هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

للهيئة الحاصلة من ضمّ المفردات بعضها إلى بعض ، والظهورات أمور وجدانية لا بد من حصولها عند كل من يتمسّك بكلام. ولو فرض حصوله بعملهم كان حجة ببناء العقلاء لأنّ عمل المشهور حينئذ جهة تعليلية لحصول الظهور ، نظير قول اللغوي ، ولا نعني بهذا حجية استظهار شخص ـ وفهمه من الكلام ـ على غيره تعبدا.

وأما بحسب الصغرى فلكفاية عمل المشهور برواية في مورد واحد في تحقق الجبر ، ولا يعتبر استنادهم إليها في جميع المقامات ، وعليه فذهاب المشهور إلى الإباحة في المعاطاة واعتمادهم على غير حديث السلطنة لا يوجب قدحا في انجباره إذا أحرز عملهم به في مسألة أخرى ، لاتصافه بالحجية بعملهم به إجمالا. وعدم استدلال المشهور به في غير ذلك المورد ـ لعدم دلالته بنظرهم على غير ما فهموه منه ـ غير قادح في حجية سنده.

فالمتحصل : أنّ انجبار الخبر الضعيف بعمل المشهور ـ إذا كان الاستناد موجبا للوثوق تكوينا بصدوره ـ مما لا ينبغي الارتياب فيه ، وإن لم يكن استنادهم إليه توثيقا للرواة ، إذ المدار في الحجية هو الوثوق بالصدور وان لم يحصل وثوق بالرواة.

فتلخص : أنّ الاشكال كلّه في إحراز عمل المشهور بخصوص هذا النبوي لا سيّما مع كون قاعدة سلطنة الناس على أموالهم أصلا عقلائيّا متّبعا عندهم في جميع الأعصار والأمصار.

وأمّا تصحيح السند بما أثبته ابن أبي جمهور في مقدمة العوالي «من رواية جميع أحاديث كتابة بطرق متعددة عن مشايخ الحديث ، ومنهم إلى الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام فيصير هذا النبوي مسندا لا مرسلا» فلا يخلو من تأمل ذكرناه في ما يتعلق بأحاديث قاعدة الميسور من شرح الكفاية (١). هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي دلالة الحديث ـ فمحصّل الكلام فيها : أنّه يحتمل فيه وجوه ثلاثة ، ذهب الى كل منها ذاهب :

الأوّل : تشريع السلطنة للمالك على أنحاء التصرفات كمّا وكيفا ـ كما هو مبنى الاستدلال به على مملّكية المعاطاة ـ فإذا شكّ في جواز بيع ماله أو في كيفية بيعه كالمعاطاة

__________________

(١) منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٣٦٧ الى ٣٧١.

٤٠١

.................................................................................................

__________________

والصيغة الملحونة أمكن دفع الشك بهذا الحديث ، فإنّ أصل البيع وكيفية إنشائه تصرّف في المال ، مشروع بمقتضى جعل السلطنة. ويستفاد عمومه لجميع التصرفات من حذف المتعلق وهو التصرف ، إذ السلطنة التشريعية على الأموال كناية عن السلطنة على التصرف فيها ، وحذف المتعلق يفيد العموم ، فيدل الحديث على إمضاء جميع الأسباب المتداولة عند العرف ، كدلالة آية حلّ البيع على إمضاء البيوع العرفية.

ومال إلى هذا الوجه السيّدان صاحبا البلغة والعروة قدس‌سرهما. بل هو ظاهر استدلال صاحب الجواهر قدس‌سره على مشروعية المعاطاة المقصود بها الإباحة مع التصريح بها ولو بالقرائن ، حيث قال : «لعموم تسلط الناس على أموالهم» (١). بل هو مقتضى كلام المصنف قدس‌سره في أوّل تنبيهات المعاطاة : «وحيث إن المناسب لهذا القول التمسك في مشروعيته بعموم : أنّ الناس مسلّطون على أموالهم كان مقتضى القاعدة نفي شرطية غير ما ثبتت شرطيته».

الثاني : أنّ الحديث في مقام تشريع أنحاء التصرفات كمّا ـ لا كيفا ـ فللمالك السلطنة على بيع ماله وإجارته وهبته والصلح عليه ونحوها ، فلو شكّ في مشروعيّة الهبة ـ مثلا ـ جاز التمسك لإثباتها بالحديث. ولكن لو شكّ في اعتبار صيغة خاصة فيها أو حصولها بالتعاطي لم يكن الحديث متكفّلا لهذه الجهة لعدم كونه في مقام تشريع الأسباب وتنفيذها. وهذا الوجه هو مختار المصنف قدس‌سره هنا.

الثالث : أنّ الحديث في مقام بيان سلطنة المالك ـ بما هو مالك ـ على التصرفات المشروعة في أمواله في مقابل الحجر ، فالمالك غير محجور عن التصرف في ماله ، فليس الحديث في مقام تشريع السلطنة لا كمّا ولا كيفا ، حتى يتمسك به لرفع الشك في أصل جواز تصرّف خاص في المال ولا في كيفية وقوعه ، بل لا بد من إحراز مشروعية التصرفات وأسبابها بوجه آخر ، ويقتصر مدلول الحديث على إثبات استقلال المالك في تصرّفاته المشروعة ، وعدم توقفها على إجازة الغير. مثلا إذا شكّ في استقلال الزوجة في هبة شي‌ء من مالها كان الحديث دالّا على استقلالها وعدم توقف هبتها على إمضاء الزوج. وأمّا إذا شك في أنّ للمالك

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢١٨.

٤٠٢

.................................................................................................

__________________

هبة ماله أو شك في التسبب إليها بالفعل كما يتسبب إليها بالإيجاب والقبول اللفظيين لم يصحّ التمسك بهذا الحديث في شي‌ء من المقامين.

وهذا الوجه مختار المحقق الخراساني قدس‌سره في حاشية الكتاب (١) وارتضاه بعض الأعاظم.

ولعلّه يستفاد من كلام المصنف قدس‌سره في التنبيه الرابع ، حيث قال ـ في ردّ التمسك بالحديث لإثبات الملك التقديري جمعا بينه وبين أدلة توقف مثل العتق والبيع على الملك ـ ما لفظه : «بأنّ عموم الناس مسلّطون على أموالهم إنّما يدلّ على تسلّط الناس على أموالهم ، لا على أحكامهم ، فمقتضاه إمضاء الشارع لإباحة المالك كلّ تصرف جائز شرعا ، فالإباحة وإن كانت مطلقة ، إلّا أنّه لا يباح بتلك الإباحة المطلقة إلّا ما هو جائز بذاته في الشريعة». لصراحة كلامه قدس‌سره في عدم مشرّعية الحديث للتصرف المشكوك حكمه.

