هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

فتلخص من جميع ما ذكرنا : صحة الاستدلال بقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) على كون المعاطاة مفيدة للملك ، سواء أريد بالحل التكليفي أم الوضعي.

أمّا على الأوّل فلاستلزام حلّ المعاملة الخاصة البيعية تكليفا لحلّها وضعا ، إمّا للامتنان ، وإمّا لعدم احتياج الحلّ التكليفي المجرّد عن الوضعي إلى البيان ، لوضوحه وعدم توهّم حرمته غاية الأمر أنّ دلالته على الحلّ الوضعي بناء على هذا تكون التزامية لا مطابقية.

وأمّا على الثاني ـ كما هو الأصح ـ فلكون متعلق الحلّ أوّلا وبالذات نفس البيع ، فدلالته على نفوذ البيع ومملّكيته تكون بالمطابقة ، فلا يتوقف الاستدلال بالآية المباركة على تجوز أو تقدير ليكون متعلق الحلّ التصرفات.

ثم إنه قد أورد على المصنف قدس‌سره بوجوه عديدة ، اثنان منها راجعان الى منع دلالة الآية الشريفة التزاما على إفادة البيع للملكيّة ، وواحد منها راجع الى كون المعاطاة بيعا ، وهي :

الأوّل : أن حلية التصرفات تكليفا لا تدلّ على الملكية بالدلالة الالتزامية ، إذ لا ملازمة بينهما لا عقلا ولا شرعا. أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ جواز التصرف في أموال الناس في حال الضرورة والمجاعة مسلّم عندهم ، من غير أن يكون ذلك ملكا للمتصرّف. نعم التصرفات المنوطة بالملك تكشف عن حصوله آنا مّا قبل التصرف جمعا بين الأدلة. فالاستدلال بالآية الشريفة ـ بناء على كون مدلولها المطابقي حلية التصرفات تكليفا ـ على تحقق الملكية من حين التعاطي في غير محلّه ، لعدم الملازمة بين الملكية وإباحة التصرّفات ، هذا.

لكن يمكن دفعه بأنّ المراد التصرفات التي يرتّبها العقلاء على بيوعهم. ومن المعلوم أنّ المتداول بينهم هي التصرفات المالكية ، بمعنى : أنّ العرف يرى استناد تصرفات المشتري في المبيع الى مالكيّته له ، لا إلى إباحة المالك أو الشارع له ، وإباحة هذه التصرفات ـ لا محالة ـ تدل التزاما على ملكية المبيع للمشتري والثمن للبائع.

وهذا بخلاف التصرفات المباحة من جهة الضرورة ، فإنّ الضرورات تتقدر بقدرها. ومن المعلوم ارتفاع الضرورة بمجرّد الإباحة في التصرف كالأكل ، فلا موجب للالتزام بالملكية كما لا يخفى.

٣٨١

.................................................................................................

__________________

الثاني : ما تقدّم من أنّ الحلّ التكليفي يمتنع أن يشمل جميع التصرفات ، لاختلافها سنخا وحكما ، فإنّ وجوب الإنفاق على الدابة المبيعة أو حرمة العمل عليها مما لا يمكن تناول الحلّ التكليفي له. والالتزام بحلية بعض التصرفات دون بعضها بلا ملزم وبلا دليل يقتضيه. ودعوى «شمول الحلّ لجميع التصرفات ، غاية الأمر أنّه يخرج بعضها ـ كوجوب الإنفاق وحرمة الصرف في المعصية ـ بالدليل ، فيخصّص عموم حلّ التصرفات بالدليل الخارجي» غير مسموعة ، لمنافاة التخصيص للامتنان المناسب للمعلوم ، ولمنافاته أيضا لما يقتضيه حذف المتعلق من إرادة العموم.

مضافا إلى : عدم الحاجة الى إثبات الحلّ التكليفي بالآية المباركة بعد ثبوته بأدلة تشريع تلك التصرفات ، فيلزم إمّا المحال وهو إيجاد الحاصل ، وإمّا ارتكاب خلاف الأصل ، وهو التأكّد.

الثالث : أنه لو سلّم دلالة الآية الشريفة على جواز البيع وضعا وتكليفا ، أو قلنا بدلالتها على حلية التصرفات واستكشفنا منها الملكية من أوّل الأمر ، لكنّها لا تشمل المعاطاة ، لعدم صدق البيع عليها ، إذ لا يخلو إمّا أن يكون البيع من مقولة اللفظ أو من مقولة المعنى. وعلى التقديرين لا يصدق مفهوم البيع على المعاطاة.

أمّا على الأوّل فواضح. وأمّا على الثاني فلأنّ البيع وإن كان من مقولة المعنى ، لكن صدق عنوان البيع عليه يتوقف على إبرازه باللفظ ، لأنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي. ومن المعلوم أنّ المعاطاة لم تبرز باللفظ ، فتكون خارجة عن حدّ البيع ، فلا وجه للاستدلال على مملّكيّتها بآية الحلّ ، هذا.

وفيه : أنّ البيع ليس اسما لمجرّد اللفظ ، وإلّا يلزم تحققه بلفظ «بعت» بدون الإنشاء. وليس أيضا اسما للاعتبار النفساني غير المبرز بمظهر خارجي ، وإلّا لزم تحققه بنفس الاعتبار وإن لم يكن مبرزا خارجا ، بل البيع هو الاعتبار النفساني المبرز بمظهر خارجي سواء أكان لفظا أم فعلا ، ولا دليل على حصر المبرز في اللفظ خاصة.

٣٨٢

بل قد يقال (١) بأنّ الآية دالّة عرفا بالمطابقة على صحة البيع ، لا مجرّد الحكم التكليفي (٢).

لكنه محل تأمّل (٣) (*).

______________________________________________________

(١) هذا هو التقريب الثاني من وجوه الاستدلال بالآية الشريفة على مملكية المعاطاة ، ولعلّه مختار من يقول بقابلية الأحكام الوضعية للجعل الاستقلالي ، وأنّ الحلّية لو كانت ظاهرة بدوا في خصوص التكليف ، إلّا أنّ ذلك منوط بتعلّقها بالتصرّف الخارجي كالأكل والشرب ، وأمّا إذا تعلقت بالتصرف الاعتباري من عقد أو إيقاع فلا ، حيث إنّ الحلّ الوضعي عبارة عن نفوذ متعلقة وتأثيره في الأثر المقصود ، فالبيع المقصود به التمليك تكون صحته عبارة عن تأثيره في الملكية ، فالآية الشريفة حينئذ يكون مدلولها المطابقي إفادة البيع للملكيّة ، وقد تقدّمت فرديّة المعاطاة للبيع وصغرويّتها له ، فتشملها آية الحلّ.

