هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

العهدية ، لخروج العقود الإذنية كالوكالة والعارية ـ على قول ـ عن حريم النزاع ، لتقومها بالإذن المالكي ، فيجوز الرجوع فيها قطعا.

ولا فرق في العقود العهدية بين التنجيزية منها كالبيع والإجارة والهبة والصلح ، والتعليقية كالسبق والرماية ، لشمول الأدلة الاجتهادية الآتية لكلا القسمين ، بل وكذا الاستصحاب بناء على جريانه في الأحكام التعليقية كما يراه المصنف قدس‌سره.

ولم يظهر وجه لتخصيص مجرى الأصل بالعقود العهدية ، إذ لا فرق بين استصحاب حرمة العصير العنبي على تقدير الغليان ، وبين استصحاب ملكيّة الرّامي على تقدير إصابة النصل مثلا.

إلّا أن يقال : إنّ الملكية ليست عنده حكما وضعيا مجعولا. بل هي متنزعة من التكليف ، وهو كما ترى.

كما أنّه بناء على إنكار الاستصحاب التعليقي ـ كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس‌سره ـ لا وجه للقول باستصحاب الملك في مثل عقد السبق.

ومنها : أنّ أصالة اللزوم تجري تارة في الشبهة الحكمية كالشك في لزوم المعاطاة ، وجريانها فيها منوط بحجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية. واخرى في الشبهة الموضوعية كما صرّح به المصنف في آخر استدلاله بالاستصحاب ، كما إذا تنازع المتعاقدان فادّعى أحدهما أنّ المنشأ هبة حتى يجوز له الرجوع ، والآخر أنّه صلح حتى يكون لازما ، فإنّه لا مانع من إثبات لزومه باستصحاب بقاء الملك.

نعم بناء على عدم حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية يعوّل فيها على الأصل اللفظي المستفاد من عمومات الكتاب والسّنة ، بل هي المعتمد أيضا في الشبهات الموضوعية ، لعدم وصول النوبة إلى الاستصحاب مع وفاء الأدلة الاجتهادية بإثبات لزوم العقد سواء في الشبهات الحكمية والموضوعية.

٤٨١

للشك (١) في زواله بمجرّد رجوع مالكه الأصلي (٢) (*).

______________________________________________________

(١) استدل المصنف قدس‌سره على أصالة اللزوم بأدلة ثمانية كما يظهر من عدّها هنا ، وصرّح به في أوّل التنبيه السادس بقوله : «اعلم أن الأصل على القول بالملك اللزوم ، لما عرفت من الوجوه الثمانية المتقدمة» والدليل الأوّل هو الاستصحاب ، وقد أجراه تارة في شخص الملك الحادث بالمعاطاة ، واخرى في الملك الجامع بين الجائز واللازم ، وثالثة في الملك مع تردده بين الشخصي والكلّي ، فهنا تقاريب ثلاثة ينبغي بيانها تبعا لتعرض الماتن لها.

الأوّل : ما أفاده بقوله : «للشك في زواله ..» وهو استصحاب بقاء شخص الملك ـ الحادث بالمعاطاة ـ بعد الرجوع ، حيث يشكّ في ارتفاعه بسبب رجوع مالكه الأوّل ، وهو الدافع للمال إلى المتعاطي الآخر ، فيستصحب بقاء ملك الآخذ ، لكونه من موارد الشك في رافعية الموجود ، الذي لا ينبغي الارتياب في حجية الاستصحاب فيه ، كحجيّته في الشك في وجود الرافع. فهو نظير العلم بدخول زيد في الدار والشك في موته بفجأة أو صاعقة أو انهدام سقف عليه أو غيرها ، فتستصحب حياته وتترتب عليها الأحكام الشرعية المترتبة عليها من حرمة تقسيم أمواله ووجوب الإنفاق وغيرهما.

(٢) المراد به كل من المتعاطيين ، لأنّ كل واحد منهما ملّك الآخر ماله بالمعاطاة ، ويشك في انفساخها برجوع أحدهما ، فيستصحب بقاء الملك الحادث بالمعاطاة ، وعدم تأثير الرجوع في عود ملكيّتهما كما كان قبل المعاطاة.

__________________

(*) لا يخفى أنّه لا فرق في جريان الاستصحاب في الملك بين كون الملكية من أوصاف المال وبين كونها حكما شرعيا ، وذلك لأنّ الأحكام الشرعية من الأمور الاعتبارية التي لها في حدّ ذاتها ثبات ودوام ما لم يرفعها رافع ، ومن المعلوم أنّ الملكية أيضا من الاعتباريات التي تقتضي بالطبع البقاء والاستمرار ، فإذا حدثت يحكم ببقائها إلى أن يرفعها رافع ، فما في حاشية السيد الاشكوري رحمه‌الله من «أن الملكية إذا كانت حكما شرعيا لا يجري فيها الاستصحاب ، لكون الشك في المقتضي» محل تأمل ، بل منع بناء على جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية.

٤٨٢

ودعوى (١)

______________________________________________________

(١) هذا إشكال على استصحاب بقاء شخص الملك ـ لأجل إثبات لزوم المعاطاة ـ ومنشأ الاشكال وجهان :

أحدهما : اختلال بعض أركان الاستصحاب.

والآخر : وجود أصل حاكم عليه حتى لو فرض اجتماع أركانه.

أمّا الوجه الأوّل ، فتوضيحه : أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب تعلّق اليقين والشك بشي‌ء واحد ذاتا مع تعدده زمانا ، بحيث تكون القضية المتيقنة عين المشكوكة ، كالقطع بعدالة زيد يوم الجمعة ، والشك في بقائها يوم السبت ، فإنّ متعلّق اليقين والشك ـ وهو العدالة ـ واحد ذاتا ومتعدد زمانا.

وليس المقام كذلك ، لأنّ متعلّق اليقين هو القدر المشترك بين الفردين أعني به الملك اللازم والجائز ، ومتعلّق الشك هو الفرد المعيّن وهو اللازم ، إذ الحادث على تقدير كونه الفرد الآخر ـ وهو الملك الجائز ـ قد علم ارتفاعه بالرجوع ، فالشك في بقاء المستصحب يستند إلى الشك في حدوث الفرد اللازم ، فيصح أن يقال : اليقين والشك لم يتواردا على مورد واحد حتى يجري فيه الاستصحاب ، لتعلّق اليقين بالقدر المشترك ، وتعلق الشك بحدوث الفرد المعيّن ، ومع اختلاف المتعلّق لا يجري الاستصحاب ، لعدم موضوع له حقيقة مع الاختلاف المزبور.