وهنا احتمال رابع حكي عن المحقق الرشتي وأفاده المحقق الإيرواني قدس‌سرهما وهو : كون الحديث أضيق مدلولا مما تقدم ، فإنّ ظاهر تسلّط المالك على التصرف في ماله مع بقاء الموضوع وهو المال ، ومن المعلوم أنّ إخراج المال ـ عن إضافته إلى المالك ـ ليس تصرّفا في المال المضاف الى مالكه ، لأنّه من قبيل إعدام الموضوع بالحكم (٢) ، فالحديث قاصر عن إثبات جواز التمليك. هذا.

هذه محتملات الحديث ثبوتا. وقد عرفت أنّ لكلّ منها قائلا ، ولا بد من عطف عنان البحث الى مقام الاستظهار ، فنقول وبه نستعين :

يستدل للقول الأوّل بوجهين :

أحدهما : أنّه مقتضى عموم المتعلق المحذوف ـ وهو التصرف ـ فإنّ كل ما يعدّ تصرفا للمالك في ماله يكون نافذا ومسلّطا عليه ، ومن المعلوم أنّ البيع المعاطاتي تصرف في المال ،

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ١٢ و ١٤.

(٢) حاشية المكاسب للسيد الاشكوري ، ص ١٠. حاشية المكاسب للمحقق الايرواني ، ج ١ ص ٧٧.

٤٠٣

.................................................................................................

__________________

فالمالك مسلّط عليه ، ولا معنى لسلطنته عليه إلّا جوازه ونفوذه شرعا. وبيانه : أنّ هنا أمورا ينبغي الالتفات إليها :

أحدها : أنّ السلطنة تشريعية لا تكوينية.

ثانيها : ظهور السلطنة في الوضع ، لعدم السلطنة على التكليف الشرعي كما هو واضح ، فلسلطنة المالك على التصرف في ماله عبارة عن نفوذ تصرفاته في ماله وإمضائها.

ثالثها : أنّ الأصل في الكلام التأسيس لا التأكيد ، فإنّه خلاف الأصل ، فيقدّم عليه عند الدوران بينهما.

رابعها : أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم كما في مثل قوله عليه‌السلام : «الماء يطهّر ، ولا يطهّر» إلّا إذا كان هناك قرينة على خلافه.

إذا تحققت هذه الأمور كان مقتضاها الإطلاق كمّا وكيفا ، إذ لا قرينة على إرادة تصرف خاص من متعلق السلطنة ، وحذفه يفيد العموم ، وحمله على خصوص الأنواع دون أسبابها ـ كما عليه المصنف هنا ـ بلا قرينة ، بل الحذف والتأسيس قرينتان على العموم ، إذ لو حمل على خصوص الأنواع ـ دون أصناف كل منها ـ لزم كون الحديث مؤكّدا لا مؤسّسا. ومن المعلوم أنّ نقل المال الى شخص بالمعاطاة أو بغيرها ممّا يراه المالك سببا للنقل تصرف في ماله ، وهو ـ بمقتضى عموم الحديث ـ مسلّط على هذا التصرف ، ومنع المالك عنه ينافي عموم السلطنة.

وبعبارة اخرى : أنّ منع الإطلاق في الحديث يوجب انسداد باب التمسك بالإطلاق ، ومجرّد احتمال الإهمال لا يقتضي رفع اليد عن ظاهر الكلام الذي هو كاف في إحرازه ، من دون حاجة الى الإحراز القطعي الموجب لانسداد باب الإطلاق. ومن المعلوم أنّ إطلاق السلطنة يشمل جميع أنحائها حتى إخراج المال عن ملكه كابقائه ، إذ لا فرق ـ في نظر العقلاء ـ في السلطنة على المال بين الإبقاء والإخراج ولو بالإعراض ، ضرورة كون كل منهما من حصص السلطنة التي موضوعها إضافة المال الى المالك ، والإخراج يتعلق بهذه الإضافة ، وفي الرتبة المتأخرة تزول الإضافة. نظير العتق والوقف ، فإنّهما يتعلقان بهذه الإضافة مع انعدامها في الرتبة المتأخرة.

٤٠٤

.................................................................................................

__________________

والكاشف عن هذا الإطلاق جواز التصريح به وبتقييده : بأن يقال : المالك مسلّط على التصرف الإبقائي والإخراجي إلّا التصرف الكذائي.

والحاصل : أنّه لا ينبغي التأمل في كون الإبقاء والإخراج من حالات الملك اعتبارا ، ومن أنحاء التصرفات التي يشملها إطلاق دليل السلطنة ، فلا فرق في ثبوت السلطنة على المال لمالكه بين التصرفات أصلا من إعدام المال وإتلافه بأكل وشرب وضيافة ، ومن إخراجه عن ملكه مع بقاء عينه كبيعه وهبته ، فإنّ من راجع العقلاء في معاملاتهم مع أموالهم يرى أنّهم يثبتون السلطنة للمالك على إبقاء المال وإخراجه على نهج واحد.

الوجه الثاني : ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره فإنّه ـ بعد أن أورد على المتن من «جعل حقائق المعاملات أنواع السلطنة» بأنّ السلطنة المجعولة هي القدرة على التصرفات المعاملية المتحققة بترخيص الشارع تكليفا ووضعا ، فتحقق بالترخيص تكليفا القدرة على إيجادها بما هي عمل من الأعمال ، وبالترخيص وضعا القدرة على المعاملة بما هي معاملة مؤثرة في مضمونها ، فالتصرفات متعلقات السلطنة لا عينها وأنواعها ـ قال ما محصله : انّ إطلاق الحديث لا يكون بلحاظ الكمّ خاصة ، بل إطلاقه بلحاظ الكيف أقوى منه بلحاظ الكم ، وذلك لأنّ السلطنة على البيع مثلا باعتبار تخصّصها بمتعلّقها تكون حصّة من طبيعي السلطنة ، ولمّا كان البيع المتحقق بالمعاطاة حصّة من طبيعي البيع قطعا كانت السلطنة على هذه الحصة حصّة من طبيعي السلطنة ، فإذا كان الشارع في مقام الترخيص التكليفي والوضعي لذي المال ـ وهو المحقّق لحقيقة السلطنة ـ فلا محالة تكون الأسباب ملحوظة إمّا ابتداء وبنفسها ، أو بتبع لحاظ المسببات المفروضة حصصا ، وبهذا الاعتبار لها نفوذ ومضيّ ، كما هو مقتضى اعتراف الماتن بقوله : «ثابتة للمالك وماضية في حقه شرعا» ولا نفوذ ولا مضي إلّا بملاحظة الأسباب ولو من حيث القيدية المحصّصة للتمليك والمحصّصة للسلطنة (١).