وبهذا ظهر وجه الإضراب المستفاد من قوله : «بل قد يقال» لأولوية استظهار صحة البيع المعاطاتي من الآية الشريفة بالمطابقة من استظهارها بالدلالة الالتزامية المتفرعة على تمامية الدلالة المطابقية ، فلو نوقش في دلالة الآية على حلية التصرفات المترتبة على البيع امتنع إثبات مملّكية المعاطاة كالبيع القولي ، وهذا بخلاف ظهور الحلية ابتداء في الوضع.

(٢) وهو إباحة التصرفات ـ المترتبة على البيع ـ المستلزمة لصحته.

(٣) وجهه : أنّ حمل الحلّ على الوضعي خلاف الظاهر ، لظهوره في التكليفي ، ولا بدّ حينئذ من تعلّقه بالتصرفات مطلقا خارجية كانت أم اعتبارية ، إذ لا يتوهم حرمة إنشاء البيع حتى يدفع بقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فلا بدّ أن يتعلق بالتصرفات. فالآية الشريفة تدل بالدلالة المطابقية على حلية التصرفات تكليفا ، وبالدلالة الالتزامية على حلية البيع وضعا.

__________________

(*) قد عرفت مفصّلا أنّه ظاهر الآية الشريفة ، ولا ينبغي التأمل فيه. ودعوى ظهور «الحلّ» في التكليفي استنادا الى الوجوه المتقدمة قد عرفت ما فيها ، فلاحظ وتدبّر.

٣٨٣

وأمّا (١) منع صدق البيع عليه عرفا فمكابرة.

وأمّا (٢) دعوى الإجماع في كلام بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعا ـ كابن زهرة في الغنية ـ فمرادهم (٣) بالبيع المعاملة اللازمة التي هي أحد العقود ،

______________________________________________________

(١) هذا راجع إلى أصل استدلاله قدس‌سره على مملكية المعاطاة بالآية الشريفة بالدلالة الالتزامية ، وليس متعلقا بخصوص قوله : «بل قد يقال» وبيانه : أنّ الاستدلال بالآية المباركة منوط بصدق الموضوع ـ أعني به البيع ـ على المعاطاة ، إذ بدونه لا يكون المورد فردا لموضوع الدليل حتّى يصحّ التمسّك به لإثبات حكمه ، ولذا قال : «إنّ منع صدق البيع الذي هو موضوع الدليل على المعاطاة مكابرة» حيث إنّ صدق مفهوم البيع عرفا على المعاطاة من الواضحات التي لا يعتريها ريب. وقد أشرنا الى هذا بقولنا : «ان المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفا».

(٢) هذا اعتراض على قوله : «فمكابرة» وحاصله : أنّ وضوح صدق البيع على المعاطاة عرفا ـ بحيث يكون منع صدقه عليها مكابرة ـ ينافي دعوى ابن زهرة رحمه‌الله : الإجماع على عدم بيعية المعاطاة.

(٣) هذا دفع الاعتراض ، وحاصله : أنّ المنافاة المذكورة مبتنية على أن يكون مراد المجمعين نفي بيعيّة المعاطاة حقيقة ، وليس الأمر كذلك ، لأنّ مرادهم من البيع ـ الذي نفوه عن المعاطاة ـ هو المعاملة الصحيحة المؤثّرة في إفادة الملك فعلا الموصوفة باللزوم بحسب طبعها ، والجائزة لأمر خارج عن ذاته كالخيار. وإذا كان معقد إجماعهم على نفي البيع عن المعاطاة ذلك لم يكن منافاة بين هذا الإجماع النافي لبيعية المعاطاة وبين بناء العرف على بيعيّتها ، لأنّ نفي الصحة غير نفي الحقيقة ، والمنفي في كلامهم ومعقد إجماعهم هو البيع الصحيح الشرعي كما مرّ ، والمثبت هو البيع العرفي ، فتعدّد مورد النفي والإثبات فلا إشكال.

لا يقال : إنّ ظاهر عبارة الغنية عدم انعقاد البيع بالتعاطي ، لا عدم لزومه ، لقوله فيها : «وأمّا شروطه فعلى ضربين ، أحدهما شرائط صحة انعقاده ، والثاني شرائط لزومه ، فالضرب الأوّل ثبوت الولاية في المعقود عليه .. وأن يحصل الإيجاب من البائع والقبول من المشتري .. إلخ» ومن المعلوم أنّ مقتضى شرطية الصيغة للانعقاد عدم بيعية المعاطاة حقيقة ، فلا يشملها قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ).

وعلى هذا فقول المصنف : «ولذا صرّح في الغنية» شاهد على عدم بيعية المعاطاة ،

٣٨٤

ولذا (١) صرّح في الغنية بكون الإيجاب والقبول من شرائط صحة البيع.

ودعوى (٢) ـ أنّ البيع الفاسد عندهم ليس بيعا ـ

______________________________________________________

لا على عدم لزومها.

فإنّه يقال : إنّ مقصود السيد ابن زهرة قدس‌سره عدم بيعية المعاطاة شرعا لا عرفا ، إذ لو كان مراده نفي بيعيّتها عرفا لكان اللازم التمسك له بعدم الصدق العرفي الذي هو من قبيل عدم المقتضي ، لا بالإجماع الذي هو دليل شرعي ، ويكون من قبيل المانع. وعليه فالتمسك بالإجماع دليل على كون الإيجاب والقبول من الشرائط الشرعية لا العرفية ، فصدق البيع على المعاطاة ممّا لا ينبغي الارتياب فيه. هذا.

ولو سلّم ظهور إجماع الغنية في نفي بيعية المعاطاة حقيقة قلنا : إنّه إجماع منقول ، وقد ثبت في محله عدم حجيته ، مضافا الى معارضته بدعوى المحقق الثاني : «ان المعروف بين الأصحاب كون المعاطاة بيعا».

(١) غرضه إقامة الشاهد على التصرف المزبور ، وهو كون المنفي في كلامهم البيع الصحيح المؤثّر شرعا ، لا البيع العرفي. وجه الشهادة : أنّه لو كان مرادهم ما هو ظاهر كلامهم ـ من نفي البيع حقيقة ـ لم يكن وجه لجعل الإيجاب والقبول من شرائط الصحة ، بل كان اللازم حينئذ جعلهما من شرائط محقّق مفهوم البيع وحقيقته ، فيستكشف من تصريح السيد في الغنية «بكون الإيجاب والقبول من شرائط صحة البيع» أنّ المنفي هو البيع الصحيح ، لا البيع العرفي.

