم مزاحمة سلطنة العبد لسلطنة مولاه. لكنه منوط باحرازها بالعلم بها أو بقيام الحجة عليها. وأمّا مع الشك في تحقق سلطنة المولى يبنى على عدمها كالشك في ورود المخصص اللفظي أو الوارد أو الحاكم ، فإنّه لا أثر لمجرّد احتمالها ـ بعد الفحص عنه وعدم الظفر به ـ في قبال إطلاق الدليل اللفظي ، ولا وجه لرفع اليد عنه بمجرد الاحتمال المزبور.

فهو نظير ما إذا ورد «أكرم العلماء» واحتمل خروج شعرائهم عن حيّز وجوب الإكرام ، أو ورد «كل مشكوك الحكم حلال» واحتمل قيام أمارة على حرمة شرب التتن ، ومن المعلوم أنّ هذه الأمارة على فرض وجودها واردة أو حاكمة على دليل حلية مشكوك الحكم ، ولكن لا نرفع اليد عن هذا الدليل بصرف احتمال قيام أمارة على الحرمة ، كما لا نرفع اليد عن عموم دليل وجوب «إكرام العلماء» بمجرد احتمال ورود دليل على حرمة إكرام شعرائهم.

وكذا الحال في دليل السلطنة ، فلا نرفع اليد عن إطلاقه بمجرّد احتمال وجود الرافع.

نعم لا بد في التمسك بالإطلاق من الفحص عن المقيّد كما ثبت في محلّه.

٥١٢

.................................................................................................

__________________

ثم إنّ هنا إشكالا آخر على الاستدلال أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره بقوله : «ان المنفي بالالتزام هي السلطنة المنافية لسلطنة المالك على جميع التصرفات الواردة على المال ، دون غيرها من أنحاء السلطنة .. وليس سلطنة الغير على الرجوع سلطنة على تملك المال على حدّ سلطنة الشفيع على تملك مال المشتري ببذل مثل الثمن لتكون مزاحمة لسلطان المالك ، بل سلطنة على الردّ والاسترداد ، فهو في الحقيقة سلطنة على إزالة الملكية ، والمالك له السلطان على الملك لا على الملكية ..» (١).

ومحصّله : أنّ الفسخ والرجوع يؤثّر في إبطال موضوع السلطنة ، وبيانه : أنّ مقتضى ترتب السلطنة على «أموالهم» تأخّرها رتبة عن إضافة الملكية تأخّر كل حكم عن موضوعه ، والإضافة متأخرة عن العقد المملّك كالمعاطاة ، وحيث إنّ نسبة الفسخ الى العقد نسبة الرافع إلى المرفوع فلو فسخ المالك الأصلي كان مقتضاه إعدام العقد الموضوع لإضافة الملكية الموضوعة للسلطنة ، ومع تأخر سلطنة المتعاطي عن العقد ـ الذي ينحلّ بالفسخ والرجوع ـ برتبتين لم تكن سلطنته بقول مطلق منافية لتأثير الفسخ في إعدام العقد ، لاستحالة تكفل الحكم إبقاء موضوع نفسه ، ولا تأثيره في أمر متقدم بالرتبة على موضوع نفسه.

وبعبارة أخرى : الفسخ يزيل العقد ، وسلطنة المتعاطي لا تمنع من تأثير الفسخ ، لقيامها بموضوعها وهو الملكية الناشئة من العقد.

وعليه فلا يصلح الحديث لإثبات أصالة اللزوم ، فإنّ دلالته إنّما هي بمدلوله الالتزامي وهو اقتضاء سلطنة المالك ـ على جميع التصرفات سلطنة مطلقة ـ عدم سلطنة الغير على ما يزاحم هذه السلطنة المطلقة ، وإلّا لم تكن مطلقة. وأنت خبير بأن موضوع هذه السلطنة المطلقة المال المضاف ـ بإضافة الملكية ـ إلى المالك. ومع تعلق الفسخ بالعقد الموجب للملكية لا مجال لنفيه بإطلاق سلطنة المالك لكل تصرف في ملكه ، هذا.

وهذا البيان وإن لم يخل عن قوّة ودقّة ، إلّا أنّه يمكن أن يقال : انّ الفسخ وإن تعلق

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ٣٤.

