هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

كالثمرة على الشجرة (١).

______________________________________________________

(١) مقصوده قدس‌سره أنّ الإجارة تطلق مسامحة على نقل الثمرة حال كونها على الشجرة ، مع أنّ الثمرة عين ، فلا بد من نقلها بالبيع لا بالإجارة ، فإنّ مقتضى المقابلة للبيع هو إرادة إطلاق لفظ الإجارة على نقل العين ، كإطلاق لفظ البيع على نقل المنفعة في روايات بيع خدمة العبد المدبّر وبيع سكنى الدار المجهول مالكها وبيع الأرض الخراجية. وليس المقصود من استعمال الإجارة في تمليك العين إجارة الشجرة للانتفاع بثمرتها أو إجارة الدار للانتفاع بسكناها ، وذلك لوضوح كون المقصود تمليك منفعة الشجرة والدار ، وهذا هو مورد الإجارة.

وكيف كان فقد ورد استعمال الإجارة ـ مسامحة ـ في تمليك العين في معتبرة عبيد الله الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «تقبّل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة ، وإن شئت أكثر. وإن لم يتبيّن لك ثمرها فلا تستأجر» (١). والشاهد إنّما هو في استعمال الإجارة في تمليك العين ، إذ المراد بالتقبّل بقرينة الذيل ـ أعني به قوله عليه‌السلام : فلا تستأجر ـ هو الإجارة ، فمحصّل معنى الرواية ـ والله العالم ـ هو : أنّ الثمار إذا ظهر بعضها جاز بيعها سنة أو أزيد. وإن لم تظهر ـ ولو بعضها ـ لم يجز بيعها ، وقد عبّر بالإجارة عن نقل العين مسامحة ، هذا (*).

__________________

(*) وعلى هذا فلا وجه للإشكال على المتن «بعدم العثور على إطلاق الإجارة على نقل الثمرة ، لا في الأخبار ولا في كلمات الفقهاء» (٢) وذلك لكفاية رواية الحلبي لإثبات ما أفاده المصنف من استعمال الإجارة في نقل العين مسامحة.

ثم إنّ للسيّد قدس‌سره كلاما في الحاشية والعروة ينبغي التعرض له ، قال في حاشيته على المتن : «الظاهر أنّ المراد إذا آجر الشجرة لثمرتها قبل وجودها ، لا بعده ، فإنّه لا يصح الإجارة حينئذ ، ولا يطلق عليه أيضا لفظها لو ملكها بعنوان البيع مثلا. وأمّا الأوّل فصحيح ، ولا يضرّ كونه نقلا للعين ، لأنّها تعدّ منفعة للشجر عرفا ، كما في إجارة الحمّام المستلزم لإهراق الماء ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٨ ، الباب ٢ من أبواب بيع الثمار ، الحديث : ٤.

(٢) محاضرات في الفقه الجعفري ، ج ٢ ، ص ١٥.

٤١

.................................................................................................

__________________

وإجارة الشاة للبنها ، وإجارة المرضعة كذلك ، فإنّ الإجارة في جميع ذلك صحيحة» (١).

وقال في إجارة العروة : «يجوز استيجار المرأة للإرضاع ، بل للرضاع بمعنى الانتفاع بلبنها ـ وإن لم يكن منها فعل ـ مدة معيّنة .. إلخ» (٢).

وقال فيها أيضا : «يجوز استيجار الشاة للبنها ، والأشجار للانتفاع بأثمارها ، والآبار للاستقاء ، ونحو ذلك ، ولا يضرّ كون الانتفاع فيها بإتلاف الأعيان ، لأنّ المناط في المنفعة هو العرف ، وعندهم يعدّ اللّبن منفعة للشاة ، والثمر منفعة للشجر ، وهكذا. ولذا قلنا بصحة استئجار المرأة للرضاع وإن لم يكن منها فعل بأن انتفع بلبنها في حال نومها ، أو بوضع الولد في حجرها ، وجعل ثديها في فم الولد من دون مباشرتها لذلك ، فما عن بعض العلماء من إشكال الإجارة في المذكورات ـ لأنّ الانتفاع فيها بإتلاف الأعيان ، وهو خلاف وضع الإجارة ـ لا وجه له» (٣).

أقول : فيما أفاده قدس‌سره مواقع للنظر :

منها : قوله في الحاشية : «الظاهر أن المراد إذا آجر الشجر لثمرتها ..» إذ فيه : أن مراد الشيخ الأعظم ـ كما تقدم في التوضيح ـ هو إطلاق لفظ الإجارة على نقل نفس الثمرة ، لا إطلاقها على الشجرة لملكية ثمرتها كما هو صريح كلام السيد في الحاشية ، فليس هذا بيانا لمقصود الشيخ ، مع أن ظاهره بيان مراده وتوضيح مرامه.

ومنها : قوله : «لأنها تعدّ منفعة .. إلخ» إذ فيه : أن للمنفعة إطلاقين :

أحدهما : ما يتولّد ويتكوّن من شي‌ء ، كاللّبن والثمرة المتولدين من الشاة والشجر ، ونحو ذلك من موارد التولّد.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٥٤.

(٢) العروة الوثقى ، كتاب الإجارة ، الفصل السادس ، المسألة السابعة ، ص ٦١٨ من العروة المحشاة المطبوعة في مجلدين.

(٣) المصدر ، ص ٦٢٠ ، المسألة ١٢ من الفصل السادس.

٤٢

.................................................................................................

__________________

ثانيهما : ما يقابل العين من الحيثية القائمة بها التي تستوفى تارة ولا تستوفى اخرى ، كالسكنى القائمة بالدار ، والاستظلال القائم بالأشجار ، والتنزّه القائم بالبستان ، ونحو ذلك من الحيثيات القائمة بالأعيان.

ولا ينبغي الإشكال في تعلق الإجارة بالمنفعة بهذا المعنى ، وإلّا لكانت جلّ الأعيان ـ بل كلّها ـ منافع ، وجازت إجارة الحيوانات لتملّك نتاجها ، والجارية لتملك ولدها ، ضرورة كونها منافع لامّهاتها ، لتولدها منها ، فإنّ الولد واللّبن والثمرة والسّخال ونحوها ـ ممّا يتكوّن من الأعيان ـ أعيان في أنفسها ومنافع لغيرها ، فالبيع الذي هو تمليك الأعيان يوجب نقلها ، والإجارة التي هي تمليك المنافع توجب نقل الحيثيات القائمة بها ، فكما لا يصح تمليك الدار والدكان بلفظ الإجارة فكذلك لا يصح تمليك الثمرة واللّبن ونحوهما ممّا يتكوّن من الأعيان بلفظ الإجارة.