(٢) هذه مناقشة في الاستشهاد بعبارة الغنية من جعلها قرينة على التصرف في كلامهم من عدم كون المعاطاة بيعا حقيقة.

توضيح المناقشة : أنّ كلام السيد ابن زهرة قدس‌سره يكون شاهدا على التصرف في كلامهم لو كان البيع الفاسد بيعا عندهم ليكشف ذلك عن وضعه للأعم ، وذلك ممنوع ، فتكون الصحة مساوقة لتحقق المفهوم ، فبانتفائها ينتفي الحقيقة ، فيكشف ذلك عن وضعه للصحيح. وعليه فتصريح ابن زهرة في الغنية ـ بكون الإيجاب والقبول من شرائط الصحة ـ لا يكون شاهدا على التصرف في كلامهم بحمل النفي على نفي الصحة مع بقاء الحقيقة ، حيث إنّه بناء على هذا

٣٨٥

قد عرفت (١) الحال فيها (*).

______________________________________________________

يكون نفي الصحة مساوقا لنفي الحقيقة.

ونتيجة ذلك : أنّه لا يصحّ الاستدلال بالآية الشريفة على مملّكية المعاطاة ، إذ المفروض عدم كونها بيعا حقيقة.

(١) هذا دفع المناقشة المزبورة ، وحاصل الدفع : أنّه قد ذكرنا سابقا : أنّ البيع ليس إلّا إنشاء تمليك عين بمال ، ولم يؤخذ في مفهومه قيد التعقب بالقبول فضلا عن الإيجاب والقبول اللفظيين.

ويمكن أن يكون نظره بقوله : «قد عرفت الحال» إلى ما تقدم عن جامع المقاصد من قوله : «المعروف بين الأصحاب أن المعاطاة بيع وإن لم يكن كالعقد في اللزوم». وعلى التقديرين يكون البيع الفاسد بيعا حقيقة وإن لم يكن مؤثرا شرعا.

هذا تمام الكلام في التقريب الأوّل والثاني من وجوه الاستدلال بآية حلّ البيع ، وبقي التقريب الثالث ، وسيأتي بقوله : «فالأولى حينئذ التمسك في المطلب بأن المتبادر عرفا من حلّ البيع صحّته شرعا» فانتظر.

__________________

(*) لا يخفى أنّ البيع الفاسد وإن كان بيعا عرفيّا ، لكن فساده شرعا يمنع عن التمسك بقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ونحوه من أدلة نفوذ البيع وصحته ، والمقصود من إثبات بيعية المعاطاة هو الاستدلال على صحتها بهذه الآية ونحوها. فجعل المنفي في معقد إجماع الغنية صحة البيع لا حقيقته : وإن كان متينا في نفسه ، لكنه ينافي التمسك بالآية المزبورة لكون المعاطاة بيعا نافذا ، بل تصير المعاطاة حينئذ كبيع المنابذة والملامسة ونحوهما من البيوع الفاسدة الخارجة عن حيّز عموم (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) والوجه في خروج المعاطاة عن العموم المزبور هو إجماع الغنية على عدم كونها بيعا صحيحا.

فتوجيه معقد الإجماع بإرادة البيع الصحيح ينتج ضدّ المقصود ـ الذي هو إثبات بيعية المعاطاة ـ حتى يصح الاستدلال لها بمثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) فالأولى كما تقدم منع الإجماع أوّلا ، ومنع حجيته بعد تسليمه ثانيا.

٣٨٦

وممّا ذكر (١) يظهر وجه التمسك بقوله تعالى (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ).

______________________________________________________

الدليل الثالث : آية التجارة عن تراض

(١) أي : من جعل متعلّق الحلّ في آية حلّ البيع : التصرفات وملازمتها شرعا لصحة البيع ونفوذه يظهر وجه التمسك بقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) (١). وهذا هو الدليل الثالث ممّا تعرض له المصنف قدس‌سره من الأدلة على مملّكية المعاطاة. وقد سبقه في الاستدلال به المحقق الكركي قدس‌سره في كلامه المتقدم عن جامع المقاصد وتعليق الإرشاد ، والمحقق الأردبيلي قدس‌سره في شرح الإرشاد (٢).

ولا يخفى أنّ الوجوه الثلاثة المشار إليها في الاستدلال بآية حلّ البيع تجري في هذه الآية المباركة أيضا ، والمهمّ منها فعلا ـ بنظر الماتن ـ هو الوجه الأوّل ، أعني به دلالة الآية بالمطابقة على حلية التصرف تكليفا في المأخوذ بالتجارة عن تراض ، وبالدلالة الالتزامية على صحتها ومملّكيتها ، لأنه قدس‌سره أحال تقريب الاستدلال بهذه الآية المباركة على ما ركن إليه في آية حلّ البيع ، فيقال : المعاطاة المقصود بها الملك تجارة عن تراض ـ إذ التجارة هي التصرف في رأس المال طلبا للربح (٣) ـ والتصرفات المالكيّة المترتبة على التجارة جائزة ، فالتصرف في المأخوذ بالمعاطاة جائز ، وهذا الجواز التكليفي يستلزم شرعا صحة المعاطاة ومملّكيتها.

وكيف كان فوجوه الاستدلال بهذه الآية الشريفة متعددة ، من جهة كون الأكل كناية عن التصرف أو عن التملك ، ومن جهة كون النهي في المستثنى منه مولويا أو إرشادا إلى الفساد ، وكون الجواز في المستثنى إباحة تكليفية أو إرشادا إلى الصحة ، ومن كون الاستثناء متصلا أو منقطعا. لكن المهم منها اثنان ، تعرض المصنف لأحدهما ، وسيأتي ذكر الآخر في التعليقة

__________________

(١) النساء الآية : ٢٨.

(٢) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨ ، مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٤٢.

(٣) مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني ، ص ٧٣.

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إن شاء الله تعالى.

وتوضيح الوجه المذكور في المتن منوط بالإشارة إلى أمرين :

أوّلهما : أنّ النهي في المستثنى منه ظاهر في حرمة الأكل تكليفا ، فيكون الجواز في المستثنى ظاهرا في الحلية التكليفية أيضا.