ولعلّ هذا الوجه أقوى من سابقه في إثبات السلطنة المطلقة كمّا وكيفا ، بلحاظ أنّ

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٢٦.

٤٠٥

.................................................................................................

__________________

مقتضى إطلاق السلطنة على البيع هو السلطنة على كل حصّة من طبيعي البيع. ويتعيّن المصير إليه لو لا النقض ـ الآتي بيانه ـ المانع عن الالتزام بالإطلاق أصلا.

ويستدل للقول الثاني بأنّ دليل السلطنة يثبت أنحاء السلطنة على المال بما هو مضاف الى مالكه ، فكل سلطنة راجعة الى هذه الإضافة جائزة ونافذة ، بخلاف ما لا يرجع الى ذلك ، بل يرجع إلى الحكم الشرعي ، فإنّه لا موجب لإثباته ، إذ لم يرد «الناس مسلطون على أحكامهم» والشك في اعتبار الصيغة أو غيرها مما يتعلّق بالسبب يرجع الى الحكم الشرعي ، وهو كون الفعل كالقول سببا للنقل والانتقال ، ومن المعلوم أنّه أجنبي عن حيثية إضافة المال إلى مالكه ، فلا يندرج تحت سلطنة المالك على ماله ، بل هو من الأحكام المقرّرة شرعا أو عرفا ، فلا بد فيه من الرجوع الى الشرع أو العرف.

وبالجملة : ليس كون شي‌ء سببا لتحقق البيع أو الهبة أو كون الإعراض مزيلا للملكية من حدود السلطنة وشؤونها حتى يشمله دليل السلطنة ، فدليل السلطنة يشمل المسببات دون الأسباب ، وإطلاقها بالنسبة الى جميع أنحاء التصرفات المترتبة على إضافة المال الى مالكه محكّم ، لا ما يكون أجنبيا عن هذه الحيثية ، مثل دخل العربية ونحوها في سببية البيع مثلا للتمليك.

ويستدل للقول الثالث : بأنّ إضافة المال الى المالك حيثية تقييدية في حكم الشارع بالسلطنة وتصلح قرينة على عدم إرادة العموم في المتعلق ، وأنّ المراد به خصوص الأحكام الراجعة إلى المالك من حيث كونه مالكا ، كما إذا شكّ مثلا في نفوذ هبة المالك ماله بدون إذن أولاده أو ولاة أمره ، وأنّه يفتقر هذا التصرف إلى إذنهم أم لا؟ فيدفع الشك المزبور بهذا الحديث الدال على استقلال المالك في تصرفاته المشروعة ، وعدم كونه محجورا عنها ، وليس للغير مزاحمته فيها.

وأمّا الأحكام الشرعية ـ المتعلقة بالمال ـ التي لا ربط لها بحيثية إضافته إلى المالك فليس الحديث متكلفلا بها ولا ناظرا إليها. ومن المعلوم أنّ جواز بيع المالك ماله للغير

٤٠٦

.................................................................................................

__________________

وتمليكه إيّاه حكم شرعي غير مرتبط بالمالك من حيث كونه مالكا. وكذا سببية المعاطاة للتمليك ليست من أحكام إضافة المال الى المالك حتى يتمسك بإطلاق السلطنة لإمضاها.

فمعنى الحديث ـ والله العالم ـ أنّ للمالك كل تصرف ثبتت له مشروعيته في ماله ، بلا حاجة الى مراجعة شخص آخر ، فتصرّف المالك نافذ بالاستقلال.

وهذا هو السّر في عدم تمسك أحد من الأصحاب بهذا الحديث لجواز أكل ما يشك في حلية لحمه كالإرنب المملوك ، بدعوى إطلاق السلطنة على المال لكل تصرف خارجي واعتباري.

بل مقتضى إطلاق مشرّعية الحديث وقوع المعارضة بينه وبين أدلة بعض المحرّمات كحرمة أكل الطحال ونحوه من أجزاء حيوان مأكول اللحم ، وحرمة شرب العصير العنبي قبل ذهاب ثلثيه ، بتقريب : أنّ إطلاق السلطنة قاض بجواز الأكل والشرب وبصحة بيعهما ، ودليل حرمة الأكل والشرب شامل لما إذا كانا مملوكين أو مغصوبين أو مرخّصا فيهما من قبل مالكيهما ، فيتعارض الإطلاقان بالعموم من وجه في الطحال والعصير المملوكين ، ويتساقطان لفقد المرجح ، فتصل النوبة إلى عمومات الحلّ ، وهذا مما لا يظنّ أن يجترئ عليه متفقة فضلا عن فقيه.

والتخلص من هذا النقض منوط بقصر مدلول الحديث على جعل استقلال الملّاك في تصرفاتهم المشروعة في أموالهم وعدم حجرهم عنها.

نعم يشكل هذا الوجه الذي ركن إليه المحقق الخراساني قدس‌سره ـ وربما استفيد من كلام المصنف قدس‌سره أيضا ـ بما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من : أنّ المقتضي للسلطنة هو إضافة المال الى مالكه ، والمقتضى هو القدرة المجعولة تكليفا ووضعا ، ولا مانع من الإخبار بثبوت السلطنة بمجرد ثبوت مقتضيها سواء أكانت هي فعلية أم شأنية ، لوجود مانع كالصغر والفلس ونحوهما. وأمّا الحجر فهو مانع عن فعلية السلطنة ، ولم يعهد الإخبار عن عدم المانع عن الشي‌ء بمجرد ثبوت مقتضية ، فإنّ عدم المانع يستند الى عدم سببه لا إلى وجود المقتضي وهو الملكية.

٤٠٧

.................................................................................................

__________________

وعليه فلا وجه لحمل الحديث ـ الظاهر في جعل السلطنة التي تقتضيها الملكية ـ على بيان أمر عدمي وهو الحجر المانع عن نفوذ تصرّفات المالك.

لكن يمكن أن يقال : إنه لا غرابة في استظهار استقلال المالك وعدم حجره من الحديث ، إذ لو كانت إضافة الملكية حيثية تعليلية في جعل السلطنة بأن كانت العبارة «الناس مسلطون على أموالهم لأنّها أموالهم» أمكن استبعاد إسناد عدم الحجر إلى تمامية المقتضي ، بناء على جريان حديث المقتضي والمقتضي في موضوعات الأحكام الشرعية. مع أنّ مقام الاستظهار من الخطابات الملقاة إلى العرف مقام آخر ، فالمهمّ قالبية اللفظ للمراد ، وتعارف إفادته به ، ولا مانع من إرادة عدم الحجر وحرمة المزاحمة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الناس مسلطون على أموالهم».