وهذا نظير اختلاف شهادة البينة في تعيين المشهود به وترديده ، كما إذا شهد أحد العدلين بنجاسة أحد الكأسين مردّدا ، والآخر بنجاسة أحدهما المعيّن ، فلا يثبت النجاسة حينئذ بشهادتهما ، لاختلاف المشهود به ، فيبني على طهارتهما ، إمّا لقاعدتها ، وإمّا لاستصحابها.

وعلى هذا فجهة الإشكال هي تعدّد متعلقي اليقين والشك ، لتعلق اليقين بالكلي ، وتعلق الشك بحدوث الفرد الطويل ، فلا يجري استصحاب الشخص.

وأمّا الوجه الثاني ، فتقريبه : أنّ استصحاب الملكيّة وإن كان واجدا للشرائط من اجتماع أركانه من اليقين والشك ، إلّا أنّ هنا أصلا حاكما عليه يمنع عن جريان استصحاب الملك ،

٤٨٣

أنّ الثابت (١) هو الملك المشترك بين المتزلزل والمستقرّ ، والمفروض انتفاء الفرد الأوّل بعد الرجوع (٢) ، والفرد الثاني كان مشكوك الحدوث من أوّل الأمر (٣) فلا ينفع (٤) الاستصحاب ـ بل (٥) ربما يزاد استصحاب بقاء علقة المالك ـ مدفوعة (٦)

______________________________________________________

وذلك لأنّ الشك في بقاء الملك بعد رجوع المالك الأوّل ناش من انقطاع علقته بالمرّة بسبب البيع المعاطاتي ، وبقاء شي‌ء من تلك العلقة التي أثرها جواز الرجوع ، فإذا استصحبنا بقاء العلقة لم يبق لاستصحاب ملكية المالك الثاني مجال. هذا توضيح الوجهين وسيأتي الجواب عنهما.

(١) يعني : أنّ المعلوم سابقا هو كلّي الملك المشترك بين المتزلزل والمستقرّ ، وليس المعلوم هو خصوصية اللزوم ، فلا يكون المستصحب شخصيّا ، بل يكون كلّيّا.

(٢) إذ لو كان المعلوم الملك المتخصّص بخصوصية الجواز فقد ارتفع قطعا بالرجوع.

(٣) يعني : فيجري فيه استصحاب العدم ، فينتفي بذلك القدر المشترك ، لأنّه لو كان باقيا فهو لأجل حدوث الفرد الطويل كاللزوم في المقام ، والمفروض أنّه محكوم بالعدم بمقتضى الأصل.

(٤) بل لا يجري استصحاب الفرد ، لعدم العلم بحدوث الخصوصية ـ أي اللزوم ـ حتى يشك في بقائها ، فيجري فيها الاستصحاب ، بل العلم تعلّق بالجامع ، والشك تعلّق بحدوث الفرد الطويل ، ومع مغايرة متعلّقي اليقين والشك لا يجري الاستصحاب.

(٥) هذا إشارة إلى ثاني وجهي الإشكال في استصحاب شخص الملكية الحادثة بالمعاطاة ، ومحصله : عدم جريانه ، لوجود الأصل الحاكم.

(٦) خبر قوله : «ودعوى» وهذا دفع الاشكال ، وليعلم أنّ المصنف قدس‌سره اقتصر هنا على دفع الإشكال الأوّل ، ولم يتعرض لدفع الإشكال الثاني ـ ولعلّه اتكالا على وضوح وهنه ـ وإنّما أجاب عنه في أوّل الخيارات كما تقف عليه في التعليقة (*) ، فالأولى الاقتصار هنا على

__________________

(*) محصل ما أفاده في أوّل الخيارات هو : أنّ المستصحب إمّا علقة الملكية ، وإمّا السلطنة على إعادة العين في ملكه ، وإمّا العلاقة التي كانت بين المالك وعينه في مجلس البيع.

٤٨٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ما أفاده من دفع الإشكال الأوّل ، فنقول : قد دفعه بوجهين :

أحدهما : أنه لو سلّم كون المستصحب هو الجامع بين الملك المتزلزل والمستقر أمكن إجراء الاستصحاب فيه بناء على ما تقرّر في الأصول من حجية القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي.

وثانيهما : أنّ المستصحب في المقام هو شخص الملكية الحادثة بالمعاطاة ، وليس كلّيا أصلا ، وقد برهن عليه بما سيأتي توضيحه.

__________________

ولا مجال لاستصحاب شي‌ء منها.

أمّا الملكية فللقطع بارتفاعها وانقطاعها بالمعاطاة حسب الفرض من إفادتها الملك ، لا الإباحة المحضة. فالعين بجميع شؤونها صارت ملكا للغير ، ولم تبق الملكية السابقة على التعاطي. ولو بقيت لزم اجتماع ملكيتين على مملوك واحد ، وهو محال عقلي أو عقلائي.

وأمّا السلطنة على استرداد العين فهي لم تكن مجعولة للمالك حتى تستصحب ، وإنّما هي سلطنة حادثة بعد زوال الملك ، لدلالة دليل كما في الخيار ، فإن دلّ دليل على ثبوتها فهو ، وإلّا فالأصل عدمها. وليست هذه السلطنة من شؤون سلطنة المالك على ماله حتى تستصحب ، لأنّ موضوع هذه هو المال المنتقل الى الغير ، فما لم ينتقل الى الغير لا مجال لجعل سلطنة الاسترداد للمالك الأوّل.

وأمّا العلقة المتحققة في مجلس العقد ففيها أوّلا : اختصاصها بما ثبت فيه الخيار في المجلس.

وثانيا : أنّه لو شك في ثبوتها كان المرجع عموم وجوب الوفاء بالعقود القاضي بلزوم العقد ، ولا مجال للاستصحاب.

وثالثا : أنّه لا معنى للشك المزبور مع دلالة النص على انتفاء الخيار مع الافتراق.

وعليه يبقى استصحاب الملك الحاصل بالعقد سليما عن الاشكال.