ثانيهما : أنّ متعلّق النهي وان كان هو الأكل لكن لا يراد به ظاهره أي الازدراد المقابل للشرب قطعا ، بل المراد به التصرف في أموال الناس بغير حق ، ومقتضى حذف المتعلق إرادة مطلق التصرف سواء أكان متوقفا على الملك أم لا ، إذ لا قرينة في الآية الشريفة على إرادة صنف خاص من التصرفات. ومقتضى المقابلة إرادة حلية كل تصرف ـ سواء توقف على الملك أم لا ـ في المأخوذ بالتجارة عن تراض.

قال في مجمع البيان : «ذكر الأكل وأراد سائر التصرفات ، وإنّما خصّ الأكل لأنّه معظم المنافع .. الى أن قال : وفي قوله : بالباطل قولان : أحدهما : أنّه الربا والقمار والنجش والظلم ، عن السدي ، وهو المروي عن الباقر عليه‌السلام. والآخر : أنّ معناه : بغير استحقاق من طريق الأعواض ، عن الحسن. قال : وكان الرجل منهم يتحرّج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية إلى أن نسخ ذلك بقوله في سورة النور (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) .. الى قوله (أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) .. إلى أن قال : وثالثها : أنّ معناه : أخذه من غير وجهه ، وصرفه فيما لا يحلّ له ، إلّا أن تكون تجارة أي مبايعة» (١).

وبوضوح الأمرين المتقدمين نقول في تقريب الاستدلال بالآية المباركة : إنّ «الأكل» كناية عن مطلق التصرف ، إذ لا قرينة على إرادة فعل خاص ، فيتعيّن إرادة مطلق التصرف ، والمعنى حينئذ : أنّه لا تتصرّفوا في أموال الناس بالأسباب الباطلة ، إلّا أن يكون ذلك السبب تجارة عن تراض كالمعاطاة التي هي تجارة لغة وعرفا. والاستثناء من الحرمة التكليفية يقتضي الحلّ التكليفي ، فتدل الآية بالمطابقة على حليّة التصرفات ـ تكليفا ـ المترتبة على

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٥ ، ص ٣٧.

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

التجارة عن تراض ، وتدلّ على تحقق الملكية من أوّل الأمر ـ لا حين إرادة التصرف ـ بالملازمة العرفية ، لأنّ السلطنة المطلقة على شي‌ء لا تنفك عرفا عن الملكية ، وإن كانت الملكية قد تنفك عن السلطنة كالمحجور لأحد موجبات الحجر من صغر أو فلس أو جنون أو غيرها.

وبالجملة : فوزان الاستدلال بهذه الآية المباركة وزان الآية المتقدمة ، غاية الأمر أنّ الاستدلال بهذه الآية لا يتوقف على التقدير ، لكون متعلق الجواز مذكورا وهو «الأكل» المراد به التصرف. بخلاف الاستدلال بتلك الآية ، فإنّه منوط بتقدير التصرفات. فالاستدلال بهاتين الآيتين على مملكية التجارة والبيع ـ الذي تكون المعاطاة من أفراده ـ يكون بالدلالة الالتزامية الشرعية ، لأنّ مدلولهما المطابقي هو حلية التصرفات تكليفا كما عرفت (*).

__________________

(*) ويرد عليه ـ مضافا الى ما أورد به على الاستدلال بآية حل البيع ـ أنّ عموم التصرفات للتصرفات الاعتبارية غير ظاهر ، لأنّ الأكل الذي هو تصرف خارجي وإن لم يكن نفسه بمراد ، إلّا أن المتيقن من التعدي عنه هو التصرفات الخارجية. وأمّا التعدي إلى التصرفات الاعتبارية المغايرة سنخا للتصرفات الخارجية فلا قرينة عليه. والدلالة الالتزامية الدالة على الملكية لا يكفي فيها إباحة التصرفات الخارجية ، فلا يصح الاستدلال بهذه الآية المباركة بالدلالة الالتزامية على مملّكية المعاطاة التي هي تجارة عن تراض.

ويرد عليه أيضا ما أفاده المحقق الايرواني قدس‌سره من : أنّ غاية مدلول الآية حلية التصرفات المترتبة على المعاطاة ، وأمّا الملكية من أوّل الأمر فلا ، لكفاية الملكية الآنيّة في حلية مطلق التصرف المتوقف على الملك (١).

وهذا الإشكال ـ الذي أورد به المصنف على الاستدلال بآية الحل ـ مخصوص بالتقريب الأوّل. وأمّا التقريب الثالث وهو دلالة الآية على الصحة بالملازمة العرفية بينها وبين الحلية فهو سليم عن هذا الإشكال ، إذ المفروض أنّ العرف يرتّب آثار الملك على المعاطاة من حين

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٧.

٣٨٩

.................................................................................................

__________________

التعاطي ، سواء تصرّف فيه بما يتوقف على الملك أم لا.

هذا ما يتعلق بالوجه الأوّل الذي استظهره المصنف قدس‌سره من الآية الشريفة.

الوجه الثاني : ـ الذي لم يتعرض له في المتن ـ هو : أن المراد من الأكل التملك ، فإنّه الشائع بعد الصرف عن ظاهره ، للقطع بعدم إرادته بالخصوص في المقام ، لوضوح عدم إرادة خصوص المأكولات هنا ، وهذا النحو من الاستعمال متعارف في القرآن الكريم وكلمات الفصحاء. وإرادة «التملك» أظهر من إرادة «التصرف» الذي هو مبنى الوجه الأوّل. إذ «التجارة عن تراض» إنّما تكون من الأسباب الناقلة للملك ، فتملّك الأموال لا بدّ أن يكون بها ، فإنّ التجارة تناسب الملكية ، لا مجرّد جواز التصرف تكليفا.

وكيف كان فمفاد الآية ـ بناء على كون الأكل كناية على التملك ـ : أنّه يحرم عليكم تملّك أموال الناس إلّا بالتجارة عن تراض. والمراد بالتجارة هي العرفية ، كما هو شأن كل موضوع عرفي يقع في حيّز حكم من الأحكام ، ومن المعلوم أنّ المعاطاة تجارة عرفية ، فيشملها المستثنى ، فيجوز تملك الأموال بالمعاطاة.

وعليه فالآية بهذا التقريب تدل بالدلالة المطابقية على المقصود وهو إفادة المعاطاة للملك. كما أن تقريب الاستدلال بها على الوجه الأوّل يكون بالدلالة الالتزامية ، على ما عرفت مفصّلا.