ولو فرض عدم تمامية ما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره من سوق الحديث بحسب ظهوره الأوّلي في الاحتمال الثالث دار الأمر بين سقوطه رأسا بعد تعذر الأخذ بمشرّعيته لأنواع التصرفات وأسبابها ، وبين حمله على إفادة مجرّد استقلال الملّاك في تصرفاتهم المشروعة في أموالهم ، والظاهر أنّه المتعيّن.

هذا مضافا إلى : تقييد الإطلاق من حيث السبب بما دلّ على حرمة أكل أموال الناس بالباطل واقعا ، وسيأتي توضيحه في أدلة اللزوم إن شاء الله تعالى.

وقد تحصّل من هذا البحث الطويل الذيل أمور :

الأوّل : اعتبار الحديث سندا بعمل المشهور وإرسالهم إياه إرسال المسلّمات.

الثاني : أنه لا يستفاد من الحديث أزيد من استقلال المالك في التصرف ، لا مشرّعيته كمّا وكيفا.

الثالث : أنّه لا فرق في سلطنة المالك على ماله في التصرفات المشروعة بين التصرف المزيل لعلقة الملكية والمبقي لها.

الرابع : أنّه لا مانع من التمسك بإطلاق السلطنة عند الشك في ورود دليل على منع المالك عن بعض أنحائها ، لأنّ مرجعه الى الشك في وجود المانع ، والإطلاق يدفعه.

٤٠٨

وكيف كان (١) ففي الآيتين (٢) مع السيرة (٣) كفاية.

اللهم إلّا أن يقال (٤) : إنّهما (٥) لا تدلان (*) على الملك ، وإنّما تدلّان على إباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك ، كالبيع والوطي والعتق والإيصاء ،

______________________________________________________

(١) يعني : سواء تمّ الاستدلال بحديث السلطنة على مملّكية المعاطاة أم لم يتم ، لما عرفت من المناقشة في دلالته ، لعدم كونه ناظرا الى تشريع السلطنة على الأسباب حتى يؤخذ بإطلاقه.

(٢) وهما آية حلّ البيع ، والتجارة عن تراض ، لأنّ حلية مطلق التصرفات تستلزم شرعا مملّكية المعاطاة.

(٣) أي : السيرة العقلائية المستمرة إلى عصر المعصومين عليهم‌السلام ، الممضاة بعدم الردع عنها.

إلى هنا تعرّض المصنف قدس‌سره لأدلة أربعة على إفادة المعاطاة للملك ، واختار وفاء ثلاثة منها بالمقصود ، وناقش في دلالة حديث السلطنة كما عرفت مفصّلا.

(٤) مقصوده من هنا إلى قوله بعد أسطر : «فالأولى التمسك في المطلب بأن المتبادر عرفا من حلّ البيع صحته شرعا» الخدشة في دلالة الآيتين والسيرة على إفادة المعاطاة للملك من حين التعاطي.

(٥) أي : أنّ الآيتين لا تدلان على الملك ـ من أوّل الأمر ـ الذي ادّعاه المحقق الثاني ووافقه المصنف بقوله : «لا يخلو من قوة». وليعلم أنّ مناقشته في الآيتين ليست بمعنى كونهما أجنبيتين عن تأثير المعاطاة في الملكية رأسا كما كان حديث السلطنة أجنبيا عنه ، بل غرضه قدس‌سره من الخدشة في دلالة الآيتين الكريمتين هو : أنّ المدّعى حصول النقل الملكي من حين وقوع التعاطي ، والآيتان إنّما تدلّان على حصول الملكية الآنيّة قبل تصرف كل من

__________________

(*) بل تدلان على الملك. أمّا الأوّلى فبالدلالة المطابقية إن أريد بحلّ البيع ما هو أعم من التكليفي والوضعي ، وبالالتزامية إن أريد به خصوص التكليفي.

٤٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

المتعاطيين فيما أخذه من الآخر تصرّفا منوطا بالملك كالوقف والعتق ، ولا تدلّان على الملك من أوّل الأمر.

وتوضيح المناقشة : أنّ دلالة الآيتين على كون المعاطاة كالبيع القولي مفيدا للملكية من أوّل الأمر تتوقف على مقدمات ثلاث :

الاولى : أنّ المدلول المطابقي للآيتين هو حكم تكليفي أعني به إباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة.

الثانية : أنّ حلية بعض أنحاء التصرفات تكليفا وصحتها وضعا منوطة بصدورها من المالك ، لا من المباح له.

الثالثة : أنّ إباحة جميع التصرفات المترتبة على البيع تستلزم شرعا تأثير المعاطاة ـ التي هي بيع عرفي ـ في الملكية من أوّل الأمر.

ولو اختلّت إحدى هذه المقدمات اختلّ الاستدلال بالآيتين على تأثير المعاطاة في الملكية من أوّل الأمر. وغرضه قدس‌سره منع المقدمة الثالثة ـ وهي الملازمة الشرعية بين الحلية التكليفية والملكية ـ وذلك لأنّ الملازمة بين إباحة التصرف المترتب على البيع القولي وبين

__________________

وأما الثانية فهي وإن كان مفادها حلية التصرفات ، إلّا أنّها لمّا كانت مترتبة على التجارة عن تراض فهم العرف منه صحة التجارة ، وأنّ ترتّب حلية تلك التصرفات على التجارة يكون لأجل التجارة ، فيكون من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، نظير قول مالك الأمة بعد تزويجها من الغير : «يجوز لك وطيها» فلا يفهم منه إلّا الزوجية ، لا جواز الوطي من باب التمليك.

فما أفاده المصنف قدس‌سره من «استفادة الملكية في سائر المقامات من جهة الإجماع على الملازمة الشرعية بين إباحة التصرفات والملكية ، والإجماع في البيع المعاطاة مفقود» في غاية الغموض. فالإنصاف وفاء الآيتين بالدلالة على مملكية المعاطاة.

وأما مناقشته قدس‌سره في السيرة فممنوع لمن راجع السيرة وأهلها.