٥١٣

ولما (١) ذكرنا تمسّك المحقّق قدس‌سره في الشرائع على لزوم القرض بعد القبض بأنّ (٢)

______________________________________________________

(١) أي : ولأجل كون مقتضى السلطنة المطلقة على الملك عدم خروجه عن ملكه بغير اختياره تمسّك المحقق في الشرائع على لزوم القرض ـ الذي هو من موجبات الملك ـ بأنّ فائدة الملك السلطنة. وغرض المصنف إقامة الشاهد على ما استظهره من الحديث النبوي من دلالته على جعل السلطنة المطلقة للملّاك على أموالهم ، وأنّ تحديدها بشي‌ء يتوقف على دليل.

قال المحقق : «القرض يملك بالقبض ، لا بالتصرف ، لأنّه فرع الملك ، فلا يكون مشروطا به. وهل للمقرض ارتجاعه؟ قيل : نعم ولو كره [اكره] المقترض. وقيل : لا ، وهو الأشبه ، لأنّ فائدة الملك التسلّط» (١).

(٢) يعني : أنّ فائدة ملك المقترض هي السلطنة على العين المقترضة ، وهذه السلطنة مانعة عن رجوع المقرض ، فليس له الرجوع بدون إذن المديون ، لأنّ تملّكه برجوعه مناف لسلطنة المقترض على ماله ، فلا ينفذ. فدليل السلطنة يدلّ بالدلالة الالتزامية على عدم جواز الرجوع ، وعدم نفوذه ، لأنّ لازم نفوذه عدم سلطنة المالك على ماله.

__________________

بالعقد ابتداء لا بالمال ، لكن الظاهر عدم موضوعية حلّ العقد بما هو ، وإنّما الغرض التوسل بالفسخ الى استرداد المال ، وإخراجه عن ملك مالكه الفعلي ، كما أنّ نفس العقد طريق لتملّك مال الغير ، وحينئذ فلو كان لغير المالك حق الفسخ والرجوع كان معناه سلطنته على إخراج المال عن ملك مالكه الفعلي رغما لأنفه وبلا طيب نفسه ، وهذا ينافي جدّا ـ بحسب النظر العرفي ـ لجعل سلطنة مطلقة للمالك ، لفرض عدم مانعيّتها عن تصرّف غير المالك بفسخ العقد.

وحديث تعدد الرتبة وإن كان صحيحا ، لكنّه أجنبي عن باب الاستظهار العرفي المعوّل عليه في الخطابات الشرعية. وعليه فهذا الاشكال يمكن منعه.

والمتحصّل : أنّ المهم في الاستدلال بحديث السلطنة هو إحراز مشرّعيته وعدم كونه في مقام بيان أمر عدمي ، وهو استقلال المالك وعدم حجره عن التصرفات المشروعة في نفسها. والمسألة لا تخلو بعد من تأمّل.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٦٨.

٥١٤

فائدة الملك السلطنة. ونحوه العلّامة قدس‌سره في موضع آخر (١).

ومنه (٢) يظهر جواز التمسك بقوله عليه‌السلام : «لا يحلّ مال امرء إلّا عن طيب نفسه»

______________________________________________________

فالمتحصل : أنّه لا ينبغي الإشكال في كون تملّك مال الغير بلا إذنه ـ وبدون طيب نفسه ـ منافيا لسلطنة المالك ، فيدفع بإطلاق دليل السلطنة.

(١) يعني : غير كتاب القرض ، ولعلّ مقصود المصنف ما أفاده العلامة في بيع التذكرة بقوله : «يجوز بيع كل ما فيه منفعة ، لأنّ الملك سبب لإطلاق التصرّف» (١).

وفي قرض المختلف ما يستفاد منه المطلب أيضا ، حيث قال ـ في مسألة عدم جواز استرجاع المقرض العين المستقرضة ـ ما لفظه : «وقال ابن إدريس : ليس له ذلك إلّا برضى المقترض. وهو الأجود. لنا : أنّه ملكه بالقرض والقبض ، فلا يتسلّط المالك على أخذه منه ، لانتقال حقه الى المثل أو القيمة» (٢) لدلالته على اقتضاء الملك السلطنة على التصرف في ماله ، وإنّما لا يجوز للمقرض الرجوع في العين من جهة انقطاع إضافته عن العين بمالها من المشخّصات ، وانتقال حقه الى البدل.