ومنها : قوله : «كما في إجارة الحمّام المستلزم لإهراق الماء» إذ فيه : أن ظاهره كون الماء منفعة للحمّام ، كاللّبن والثمرة اللّذين هما منفعتا الشاة والشجرة. وهو كما ترى ، لعدم صدق المنفعة ـ بشي‌ء من معنييها المتقدمين ـ على الماء. أمّا معناها الأوّل فواضح ، لعدم تكوّن الماء من الحمّام ليكون كاللّبن المتكوّن من الشاة.

وأمّا معناها الثاني فلعدم كون الماء عرضا قائما بالحمّام وحيثيّة عارضة له ، كسائر منافع الأعيان التي هي أعراض قائمة بمعروضاتها. بل الماء جوهر قائم بنفسه ، وليس عرضا متقوما بغيره ، فلا يعدّ منفعة للحمّام ، فجعل ماء الحمّام كلبن الشاة وثمر الشجرة في غير محله ، لصدق المنفعة بمعناها الأوّل عليهما ، بخلاف ماء الحمّام ، فإنّه لا يصدق عليه المنفعة بشي‌ء من معنييها ، هذا.

ومنها : قوله : «فإنّ الإجارة في جميع ذلك صحيحة» إذ فيه : أن ظاهره التسالم أو الشهرة على صحة الإجارة في الجميع ، مع عدم كونه كذلك ، إذ المشهور ـ كما قيل ـ المنع عن إجارة الشاة للبنها. وفي إجارة الشجرة للثمرة قيل بعدم الخلاف في فسادها. وفي استيجار البئر

٤٣

.................................................................................................

__________________

للاستقاء قد حكي أن العلامة في القواعد وموضع من التذكرة ، والمحقق الثاني في جامع المقاصد اختارا المنع.

ومنها : قوله : «بل للرضاع بمعنى الانتفاع بلبنها وإن لم يكن منها فعل ..» إذ فيه : أنّ الانتفاع تارة يكون بنحو الارتضاع ، فتصير المرأة كالدار وغيرها من الأعيان ذوات المنافع ، في مقابل الإرضاع ، الذي تكون الإجارة له كإجارة العامل للعمل. واخرى لا يكون بنحو الارتضاع ، بأن يحلب في إناء ليشربه الطفل ، كحلب لبن البقر والشاة في إناء ليشرب. والإجارة صحيحة في الأولى دون الثانية ، لكون اللّبن بعد الحلب كالخبز وغيره من الأعيان التي لا يجوز استيجارها ، لتلفها بالانتفاع بها ، فلا يجوز إجارة الخبز للأكل ، واللبن للشرب ، والحطب والشمع للإشعال.

وعليه فلا بد من تقييد الانتفاع باللبن بأن يكون بنحو الارتضاع كما هو الحال في التقام الطفل ثدي المرأة وامتصاصه ، الذي هو استيفاء لمنفعة المرأة مع بقاء عينها ، كاستيفاء سكنى الدار مع بقائها على حالها. فمجرد إطلاق الانتفاع باللبن لا يصحّح الإجارة ، لصدق التبعية للعين على اللبن ما دام في الثدي وكونه منفعة لها ، وعدم صدقها على اللبن المحلوب في الإناء ، وكذا على الثمرة المقتطفة من الشجرة ، مع أنّ الإجارة تتعلق بالعين ذات المنفعة ، ولا بدّ من بقاء العين التي تعلقت الإجارة بها ، وعدم تلفها بالاستيفاء.

ولعلّ ما عن جامع المقاصد ـ من تعليل بطلان الإجارة للرضاع «بأنّ الإجارة مشروعة لنقل المنافع لا الأعيان ، واللّبن من الثانية» بل قيل : انّه يظهر من محكي التذكرة : «الإجماع على الفساد فيه ، وأنّه يتم على قول المخالفين من أنّ الإجارة قد تكون لنقل الأعيان» ـ ناظر إلى اللبن المنفصل عنها بالحلب في إناء ثم شرب الطفل منه ، لا إلى صورة امتصاص المرتضع ثدي المرضعة ، لصدق تبعية اللبن للمرأة ، فلا مانع من استئجار المرأة لذلك ، لأنّها حينئذ بمنزلة الدار ونحوها من الأعيان ذوات المنافع ، ولذا يكون الارتضاع مغايرا حكما لشرب لبن المرأة من الإناء ، لانتشار الحرمة بالأوّل دون الثاني. ولو كانت الشاة كذلك جاز استيجارها للانتفاع بها

٤٤

.................................................................................................

__________________

بامتصاص ثديها.

وبالجملة : الانتفاع بالعين المستأجرة إن لم يكن متلفا لنفس تلك العين جاز الاستيجار له وإن استلزم الانتفاع بها إتلاف عين اخرى ، كالاستيجار على الخياطة المنوطة بإتلاف الخيط ، والاستيجار على إيجاد السّرير أو الباب أو غيرهما ممّا يتوقف العمل على إتلاف عين من الخشب والمسمار ، ونحو ذلك.

تحقيق اختصاص المبيع بالأعيان

م إن تحقيق ما في المتن من اختصاص المعوّض بالعين يستدعي بسط الكلام في مقامين ، أحدهما : في أصل اعتبار عينية المبيع ، وثانيهما في عدم الفرق بين الأعيان الشخصية والكلّية.

أمّا المقام الأوّل ، فمحصّله : أنّه لا ريب في اعتبار عينية المبيع عند المشهور ، كما يشهد به تعريفهم للبيع بنقل العين ونحوه ، بل لا يبعد دعوى تسالمهم عليه. والظاهر تقوّم صدقه العرفي بذلك ، بمعنى عدم إطلاق «البيع» على تمليك غير العين إلّا بالعناية والمسامحة ، فيكون أخذها في التعريف ناظرا الى دخلها في المفهوم العرفي الموضوع لأحكام خاصة ، لا للتعبد الشرعي ، خصوصا مع ما تقدم عن ابن الأثير من عدم إطلاق المال على غير الأعيان المتمولة.