٤١٠

وإباحة (١) هذه التصرفات إنّما تستلزم الملك

______________________________________________________

الملكية ثابتة من جهة قيام الإجماع على إباحة مطلق التصرف حتى المتوقف على الملك ، وهو كاشف عن حصول الملكية بمجرد العقد اللفظي. وأمّا في البيع المعاطاتي فلا دليل على هذه الملازمة ، بل صرّح بعض الفقهاء بالتفكيك بينهما ، فقال بإباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك ، وبعدم إفادة المعاطاة للملك ، وتتوقّف الملكية على تلف إحدى العينين. ومع هذا التصريح كيف تتجه دعوى الملازمة الشرعية بين حلية التصرفات المترتبة على البيع وبين الملك من أوّل الأمر؟

نعم لا مناص من الالتزام بالملكية الآنامائيّة إذا أراد أحد المتعاطيين أن يتصرّف في المأخوذ بالمعاطاة ـ بما يتوقف على الملك ، جمعا بين الأدلة ، ولكن هذه الملكية الآنيّة أجنبية عن المدّعى وهو تأثير المعاطاة في الملك من أوّل الأمر.

وقد تحصل مما ذكرنا : قصور دلالة الآيتين الكريمتين على إثبات مملكية المعاطاة على حدّ البيع القولي.

(١) هذا إشارة إلى توهم ودفعه ـ وقد اتّضحا مما ذكرناه ـ أمّا التوهم فحاصله : أنّ الآيتين وإن لم تدلّا مطابقة على الملك ، لكنهما تدلّان عليه التزاما ، إذ الإباحة المطلقة تقتضي حصول الملك من أوّل الأمر ، لوجود الملازمة بينهما كما في غير مقامنا من البيوع القولية ، حيث إنّه يحصل الملك في البيع القولي من حين العقد بلا إشكال ، فوزان البيع المعاطاتي وزان البيع القولي في استكشاف الملكية ـ من أوّل الأمر ـ من إباحة التصرفات حتى المتوقفة على الملك ، للملازمة الشرعية بين الإباحة المطلقة وبين الملك كذلك. فتحقق اللّازم أي الملك من أوّل الأمر في البيع المعاطاتي ، وهو المطلوب.

وأمّا الدفع فحاصله : أنّ القياس مع الفارق ، بداهة كون الملازمة بين إباحة التصرفات وبين الملكية من أوّل الأمر ـ في البيع اللفظي ـ شرعية ، لا عقلية وعادية حتى يتعدّى من موردها وهو البيع القولي إلى المعاطاتي.

والوجه في كون الملازمة شرعية : أنّ الدليل على حصول الملكية من حين العقد هو الإجماع على عدم انفكاك الملك عن العقد المفيد لإباحة جميع التصرفات في العوضين ، ومن المعلوم اختصاص هذه الملازمة بالبيع القولي الذي هو المقيس عليه.

٤١١

بالملازمة الشرعية (١) الحاصلة في سائر المقامات من الإجماع وعدم القول بالانفكاك (٢) ، دون المقام (٣) الذي لا يعلم ذلك (٤) منهم ، حيث (٥) أطلق القائلون (٦) بعدم الملك إباحة التصرفات ،

______________________________________________________

وأمّا البيع المعاطاتي فلم يثبت فيه التلازم المزبور ، بل علم من المشهور الانفكاك بينهما فيه ، لأنّ القدماء ـ مع قولهم بالإباحة وعدم مملّكية المعاطاة ـ قائلون بإباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك ، على ما يقتضيه إطلاق كلماتهم ، حيث لم يقيّدوا «إباحة التصرف» بما لا يتوقف على الملك.

ويشهد بهذا الإطلاق فهم الشهيد الثاني قدس‌سره على ما صرّح به في المسالك من «أنّ من أجاز المعاطاة سوّغ أنواع التصرفات» (١) فإنّه لا مسوّغ لهذه النسبة إليهم إلّا إطلاق كلماتهم.

(١) هذه الكلمة هي القرينة القطعية على أنّ مراد المصنف قدس‌سره من الاستدلال بالآيتين ـ بالتقريب الأوّل من الوجوه الثلاثة ـ هو الملازمة الشرعية بين الإباحة التكليفية ومملكية المعاطاة وصحتها. وتقييد الملازمة ب «الشرعيّة» لأجل التنبيه على أنّ الملازمة لو كانت عرفية كانت حليّة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة دالة على إفادة الملك من حين التعاطي كالبيع القولي ، إذ لا يرى العرف فرقا بينهما في إفادة الملك من أوّل الأمر.

(٢) بين إباحة جميع التصرفات وبين الملك من أوّل الأمر ، وأنّ الملكيّة لا تتوقف على التصرف أو التلف ونحوهما من الملزمات.

(٣) وهو البيع المعاطاتي ، وهذا إشارة إلى الدفع المتقدم بقولنا : «ان القياس مع الفارق .. إلخ».

(٤) أي : عدم الانفكاك بين إباحة جميع التصرفات وبين الملك من أوّل الأمر.

(٥) تعليل لقوله : «لا يعلم ذلك منهم» فإنّ إطلاق إباحة التصرفات مع القول بعدم الملك يوجب القول بالانفكاك بين إباحة التصرفات وبين الملك.

(٦) كقول الشيخ في الخلاف : «وإنّما يكون إباحة له ، فيتصرف كل منهما فيما أخذه تصرّفا مباحا من غير أن يكون ملكه» ونحوه عبارة ابن إدريس والسيد ابن زهرة والقاضي

__________________

(١) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٤٩.

٤١٢

وصرّح (١) في المسالك «بأنّ من أجاز المعاطاة سوّغ جميع التصرفات» غاية الأمر (٢) أنه لا بدّ من التزامهم بأنّ التصرّف المتوقف على الملك يكشف عن سبق الملك عليه آنا ما ، فإنّ (٣) الجمع

______________________________________________________

الحلبي وغيرهم ، وقد تقدمت في المقام الأوّل المنعقد لتحرير محل النزاع في المعاطاة.

(١) معطوف على «أطلق القائلون» يعني ـ مضافا الى إطلاق كلام القدماء ـ صرّح في المسالك ، ومقصوده قدس‌سره أنّ كلمات الأصحاب في الحكم بإباحة التصرف وإن كانت دالة بإطلاقها على إباحة كل تصرف حتى ما يتوقف على الملك ، إلّا أنّه يؤيّد هذا الاستظهار بفهم الشهيد الثاني قدس‌سره حيث نسب الى المشهور إباحة مطلق التصرفات مع التزامهم بعدم الملك.

وعلى هذا فالقول بالملازمة غير معلوم بل معلوم العدم ، فكيف يقاس البيع المعاطاتي ـ الذي لم يثبت فيه الإجماع على الملازمة بين إباحة كل تصرف وبين الملك ـ على البيع القولي الذي ثبت فيه الإجماع المزبور.