٤٨٥

ـ مضافا (١) إلى إمكان دعوى كفاية تحقق القدر المشترك في الاستصحاب ،

______________________________________________________

أمّا الوجه الأوّل فتقريبه : أنّا نلتزم بكون المستصحب هنا كلّيا ، لا شخصيا ، ولكن لا يسقط الاستصحاب عن الاعتبار ، لما تقرّر في علم الأصول من شمول أدلة حجيته ـ كقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تنقض اليقين بالشك» ـ لما إذا كان المتيقن شخصيا وكلّيا ، كما إذا علم بحدث مردّد بين الأكبر والأصغر ، أو بنجاسة مرددة بين البول والدم ، فإنّه بعد الإتيان برافع الحدث الأصغر كالوضوء ، وبغسل المحل مرّة يشكّ في بقاء الحدث والنجاسة ، فيستصحب كلّي الحدث والنجاسة ، وهذا هو ثاني أقسام استصحاب الكلي الذي حقيقته العلم بوجود الكلي في ضمن أحد فردين : أحدهما معلوم الارتفاع ، والآخر محتمل الحدوث.

والمقام من هذا القبيل ، فإنّه وإن لم يعلم بحدوث إحدى الخصوصيتين بالمعاطاة ـ من جواز الملك ولزومه ـ حتى تستصحب ، لكنه لا مانع من استصحاب الجامع بينهما بعد كون الأثر مترتبا عليه ، لا على الخصوصية.

وعليه فملخص هذا الجواب هو : كفاية استصحاب كلّي الملك في إثبات المقصود ، وهو لزوم المعاطاة ، وعدم الحاجة الى استصحاب الفرد ـ أي اللزوم ـ حتى يقال : إنّه مشكوك الحدوث ، فلا يجري فيه الاستصحاب. لكن أركان الاستصحاب في القدر المشترك مجتمعة ، لليقين بحدوث الملكية بالمعاطاة والشك في ارتفاعها برجوع أحد المتعاطيين ، ومنشأ الشك في بقاء القدر المشترك هو تردّد الحادث بين مقطوع البقاء والارتفاع.

هذا توضيح الجواب الأوّل. وأمّا الجواب الثاني فسيأتي إن شاء الله تعالى.

(١) الترتيب الطبعي يقتضي تقديم الجواب الثاني على هذا الجواب ، لأنّه قدس‌سره جعل المستصحب شخصيا ، ومقصوده من الجواب الذّب عنه ، وأجنبية الملك عن القدر المشترك ، لكونه حقيقة واحدة ، ولو سلّم كونه كلّيا لم تمنع كلّيته عن جريان الاستصحاب فيه ، لما ثبت في الأصول من حجيته في القسم الثاني ، بل وبعض أقسام القسم الثالث.

٤٨٦

فتأمّل (١) ـ

______________________________________________________

(١) يمكن أنّ يكون إشارة إلى وجوه :

منها : عدم كفاية استصحاب القدر المشترك في إثبات اللزوم ، لأنّ الشك في بقائه مسبّب عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، والأصل عدمه ، فلا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب في القدر المشترك ، لكون الشك فيه مسبّبا عن الشك في حدوث الفرد الطويل ، والأصل الجاري في الشك السببي حاكم على الأصل الجاري في الشك المسببي ، هذا.

ففي المقام يتسبّب الشك في بقاء الملك وارتفاعه ـ بعد الرجوع ـ عن الشك في حدوث ملك لازم بالمعاطاة ، ويستصحب عدم حدوثه ، لكون هذا العدم متيقنا قبل التعاطي ، ويترتب على إحراز عدم حدوث الملك اللازم ارتفاع الملك بالرجوع ، وينتفي الشكّ تعبدا في بقاء القدر المشترك بين الملك اللازم والجائز.

لكن المصنف أجاب عنه في رسالة الاستصحاب «بأنّ ارتفاع القدر المشترك من آثار كون الحادث ذلك المقطوع الارتفاع ، لا من لوازم عدم حدوث الأمر الآخر. نعم اللازم من عدم حدوثه عدم وجود ما هو في ضمنه من القدر المشترك في الزمان الثاني ، لا ارتفاع المشترك بين الأمرين ، وبينهما فرق واضح» (*).

__________________

(*) لكن أورد عليه السيد قدس‌سره بأن المناط في جريان الأصل ترتب الأثر على المستصحب ، ومن المعلوم أنّ الحكم بمانعيّة النجاسة مثلا مترتب على وجود القدر المشترك بين قذارة البول والدم ، لا على بقائه الذي هو الوجود بعد الوجود ، ولا على حدوثه الذي هو الوجود بعد العدم ، وموضوع الأثر الشرعي في المقام هو وجود الملك بعد رجوع أحد المتعاطيين ، ومن المعلوم أنّ وجوده من لوازم وجود الفرد الطويل ، كما أنّ عدمه من لوازم عدمه ، ويترتب على استصحاب عدم الفرد الطويل عدم القدر المشترك بين الفردين.

وعليه فأصالة عدم الفرد الطويل حاكمة على أصالة وجود الكلي ، لتسبّب الشك فيه عن الشك في وجود ذلك الفرد من أوّل الأمر. قال قدس‌سره : «فالشك في وجوده بعد حدوث ما يزيل أحد الفردين ـ على تقديره ـ ناش عن الشك في وجود الفرد الآخر من الأوّل وعدمه ،

٤٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : أنّ الشك ليس في المقتضي حتى لا يجري فيه الاستصحاب على مبنى المصنف ، بل في رافعيّة الموجود وهو الرجوع ، حيث إنّ الملكية من الأمور الاعتبارية التي لها في حدّ ذاتها اقتضاء الدوام والاستمرار ، فليست الملكية الجائزة كالنكاح المنقطع الذي لا استمرار فيه ، بل يرتفع بنفس مضيّ زمانه وأمده. وهذا بخلاف الملك ، فإنّ زواله منوط بطروء زماني كرجوع المالك الأصلي ، فلا يكون الشك في الملكية شكّا في المقتضي ، بل من الشك في وجود الرافع ورافعيّة الموجود.

فيندفع بهذا البيان ما في حاشية المحقق الخراساني قدس‌سره من «عدم كفاية استصحاب القدر المشترك ، لكونه من الشك في المقتضي الذي لا يكون الاستصحاب حجّة فيه» (١).

ووجه الاندفاع ظاهر مما ذكرنا.

ومنها : أنّ المقصود من استصحاب القدر المشترك هو عدم تأثير الرجوع في زوال الملكية ، وليس هو من آثار القدر المشترك بين الملك اللازم والجائز ، بل من آثار خصوص الأوّل ، فلا تصح دعوى كفاية تحقق القدر المشترك.