لكن أنكر المحقق الايرواني قدس‌سره ذلك ، وادّعى القطع بصدق البيع على إبدال المنافع وغيرها ، وأنّ معناه نقل متعلق السلطان عينا كان أو منفعة أو حقّا ، ولأجله جاز للإنسان أن يبيع نفسه لولا التعبد الشرعي على المنع ، وأن يبيع منفعته وعمله ، كما جاز أن يشتري نفسه إذا كان مملوكا للغير (١).

وتظهر ثمرة النزاع في إنشاء تمليك المنافع بعنوان البيع ، كأن يقول : «بعتك سكنى الدار بكذا» فبناء على المشهور لا ينعقد بيعا ، ولا تجري فيه أحكامه المختصة به كخيار المجلس.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٧٤.

٤٥

.................................................................................................

__________________

وصحته بعنوان الإجارة منوطة بدلالة البيع على نقل المنفعة ، وعلى جواز إنشاء العقود اللازمة بالكناية والمجاز كما سيأتي تفصيله في بحث ألفاظ العقود إن شاء الله تعالى. وبناء على مختار المحقق الايرواني قدس‌سره يصح الإنشاء المزبور بعنوان البيع ، لصدق «نقل متعلق السلطان بعوض» عليه.

ولمّا كان «البيع» موضوعا لأحكام خاصة تعيّن تحديده وتمييزه عن سائر العناوين المعاملية ، فنقول وبه نستعين :

قد استدلّ للمشهور بالتبادر عند أهل اللسان ، وصحة سلب العنوان عن تمليك ما عدا الأعيان ، بضميمة أصالة عدم النقل عن معناه العرفي. وممّا اشتهر بين الفقهاء جعل الفارق بين البيع والإجارة كون الأوّل تمليك الأعيان ، والثاني تمليك المنافع.

ويمكن استظهار هذا المعنى من كلماتهم في بابي البيع والإجارة ، أمّا في البيع فلما تقدّم في التوضيح من تعريفه بنقل العين أو بانتقالها أو بالعقد الدال على النقل أو على الانتقال ، مضافا إلى تصريح بعضهم كالعلّامة بعدم انعقاده على المنافع. واشتهار المعنى بين الأصحاب من عصر شيخ الطائفة إلى المتأخرين كاف لإثبات معناه العرفي ، ولا يقلّ عن أخبار اللغوي بما استعمل فيه اللفظ. ولعلّه لهذا نفى صاحب الجواهر قدس‌سره الخلاف في المسألة ، بل ادّعى الإجماع صريحا الشيخ الفقيه كاشف الغطاء في شرحه على القواعد معلّقا على قول العلامة «فلا ينعقد على المنافع» بما لفظه : «للأصل ، مع القطع بعدم صدق الاسم ، لما مرّ ، أو الشك فيه ، وللإجماع».

وأما في الإجارة فيكفي تصريح العلامة بذلك ، حيث قال : «الإجارة عقد يتعلق بنقل المنافع ، وليست بيعا عندنا. وقال الشافعي وأحمد : الإجارة نوع من البيع ، لأنّها تمليك من كل واحد منهما لصاحبه .. وهو غلط ، لأنّ البيع مختص بنقل الأعيان. إذا ثبت هذا فلو قال في الإيجاب : بعتك منفعة هذه الدار شهرا بكذا ، لم يصح عندنا ، لما بيّنّا من اختصاص لفظ البيع

٤٦

.................................................................................................

__________________

بنقل الأعيان» (١). وكلمة «عندنا» لا تخلو من ظهور في الإجماع بل هي من ألفاظه. ولا وجه للخدشة فيه بأنه إجماع منقول لا يعتمد عليه ، إذ المقصود استكشاف معنى اللفظ عند أهل اللسان ، ومثله يثبت بدعوى الاتفاق على مدلول اللفظ.

فإن قلت : لم يثبت الاتفاق على اختصاص البيع بتمليك الأعيان ، بل ثبت الخلاف فيه كما يظهر من كلام بعضهم في البيع والإجارة. أما في البيع فقد عرّفه المحقّق في الشرائع بأنه «العقد الدال على نقل الملك» (٢) وتبعه في ذلك جماعة من أساطين الفقه كالمحقق الثاني والشهيد والفاضل السبزواري ، والفاضل النراقي (٣). وحيث إنّ الملك أعم من العين ، فدعوى اختصاصه بالعين كما ترى.

وأما في كتاب الإجارة فقد تردّد المحقق في إنشاء الإجارة بلفظ البيع ولم يحكم ببطلانه ، قال : «ولو قال : بعتك هذه الدار ونوى الإجارة لم يصح ، وكذا لو قال بعتك سكناها ، لاختصاص لفظ البيع بنقل الأعيان. وفيه تردد» (٤). كما تردّد الشهيد أيضا في المسألة ، ومعه لا سبيل لاستكشاف مدلول اللفظ بالاتفاق ، بعد وقوع الخلاف فيه بين الفقهاء.

قلت : كلمات هؤلاء الأجلّة ـ في الموضعين ـ غير قادحة في دعوى الإجماع على اختصاص البيع بتمليك الأعيان ، وإطلاقه على نقل المنافع مجازا. أمّا تعريف البيع بنقل الملك فلا يدلّ على صدق البيع على تمليك المنفعة حقيقة ، لكون مرادهم بالملك العين لا ما يعمّ المنفعة ، فالمحقق عرّف البيع في المختصر النافع «بالعقد الناقل للعين المملوكة» (٥) ،

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٢٩١.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٧.

(٣) لاحظ جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٥ ، الروضة البهية في شرح اللمعة ، ج ٣ ، ص ٢٢١ ؛ كفاية الأحكام ، ص ٨٨ ، مستند الشيعة ، ج ٢ ، ص ٣٦٠.

(٤) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ؛ الروضة البهية في شرح اللمعة ، ج ٤ ، ص ٣٢٨.

(٥) المختصر النافع ، ص ١١٨.

٤٧

.................................................................................................

__________________

والمحقق الثاني صرّح بمجازية البيع في تمليك المنفعة (١) كما سيأتي نقل كلامه. والشهيد عرّفه في الدروس بأنه «نقل العين» (٢) ، وصرّح في رهنه أيضا «ببطلان رهن المنفعة ، لعدم إمكان بيعها» (٣). والفاضل النراقي اعتبر في شرائط العوضين «أن يكونا عينين ، فلو كانا منفعة كسكنى الدار مدّة لم ينعقد للإجماع» (٤).