بقي التعرض لأمر ، وهو : أنّ الاستثناء متصل أو منقطع ، وما يترتب عليه من إفادة الآية حصر السبب المملّك في التجارة عن تراض وعدمها ، فنقول : لم يظهر من المصنف قدس سره هنا أحد الأمرين ، لكنه صرّح بانقطاع الاستثناء في ردّ أدلة بطلان بيع الفضولي ، وهو المحكي عن جمع من المفسّرين. والظاهر أنّه كذلك ، إذ لا معنى لكون التجارة عن تراض سببا للملكية مع انطباق عنوان الباطل عليها. فإنّ عقد المستثنى منه وإن دلّ على العموم ، إذ ليس شي‌ء من الأكل بالباطل مرخّصا فيه ، لكنه لا يدل على حصر محلّل الأكل في التجارة عن تراض.

ولا فرق في هذه الجهة بين كون «تجارة» مرفوعا ـ كما عن الكوفيين ـ بناء على أنّ «كان» تامّة ، يعني : إلّا أن تقع تجارة عن تراض ، إذ من المعلوم أنّ التجارة كذلك ليست من جنس

٣٩٠

.................................................................................................

__________________

الباطل حتى يكون المعنى : إلّا أن تكون التجارة الباطلة تجارة عن تراض. وبين كون «تجارة» منصوبا ـ كما عن عاصم وحمزة والكسائي ـ على أن يكون «كان» ناقصة ، والتقدير : إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراض ، أو : أموالكم أموال تجارة ، بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.

والحاصل : أنّ «التجارة عن تراض» ضدّ الباطل ، فلا تكون من جنسه حتى يكون الاستثناء متصلا. فما في تقرير بحث السيد المحقق الخويي قدس‌سره : «من كون الاستثناء متصلا ، حيث قال المقرّر : «فان كان الاستثناء متصلا كما هو الظاهر والموافق للقواعد العربية كان مفاد الآية : أنّه لا يجوز تملك أموال الناس بسبب من الأسباب ، فإنّه باطل ، إلّا أن يكون ذلك السبب تجارة عن تراض ، فتفيد الآية حصر الأسباب الصحيحة للمعاملة بالتجارة عن تراض» (١) غير ظاهر ، لأنّ «الباطل» يكون نعتا للسبب المستفاد من الباء السببية ، فالمعنى : أنّه يحرم تملّك أموال الناس بسبب باطل إلّا أن يكون ذلك السبب الباطل تجارة عن تراض ، إذ النعت قيد للمنعوت ، والاستثناء يكون من مجموع النعت والمنعوت ، كقوله : «جاءني العلماء العدول ، أو : أكرم العلماء العدول إلّا زيدا» فإنّه لا ينبغي التأمّل في عدم صحة هذا الاستثناء إذا لم يكن زيد عالما عادلا. ومجرد كونه عالما لا يكفي في صحة هذا الاستثناء ، لخروجه عن العام موضوعا من دون حاجة الى الاستثناء ، بل الاستثناء حينئذ مستهجن عند أبناء المحاورة.

من غير فرق في ذلك بين التخصيص الفردي كالمثال ، وبين النوعي كقوله : «أكرم العلماء العدول إلّا شعراءهم ، أو فلاسفتهم ، أو البصريين منهم» أو غير ذلك من الأنواع ، فإنّ هذا الاستثناء لا يصح إلّا إذا كان المستثنى من العلماء العدول.

نعم إذا كان الكلام هكذا : «كل تجارة باطلة إلّا تجارة عن تراض» كان الاستثناء متصلا ، لكنه ليس كذلك ، لأنّ «الباطل» في الآية الشريفة نعت للموصوف المستفاد من الباء السببية ، فالكلام يكون هكذا : «لا تتصرّفوا في أموال الناس بالسبب الباطل ، إلّا أن يكون ذلك السبب

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٠٣.

٣٩١

.................................................................................................

__________________

الباطل تجارة عن تراض» وفساده غنيّ عن البيان. هذا.

مضافا إلى : أن اتصال الاستثناء وإن كان مقتضى القواعد العربية ، لأنّه إخراج حكمي متفرع على اندراج المستثنى موضوعا في المستثنى منه ، فالانقطاع منوط بقرينة ، إلّا أنّه يناط بعدم معارضته بأصل عقلائي آخر ، فإنّ الحذف والتقدير خلاف الأصل ، ولا وجه لترجيح أصالة الاتصال على أصالة عدم التقدير.

ثمّ إنّ مقتضى انقطاع الاستثناء هو عدم حلّ تملك أموال الناس بالأسباب الباطلة ، وإناطة حلّة بالتجارة عن تراض ، فالمستفاد حينئذ من الآية الشريفة حكمان كلّيان ، أحدهما : عدم كون الأسباب الباطلة مملّكة أو محلّلة. والآخر : كون التجارة عن تراض محلّلة أو مملّكة.

وعليه فلا تدل الآية على انحصار التصرف أو التملك بالتجارة عن تراض حتى يقال : بعدم صحة هذا الحصر ، لوجود سبب آخر غير التجارة عن تراض كالهبة والصدقة والوقف وغيرها من الأسباب الناقلة للأموال ، وأنّ هذا الحصر يوجب النسخ أو التخصيص المستهجن ـ كما في البلغة ـ حيث قال قدس‌سره ما ملخصه : انّه لو كان الاستثناء في آية التجارة عن تراض متصلا لزم منه إمّا القول بالنسخ ، وإمّا القول بكثرة التخصيص المستهجن ، بداهة أنّ أسباب حلّ الأكل ليست منحصرة بالتجارة عن تراض ، بل يحلّ ذلك بالهبات والوقوف والصدقات والوصايا وأروش الجنايات ، وسائر النواقل الشرعية والإباحات ، سواء أكانت الإباحة مالكيّة أم شرعية ، فلا ملازمة حينئذ بين أكل المال بالباطل وبين ما لا يكون تجارة عن تراض ، فيمكن انتفاء التجارة عن تراض مع كون أكل المال بالحق لا بالباطل كالهبات والصدقات ونحوهما.

وإن دفع قدس‌سره هذا الإشكال بأنّ ما يحتاج تملّكه بالقبول يندرج في التجارة عن تراض ، لأنّ المراد بها هو الاكتساب عن تراض ، ومن المعلوم صدقها على الهبة والوصية التمليكية بناء على اعتبار القبول فيها ، وكذا الصدقات المندوبة. وما لا يحتاج الى القبول كالوقوف وأروش الجنايات والوصايا ـ بناء على عدم اعتبار القبول فيها ـ فلا بأس بالتزام التخصيص فيها ، وليس

٣٩٢

.................................................................................................

__________________

ذلك من التخصيص المستهجن (١).