ومحصل دفعه منع كون المقصود ذلك ، بل المقصود من استصحاب القدر المشترك إثبات صرف الملك ، وعدم تأثير الرجوع في زواله لازم عقلي له ، ولا ضير فيه بعد كون المستصحب حكما شرعيا ، كوجوب الإطاعة عقلا المترتب على الوجوب والحرمة الثابتين شرعا بالاستصحاب.

__________________

وإذا كان الأصل عدمه فلا يبقى بعد ذلك شكّ في الوجود ، بل ينبغي أن يبنى على العدم» (٢).

وما أفاده ـ من موضوعية نفس الوجود للأثر الشرعي دون خصوصية الحدوث والبقاء ـ وإن كان متينا ، إلّا أنّ في استصحاب الكلي يكون أصل حدوثه متيقنا ، وإنّما يتمحض

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٣.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٧٣.

٤٨٨

.................................................................................................

__________________

الشك في ناحية استمرار وجوده المعبّر عنه بالبقاء ، والإهمال في المتيقن والمشكوك غير معقول. وعليه يتجه كلام الشيخ هنا من أنّ بقاء الكلّي ـ بعد طروء مزيل أحد الفردين ـ من لوازم كون الحادث الفرد الطويل ، وارتفاعه أثر وجوده بوجود الفرد القصير ، ولا أصل يحرز به خصوصية الحادث. فيجري في الكلي بلا مانع.

هذا مضافا الى : ما في تعبيره بعلّية وجود الفرد لوجود الكلي وعدمه لعدمه من المسامحة ، لاقتضاء العلّية والسببية للاثنينية والتعدد ، مع أنّه لا اثنينية بين الكلي الطبيعي ومصداقه ، فزيد هو الإنسان ، لا أنّ وجود النوع معلول وجود الفرد ، كالإحراق المسبب عن وجود النار.

وإلى : أنّ الشك في بقاء الكلي وارتفاعه لم يتسبب عن الشك في حدوث الفرد حتى تتجه حكومة أصالة عدم حدوث الفرد الطويل على أصالة بقاء الجامع ، بل يتسبب عن الشك في بقاء الفرد الحادث وارتفاعه. هذا مع الغض عن اعتبار التسبب الشرعي في حكومة الأصل السببي على المسببي.

ومنها : ما في تقرير شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره من منع صغروية المقام لاستصحاب الكلي ، وبيانه : أنّه يعتبر في جريان استصحاب الكلي تنوّعه بنوعين أو أكثر مع الغضّ عن تعبد الشارع بالبقاء ، كالحدث المردّد بين الأصغر والأكبر ، والحيوان المردّد بين طويل العمر وقصيره ، فيجري استصحاب القدر المشترك عند اليقين بنقض عدمه المحمولي بوجوده كذلك والشك في بقائه ، فيتعبد ببقاء ما يكون له في حد ذاته استعداد البقاء.

وهذا بخلاف المقام ، فإنّ تنوّع الملكية بنوعي الجواز واللزوم يستند إلى حكم الشارع ببقاء العلقة بعد الفسخ والرجوع تارة ، وبزوالها أخرى. ولا حقيقة لهاتين الحصّتين مع الغض عن التعبد الشرعي كما كان الأمر في الحدث والحيوان ونحوهما من الطبائع ذوات الأنواع.

وبعبارة أخرى : الحكم ببقاء الملكية وارتفاعها مأخوذ في عقد الحمل ، لا الوضع ، مع أنّ المعتبر في استصحاب القسم الثاني كون الموضوع بنفسه قدرا مشتركا بين نوعين ، سواء

٤٨٩

.................................................................................................

__________________

حكم عليه بالبقاء والارتفاع أم لا.

ثم قال مقرّر بحثه الشريف : «وإلى هذه الدقيقة أشار بقوله : فتأمل» (١).

ويظهر من موضع آخر من كلامه : أنّ جهة الإشكال في استصحاب الملكية هنا هي : أنّه يعتبر في استصحاب الكلي موضوعيته بنفسه للأثر غير ما يترتّب على الخصوصية ، فلو أريد ترتيب أثرها على استصحاب الجامع لم يجر لأجل الإثبات (٢).

أقول : ما أفاده «قدس الله نفسه الزكية» من ضابط جريان الاستصحاب في القدر المشترك ممّا لا غبار عليه ، فيعتبر وجود الطبيعة المتنوعة ـ بنفسها ـ بنوعين أو أكثر ، مع قطع النظر عن حكم الشرع والعقلاء ، ويعتبر أن يكون لها أثر غير أثر الفرد.

لكن الكلام كله في أنّ اللزوم والجواز هل هما نوعان من الملك أم حكمان مترتّبان على موضوع بسيط ، وهما خارجان عن حريمه حقيقة؟ وكلماته قدس‌سره هنا لا تخلو من تشويش فقد صرّح تارة «بأنّ اللزوم والجواز نوعان من الملك متباينان بتمام هويّتهما» وأخرى بأنّ الملك يتنوّع بالحكم ، حيث قال : «فإنّ تنوعه بنوعين ليس باختلاف السبب المملّك ولا باختلاف حقيقته وماهيته من غير جهة أنّ أحدهما يرتفع بالفسخ ، والآخر لا يرتفع».

فبناء على كلامه الأوّل ينهدم أصل الإشكال في استصحاب جامع الملك ، وذلك لكون الملكية كالحيوان والحدث في أنّ لكلّ منهما نوعين متباينين ، وإن كان في الجمع بين النوعين و«التباين بتمام الهوية» مسامحة ، إذ ليست الأنواع متباينة بتمام الهوية للمتنوّع ، كما لا يخفى.

وبناء على كلامه الآخر يتجه الاشكال لو تمّ في نفسه ، إذ لو كان اللزوم والجواز مأخوذين شرعا في عقد الحمل تعيّن أن يكون الموضوع ذات الملك ، وحينئذ يستحيل تنوّعه بلحاظ حكمه ، وذلك لأمرين مسلّمين :

أحدهما : تأخر كل حكم عن موضوعه رتبة تأخر المعلول عن علته.

__________________

(١) المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ١٧٢ و ١٧٣.

(٢) المصدر ، ص ١٦٧.