ولأجل تسالمهم على الاختصاص وعدم كون المسألة خلافيّة أورد الشهيد الثاني في المسالك على تعريف المحقق بما لفظه : «أن الملك يشمل الأعيان والمنافع ، فينتقض في طرده أيضا بالإجارة ، فإنّ عقدها أيضا لفظ دالّ على نقل الملك ـ وهو المنفعة ـ بعوض معلوم» (٥) وبمثله أورد في الروضة على تعريف الشهيد في اللمعة.

وعليه فما ذكروه في تعريف البيع بنقل الملك لا ينافي تسالمهم على اعتبار عينية المبيع.

وأمّا ما ذكروه في الإجارة من التردد في بطلان إنشائها ببيع السكنى فلا يصادم الاختصاص المزبور ، وذلك لعدم كون منشأ التردد احتمال إطلاق البيع على نقل الملك عينا أو منفعة ، بل منشؤه الاختلاف في اعتبار الصراحة والظهور الوضعي في ألفاظ العقود مطلقا أو خصوص اللازمة منها ، وعدم تحققها بالمجاز والكناية والمشترك. ويشهد له بيان الشهيد الثاني في المنع عن إنشاء الإجارة بلفظ العارية ، حيث قال : «ولا يخفى أنّ التجوز بمثل ذلك خروج عن مقتضى العقود اللازمة» (٦).

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٨٣.

(٢) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١.

(٣) المصدر ، ص ٣٨٧.

(٤) مستند الشيعة ، ج ٢ ، ص ٣٧١.

(٥) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٤٦.

(٦) مسالك الأفهام ، ج ٥ ، ص ١٧٣.

٤٨

.................................................................................................

__________________

وقال في الجواهر في جواز إنشاء البيع بلفظ السّلم : «قولان أشبههما العدم ، لأنه مجاز في مطلق البيع ، والعقود اللازمة لا تنعقد بالمجازات كما صرّحوا به» (١). وقال المحقق الثاني : «وإذا قال : بعتك سكناها سنة فقد تجوّز في السّنة ، فإنّ السكنى لا يقع عليها البيع إلّا مجازا» (٢).

والحاصل : أنّ اختصاص البيع عندهم بنقل الأعيان ومجازيّته في نقل المنافع من الواضحات ، ومقصودهم بيان المتفاهم العرفي بما أنّهم من أهل اللسان ، ولذا استند بعضهم إلى التبادر ، وعليه فلا وجه لإشكال بعض الأعاظم على الاستناد إلى كلمات الأصحاب «بأن غرضهم بيان موضوع الأثر شرعا ، مع أنّ الكلام في تحديد المعنى عرفا» وذلك لأنّ الاستشهاد بكلماتهم ناظر إلى كونهم من أهل اللسان ، لا إلى كونهم فقهاء حتى يكونوا بصدد بيان المعنى الشرعي ، بل صرّح بعضهم بأن المعرّف هو المعنى العرفي لكونه المتبادر من اللفظ عند الإطلاق. واحتمال استناده إلى القرائن لا إلى حاقّ اللفظ مندفع بأن الحجة على الوضع عندهم أحد أمرين ، تنصيص الواضع ، وانسباق المعنى الى الذهن عند سماع اللفظ مجرّدا عن القرينة (٣).

وقد تحصّل مما ذكرناه : أن مستند الفقهاء في أخذ العين في البيع هو التبادر عند أهل اللسان ، وليس الغرض تحديد ما هو موضوع الأثر شرعا ، بل تحديد معناه العرفي. هذا ما يتعلق بالقول المشهور.

وأمّا القول الثاني ـ وهو عدم اعتبار عينية المبيع ـ كما اختاره المحقق الايرواني وغيره فيستدلّ له بإطلاق البيع في الاستعمالات الفصيحة على غير نقل الأعيان بلا قرينة ، كما في مثل قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) (٤). فإنّ المقابلة بين البيع والشراء تقتضي كون المبيع هي الهداية التي ليست من سنخ الأعيان والمنافع التي يبذل بإزائها المال.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٤٨.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ٨٣.

(٣) معارج الأصول ، ص ٥٠ للمحقق الحلي.

(٤) البقرة ، الآية : ١٦.

٤٩

.................................................................................................

__________________

وقوله تعالى (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١).

وقوله تعالى (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) (٢) وغير ذلك من الآيات التي أطلق فيها البيع والشراء على غير نقل العين ، على حدّ إطلاقهما عليها في قوله تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) (٣).

وتقدمت روايات بيع خدمة العبد المدبّر وسكنى الدار ونحوهما من إطلاق البيع على نقل المنفعة والحق بلا عناية. كما تعارف في هذه الأزمنة إطلاق البيع على نقل بعض الحقوق كالسرقفلية ، وغيرها. ولا ريب في أن كثرة موارد الاستعمال ـ المجرّدة عن قرينة المجاز ـ كاشفة عن أعمية الموضوع له ، أو المتفاهم من اللفظ ، وأنّ البيع بمعنى نقل خصوص العين صنف خاص من طبيعي النقل المستفاد من إطلاقاته في الكتاب والسنة والمحاورات العرفية.

ولعلّه لهذا ذهب المحقق الأصفهاني قدس‌سره إلى أنّ البيع العرفي بمعنى نقل العين صنف من مفهومه العام ، حيث قال في التسبب إلى حقيقة الإجارة بالإعارة والبيع ما لفظه : «فإنّ أخبار بيع خدمة المدبّر والإطلاقات الشائعة القرآنية وغيرها من دون عناية أصدق شاهد على أنّ مفهوم البيع عرفا غير مقصور على تمليك العين بعوض ، وإن كان البيع المقابل للإجارة المحكوم بأحكام خاصّة صنفا مخصوصا من طبيعي معناه اللغوي والعرفي» (٤).

لكنك خبير بأنّ مجرّد شيوع استعمال البيع في غير نقل الأعيان لا يكشف عن أعمية الموضوع له بعد ما عرفت من تبادر صنف خاص الى الذهن ، وهو من أمارات الوضع. ويؤيّده تصريح مثل المحقق الثاني بمجازية البيع في تمليك المنفعة.