الدليل الثالث : حديث توقف حلية مال الغير على طيب نفسه

(٢) يعني : ومن تقريب الاستدلال ـ على أصالة اللزوم في الملك ـ بحديث السلطنة يظهر جواز التمسك بقوله عليه‌السلام : «لا يحل ..» وهذا هو الدليل الثالث على أصالة اللزوم ، وينبغي البحث أوّلا في متن الحديث وسنده ، ثم دلالته على المدّعى ، فنقول : لم أظفر في كتب الأخبار بالنصّ المذكور في المتن ، إذ فيها روايات خمس تختلف عمّا أثبته المصنف قدس‌سره.

الاولى : معتبرة سماعة وزيد الشحام عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث : «ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها ، فإنّه لا يحلّ دم

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٤.

(٢) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣٩٢.

٥١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

امرء مسلم ولا ماله إلّا بطيبة نفس منه [نفسه]» (١).

الثانية : ما في تحف العقول عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنه قال في خطبة حجة الوداع : أيّها الناس (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّا عن طيب نفس منه» (٢).

الثالثة : ما في عوالي اللئالي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المسلم أخو المسلم ، لا يحلّ ماله إلّا عن طيب نفس منه» (٣).

الرابعة : رواية محمد بن زيد الطبري ، قال : «كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : يسأله الإذن في الخمس ، فكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم .. لا يحلّ مال إلّا من وجه أحلّه الله» (٤).

الخامسة : ما في التوقيع المبارك إلى محمد بن جعفر الأسدي ـ في جواب مسائله عنه عليه الصلاة والسلام : «وأمّا ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا ، هل يجوز القيام بعمارتها وأداء الخراج منها ، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية ، احتسابا للأجر ، وتقرّبا إليكم ، فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه ، فكيف يحلّ ذلك في ما لنا ، من فعل شيئا من ذلك بغير أمرنا فقد استحلّ منّا ما حرّم عليه ، ومن أكل من أموالنا شيئا فإنّما يأكل في بطنه نارا ، وسيصلى سعيرا» (٥).

وهذا التوقيع الشريف وإن كان مرسلا في الاحتجاج ، لكنه مسند بنقل الصدوق في

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤٢٤ ، الباب ٣ من أبواب مكان المصلي ، الحديث : ١ ، ورواه أيضا في ج ١٩ ، ص ٣ ، الباب ١ من أبواب قصاص النفس ، الحديث : ٣.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ٤٢٥ ، الحديث : ٣.

(٣) عوالي اللئالي ، ج ٣ ، ص ٤٧٣ ، الحديث : ١ ، وبمضمونه الحديث ٣ من نفس الصفحة ، وفي ج ١ ، ص ٢٢٢ ، الحديث : ٨٩٨ وج ٢ ، ص ١١٣ و ٢٤٠.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٧٥ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام ، الحديث : ٢.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٥٣ ، ص ١٨٣ ، كمال الدين وتمام النعمة ص ٤٨٥ ، طبع النجف الأشرف ، وفيه «ولا يحل» بدل «فلا يحل». وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٧٧ ، الباب ٣ من أبواب الأنفال ، الحديث : ٦.

٥١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كمال الدين ، فلا وجه لرميه بالإرسال بقول مطلق ، فلاحظ.

وعدم انطباق ما في المتن على إحداها واضح ، فيحتمل أنّ المصنف قدس‌سره نقل المضمون والمعنى لا اللفظ ، ويحتمل سهو الناسخ.

وكيف كان فتقريب الاستدلال بما في المتن : أنّ الحديث يدلّ على كون سبب حلية التصرف في أموال الناس منحصرا في رضا الملّاك ، وأنّه لا يجوز لغير المالك شي‌ء من التصرفات ، وحيث إنّ المال انتقل الى ملك المتعاطي بنفس المعاطاة لم يجز للغير ـ سواء أكان هو المالك السابق أم أجنبيا عن المعاملة ـ أن يتملّك ذلك المال بدون رضا مالكه الفعلي ، حيث إن تملّكه كذلك مناف لانحصار سبب الحلّ في الرضا وطيب النفس ، كمنافاة تملكه بدون رضاه لسلطنة المالك المطلقة.

وعليه فانحصار سبب الحلّ في رضا المالك يكشف عن عدم نفوذ فسخ المالك الأصلي ، لأنّ الفسخ والرجوع تصرّف في مال من انتقل إليه المال بالمعاطاة ، وكل تصرّف غير مقرون برضا المالك ممنوع شرعا ، فلا عبرة برجوع المالك الأصلي ، وهذا معنى لزوم الملك بالمعاطاة.