٤٩٠

بأنّ (١) انقسام الملك الى المتزلزل والمستقرّ ليس باعتبار اختلاف في حقيقته ، وإنما

______________________________________________________

(١) هذا هو الجواب الثاني من وجهي دفع الاشكال ، وحاصله : منع انقسام الملك الى قسمين وتنوّعه بنوعين حتى يكون كل من المتزلزل والمستقر فردا لطبيعة الملك كي يجري الاستصحاب في تلك الطبيعة التي هي القدر المشترك بينهما. وعلى هذا فلا كليّ هنا حتى يجري فيه الاستصحاب ، بل يجري في الشخص ، وهو الملكية التي هي إضافة خاصة بين المالك والمملوك ، فالتزلزل والاستقرار ينشأان ـ من حكم الشارع على الملك بزواله برجوع المالك الأصلي في بعض الموارد ، وببقائه وعدم زواله برجوع المالك الأصلي في بعضها الآخر. فاللّزوم والجواز حكمان للملك ، وليسا منوّعين له ، بل هما من أحكام السبب المملّك لا من خصوصيات المسبّب وهو الملك.

__________________

وثانيهما : أنّ منوّع الطبيعة يكون في رتبة المتنوّع ، لا متأخرا عنه ، كتنوّع الكلمة إلى أنواعها الثلاثة : الاسم والفعل والحرف ، فإنّ المنوّع وهي هذه الأنواع في رتبة ذات المتنوّع وهي الكلمة.

وعليه فلو كان اللزوم والجواز حكمين مترتبين على الملك لزم أن يكون تنوّع الملك بهما من باب تنوع الموضوع بحكمه المتأخر عنه.

نعم إن أريد من التنوع ما يكون في رتبة الأثر مسامحة لا حقيقة كان صحيحا ، حيث إنّ الموضوع يتنوّع بحكمه ، لكن هذا المقدار غير قادح في استصحاب الجامع.

والمتحصل : أنّ حمل الأمر بالتأمل على ما أفاده السيد الطباطبائي والمحقق الخراساني والمحقق النائيني قدس‌سرهم لا يخلو من خفاء. ولعلّ الأولى حمله على الإمعان في المطلب ، وسلامته عن إشكالات استصحاب القسم الثاني المذكورة في علم الأصول.

وهذا لا ينافي إصرار المصنف قدس‌سره على أنّ اللزوم والجواز حكمان شرعيان ، والملكية حقيقة بسيطة لا تعدد فيها.

وجه عدم المنافاة : أنّ إجراء الاستصحاب في القدر المشترك يكون من باب التنزل وتسليم تعدّد الملك اللازم والجائز حقيقة بالنوع أو بالفرد أو بالمرتبة كما سيأتي بيانه عن قريب.

٤٩١

هو باعتبار حكم الشارع عليه في بعض المقامات بالزوال برجوع (١) المالك الأصلي. ومنشأ هذا (٢) الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملّك ، لا اختلاف حقيقة الملك ، فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعية للسبب (٣) ، لا من الخصوصيات المأخوذة في المسبب (٤) (*).

______________________________________________________

والحاصل : أنّه بعد كون الجواز واللزوم من أحكام الملك ـ لا من خصوصيات نفس الملك ـ لا جامع بينهما حتى يجري فيه استصحاب الكلّي ، بل الجاري فيه هو استصحاب الشخص.

هذا كله بحسب الدعوى ، وقد استدلّ عليه بوجهين سيأتي بيانهما.

(١) متعلق ب «زوال» وضميرا «حقيقته عليه» راجعان الى الملك.

(٢) يعني : اختلاف حكم الشارع بجواز الرجوع وعدمه.

(٣) كالبيع والهبة وغيرهما من الأسباب المملّكة.

(٤) وهو الملك ، فلا يكون اللزوم والجواز من الخصوصيات الدخيلة في حقيقة الملك.

__________________

(*) أورد المحقق الخراساني قدس‌سره عليه بما لفظه : «لو كان الجواز واللزوم هاهنا بمعنى جواز فسخ المعاملة وعدمه كما في باب الخيار فلا شبهة في كونهما من أحكام الأسباب. وأمّا لو كانا بمعنى ترادّ العينين وتملك ما انتقل عنه وعدمه بلا توسيط فسخ المعاملة ـ كما في الهبة ـ على ما صرّح به في الملزمات ، فهما من أحكام المسببات لا محالة ، واختلافها فيهما كاشف عن اختلافها في الخصوصيات المختلفة في اقتضاء الجواز واللزوم لئلّا يلزم الجزاف في أحكام الحكيم تعالى شأنه ، وإن كان اختلافها فيهما ناشئا من اختلاف الأسباب ذاتا أو عرضا» (١).

ومحصله : أن إبطال أثر العقد قد يكون بفسخه أو بإقالة أحدهما للآخر فمقتضاه كون اللزوم والجواز من أحكام السبب ، وقد يكون باسترداد العين كما في الهبة أو بتراد العينين كما في المعاطاة ، فيكونان من أحكام نفس الملك ، كما أفاده المصنف في الملزمات. وحينئذ يكون اختلافهما كاشفا عن وجود خصوصية في كل منهما غير ما في الآخر ، وهذا المقدار كاف في

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٣.

٤٩٢

.................................................................................................

__________________

اختلاف الأحكام ، وإن لم يكن اختلافهما بالحقيقة والماهية. وعليه يشكل استصحاب الشخص ، ويتعيّن إجراؤه في القدر المشترك ، هذا.

لكن يمكن أن يقال أوّلا : إنّ مقتضى استدلال المصنف قدس‌سره على أصالة اللزوم في الملك بما سيأتي من آية وجوب الوفاء وأخبار خيار المجلس هو خروج اللزوم والجواز عن حقيقة الملك وكونهما من أحكام السبب المملّك. فالفسخ والإقالة يتعلّقان بنفس السبب كتعلق الإمضاء به. وهذا لا ينافي ما سيأتي منه في الملزمات من أنّ المعاطاة ـ مع قطع النظر عن أصالة اللزوم ـ تكون جائزة بالإجماع قبل تلف العينين ، ولمّا كان دليلا لبيّا وجب الأخذ بالقدر المتيقن منه وهو تعلّق الجواز بالتراد المنوط ببقاء كلتا العينين بحالهما ، ومن المعلوم أنّ رفع اليد عن أصالة اللزوم في الأسباب المملّكة ـ بالإجماع على عدم لزوم المعاطاة قبل التلف ـ لا يدلّ على كون جواز التراد من خصوصيات نفس الملك لا السبب المملّك.

نعم جواز استرداد العين الموهوبة ابتداء قبل فسخ العقد قد يكون شاهدا على اختلاف الملك الحاصل في الهبة الجائزة واللازمة سنخا أو مرتبة.