وعليه فلا يحصل الملك الابتدائي بالمعاطاة ، وتصل النوبة إلى الملكية الآنيّة من باب الجمع بين الأدلة.

(٢) غرضه قدس‌سره توجيه فتوى المشهور حتى لا يرد عليهم إشكال ، محصّله : أن نفي مملّكية المعاطاة ينافي إباحة التصرفات المتوقفة على الملك كالعتق والوقف ، فإنّهما لا يقعان من المباح له. فأجاب قدس‌سره بأنّ المشهور لا بدّ أن يلتزموا بالملكية الآنامّائية في التصرفات المنوطة بالملك ، وإلّا كان اللازم تخصيص إباحة التصرف ، بما يتوقف على الملك ، فإذا لم ينبّه المشهور على هذه الملكية الآنيّة فإنّما هو للاتّكال على وضوحها لا لأجل إنكارها.

(٣) تعليل لقوله : «يكشف عن سبق» يعني : أن دخول المأخوذ بالمعاطاة في ملك المتصرّف ـ آنا مّا ـ يستفاد من الجمع بين دليلين ، أحدهما : ما دلّ على إباحة جميع التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة.

ثانيهما : الأدلة الخاصة على توقف بعض التصرفات على الملك وعدم صحتها من المباح له ، مثل قولهم عليهم‌السلام : «لا بيع إلّا في ملك ، لا وقف إلّا في ملك ، لا عتق إلّا في ملك».

فالجمع بين كل واحد من هذه وبين الإجماع على إباحة جميع التصرفات يقتضي

٤١٣

بين إباحة هذه التصرفات (١) وبين توقفها على الملك يحصل بالتزام هذا المقدار (٢) ، ولا يتوقّف على الالتزام بالملك من أوّل الأمر ليقال : إنّ مرجع هذه الإباحة أيضا الى التمليك (٣).

وأمّا ثبوت السيرة واستمرارها على التوريث فهي (٤) كسائر سيراتهم الناشئة عن المسامحة وقلّة المبالاة في الدين ممّا لا يحصى في عباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم كما لا يخفى.

ودعوى (٥) أنّه لم يعلم من القائل بالإباحة جواز مثل هذه التصرفات المتوقفة

______________________________________________________

الالتزام بدخول المال في ملك المتعاطي ـ آنا مّا ـ حتى يقع البيع والوقف والعتق في ملكه ، لا في ملك المبيح.

(١) المتوقفة على الملك.

(٢) أي : الملك آنا ما.

(٣) يعني : حتى يصحّ التمسك بالآيتين على مملّكية المعاطاة من أوّل الأمر.

وبهذا ظهرت المناقشة في دلالتهما على كون المعاطاة كالبيع القولي مفيدا للملك من أوّل الأمر. ولهذه المناقشة تتمة سيأتي بيانها بعد الخدشة في السيرة.

(٤) غرضه المناقشة في الدليل الأوّل وهو السيرة ـ التي تشبّث بها سابقا على صحة المعاطاة وإفادتها الملك ـ بأنّ هذه السيرة من السير التي لا عبرة بها ، لنشوها عن المسامحة وقلّة المبالاة بالدين ، فلا يكشف استمرارها عن رضى المعصوم عليه‌السلام بها حتى تكون حجة ، ومن المعلوم أنّ مجرّد الاستمرار الى عصر المعصوم عليه‌السلام ليس إمضاء لها ، فهي كسيرتهم على المنكرات كأكل الربا وحلق اللحى ، فهل يكون مجرّد تعارفها في عصر المعصوم إمضاء لها؟

ولا يخفى أنّ الخدشة في السيرة بما في المتن ظاهر في أنّ السيرة المستدل بها على مملّكية المعاطاة هي العقلائية لا المتشرعية ، إذ لو كانت متشرعية كانت حجة بمجرّد إحراز استمرارها ، لأنّها إجماع عملي كاشف عن رضى الشارع.

(٥) كان المناسب ذكر هذه الدعوى قبل قوله : «وأما ثبوت السيرة .. إلخ» لأنّ هذه

٤١٤

على الملك ، كما يظهر من المحكي (١) عن حواشي الشهيد على القواعد من : منع إخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة وثمن الهدي ، وعدم جواز وطي الجارية المأخوذة بها (١). وقد صرّح الشيخ (٢) رحمه‌الله بالأخير في معاطاة الهدايا ، فيتوجّه التمسك

______________________________________________________

الدعوى من بقية الإشكالات المتعلقة بالآيتين ، وغرض المستشكل نفي ما أفاده المصنف قدس‌سره من الملكية الآنيّة وإثبات الملكية من أوّل الأمر ، وأنّه لا وجه للجمع بين الأدلة بالالتزام بالملك آنا ما.

وتوضيح ذلك : أنّ نفي الإجماع على الملازمة بين إباحة جميع التصرفات وبين الملك مبني على العلم بأنّ المشهور ـ القائلين بعدم الملك من أوّل الأمر ـ ملتزمون بإباحة جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك ، لأنّه حينئذ يثبت عدم الإجماع على الملازمة بين إباحة جميع التصرفات وبين ثبوت الملك من أوّل الأمر.

لكنّه لم يعلم هذا الالتزام منهم ، إذ لا طريق الى العلم بذلك إلّا الإطلاق ، وهو غير ثابت ، لعدم إحراز كونهم في مقام البيان من هذه الجهة ، لقوّة احتمال إرادتهم التصرفات غير المتوقفة على الملك ، كما يؤيّده ـ بل يشهد به ـ ما عن الشهيد قدس‌سره في حواشيه على القواعد :

من منع التصرفات المتوقفة على الملك ، كإخراج المأخوذ بالمعاطاة في الخمس ، والزكاة ، وثمن الهدي ، وعدم جواز وطي الجارية المأخوذة بالمعاطاة. وكذا يشهد به تصريح شيخ الطائفة في المبسوط بعدم جواز وطي الجارية المأخوذة بالهدية المعاطاتية.

وعليه فإذا لم يثبت من القائلين بالإباحة جواز التصرفات المتوقفة على الملك فيتمسك في إثبات جوازها بالآيتين ، إذ لا دليل آخر حسب الفرض على حلية هذه التصرفات ، فيثبت الملك من أوّل الأمر ، فيكون المأخوذ بالمعاطاة كالمأخوذ بالبيع اللفظي في ثبوت الملك من أوّل الأمر.

(١) أي : بالمعاطاة البيعية ، في قبال معاطاة الهدايا الآتية في كلام شيخ الطائفة.