فإن قلت : إنّ موضوع حرمة التصرف والتملك هو المال المضاف إلى الغير ، فما دام هذا الموضوع محقّقا ثبتت الحرمة ، وإلّا فلا ، إذ لا يتكفل الحكم لموضوعه نفيا وإثباتا.

وعليه فالتمسك بأحاديث الحل على لزوم المعاطاة لا يخلو من شبهة التشبث بالدليل في الشبهة الموضوعية ، إذ لو اشترى زيد كتابا من عمرو بدينار ـ بالمعاطاة ـ حرم على عمرو التصرف في الكتاب ما لم يرجع عن بيعه ، لأنّه تصرف في مال الغير. وأمّا إذا رجع وفسخ المعاطاة احتمل خروج الكتاب عن ملك زيد وانتقاله إلى ملك نفسه ، لاحتمال إفادة المعاطاة ملكا جائزا ، فلم يحرز حينئذ كون الكتاب مال زيد كي يترتب عليه حكمه ـ أعني به حرمة تصرّف عمرو فيه ـ حتى يستكشف منها لزوم المعاملة.

قلت : لا مجال لهذه الشبهة ، لما تقدم في حديث السلطنة ، من أنّه ليس المجعول سلطنة

٥١٧

حيث (١) دلّ على انحصار سبب حلّ مال الغير (٢) أو جزء (٣) سببه في (٤) رضا المالك ، فلا يحل (٥) بغير رضاه.

______________________________________________________

مهملة حتى يتطرّق إليه الشك في تأثير الرجوع ، بل السلطنة مطلقة ، ونقول هنا : إنّ المقرّر في الأصول : إفادة حذف المتعلّق للعموم ، وفي المقام يكون الفعل المحذوف المتعلق بالمال في قوله عليه‌السلام : «لا يحل مال امرء» كل فعل يتعلّق بمال الغير سواء أكان تصرفا خارجيا كالأكل والشرب واللبس ومطالعة الكتاب وسكنى الدار ونحوها ، أم تصرفا اعتباريا كتملكه وبيعه ووقفه ، وعليه فكلّ تصرف في مال الغير منهي عنه إلّا إذا كان بطيب نفس المالك ، فلا ينفذ تملكه إلّا بإذنه ، فلا أثر لرجوع المالك الأوّل.

وبهذا ظهر أجنبية المقام عن التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية ، لدلالة الحديث على أنّ نفس رجوع المالك الأوّل ـ الذي يوجب الشك في انقطاع إضافة المال الى الغير وهو المتعاطي ـ مما لا عبرة به ، لانّ الرجوع الموجب لخروج المال عن ملك المتعاطي منهيّ عنه وغير نافذ شرعا.

(١) هذا تقريب الاستدلال ، وقد تقدم توضيحه آنفا بقولنا : «وكيف كان فتقريب الاستدلال بما في المتن .. إلخ».

(٢) كما في موارد إباحة المالك ماله للغير كالإذن له في شربه وأكله ، فإنّ الرضا هنا سبب منحصر لحلية تصرف غير المالك.

(٣) معطوف على «سبب» أي : دلّ على انحصار جزء سبب الحلّ في رضا المالك ، وذلك كما في موارد التمليك بالعوض كالبيع أو بلا عوض كالهبة ، فإنّ الرضا جزء السبب ، وجزؤه الآخر هو العقد سواء أكان قوليّا أم فعليّا.

(٤) متعلق ب «انحصار».

(٥) أي : فلا يحلّ مال الغير من دون رضا مالكه.

٥١٨

وتوهّم (١) تعلّق الحلّ بمال الغير (٢) ، وكونه (٣) مال الغير ـ بعد الرجوع ـ أوّل الكلام ـ مدفوع (٤) بما تقدّم (٥) من أن تعلّق الحلّ بالمال يفيد العموم ، بحيث يشمل التملّك أيضا (٦) ، فلا يحلّ (٧) التصرف فيه ، ولا تملّكه إلّا بطيب نفس المالك (*).

______________________________________________________

(١) غرض المتوهّم درج المقام في التمسك بالدليل في الشبهة المصداقية ، وهو ممنوع عندهم.

(٢) يعني : أنّ قوله عليه‌السلام : «لا يحل» متعلق ب «مال امرء» ومن المعلوم أن الحكم بالحرمة منوط بإحراز كون المال «مال امرء» حتى لا يجوز التصرف فيه ، والمفروض الشكّ في بقاء إضافة الملكية بعد الرجوع والفسخ.