وثانيا : أنّ اللزوم والجواز سواء استفيدا من نحو قول الشارع : «البيع لازم وغير لازم» أم من مثل قوله : «يجوز ترادّ العينين ولا يجوز» يكونان من أحكام الملك ، وينشأان من اختلاف الأسباب ، لما فيها من الخصوصيات المقوّمة للسبب المنوّعة له أنواعا مختلفة الحقيقة ، المقتضية للزوم تارة وللجواز اخرى ، ولهما معا في وقتين كالبيع الخياري الجائز في مدة الخيار ، واللازم في غيرها ، والهبة للأجنبي المقتضية للجواز قبل التصرف ، وللّزوم بعده.

ولو كانا من الخصوصيات الموجبة لتنوّع الملك لزم تغاير الملكية في البيع في زمان الخيار للملكية فيما بعده ، نظير تغاير زيد وعمرو ، كما أنّ ذلك شأن الأفراد ، فإنّها وإن اندرجت تحت حقيقة واحدة لكنها متباينات ، لامتناع صدق كل منها على الآخر ، فلو بني على مغايرة الملك اللازم للجائز ـ كمغايرة زيد لعمرو ـ لزم انعدام الملك الحادث أوّلا ، وحدوث ملك آخر ، وهو كما ترى ، إذ لا إنشاء غير الإنشاء الأوّل الموجب لحدوث الملكية ، فإن كانت جائزة

٤٩٣

ويدل عليه (١) ـ مع (٢) أنّه يكفي في الاستصحاب الشّك في أنّ اللزوم من

______________________________________________________

(١) أي : ويدلّ على كون الجواز واللزوم من أحكام الملك لا من الخصوصيات المنوّعة له .. إلخ.

(٢) ظاهره ـ بمقتضى السياق ـ كونه دليلا على أنّ اللزوم والجواز من أحكام الملك ، لا من الخصوصيات الدخيلة في حقيقته ، لكن من البديهي عدم إرادة ذلك ، لأنّ غرضه قدس‌سره عدم الحاجة الى إقامة الدليل على كون اللزوم والجواز من أحكام السبب لا من الخصوصيات الدخيلة في المسبب وهو الملك.

وجه عدم الحاجة إلى ذلك : عدم توقف صحة الاستصحاب المزبور ـ وهو استصحاب الملك ـ على إحراز كون اللزوم والجواز من أحكام الملك لا من خصوصياته المنوّعة له ، لأنّ الاستصحاب المزبور يجري ، ويثبت اللزوم ، ولو مع الشك في كون اللزوم والجواز من خصوصيات نفس الملك حتى يكون المستصحب كلّيا ، أو من أحكام الملك حتى يكون شخصيّا.

والوجه في جريان استصحاب الملكية مع هذا الشك هو : أنّه بناء على كون الإشكال في جريان استصحاب الكلي حكومة الأصل السببي يكون الشك هنا في وجود المانع عن استصحاب الملكية ، إذ لو كان المستصحب كلّيا فالمانع موجود ، وإن كان شخصيّا فلا مانع ، فمرجع الشك حينئذ إلى الشك في وجود المانع وهو الأصل الحاكم وعدمه. وعليه لا مانع من جريان استصحاب الملكية.

وبالجملة : بناء على المنع عن جريان استصحاب الكلي ـ لأجل حكومة الأصل السببي

__________________

تصير لازمة بانقضاء زمان الخيار مثلا.

وعليه فما أفاده المصنف في المتن «من إرجاع الاختلاف بين الملك اللازم والجائز إلى الأسباب ووحدة حقيقته في جميع الموارد» سليم عن الاشكال ، وسيأتي مزيد بيان له إن شاء الله تعالى.

٤٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه ـ لا مانع من جريان استصحاب الملكية في المقام ، لكون الشك في وجود المانع عن جريانه ، حيث إنّه لو كان اللزوم والجواز من خصوصيات الملك لا من أحكامه لم يجر الاستصحاب ، لكون المستصحب حينئذ كلّيا ، والأصل الحاكم عليه موجود. وإن كان من أحكامه فالمستصحب شخصي ، والاستصحاب جار فيه ، فمرجع الشك حينئذ إلى وجود المانع وهو الأصل الحاكم وعدمه ، وما لم يحرز وجود الحاكم يجري الأصل المحكوم ، فلا مانع من جريان استصحاب الملكية ، فلا يتوقف جريان استصحاب الملكية على إحراز كون اللزوم والجواز من أحكام الملك ، لا من خصوصياته المنوّعة له (*).

هذا توضيح ما أفاده المصنف قدس‌سره.

ومنه يظهر أن قوله : «مع أنّه يكفي في الاستصحاب» إشارة إلى تقريب ثالث لاستصحاب الملك الحاصل بالمعاطاة ، سواء أحرز كون المستصحب شخصيا أم كليا ، أم شك في شخصيته وكلّيته ، وكان المناسب تأخيره عمّا هو بصدده فعلا من الاستدلال على أنّ الملك الحاصل بالعقد واحد شخصي ، ويرجع تزلزله واستقراره إلى السبب المملّك.

__________________

(*) نعم بناء على كون الإشكال في استصحاب الكلي مغايرة القضية المتيقنة للمشكوكة اتّجه عدم جريان استصحاب الملكية إذا لم يحرز كون اللزوم والجواز من أحكام الملك أو من خصوصياته المنوّعة له ، لأنّه مع هذا الشك لا يحرز العنوان المأخوذ في أدلة الاستصحاب ، إذ المستصحب إن كان كلّيا لم ينطبق عليه نقض اليقين بالشك ، لمغايرة القضية المشكوكة للمتيقنة ، فلا يصدق عليه الإبقاء ولا النقض. وإن كان شخصيا انطبق عليه ذلك. ومع الشك في انطباقه لا يجوز التمسك بعموم دليل الاستصحاب ، فإنّ إحراز موضوع الدليل شرط عقلا لجواز التمسك به.

وإلى هذا ينظر ما أفاده سيدنا الأستاد قدس‌سره من الاشكال على هذا الاستصحاب بقوله : «إذ مع الشك المذكور لا يحرز اجتماع ركني الاستصحاب اللّذين هما شرط في جريانه ، ومع عدم

٤٩٥

.................................................................................................

__________________

إحراز ذلك لا مجال للتمسك بدليله ، لعدم جواز التمسك بالعام ما لم يحرز عنوان موضوعه» (١).