بل يمكن أن يقال : بخروجها عن دائرة كل من المستثنى والمستثنى منه بالتخصص ، وذلك لأنّ المستثنى منه في الآية المباركة هو تملك مال الغير بالاختيار بغير التجارة عن تراض ، فالمستثنى هو تملك مال الغير بالتجارة عن تراض.

وعلى هذا فلا يندرج مثل الوقوف وأروش الجنايات في شي‌ء من المستثنى والمستثنى منه ، لعدم اندارجها في التملك الاختياري ، فتخرج عن حريم مورد الآية رأسا ، فلا يلزم شي‌ء من محذوري النسخ وتخصيص الأكثر المستهجن.

لكن الإنصاف أن هذا الجواب الذي اختاره السيد الخويي قدس سره أيضا لا يخلو من تأمل ، فإنّ التجارة وإن لم تكن مرادفة للبيع ، لاقتضاء العطف في قوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) المغايرة بينهما ، إلّا أنّ صدقها على قبول الهبة والوصية التمليكية في غاية الغموض ، إذ التجارة لغة هي «المعاملة برأس المال بقصد الاسترباح» وصدقها على مجرد قبول المتهب والموصى له محل تأمّل. وعليه لا بد من الالتزام بالتخصيص كما يلتزم به في ما لا يعتبر فيه القبول كالوقوف وأروش الجنايات والوصايا بناء على عدم اعتبار القبول فيها.

وقد يقال : بعدم ارتكاب التخصيص في ما لا يتوقف على القبول كالوقوف والتملك بالخمس والزكاة ونحوها ، لخروجها عن دائرة المستثنى والمستثنى منه تخصصا ، وذلك لأنّ المستثنى منه هو تملك مال الغير بالاختيار بغير التجارة عن تراض ، فالمستثنى هو تملك مال الغير بالتجارة عن تراض. وعلى هذا فلا يندرج مثل الوقوف في شي‌ء من المستثنى والمستثنى منه ، لعدم كون التملك فيه اختياريا ، فتخرج عن حريم الآية رأسا ، فلا يلزم شي‌ء من محذوري النسخ وتخصيص الأكثر المستهجن.

إلّا أنّه يشكل أيضا بعدم اختصاص المستثنى منه بالتملك الاختياري وإن كان ظاهر الآية ذلك ، فإنّ تطبيق «الباطل» في عدة من النصوص على القمار والربا وما يؤخذ بحكم

__________________

(١) بلغة الفقيه ، ص ١٣٠.

٣٩٣

وأما قوله (١) «الناس مسلّطون على أموالهم» (١)

______________________________________________________

الدليل الرابع : حديث السلطنة

(١) هذا إشارة إلى رابع الأدلة على مملّكية المعاطاة ، وإن ناقش المصنف في دلالته بما سيأتي بعد تقريب الاستدلال به ، فنقول : قد استدلّ بهذا النبوي على كون المعاطاة مفيدة للملك ، بتقريب : أنّ المراد بتسلّط الناس وقدرتهم على أموالهم هو نفوذ تصرفاتهم فيها ، ومقتضى عموم السلطنة ـ المستفاد من الحكمة أو حذف المتعلق ـ نفوذ جميع التصرفات الخارجية والاعتبارية التي منها المعاطاة ، ومن المعلوم أنّ نفوذ المعاطاة المقصود بها التمليك هو كونها مملّكة كسائر الأسباب المملّكة. والمنع عن نفوذ المعاطاة في الملكية مناف لعموم السلطنة الذي يقتضيه الحديث.

__________________

حكّام الجور ونحوها مانع من الاختصاص المزبور ، فالمنهي عنه ليس التملك ، بل تمليك المقامر حرام قطعا بمقتضى التطبيق. وعليه فما عدا التجارة عن تراض مندرج في عقد المستثنى منه سواء أكان تمليكا أو تملكا اختيارا أو غير اختياري. ولا مفرّ من الإشكال إلّا إنكار الحصر المترتب على اتصال الاستثناء.

الأمر الثاني : الظاهر أنّ المراد بالباطل ما لا سببية له واقعا للأكل والتصرف ، كما أنّ السبب الحق هو المؤثّر في التملك والتصرف واقعا ، وذلك لما أشرنا إليه من تطبيق الأكل بالباطل على القمار بمثل قوله عليه‌السلام : «ذلك القمار» (٢) مع أنه سبب حق عرفي.

ومعه لا مجال لدعوى إرادة الحق والباطل العرفيين ، وحمل التطبيق على التخصيص أو التخطئة أو الحكومة. فإنّ لسان التطبيق آب عن حمله على أحد الأمور المذكورة كما لا يخفى.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٧٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٢١ ، الباب ٣٥ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : ١٤ ، ونحوه الحديث : ١ و ٨ و ٩.

٣٩٤

فلا (١) دلالة فيه على المدّعى ، لأنّ عمومه باعتبار أنواع السلطنة (٢) ،

______________________________________________________

(١) غرضه المناقشة في دلالة الحديث المزبور على مملّكية المعاطاة. وحاصل المناقشة : أنّ الاستدلال به على المقام منوط بعمومه لأسباب أنواع السلطنة وموجبات تحققها ، حتى يقال : إنّ تمليك المال بالمعاطاة من أنواع السلطنة المشمولة للحديث ، فالتمليك بالبيع القولي كما يكون جائزا كذلك البيع المعاطاتي.

لكنه ليس كذلك ، لأنّ المتيقن من الحديث هو السلطنة على أنواع التصرفات من البيع والهبة والصلح وغيرها من التصرفات الاعتبارية ، فإذا شكّ في قدرة المالك على نوع من أنواع التصرفات حكم له بالعموم المزبور. وأمّا بالنسبة إلى سبب حصول ذلك النوع وأنّه هل يحصل بفعل أو قول خاص أم لا؟ فلا يتمسك لذلك بالعموم المذكور ، لأنّ الحديث مهمل بالنسبة إليه ، فهو مجمل من هذه الجهة ، وإن كان مطلقا من جهة أنواع التصرف. ولمّا كان الشك في مملّكية المعاطاة شكّا في السبب لم يكن للحديث إطلاق من هذه الحيثية حتى يتمسك به ويثبت به سببيّة المعاطاة للتمليك.