(٣) أي : لم يحرز كون المال مال الغير بعد رجوع المالك الأصلي حتى يحرم عليه التصرف فيه.

(٤) خبر «وتوهّم» وتقدم توضيحه بقولنا : «قلت : لا مجال لهذه الشبهة ، لما تقدّم ..».

(٥) يعني : في حديث السلطنة ، فكما أنّ حذف متعلق السلطان يفيد إطلاق السلطنة المجعولة ، كذلك يفيد حذف متعلق «لا يحلّ» عموم التصرف ، الشامل للخارجي والاعتباري ، ومن المعلوم أنّ المالك الأصلي لو فسخ المعاملة وتملّك ـ ما باعه بالمعاطاة ـ كان فسخه تصرّفا في مال غيره ، فهذا الفسخ غير نافذ.

(٦) كما يشمل التصرّف الخارجيّ كالأكل والشرب وركوب الدابة ونحوها.

(٧) هذا متفرّع على عموم حرمة التصرّف في مال الغير ، المستفاد من حذف المتعلق ، ومقصوده من قوله : «فلا يحلّ له» هو التصرّف الخارجي ، بقرينة قوله : «ولا تملّكه» الناظر إلى التصرّف الاعتباري.

__________________

(*) لا يخفى أنّ مقتضى عموم المحذوف الذي يتعلّق به الحلّ هو إرادة الجامع بين الحلّ التكليفي والوضعي ، لامتناع أعمية الموضوع من المحمول ، ولذا لا يصحّ أن يقال : «الحيوان إنسان». وفي المقام لمّا كان المحذوف عامّا للتصرف الخارجي كالأكل والشرب ونحوهما ، والاعتباري كالبيع والصلح والهبة ونحوها لزم أن يكون المحمول ـ وهو الحلّ ـ

٥١٩

.................................................................................................

__________________

أيضا عاما ، فيصير المعنى حينئذ : أنّ كل تصرف خارجي واعتباري في مال الغير ممنوع إلّا بطيب نفس المالك ، فالمراد بالحلّ عدم المنع ، واستفادة خصوص التكليف أو الوضع إنّما هي باختلاف المتعلق ، فإذا قيل : «أكل مال الغير مثلا أو شرب الفقّاع أو أكل لحم الخنزير عند الاضطرار حلال» فالمراد الحلّ التكليفي. وإذا قيل : «غسل الرجلين في الوضوء حال التقية أو لبس الميتة أو الحرير أو الذهب أو ما لا يؤكل في الصلاة كذلك حلال» فالمراد به الحل الوضعي.

والحاصل : أنّ الحلّ والحرمة يستعملان في الجامع ، ويراد الخصوصية باختلاف المتعلق ، فلا يتوقف الاستدلال على إرادة خصوص الحل الوضعي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل».

نعم قد يشكل الاستدلال بما أفاده سيدنا الأستاد قدس‌سره : من توقف الاستدلال به على أن يكون المراد من الحلية الحلية الوضعية ، ليكون موضوعها التصرفات الاعتبارية التي منها التملّك. أمّا لو كان المراد منها الحلية التكليفية كما هو الظاهر منها ، ولا سيّما بقرينة السياق والمورد ، إذ لم نعثر على المتن المذكور إلّا على ما رواه سماعة .. الى أن قال : اختصت بالتصرفات الحقيقيّة مثل أكله ولبسه ونحوهما ، فلا تشمل التملّك» (١).

وقريب منه ما في تقرير السيد المحقق الخويي قدس‌سره ومحصله : أن الحلّ وإن كان أعمّ من التكليف والوضع ، لكونه لغة بمعنى الإطلاق والإرسال ، في قبال التحريم الذي هو بمعنى المنع والحجر ، فيناسب كليهما ، ويصح استعماله فيهما ، وتستفاد خصوصية إحداهما من اختلاف القرائن والموارد ، فإذا أسند الحلّ إلى أمر اعتباري كالبيع أريد منه الحلّ التكليفي والوضعي معا ، وإذا أسند إلى الأعيان الخارجية أريد منه التكليف خاصة كقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهكذا لفظ التحريم. ولفظ الحلّ في الحديث الشريف نسب الى المال ، وهو إمّا عين خارجية ، وإمّا منفعتها.

__________________

(١) نهج الفقاهة ، ص ٤٦

٥٢٠