فإنّ قوله قدس‌سره : «إذ مع الشك» قرينة على إرادة الإشكال الأوّل على استصحاب الكلّي ، وهو مغايرة القضية المتيقنة للمشكوكة ، لعدم تطرق هذا التعليل في المقام بناء على الإشكال الثاني وهو حكومة الأصل السببي على المسببي كما هو ظاهر.

ويظهر مما ذكرنا غموض ما في تقرير المحقق النائيني قدس‌سره في جريان الاستصحاب هنا من : أنّ المورد وإن كان من موارد التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، إلّا أنّه لا بأس به في المقام ، بداهة أنّ المانع عن جريان الاستصحاب في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي هو حكم العقل ، حيث إنّه لم يقم دليل لفظي على تخصيص عموم ـ لا تنقض ـ وإخراج استصحاب الكلي عن حيّزه ، فمع الشك في كون المستصحب كلّيا أو شخصيا يجري الاستصحاب ، للزوم الاقتصار في تخصيص العام بالمخصص اللّبي على الأفراد المتيقنة ، والتمسك في غيرها بعموم العام ، ففي المقام لا مانع من التمسك بالاستصحاب مع الشك في كون الملك كلّيا أو شخصيا (٢).

انتهى ملخص كلامه على ما تقرير بعض أجلّة تلامذته قدس‌سرهما.

وجه الغموض : أنّه ـ بعد البناء على صحة المبنى وهو جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية في المخصص اللّبي ـ يكون مورد البحث فيه ما إذا أحرز عنوان العام وكان الشك في اندراجه تحت الخاص وعدمه لشبهة خارجية ، كتردّد اليد الموضوعة على مال الغير بين العادية والأمانية ، وكالماء المردّد بين كونه معتصما وغير معتصم ، وهكذا سائر الموارد التي أحرز كونها من مصاديق العام وشك في دخولها تحت الخاص. وكالشك في أيمان شخص من بني أميّة مثلا ، فإنّ عنوان العام وهو كونه من بني أميّة معلوم ، والشك إنما هو في كونه مؤمنا ليحرم لعنه ، وعدمه حتى يجوز لعنة.

فحينئذ يقال : إنّ تخصيص عموم «لعن الله بني أميّة» بمن علم إيمانه منهم معلوم ، وأمّا

__________________

(١) نهج الفقاهة ، ص ٤٤.

(٢) المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ١٧٣ و ١٧٤.

٤٩٦

.................................................................................................

__________________

من شك في إيمانه منهم فخروجه عنهم غير معلوم ، فظهور العام فيه لم تنثلم حجيته ، فيتمسك به ، فيقال بجواز لعنه.

وأمّا إذا لم يحرز عنوان العام ، فلا وجه للتمسك به ، كالمقام ، فإنّه بناء على أن يكون الملك كلّيا لا يندرج تحت عموم أدلة الاستصحاب ، لو كان إشكال استصحاب الكلّي عدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة ، نعم بناء على كون إشكاله حكومة الأصل السببي لا مانع من جريانه ، لأنّه ما لم يحرز الأصل الحاكم يجري الأصل المحكوم.

ثم إنّ السيد قدس‌سره أفاد : «أنّه لا حاجة الى استصحاب القدر المشترك حتى يستشكل فيه بما ذكر ، بل يكفي استصحاب الفرد الواقعي المردّد بين الفردين ، ولا يقدح تردّده بحسب علمنا في تيقن وجوده سابقا ، والمفروض كون الأثر الثابت للقدر المشترك أثرا لكل من الفردين ، فيمكن ترتيبه باستصحاب الشخص الواقعي المعلوم سابقا ، كما في القسم الأوّل من أقسام الاستصحاب الكلي ، وهو ما إذا علم بوجود الكلي في ضمن فرد معيّن ، فشك في بقائه ، حيث إنّه حكم فيه بجواز استصحاب كل من الكلي والفرد» انتهى ملخصا (١).

وفيه : أنّه إن أريد بالشخص العلم بتشخّصه فهو ممنوع ، لامتناع العلم بتشخصه مع فرض تردده بين شخصين.

وبالجملة : لا يعقل العلم بالشخص الحقيقي الواقعي الخارجي مع تردده بين فردين.

وإن أريد بالمردد ما هو مردد واقعا ، ففيه : أنّه لا يعقل وجوده بوصف كونه مرددا ، فإنّ الموجود في أيّ وعاء من أوعية الوجود متشخص بمشخصات وجودية توجب تعينه ، ويمتنع حينئذ تردّده.

وإن أريد بالفرد المردّد المردّد عندنا والمعيّن في الواقع ليرجع الى العلم الإجمالي بأحدهما ففيه : أنّه عين الكلي ، إذ مع الغض عن الخصوصيات المفرّدة يكون متعلق العلم نفس الكلي.

فالمتحصل : أنّه لا معنى لاستصحاب الفرد المردد ، لأنّه على المعنى الصحيح ليس إلّا الكلي. وقد تعرضنا في بحث الاستصحاب لشطر مما يتعلق باستصحاب الفرد المردّد ، فراجع (٢).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٧٣.

(٢) منتهى الدراية ، ج ٧ ، ص ٣٨١ الى ٣٨٨.

٤٩٧

خصوصيات الملك أو من لوازم السبب المملّك. ومع أنّ المحسوس (١) بالوجدان أنّ إنشاء (٢) الملك في الهبة اللازمة وغيرها على نهج واحد ـ أنّ (٣) اللزوم والجواز لو كانا من خصوصيات الملك فإمّا أن يكون تخصيص القدر المشترك

______________________________________________________

(١) قد تقدم في توضيح قوله : «لا من الخصوصيات المأخوذة في المسبب» الإشارة إلى : أنّه قدس‌سره استدل بدليلين على مدعاه من أنّ الملكية في جميع الموارد حقيقة واحدة ، وأنّ اللّزوم والجواز غير منوّعين لها ، بل هما حكمان شرعيان عارضان عليها ، ولا يتنوع الموضوع بحكمه المتأخر عنه.

وما أفاده بقوله : «مع أن المحسوس» هو الدليل الأوّل على هذه الدعوى ، بتقريب : أنّ الملكية المنشئة في الهبة اللازمة ـ التي يكون الملك فيها لازما ـ والملكية المنشئة في غير الهبة اللازمة من العقود الجائزة كالهبة للأجنبي تكونان على نهج واحد ، فليس المنشأ في العقود اللّازمة والجائزة إلّا إضافة الملكية التي هي أمر بسيط شخصي ، وإنّما الشارع حكم في هبة ذي الرحم باللزوم ، وفي هبة الأجنبي بجواز الرجوع.