وعليه فالوضع للأعم أو وضعه تارة للصنف واخرى لطبيعي النقل منوط بقيام إحدى

__________________

(١) البقرة ، الآية : ٩٦.

(٢) المائدة ، الآية : ٤٨.

(٣) يوسف ، الآية : ٢٠.

(٤) كتاب الإجارة ، ص ٨.

٥٠

.................................................................................................

__________________

أماراته عليه ، ولا يكفي نفس الاستعمال ، لما تقرّر من كون أصالة الحقيقة من الأصول المرادية التي يعوّل عليها عند الشك في مراد المتكلم بعد إحراز الحقيقة والمجاز.

وما نسبه المحقّق الأصفهاني إلى اللغة والعرف محل تأمل ، إذ لم أقف على معنى آخر في اللغة أعم من «مبادلة مال بمال» وظهوره في حصر المعنى فيه لا كونه صنفا من معناه العام ممّا لا ينكر. وكذا في العرف كما تقدم.

مع أنّ لازم وضع البيع لطبيعي التبديل لغة وعرفا إجمال الأدلة المتكفلة لأحكام البيع كآية حلّ البيع ودليل خيار المجلس ونحوهما ، لعدم إحراز الموضوع. حيث لا قرينة معيّنة على موضوعية الصنف أو الطبيعي.

ودعوى حمل البيع المقابل للإجارة على نقل العين غير ظاهرة ، لفرض تردّد الموضوع في مثل «البيعان بالخيار» بين كون المعوّض عينا وما يعمّ المنفعة ، لفرض صدق البيع على بيع سكنى الدار حقيقة ، ويلزمه إجراء أحكامه عليه ، ولا أقلّ من كون الشبهة مفهومية ، مع تسالمهم على مرجعية تلك الأدلة بلا فحص عن قرينة تعيّن المراد من البيع ، وهذا كاف في استقرار ظهور اللفظ عندهم في ما كان المعوّض عينا.

والحاصل : أنّ ما ذهب إليه المشهور من اختصاص البيع بتمليك الأعيان ونقلها هو المتيقن من مفهومه العرفي.

ولو شكّ في شموله لنقل المنافع امتنع التمسك بالإطلاقات لتصحيحه ، للشك في الموضوع حسب الفرض ، كما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره (١). ومجرد «صدق العقد العرفي على إنشاء نقل المنفعة بعنوان البيع فيحكم بصحته للأمر بالوفاء بالعقود وتنفيذها» لا يقتضي ترتيب الأحكام المختصة بالبيع عليه. بل يشكل ترتيب آثار الإجارة عليه أيضا ، إلّا بناء على دلالة البيع ـ ولو بمعونة القرينة ـ على تمليك المنفعة ، وعلى كفاية الإنشاء بالمجازات ، وتحقيقه موكول الى بحث ألفاظ العقود.

__________________

(١) المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ٨٨.

٥١

.................................................................................................

__________________

هذه جملة من الكلام في المقام الأوّل وهو أصل اعتبار العينية في المبيع.

لا فرق في المبيع بين الأعيان الشخصيّة والكلية بأقسامها

وأما المقام الثاني ـ وهو عدم الفرق في العين بين الشخصية والكلية بأقسامها ـ فنخبة الكلام فيه : أنّ الظاهر عدم اختصاص المبيع بالعين الشخصية ، فتعمّ الكلّية بأقسامها من المشاع والمعيّن والدين والذّمي ، لصدق العين المقابل للمنفعة والحق على جميع ذلك ، وادّعى السيد الطباطبائي قدس‌سره «الإجماع على الصحة» (١).

وربما يشكل انطباق مفهوم البيع على الكلّي الذمي ، ومنشأ الاشكال أمران ، أحدهما : انتفاء الملكية ، وهو مشترك بين قسمي الذمي من الدين والحال ، وثانيهما : انتفاء المالية ، وهو مختص ببيع الكلي في ذمة نفسه من دون أن يكون دينا على غيره.

وتقريب الاشكال المشترك هو : انتفاء الملكية مع أن البيع تمليك عين بعوض ، وبيانه : أنّ الملكية تكون من قبيل الأعراض التي لا تتحقق في دار الوجود إلّا في موضوع محقّق ، نظير السواد والبياض اللّذين يكون وجودهما المحمولي وجودا نعتيّا لمعروض فعلي. وحيث إنّ الكلّي الذّمي معدوم امتنع اتصافه بالمملوكية ، ومن المعلوم عدم صدق البيع بانتفاء الملكية التي تقع المبادلة فيها. ولا فرق في هذه الجهة بين الدين وغيره ، لأنّ مناط الإشكال امتناع قيام الملكية بالمعدوم ، نعم بيع الكلي المشاع والمعيّن سليم عن هذا المحذور ، لكون معروض الملكية موجودا بالفعل.

وتقريب الإشكال الثاني ـ المختص بالكلي الذمي غير الدين ـ هو : أنّ البيع مبادلة مال بمال ، وظاهره اعتبار مالية العوضين مع الغضّ عن تعلق العقد بهما ، ومن المعلوم أنّ الكلّي الذمي لا يعدّ مالا قبل البيع ، فلا يقال لمن ليس له حنطة : انه ذو مال بالنسبة إلى ألف منّ منها ، نعم بعد تمليك كلّي الحنطة للغير يكون المشتري ذا مال في ذمة البائع ، لكن المناط في صدق البيع

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٥٣.

٥٢

.................................................................................................

__________________

كون كلّ من العوضين في حد نفسه مالا.

هكذا قرّر السيد قدس‌سره الإشكالين ، وجعل مصبّهما الكلّي الذّمي دينا أو غيره ، ثم أجاب عنهما بما سيأتي.

لكن الظاهر أنّ إشكال ملكية المعدوم جار في القسمين الآخرين أعني بهما : المشاع والمعيّن. أمّا في المشاع كبيع نصف الدار فلما قيل من أنّ الوجود مساوق للتعين ، ولا تعيّن للكسر المشاع قبل الإفراز ، إذ الموجود هو الدار ، والنصف بعد التقسيم موجود مستقل لا يصدق عليه النصف. فصحّ أن يقال : الكسر المشاع معدوم فلا ملك حينئذ.