__________________

(١) الحاكي هو السيد العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨.

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٣١٥.

٤١٥

حينئذ (١) بعموم الآية على جوازها ، فيثبت الملك (٢) ، مدفوعة (٣) بأنّه وإن لم يثبت ذلك (٤) إلّا أنّه لم يثبت (٥) أنّ كلّ من قال بإباحة جميع التصرفات قال بالملك من أوّل الأمر.

______________________________________________________

(١) أي : حين عدم العلم بالتزام القائلين بالإباحة بجواز التصرفات المنوطة بالملك يتوجه التمسك بعموم الآية بجواز تلك التصرفات من أوّل الأمر.

(٢) يعني : من أوّل الأمر ، لأنّه مقتضى عموم الآية ، فتكون الآيتان ردّا على القائلين بالإباحة ، ولا وجه للالتزام بالملكية الآنيّة من باب الجمع بين الأدلة.

(٣) هذا دفع الدعوى المذكورة ، وحاصله : أنّ مجرّد عدم المعلومية ـ وجواز إثبات هذا النحو من التصرفات ولو بالآيتين ـ غير كاف في إثبات المطلوب وهو الملكية من أوّل الأمر ، بل يتوقف ذلك على إثبات الملازمة بالإجماع ، وأنّ كل من قال بإباحة جميع التصرفات قال بحصول الملك من أوّل الأمر ، ودون إثبات هذه الملازمة خرط القتاد.

(٤) أي : وإن لم يثبت من القائل بالإباحة جواز التصرفات المتوقفة على الملك. ووجه عدم الثبوت : تصريح الشهيد بعدم جواز بذل المأخوذ بالمعاطاة في الخمس والزكاة المتوقفين على الملك.

(٥) يعني : لم يثبت التلازم بين إباحة جميع التصرفات وبين الملك من أوّل الأمر. ووجه عدم ثبوت الملازمة : إمكان التزام القائل بإباحة جميع التصرفات ـ حتى المتوقفة على الملك ـ بالملك في آن التصرف ، لا بالملك من أوّل الأمر ، فيتعيّن حينئذ الالتزام بالملكية الآنيّة جمعا بين الأدلة.

وقد تحصّل الى هنا : أنّ المصنف قدس‌سره أبطل استدلاله بالآيتين الشريفتين بناء على التقريب الأوّل ، وهو حلية التصرفات المترتبة تكليفا على البيع واستلزامها شرعا مملّكية المعاطاة من أوّل الأمر كالبيع القولي.

٤١٦

فالأولى (١) حينئذ التمسك في المطلب بأنّ المتبادر عرفا من حلّ البيع صحته شرعا ، هذا.

______________________________________________________

(١) هذا متفرع على المناقشة في دلالة الآيتين بالملازمة الشرعية بين حلية التصرف والملكية من أوّل الأمر. ومقصوده تقريب دلالة الآيتين على مملكية المعاطاة بوجه آخر ، وهذا تقريب ثالث أشرنا إليه في صدر البحث عن آية حلّ البيع ، ومحصله : إثبات الملازمة العرفية بين إباحة التصرف وبين الملك. وتوضيحه : أن متعلّق الحلّ هو التصرفات المترتبة على البيع ، وحليّتها يتصور على نحوين :

أحدهما : مجرّد تحليل التصرفات الموقوفة على الملك ، وهذا المدلول المطابقي لا يستلزم شرعا ولا عرفا صحة المعاطاة ومملّكيتها من حين الانعقاد. وقد تقدّم وجه عدم الملازمة بالتفصيل.

ثانيهما : تحليل التصرفات المترتبة على البيع بما أنّه معاملة يتسبب بها إلى الملك ، بأن تدلّ الآية على حلية التصرف بخصوص هذا السبب ـ أي البيع الصادق على المعاطاة ـ ومن المعلوم أنّ جواز التصرف بهذا السبب الخاص يلازم عرفا سببية المعاطاة للحلية وتأثيرها فيها ، وهذا معنى استلزام الحلية التكليفية للصحة والنفوذ عرفا ، يعني : أنّ المعاطاة من حين انعقادها بيع مؤثر في النقل الملكي ، ولا بد من ترتيب آثار البيع عليها في إفادة الملكية من أوّل الأمر.

وهكذا يقال في استلزام إباحة الأكل لسببية التجارة عن تراض ، يعني : أنّ حلية التصرف المتوقف على الملك فيما يؤخذ بالتجارة عن تراض ـ بما أنّها سبب مملّك ـ تستلزم صحتها وتأثيرها في الملكية من أوّل الأمر ، وإلّا لم تكن الحلية مستندة إلى سببية التجارة ، لإمكان تصوير الملكية الآنامائية.

وقد تحصل من كلمات المصنف في الاستدلال بآيتي الحلّ والتجارة وجوه ثلاثة :

الأوّل : دلالة الآيتين على حلية التصرفات المترتبة على البيع والتجارة تكليفا بالمطابقة ، ودلالتهما بالملازمة الشرعية على الصحة والملكية. وقد ناقش فيه بمنع الملازمة

٤١٧

مع إمكان (١) إثبات صحة المعاطاة في الهبة والإجارة ببعض

______________________________________________________

الشرعية ، وإنّما غايته إثبات الملكية الآنيّة قبل التصرف المنوط بالملك.

الثاني : دلالة الآيتين على الحكم الوضعي وهو الصحة لا مجرّد الحكم التكليفي. وقد ناقش فيه بالأمر بالتأمل فيه. ولعلّ وجهه انتفاء الجامع بين الحلّ التكليفي والوضعي ، فلا بد أن يراد أحدهما ، ومقتضى ظهوره في التكليف تعلقه بالتصرفات ، وهو الوجه الأوّل.

الثالث : دلالة الآيتين بالمطابقة على حلية التصرفات ، وبالملازمة العرفية على صحة المعاملة المعاطاتية ، يعني : أن مدلول الآيتين ليس مجرّد اشتراك المعاطاة مع البيع والتجارة في ترتيب الآثار حتى تنفك الملكية عن الحلية ، بل مدلولهما هو الحلية الناشئة من سببيّتهما للملك ، لكونهما سببين عرفيين له. وهذا هو الذي استقرّ عليه رأيه في الحكم بإفادة المعاطاة للملك. هذا.

ويحتمل أن يريد المصنف قدس‌سره بهذا الوجه الثالث أمرا آخر ، وهو : دلالة الآية بالمطابقة على صحة البيع المعاطاتي ، ولعلّه أوفق بقوله : «بأن المتبادر عرفا من حلّ البيع صحته شرعا» لا ما ذكرناه ـ أخذا من المحقق الأصفهاني قدس‌سره ـ من إرادة الملازمة العرفية بين تحليل التصرفات وصحة المعاطاة. وعليه يكون مختاره قريبا من التقريب الثاني وهو إرادة الحل الوضعي.