وعليه فلا يوجب الحكم باللزوم تارة وبالجواز أخرى تنوّعا في حقيقة الملك حتى يصير الملك اللازم حقيقة مباينة للملك الجائز ، بل هما حكمان شرعيّان للملك يستندان إلى السبب المملّك.

(٢) الأولى أن يقال : الملكية المنشئة في الهبة.

(٣) هذا دليل ثان على كون اللزوم والجواز من أحكام الملك لا من مقوّماته ، ومحصله : أنّ اللزوم والجواز لو كانا من خصوصيات الملك كان تخصيص القدر المشترك باللزوم والجواز ـ الموجبين لتشخّصه ـ إمّا بجعل المالك ، وإمّا بجعل الشارع ، ولا ثالث لهما ، لأنّهما إن كانا حكمين لموضوعهما فلا بد أن يكون التخصيص وظيفة الشارع ، وإن كانا دخيلين في الموضوع فلا بد أن يكونا من فعل المالك ، فلا ثالث في البين.

فإن كان الأوّل فلازمه التفصيل في الحكم باللزوم أو الجواز بين صور ثلاث :

إحداها : أن يقصد المالك اللزوم ، ويجعله ، فيحكم به لا غير.

٤٩٨

بإحدى (١) الخصوصيتين بجعل المالك أو بحكم الشارع.

فان كان الأوّل (٢) كان اللازم التفصيل بين أقسام التمليك المختلفة بحسب (٣) قصد الرجوع (٤) وقصد عدمه ،

______________________________________________________

ثانيتها : أن يقصد الجواز ، ويجعله ، فيحكم به دون غيره.

ثالثتها : أن لا يحكم بشي‌ء من اللزوم والجواز فيما إذا لم يجعل المالك شيئا منهما ولم يقصده ، بأن أنشأ الملكية المهملة عن خصوصيتي اللزوم والجواز.

وبالجملة : يدور اللزوم والجواز مدار قصد المالك لهما ، فإذا قصد أحدهما حكم به ، وإلّا فلا يحكم بشي‌ء منهما. وذلك ـ أي دوران اللزوم والجواز مدار قصد المالك ـ بديهيّ البطلان ، ضرورة أنّه لا يؤثّر قصد المالك في ذلك أصلا ، ولذا لو وهب لأجنبيّ عينا ولذي رحم اخرى مع الغفلة عن الجواز واللزوم كانت الهبة الأولى جائزة والثانية لازمة ، وقصد اللزوم في الأولى يوجب البطلان ، لأنّه على خلاف تشريع الهبة للأجنبي ، وعلى فرض الصحة تكون جائزة.

وكذا الحال إذا قصد الجواز في الثانية ، فإنّها لا تصح جائزة ، بل إمّا تبطل وإمّا تصحّ لازمة.

فالنتيجة : أنّه ثبت بالدليلين المتقدمين كون اللزوم والجواز من أحكام الملك.

(١) هذا وقوله : «بجعل» و«بحكم» متعلق ب «تخصيص» يعني : أنّ تعيين كلّي الملك تارة في الجائز واخرى في اللازم إمّا يتسبّب عن قصد المالك وجعله ، وإمّا يتسبب عن إرادة الشارع وحكمه ، ولا ثالث لهما.

(٢) أي : كان تخصيص القدر المشترك بإحدى الخصوصيتين بجعل المالك ، وعليه فاسم «كان» ضمير راجع الى التخصيص.

(٣) متعلق ب «المختلفة» أي : كان اختلاف حصول الملك الجائز تارة واللازم اخرى دائرا مدار قصد المملّك الرجوع حتى يكون جائزا ، وقصده عدم الرجوع حتى يكون الملك لازما.

(٤) الأولى تبديله بقصد الجواز واللزوم ، وكذا قوله : «إذ لا تأثير لقصد المالك في الرجوع».

٤٩٩

أو عدم قصده (١). وهو (٢) بديهي البطلان ، إذ (٣) لا تأثير لقصد المالك في الرجوع وعدمه.

وإن كان (٤) الثاني لزم إمضاء الشارع العقد على غير ما قصده (٥) المنشئ ، وهو (٦) باطل في العقود ،

______________________________________________________

(١) أي : عدم قصد الرجوع ، بأن قصد المالك التمليك المهمل العاري عن خصوصيتي اللزوم والجواز ، فيلزم أن يقع الملك المشترك بينهما ، لا خصوص اللازم والجائز. مع أنّه بديهي البطلان ، إذ الملكية الاعتبارية لا تخلو من أن تقع لازمة أو جائزة ، فعدم قصد الخصوصية لا يوجب وقوع الملك الجامع بين الخصوصيتين ، وهذا دليل قطعي على بطلان الاحتمال الأوّل وهو دوران الجواز واللزوم مدار قصد المالك.

(٢) أي : التفصيل بين أقسام الملك ـ بحسب قصد الملك ـ باطل بالبداهة ، فإنّ الهبة لغير ذي رحم تفيد ملكا متزلزلا سواء قصد الواهب الرجوع في هبته أم لم يقصده ، أو قصد عدم الرجوع.

(٣) تعليل لبداهة البطلان ، وقد عرفته.

(٤) معطوف على «فان كان الأوّل» وهذا هو الشق الثاني من المنفصلة ، يعني : إذا كان تخصيص القدر المشترك بإحدى الخصوصيتين مسبّبا عن حكم الشارع باللزوم تارة وبالجواز أخرى لزم تخلف قاعدة تبعية العقود للقصود ، فإذا قصد المالك في الهبة لذي رحم الجواز ـ لقصده الرجوع ، وحكم الشارع بصحة هبته ولزومها ـ لزم تخلف العقد عن قصد الرجوع ، مع وضوح تبعية العقود الصحيحة للقصود.

(٥) لأنّ الشارع جعل الملكية اللازمة مع قصد المالك الملكية الجائزة ، وبالعكس.

(٦) يعني : وإمضاء الشارع العقد على غير ما قصده المنشئ باطل ، لما تقدم من أنّ العقود المصحّحة شرعا تابعة للقصود ، يعني : أنّ العقد الصحيح عبارة عن إمضاء الشارع العقد على النحو المقصود للمنشئ ، فلا يمكن أن يكون ممضى شرعا مع مخالفته لمقصود المنشئ ، فلو قصد اللّزوم مثلا لم يصحّ إمضاء الشارع لذلك العقد على وجه الجواز.

٥٠٠