وأمّا في الكلي في المعيّن كصاع من صبرة فكذلك ، فإنّ الشي‌ء ما لم يوجد لم يتشخص ، فالوجود مساوق للتشخص ، والصّاع بوصف كليته الصادق على كل واحد من صيعان الصبرة غير موجود بالفعل ، لأنّ الموجود أبعاض الصبرة وآحادها ، والواحد الشخصي غير قابل الصدق على الكثير ، مع أنّ المبيع حسب الفرض هو الصاع بوصف قابلية الانطباق على كل واحد من الصيعان ، وليس صاعا شخصيا ، ولذا لا يملكه المشتري قبل التقسيم والإفراز.

والحاصل : أن محذور بيع الكلّي الذمي ـ أعني به انتفاء معروض الملكية ـ جار في المشاع والمعيّن ، وإن كان الفارق تقيّد المبيع بصنف من الطبيعي وهو المحصور في الدار والصبرة ، وعدم تقيد الذمي به ، لكن هذا المقدار من الفرق غير رافع للإشكال. والغرض الإشارة إلى عموم المحذور ، وتحقيقه موكول إلى مسألة بيع نصف الدار وبيع الصاع.

وكيف كان فيندفع إشكال عدم كون الكلّي الذّمي مملوكا بأنّ الملكية تطلق تارة على الملكية الحقيقية التي يراد بها الإحاطة القيومية المعبّر عنها بالإضافة الإشراقية التي هي إفاضة الوجود على الممكنات ، وهذه الإحاطة نظير إحاطة النفس بالصور المخلوقة لها. والملكية بهذا المعنى ليست من المقولات ، بل هي عين الإيجاد.

٥٣

.................................................................................................

__________________

واخرى على الملكية المقولية المعبّر عنها بالجدة ، التي هي هيئة حاصلة من إحاطة جسم بجسم ، كإحاطة العمامة بالرأس ، والقميص بالبدن ، والملكية بهذا المعنى عرض مقولي يتوقف على محيط ومحاط خارجيّين.

وثالثة على الملكية الاعتبارية ، وهي الإضافة الخاصة بين شيئين لوحظ فيها تبعية أحدهما للآخر ، كما في قولنا : «الدار لزيد» فإنّ اللّام تحكي عن كون الدار مضافة بالإضافة الملكية التي روعي فيها حيثية التابعية والمتبوعية ، فلو كان طرفا هذه الإضافة من سنخ واحد كما إذا كانا جمادين غير صالحين لمتبوعية أحدهما للآخر امتنع اعتبار الملكية ، لأنّ جعل أحدهما تابعا للآخر ترجيح بلا مرجّح وخال عن المقتضي.

وعليه فالملكية الاعتبارية ـ التي هي مدار المعاملات ـ ليست من الأعراض المقولية المنوطة بوجود موضوعاتها خارجا ، فلا تتوقف على وجود معروضها كذلك ، بل يكفي في اعتبارها وجود محلها اعتبارا بلحاظ ترقّب حصوله ، فيكون كل من الملكية والمملوك ـ بل وكذا المالك في بعض الموارد ككلّي السيد والفقير ـ أمرا اعتباريا ، ومن المعلوم أنّ العقلاء يعتبرون الملكية للكلّي الذمي ـ بقسميه ـ خصوصا الدين ، كما يعتبرونها للثمرة المتجددة فيما بعد ، وللمنفعة المعدومة ، وللأعيان الشخصية الموجودة بالفعل.

والحاصل : أنّ الملكية الاعتبارية تابعة لاعتبار العقلاء والشارع ، سواء أكان المملوك فعليّا أم مما يتوقع وجوده ، ويكفى شاهدا عليه تعارف بيع السلف عندهم بعد إحراز أهلية المتعهّد ، فالبائع مالك لألف منّ من الحنطة في ذمة نفسه وإن لم تكن موجودة بالفعل.

ودعوى : أن الملكية الاعتبارية محقّقة في بيع دين على ذمة الغير ، وأما «بيع السلم ونحوه فيشكل ، إذ لا مملوك لا خارجا ولا في الذمة. أما انتفاؤه في الخارج فواضح ، وأمّا في الذمة فلأنّه لا ملك قبل العقد حسب الفرض ، فإن لم يعتبر مالكية نفسه للمبيع لم يكن بيعا ، وإن اعتبرها بنفس إنشائه لزم إيجاد موضوع المبادلة بمحمولها المتأخر عنه ، ومن المعلوم استحالة إيجاد المتقدم بالرتبة بما هو متأخر عنه كذلك» غير مسموعة ، لكفاية اعتبار مالكية المبيع آنا ما

٥٤

.................................................................................................

__________________

قبل الإنشاء كما التزموا بها في موارد كالمعاطاة بناء على الإباحة ، وشراء العمودين ونحوهما ممّن ينعتق عليه بمجرد الشراء قهرا.

وما أفاده بعض الأجلة قدس‌سره من تصحيح بيع الكلي الذمي «بالملكية الرّتبية ، نظير فسخ ذي الخيار» (١) فإن كان مراده بالرتبة الملكية الزمانية الآنيّة ـ حيث لا اعتبار للملكية في غير وعاء الزمان ـ فهو متين ، ولعلّ تنظيره بعود المال الى ملك ذي الخيار بمجرد فسخه الفعلي شاهد على إرادة الملكية الآنيّة. وإن كان مراده بالرتبة ما يصطلح عليها في باب العلة والمعلول ، مع وحدة وجودهما زمانا بمقتضى تكافؤ المتضايفين فغير ظاهر ، إذ لا علّيّة بين اعتبار ملكية الكلي وبين إنشاء البيع عليه.

هذا كلّه في حلّ الاشكال عن بيع الكلي الذمي من جهة اعتبار ملكية المبيع.

وأما الإشكال الثاني ـ وهو انتفاء المالية المعتبرة في البيع ـ فقد أجاب عنه السيد قدس‌سره بما لفظه : «ان المعتبر في البيع بل سائر التمليكات ليس إلّا كون المتعلق ممّا يتموّل في حدّ نفسه وإن لم يعدّ كونه مالا عرفيّا للمملّك ، ومن المعلوم أن ألف منّ من الحنطة مال بهذا المعنى» (٢).