وإن شئت فقل : القدر المسلّم من العموم هو العموم بحسب الكمّ لا بحسب الكيف ، فلا وجه للاستدلال بالحديث لمشروعية الأسباب. ومن هنا اشتهر أنّ قاعدة السلطنة ليست مشرّعة للأسباب ، بل هي في مقام جواز المسببات ـ وهي الأمور الاعتبارية كالهبة والصلح ـ وعدم حجر المالكين عن أنواع التصرفات في أموالهم ، والتقلب فيها ، فإذا دلّ دليل على اعتبار اللفظ مثلا في البيع وأنّ النقل لا يتحقق إلّا بصيغة مخصوصة لم يكن ذلك منافيا لقاعدة السلطنة ومخصّصا لها.

وبعبارة أخرى : سببية شي‌ء لحصول نوع ثابت من السلطنة تكون حكما ، وقاعدة السلطنة لا تشرّع الحكم ، ولذا قيل : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ان الناس مسلطون على أموالهم» لا على أحكامهم بحيث تكون سببية الأسباب تحت سلطنتهم.

(٢) كالبيع والصلح والهبة والمزارعة والمساقاة ونحوها ، فعموم السلطنة ـ المستفاد من الحكمة أو حذف المتعلّق ـ لا يجدي في الأسباب.

٣٩٥

فهو (١) إنّما يجدي فيما إذا شك في أنّ هذا النوع من السلطنة ثابتة للمالك وماضية شرعا في حقه أم لا ، أمّا إذا قطعنا بأن سلطنة خاصة كتمليك ماله للغير نافذة في حقه ماضية شرعا ، لكن شك في أنّ هذا التمليك الخاص هل يحصل بمجرّد التعاطي مع القصد (٢) أم لا بدّ من القول الدال عليه (٣) فلا يجوز (٤) الاستدلال على سببية المعاطاة في الشريعة للتمليك بعموم تسلط الناس على أموالهم.

ومنه (٥) يظهر أيضا عدم جواز التمسك به لما سيجي‌ء من شروط الصيغة.

______________________________________________________

(١) أي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ان الناس مسلّطون» إنّما يجدي في دفع الشك عن نوع التصرف.

(٢) أي : قصد التمليك قصدا مجرّدا عن اللفظ.

(٣) أي : على التمليك.

(٤) جواب «أما إذا قطعنا» وهذا متفرّع على عدم كون الحديث ناظرا إلى الأسباب ، حيث إنّ النظر إلى المسببات ـ وهي أنواع التصرفات ـ غير النظر إلى الأسباب ، فإنّ تشريع السلطنة على البيع ـ أي التمليك ـ ليس ناظرا إلى تشريع أسبابه ، فالاستدلال بالحديث المزبور لإثبات كون المعاطاة مفيدة للملك غير تام.

وبالجملة : فالحديث مهمل بالنسبة إلى الأسباب ، فلا يصح الاستدلال به لسببية المعاطاة للتمليك.

(٥) أي : ومن عدم كون الحديث ناظرا إلى الأسباب يظهر أيضا عدم جواز التمسك به في مقام آخر ، وهو نفي ما يشك في اعتباره في الصيغة ، لوحدة المناط ، يعني : كما لا يجوز التمسك بالحديث لسببية المعاطاة للتمليك ، كذلك لا يجوز التمسك به لما سيجي‌ء من شروط الصيغة ، إذ المفروض عدم كون الحديث ناظرا إلى الأسباب التي منها المعاطاة والبيع القولي ، فلا يجري فيه أصالة العموم أو الإطلاق حتى يصح التمسك به لنفي الشك في شرطية شي‌ء

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

في الصيغة (*).

__________________

(*) ينبغي البحث هنا في جهتين : الاولى في سند الحديث ، والثانية في دلالته.

أما الأولى فحاصل الكلام فيها : أن النبوي المزبور رواه العلامة المجلسي قدس‌سره في البحار (١) عن عوالي اللئالي (٢) ، ورواه ابن أبي جمهور في مواضع أربعة من عواليه ، فرواه تارة عن كتب بعض الأصحاب ، واخرى عن بعض كتب الشهيد ، وثالثة عن الفاضل المقداد ، ورابعة عن ابن فهد الحلّي. والواسطة بين ابن أبي جمهور وهذه العدّة من الفقهاء هم من الأعلام الثقات المذكورين في مقدمة الكتاب في عداد مشيخته.

إلّا أنّ الحديث مرسل ، إذ لم يذكر له في كتبهم سند حتى يفحص عن رجاله ، فالتعويل عليه في استنباط الحكم الشرعي منوط بإحراز عمل المشهور به حتى يطمأنّ بصدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بناء على المبنى المنصور من كون عمل المشهور برواية ضعيفة سندا جابرا لضعفها ، وإعراضهم عن رواية صحيحة موهنا لها.

والظاهر اعتماد الفقهاء على هذه الرواية واسنادها إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعنوان «قال» لا «روي عنه» حتى من دأبه نقد أسناد الأحاديث وتمييز صحيحها عن سقيمها.

والذي ظفرت عليه في كتب الفقه الاستدلالية هو : أنّ أوّل من أسند الحديث الى المعصوم عليه الصلاة والسلام هو العلامة في المختلف ، حيث قال في مسألة جواز تفضيل بعض الأولاد في العطية ـ ردّا على ابن الجنيد ـ : «فإن قصد بذلك التحريم فهو ممنوع ، للأصل ، ولقوله عليه‌السلام : الناس مسلّطون على أموالهم .. إلخ» (٣) وقريب منه قوله في التذكرة في كراهة

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢ ، ص ٢٧٢.

(٢) عوالي اللئالي ، ج ١ ، ص ٢٢٢ ، رقم الحديث : ٩٩. وص ٤٥٧ ، رقم : ١٩٨ ، وج ٢ ، ص ١٣٨ ، رقم : ٣٨٣ وج ٣ ، ص ٢٠٨ ، رقم : ٤٩.

(٣) مختلف الشيعة ، ج ٦ ، ص ٢٧٨.

٣٩٧

.................................................................................................

__________________

الاحتكار : «ولأنّ الإنسان مسلّط على ماله» (١).

وتكرر ذكر الحديث في كتب من تأخّر عنه كالمحقق الأردبيلي ، ففي شرح الإرشاد : «والنقل مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الناس مسلّطون على أموالهم» (٢) وجعله من القواعد المسلّمة في مواضع (٣).

وكذا الشهيد الثاني ، حيث ذكر الحديث كدليل على الحكم في مواضع (٤) ، ورماه في موضع آخر بضعف السند (٥).

وقال الشيخ في المبسوط والحلي في السرائر : «وأما إذا أراد أن يحفر بئرا في داره وأراد جاره أن يحفر لنفسه بئرا بقرب ذلك لم يمنع منه ، بلا خلاف في جميع ذلك ، وإن كان ينقص بذلك ماء البئر الأولى ، لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم» (٦). والمظنون قويّا أنه نقل الحديث بالمعنى.