لكن قد يشكل بأنّ دلالة الآية بالمطابقة على الصحة ينافي انتزاع الوضعيات من التكليف وعدم استقلالها بالجعل ، فلعلّ الأولى إرادة الملازمة العرفية كما ذكرناه.

الدليل الخامس : الإجماع المركّب

(١) هذا إشارة إلى دليل خامس على مملّكية المعاطاة ، وهو الاستدلال بالإجماع المركّب حتى إذا نوقش في الأدلة الثلاثة المتقدمة من الآيتين والسيرة. تقريبه : أنّ من الممكن تصحيح المعاطاة في الهبة والإجارة ببعض إطلاقاتهما ، وتتميمه في البيع بالإجماع المركّب ، إذ لا يقول أحد بصحة المعاطاة في الهبة والإجارة وعدم صحتها في البيع ، فكل من يقول بصحتها فيهما يقول بصحتها في البيع.

٤١٨

إطلاقاتهما (١) (*) وتتميمه في البيع بالإجماع المركّب ، هذا.

______________________________________________________

(١) أي : إطلاقات الهبة والإجارة. أما إطلاق أدلّة الهبة ، فكرواية جرّاح المدائني ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن عطيّة الوالد لولده يبينه ، قال : إذا أعطاه في صحّة جاز» (١) تقريب الإطلاق : أنّ الإعطاء إن لم يكن ظاهرا في خصوص الإعطاء الخارجي ـ لا المترتب من باب الوفاء على الإيجاب والقبول اللفظيين ـ فلا أقلّ من شموله لكل من الهبة القولية والفعلية ، والوجه في الإطلاق عدم استفصال الامام عليه‌السلام عن أنّ العطيّة هل كانت باللفظ أم بالفعل.

وكرواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض ، قسمت أو لم تقسم» (٢) الحديث.

وأما إطلاق بعض أدلة الإجارة فمثل ما جاء في حديث تحف العقول : «وأما تفسير الإجارات فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملكه ، أو يلي أمره من قرابته أو دابته أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الإجارة» (٣) ووجه الإطلاق : عدم تقييد الإجارة النافذة شرعا بما إذا وقعت بالإيجاب والقبول اللفظيين.

وكذلك ما في مكاتبة اليقطيني الى الامام أبي محمد العسكري عليهما‌السلام : «في رجل دفع ابنه الى رجل وسلّمه منه سنة بأجرة معلومة ليخيط له ، ثم جاء رجل ، فقال : سلّم ابنك منّي

__________________

(*) هذا لا يخلو من غرابة ، لأنّ إطلاقات البيع إن لم تكن أزيد من إطلاقاتهما لم تكن بأقلّ منها ، مضافا إلى أنّه يرد عليهما من الاشكال ما يرد على إطلاقه.

وإلى : أنّ المحكي عن المصنف قدس‌سره إنكار وجود الإطلاق فيهما.

وإلى : أنّه لا معنى لدعوى الإجماع المركب في المقام مع وجود القول بالفصل ، وهو ذهاب مشهور القدماء إلى الإباحة. وسيأتي بعض ما يناسب المقام في التنبيهات.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٤٤ ، الباب ١١ من كتاب الهبات ، الحديث : ٥.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٣٥ ، الباب ٤ ، من كتاب الهبات الحديث : ٤

(٣) تحف العقول ، ص ٣٣١.

٤١٩

مع (١) أنّ ما ذكر ـ من أنّ للفقيه التزام حدوث الملك عند التصرف المتوقف عليه ـ

______________________________________________________

بزيادة ، هل له الخيار في ذلك؟ وهل يجوز له أن يفسخ ما وافق عليه الأوّل أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : يجب عليه الوفاء للأوّل ما لم يعرض لابنه مرض أو ضعف» (١) فإنّ الدفع والتسليم ظاهران في إنشاء عقد الإجارة بهما ، لا كونهما وفاء بإنشاء الإجارة بالصيغة سابقا على الدفع. ولا أقلّ من الإطلاق المستند إلى ترك الاستفصال ، فإنّه عليه الصلاة والسّلام لم يسأل هل أنشئت الإجارة باللفظ أم لا؟ وإنّما حكم بوجوب الوفاء للأوّل مطلقا ، سواء كان إنشاؤها باللفظ أم بالفعل.

فان قلت : هذا الإطلاق محكّم في آية حل البيع أيضا ، لشمول العنوان للمعاملة الفعلية والقولية على حدّ سواء ، لصدق البيع العرفي على المعاطاة قطعا ، ومعه لا حاجة الى تطويل الطريق بالتمسك بإطلاق الهبة والإجارة أوّلا وإثبات عدم الفصل بين البيع وبينهما ثانيا. فنفس إطلاق البيع على المعاطاة كاف في ترتيب آثاره عليها.

قلت : إطلاق الآية المباركة وإن كان ثابتا بدوا ، إلّا أنّ تشتت الأقوال في المعاطاة وإجماع السيد ابن زهرة على نفي بيعيتها أوجبا ضعف الإطلاق وقوّة اختصاص البيع ـ المفيد للملك اللازم ـ باللفظي ، وعدم شموله للمعاطاة ، ولأجله تصدّى المصنف قدس‌سره للتمسك بالإجماع المركب.

(١) غرضه تصحيح الاستدلال بآيتي الحلّ والتجارة ـ بالملازمة الشرعية بين الحلية التكليفية والملك من أوّل الأمر ـ وإبطال ما نوقش فيه بقوله : «اللهم إلّا أن يقال : إنّهما لا تدلّان على الملك ، وإنّما تدلّان على إباحة جميع التصرفات .. غاية الأمر : أنّه لا بد من التزامهم بأن التصرف المتوقف على الملك يكشف عن سبق الملك عليه آنا ما .. إلخ».

وحاصل وجه الإبطال ـ الكاشف عن صحة الاستدلال بالآيتين ـ هو : أنّ الالتزام بالملك آنا ما قبل التصرف ممّا لا يليق بالمتفقّه فضلا عن الفقيه ، فهو فاسد ، ولا يمنع عن الاستدلال بالآيتين على الملكية من أوّل الأمر. فالاستدلال بهما على مملكية المعاطاة كالبيع

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٢٥٤ ، الباب ١٥ من أحكام الإجارة ، الحديث : ١.

٤٢٠