وببيان المحقق الأصفهاني قدس‌سره : ان المالية صفة ثبوتية تنتزع من الشي‌ء بملاحظة كونه في حد ذاته مما يميل إليه النوع ، كالمنّ من الحنطة ، فإنّه ليس في حدّ نفسه كالمنّ من التراب. إلّا أنّ المالية كالملكية صفة اعتبارية ، وليست كالأعراض المقولية المنوطة بوجود معروضاتها خارجا ، فمنشأ الانتزاع موجود خارجا تارة ، واعتبارا أخرى. والمال بهذا المعنى صادق على الكليات الذمية بلحاظ توقّع وجودها ، ولذا يتنافس العقلاء على شرائها سلما (٣).

__________________

(١) جامع المدارك ، ج ٣ ، ص ٦٩.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٥٤.

(٣) حاشية المكاسب ، ص ٣.

٥٥

.................................................................................................

__________________

ولو قيل بأنّ عدم مالية الكلي الذمي ينشأ من تقيده بالذمة المانع عن قابلية وجوده خارجا ، ومثله يمتنع اتصافه بالمالية ، قلنا : انّ العهدة ظرف للكلي لا قيده حتى يمتنع وجوده العيني ، ومن المعلوم عدم اقتضاء الظرفية المنع عن قابلية الانطباق على ما في الخارج ، والمالية تتوقف على هذه القابلية كما لا يخفى.

وقد تحصّل اندفاع إشكال بيع الكلي من ناحيتي الملكية والمالية معا ، هذا. مضافا الى الإجماع المدّعى في كلام صاحب العروة قدس‌سره.

وقد أجيب عن إشكال الملكية بوجوه اخرى تعرض السيّد لها ولما فيها ، ونحن نقتصر على بيان وجهين منها :

الأوّل : ما أفاده الفاضل النراقي قدس‌سره في تصوير بيع المعدوم كالسّلم بقوله : «قلت : اللازم في البيع تحقق النقل حال البيع ، لا تحقق الملك حينئذ ، لجواز نقل الملك المتحقق غدا أو بعد شهر اليوم ، كما في نقل المنفعة في الإجارة ، سيّما إذا لم يكن مبدؤها متصلا بالعقد ..» (١).

ومحصله : أنّ محذور بيع الكلي يتوقف على كون البيع نقلا للملك الفعلي ، فيشكل حينئذ بامتناع التمليك مع انتفاء المملوك. ولكن البيع نقل الملك ، ولا مانع من فعلية النقل واستقبالية المملوك ، لعدم كون النقل عرضا حتى تتوقف فعليته على فعلية معروضه وهو الملك ، هذا.

ولكنك خبير بأنّه لا وجه للتصرف في معنى البيع بجعله نقلا فعليا وإن كان المنقول معدوما حين النقل ، بل يمكن تصحيحه حتى بناء على كون البيع نقلا للملك الفعلي ، وذلك لأنّ الملكية والزوجية ـ كما صرّح به الفاضل النراقي بعد أسطر (٢) ـ من الأحكام الوضعية ، ومن المعلوم أنّها أمور اعتبارية لا ثبوت لها إلّا في أفق الاعتبار بعد تحقق مصحّح الاعتبار عند

__________________

(١) عوائد الأيام ، ص ٣٨.

(٢) المصدر ، ص ٣٩.

٥٦

.................................................................................................

__________________

العقلاء والشرع ، وليست من الأعراض المقولية التابعة لمعروضاتها قوّة وفعلا. ولا ريب في اعتبارهم مملوكية المعدوم بعد تعارف بيع السّلم عندهم ، وهو كاشف عن كفاية فرض الوجود لطرف إضافة الملكية في المعاملة عليه ، وعدم اعتبار وجوده العيني ، وعلى هذا لم يتوقف تصحيح بيع الكلّي على التصرف فيه بما أفاده الفاضل قدس‌سره من كون الملكية حكما وضعيّا دائرا مدار الاعتبار ، وليست عرضا مقوليا حتى يتخيل امتناع قيامها بالمعدوم.

مع أنّ عدوله الى جعل البيع نقلا فعليا ـ وإن كان المنقول استقباليا ـ غير مجد ، أمّا أوّلا : فلأنّ النقل وإن لم يكن عرضا مصطلحا ، إلّا أنّه من المعاني التي لا استقلال لها في التحصّل ، بل لا بد أن يكون بلحاظ مكان أو إضافة ، فإذا لم تكن إضافة الملكية إلى المعدوم معقولة فالنقل بلحاظها غير معقول أيضا ، فكما أنّ الملكية غير فعلية فكذا النقل غير فعلي ، وإنّما هو معلّق على أمر متأخر ، ومن المعلوم مبطلية التعليق إجماعا.

ولو قيل : بأنّ الملكية فعلية ، والموجود بالقوّة هو المملوك ، فنقل الملكية فعليّ ولا ربط له بالتعليق ، قلنا : إنّ الملكية نسبة خاصة بين المالك والمملوك ، ومع انتفاء المملوك حسب الفرض لا يعقل وجود الملكية فعلا ، وهذا كرّ على ما فرّ منه.

هذا ما أفاده السيد (١) والمحقق الأصفهاني (٢) قدس‌سرهما بتوضيح منّا.

وأمّا ثانيا : فللنقض بما في كلام السيد أيضا من : أن لازم كلام الفاضل قدس‌سره بطلان البيع إذا تعذّر بعد ذلك تسليم الكلّي ، أو أمكن ولم يحصل للبائع ، لكونه كاشفا عن أنه باع ما ليس له ، ومن المعلوم أنّه لا يكون باطلا ، بل له خيار تعذر التسليم (٣).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٥٤.

(٢) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٣.

(٣) حاشية المكاسب ، ص ٥٤.

٥٧

.................................................................................................

__________________

إلّا أنّه يمكن ذبّه بتصريح الفاضل بدلالة الأخبار على اشتراط المملوكية حال البيع ، وإنّما يخرج عنه بدليل كما في بيع السّلم وبيع المعدوم مع الضميمة. ومقتضى هذا البيان الالتزام بصحة بيع الكلّي سلما ، وتعذر التسليم لا يستلزم البطلان بل يوجب الخيار.