ولم أجد في كلمات القدماء استنادهم الى هذا الحديث ، إلّا أنه نسب فخر المحققين قدس‌سره في موضعين من الشرح إلى جماعة كالمفيد وأبي علي وابن البرّاج وابن إدريس الاستدلال به ، فقال في كراهة التفرقة بين أم الولد وولدها قبل الاستغناء : «احتج القائلون بالكراهة وبالأصل ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الناس مسلطون على أموالهم» (٧).

وكذلك نسب الفاضل الآبي الى ابن إدريس استدلاله في هذه المسألة بحديث

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٨٩.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٩ ، ص ٣٥٨.

(٣) لاحظ المصدر ، ص ٢١٤ ، ٢٤٣ ، ٣٨٠ ، ٣٩٠.

(٤) مسالك الافهام ، ج ٦ ، ص ٢٨ ، ١٣٥ ، ٣١٤.

(٥) مسالك الافهام ، ج ٦ ، ص ٣١٠.

(٦) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٢٧٢ ، السرائر ، ج ٢ ، ص ٣٨٢.

(٧) إيضاح الفوائد ، ج ١ ، ص ٤٤٤.

٣٩٨

.................................................................................................

__________________

السلطنة (١).

وقال فخر المحققين في مسألة خروج منجزات المريض من الأصل أو الثلث : «واحتج القائلون بالثاني ـ أي بالخروج من الأصل ـ بأنه مالك ، والأصل جواز تصرف المالك في ملكه ، لعموم قوله عليه‌السلام : الناس مسلطون على أموالهم. والجواب أن العام يخصص بالخاص» (٢).

وعدم ظفرنا باستدلال مثل المفيد في المقنعة وابن إدريس في السرائر لا ينافي حجية إخبار فخر المحققين قدس‌سره بأنّهم احتجوا على الحكم بهذا الحديث ، ولم يقل : «ويحتج لهم» حتى يحتمل استنادهم الى حجة أخرى ، لكونه من باب عدم الوجدان الذي لا يدلّ على عدم الوجود.

فدعوى حصول الاطمئنان من مجموع ما ذكرناه ـ ولم نذكره من كلمات الفقهاء ـ بعمل المشهور بهذا الحديث في أبواب عديدة من الفقه الشريف قريبة جدّا.

نعم لا يتوقع العمل به ممن يقتصر في حجية الخبر على الوثوق المخبري خاصة في الأخبار الآحاد كصاحب المدارك ومن حذا حذوه ، لكن المبنى كفاية مطلق الوثوق بالصدور سواء نشأ من وثاقة الرواة ـ مع العمل بالمضمون ـ أم من فتوى المشهور به. هذا.

وقد يناقش في سند الحديث بما في تقرير السيد الخويي قدس‌سره من منع انجبار ضعفه بعمل المشهور بما محصله : أنّ الشهرة إن كانت بنفسها حجة أخذ بها ، وإلّا فإنّ ضمّها إلى غير الحجة لا يوجب الاعتبار ، وقد اشتهر أنّ فاقد الشي‌ء لا يكون معطيا له. واحتمال اطلاع المشهور على قرائن تدل على صدور الرواية ولم نظفر بها غير مفيد. مع أنّه منقوض بتصريحهم بعدم انجبار ضعف الدلالة بعمل المشهور مع وحدة الملاك في البابين. واحتمال الاطلاع على القرائن مشترك بينهما. هذا بحسب الكبرى. وأما خصوص هذا النبوي فلما فيه من احتمال استنادهم في فتياهم بصحة البيع المعاطاتي إلى غيره من الوجوه التي استدل بها

__________________

(١) كشف الرموز ، ج ١ ، ص ٥١٤.

(٢) إيضاح الفوائد ، ج ٢ ، ص ٥٩٤.

٣٩٩

.................................................................................................

__________________

على ذلك. مضافا الى أن المشهور بين القدماء هو القول بالإباحة ، فلا شهرة على إفادة الملك حتى يدعى استنادهم الى حديث السلطنة كي ينجبر ضعفه سندا (١).

لكنه غير ظاهر. أما بحسب الكبرى فلأنّ المدّعى حصول الوثوق بالصدور تكوينا من عمل المشهور برواية ضعيفة ، وموضوع دليل حجية الخبر الواحد هو الخبر المفيد للوثوق به سواء أكان خبريا أو مخبريا. والدليل على اعتبار الشهرة إنما يحتاج إليه لو كان الترجيح بها تعبديا ولو لم تكن مفيدة للوثوق ، فيقال : إنّ المرجحية فرع الحجية.

ولا فرق في حصول هذا الوثوق العقلائي بين الجهل بحال رواة الحديث ، والجرح فيهم ، وعدم معرفتهم رأسا كما في المرسلات ، لما عرفت من أنّ مناط الحجية هو الوثوق.

وأمّا النقض بجبر ضعف الدلالة فهو كما ترى قياس مع الفارق ، لأنّ الدلالة عبارة عن ظهور اللفظ في المعنى ، ولا بد من إحراز هذا الظهور بالوجدان لكلّ من يريد الأخذ بالكلام والاحتجاج به ، إذ لو لم يكن ظاهرا كان من المجمل الذي لا يكون حجة عند العقلاء ، ولذا قيل :

إنّ المجمل والمبيّن من الأمور الإضافية ، إذ ربما يكون لفظ ظاهرا في معنى عند شخص ، وغير ظاهر فيه عند آخر.

وعليه فكون لفظ ظاهرا عند شخص أو جماعة لا يوجب حجيته عند من لا يرى اللفظ ظاهرا في المقصود ، لعدم بناء العقلاء ـ الذي هو دليل حجية الظواهر ـ على حجية كلام لا ظاهر له بنظر شخص وإن كان له ظاهر بنظر غيره.

وهذا بخلاف الصدور ، فإنّ العمل ممّن له تثبّت وخبرة بكلام يكشف عن صدوره من متكلمه ، ويكون العمل محرزا لصدوره بنحو يوثق به ، والمفروض أن الوثوق بالصدور هو مناط الحجية. ولو فرض كون العمل في مقام موجبا للظهور العرفي بنظر شخص آخر لم نضايق في حجيته.

وبالجملة : الظهور مترتب على دلالة تصورية لمفردات الجملة الكلامية ، وتصديقية

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ١٠٠.

٤٠٠