الوجه الثاني : ما أفاده السيد ، قدس‌سره ومحصله : أنّ الملكية وإن كانت من الأعراض الخارجية ، إلّا أنّ حقيقتها عين اعتبار العقلاء أو الشارع ، فيمكن أن يكون محلّها موجودا في وعاء الاعتبار كالكلي الذمي والمنفعة المعدومة والثمرة المتجددة ، نظير الوجوب والحرمة ، فإنّهما وإن كانا عرضين إلّا أنّهما يتعلقان بكلّي الصلاة والشرب قبل وجودهما في الخارج (١).

أقول : إن كان مراده قدس‌سره من كون الملكية عرضا خارجيا ما اصطلح عليه أهل المعقول ـ أي الماهية التي لو وجدت وجدت في موضوع ـ في قبال الجوهر توجّه عليه ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من امتناع الجمع بين كونها عرضا واعتبارا عقلائيا ، لما بينهما من التقابل ، فالعرض المقولي أمر واقعي ، والاعتبار المقابل للمقولات لا ثبوت له إلّا في أفق الاعتبار ، فعدّها من الأعراض معناه توقف فعليّتها على فعلية معروضها أي المملوك ، كما أنّها إن كانت من الاعتباريات المغايرة سنخا للمقولات كان نفس اعتبارها منشأ لترتيب الآثار عليها. وكان المناسب أن يقتصر السيد قدس‌سره على أن حقيقتها عين اعتبار العقلاء.

وإن كان مراده من العرض معناه اللغوي وهو اللحوق لا العرض المقولي فما أفاده متين ، فالملكية نسبة بين المالك والمملوك ويتصف بها المال ، ومعنى خارجيّتها عدم كونها مجرّد تخيّل كأنياب الأغوال. ولا تنافي حينئذ بين توصيف الملكية بالعرض الخارجي وبالأمر الاعتباري ، هذا.

والإنصاف أن ما ألزمه به المحقق الأصفهاني في محله ، لكونه أخذا بظاهر الكلام.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بالمعوّض.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٥٤.

٥٨

وأمّا العوض (١) فلا إشكال (٢) في جواز

______________________________________________________

الثمن في البيع أعم من العين والمنفعة

(١) قد عرفت اختصاص المعوّض بالعين ، وأمّا العوض فلا يعتبر فيه ذلك ، بل يكفي كونه مالا يرغب فيه ويتنافس عليه ، سواء أكان عينا أم منفعة أم حقّا ، وحيث إنّ صدق البيع على ما إذا كان كلا العوضين عينا من المسلّمات لم يتعرض له المصنف قدس‌سره ، وإنّما عقد الكلام في مقامات ثلاثة ، أحدها : في كفاية كون العوض منفعة ، وثانيها : في حكم عمل الحرّ. وثالثها : في جواز جعل بعض الحقوق عوضا ، وسيأتي تفصيل الكلام فيها عند تعرض المصنف له إن شاء الله تعالى.

أمّا إذا كان العوض عينا فيجري فيه ما تقدّم في المعوّض من الأقسام ، من الشخصية والكليّة بأنواعها.

(٢) من هنا شرع المصنف في بيان المائز بين الثمن والمثمن ، وهو إشارة إلى المورد الأوّل أعني به البحث عن جواز كون الثمن منفعة ، خلافا للوحيد البهبهاني قدس‌سره القائل باعتبار عينية العوضين معا.

ثم إن المنفعة تطلق على معنيين :

الأوّل : ما يقابل العين ، وهي حيثية قائمة بالعين ، سواء أكانت منفعة الأعيان الجامدة كسكنى الدار ، أم منفعة الأعيان الناطقة كالأعمال المحترمة التي يعملها الكسوب ـ حرّا كان أو عبدا ـ كالخياطة والطبابة والنجارة.

الثاني : ما يشمل العين ، فيكون بمعنى الرّبح والفائدة ، فكما يقال : استفاد بتجارته عشرة دنانير مثلا أو ربح فيها ، فكذا يقال : إنه انتفع فيها بعشرة ، ومن المعلوم أنّ المنفعة بهذا المعنى أعمّ من العين الخارجية ومن الحيثية القائمة بالعين.

والمقصود بالمنفعة هنا هو المعنى الأوّل أي ما يقابل العين ، كما لا يخفى.

ثم إنّ المصنّف قدس‌سره حكم بجواز وقوع المنافع ثمنا في البيع سواء أكانت كسكنى الدار أم

٥٩

كونها (١) منفعة ، كما في غير موضع من القواعد (٢) وعن التذكرة (٣) وجامع المقاصد ، ولا يبعد عدم الخلاف فيه (٤).

______________________________________________________

خدمة العبد أم عمل الحرّ ، وفصّل في الأخير بين وقوع معاوضة عليه قبل جعله ثمنا في البيع ، وبين عدم وقوع المعاوضة عليه قبله ، بالجواز في الأوّل والتأمل في الثاني كما سيظهر.

(١) تأنيث الضمير باعتبار الخبر.

(٢) قد ظفرت بتصريح العلامة بجواز كون العوض منفعة في موضعين من القواعد ، أوّلهما بيع السلف ، حيث قال فيه : «ولو كان الثمن خدمة عبد أو سكنى دار مدّة معيّنة صحّ» (١) ومن المعلوم عدم الفرق بين بيع السلف وغيره في الحكم.

وثانيهما : عوض الإجارة ، حيث قال : «وكلّما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون عوضا ، عينا كان أو منفعة ، ماثلث أو خالفت» (٢).

(٣) قال في إجارة التذكرة : «مسألة : كلّما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون عوضا في الإجارة ، لما بينهما من التناسب حتى ظنّا واحدا. فعلى هذا يجوز أن يكون العوض عينا أو منفعة» (٣).

(٤) أي : في جواز كون العوض منفعة ، قال في الجواهر : «وأمّا الثمن فالظاهر من إطلاق الأدلّة والفتاوى وما صرّح به في المصابيح من أنّه مطلق المقابل ، فيدخل فيه الشخصي والكلّي ، والعين والمنفعة ، فيكون البيع بالنسبة إلى ذلك كالإجارة والصلح يقع بكلّ منهما ، ولا فرق بينها من هذه الجهة» (٤).

__________________

(١) قواعد الأحكام ، ص ٥٢.

(٢) قواعد الأحكام ، ص ٨٩.

(٣) تذكرة الفقهاء ، ج ٢ ، ص ٢٩٢ ، ولا حظ كلام المحقق الكركي في جامع المقاصد ، ج ٧ ، ص ١٠٣.

(٤) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٩.

٦٠