هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

الحقيقة في كلام كل من اعتبر في صحته الصيغة أو فسّره بالعقد ، لأنّهم (١) في مقام تعريف البيع بصدد بيان ما هو المؤثّر في النقل في نظر الشارع.

إذا عرفت ما ذكرنا (٢) فالأقوال في المعاطاة على ما يساعده ظواهر كلماتهم ستة (٣) :

اللزوم مطلقا (٤) كما عن ظاهر المفيد (٥) ، ويكفي في وجود القائل به

______________________________________________________

ولم يذكر المصنف قدس‌سره عدلا لقوله : «فان قلنا» اتّكالا على وضوحه ، وتقديره : أنه إذا لم نقل بالوضع للصحيح لا شرعا ولا عرفا ـ بل قلنا بالوضع للأعمّ منه ومن الفاسد ـ فلا ريب في كون المعاطاة بيعا وإن كانت فاسدة.

(١) تعليل قوله : «فيصح» يعني : بناء على كلا القولين ـ من جعل الصيغة من شرائط الصحة أو تفسير البيع بالعقد المؤثّر ـ يتجه نفي بيعية المعاطاة ، لفرض عدم تأثيرها في النقل والانتقال ، وإنّما تفيد إباحة التصرف مع بقاء العينين على ملك المتعاطيين المبيحين.

هذا تمام الكلام في تحرير محلّ النزاع ومصبّ الأقوال في المعاطاة.

وقد تحصّل : أنّ محطّ البحث هو المعاطاة المقصود بها الملك ، لا الإباحة ، ولم يتم توجيه المحقق الكركي من حملها على الملك الجائز ، ولا توجيه صاحب الجواهر قدس‌سرهما من جعل مقصود المشهور القائلين بترتب الإباحة عليها ما لو قصدها المتعاطيان ولم يقصدا الملك.

تفصيل الأقوال في حكم المعاطاة

(٢) هذا شروع في بيان الأقوال في حكم المعاطاة مقدّمة للاستدلال على القول المختار.

(٣) بل سبعة ، والقول السابع منسوب الى كاشف الغطاء قدس‌سره في شرحه على القواعد من : أنّ المعاطاة معاوضة مستقلة مفيدة للملك.

(٤) أي : سواء كان الدال على التراضي لفظا أم غيره.

(٥) قد تقدّمت عبارة المفيد ، ومرّ الكلام في هذا الاستظهار. وكيف كان فقد اختاره المحقق الأردبيلي قدس‌سره جازما بأنّ المعاطاة بيع صحيح مفيد للملك ، قال : «فاعلم : أنّ الذي

٣٦١

قول العلامة قدس‌سره في التذكرة : «الأشهر (١) عندنا أنّه لا بدّ من الصيغة» (١).

واللزوم بشرط كون الدال على التراضي (٢) أو المعاملة (٣) لفظا (٤). حكي عن

______________________________________________________

يظهر أنّه لا يحتاج في انعقاد عقد البيع المملّك الناقل للملك من البائع إلى المشتري وبالعكس ـ إلى الصيغة المعيّنة كما هو المشهور. بل يكفي كل ما يدلّ على قصد ذلك مع الإقباض ، وهذا المذهب منسوب الى الشيخ المفيد من القدماء ، وإلى بعض معاصري الشهيد الثاني رحمه‌الله ، وهو المفهوم عرفا من البيع .. إلخ» (٢) ووافقه المحدث الكاشاني. ثم استدل المحقق الأردبيلي بأربعة عشر دليلا على مدّعاه ، فراجع.

نعم في عدّ بعض معاصري الشهيد من أصحاب هذا القول تأمل ، فإنّ الشهيد الثاني حكى عنه اعتبار مطلق اللفظ الدال على التراضي ، لا خصوص الإيجاب والقبول اللفظيين.

(١) هذا التعبير يدلّ على وجود القول المعتدّ به بحيث يكون مشهورا ، وإلّا كان المناسب التعبير عنه بالمشهور بدل «الأشهر» وسيأتي من المصنف في خاتمة الاستدلال اختيار هذا القول. ومستنده العمومات ، كقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) و (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) بعد وضوح كون المعاطاة المقصود بها التمليك بيعا عرفا.

(٢) هذا هو القول الثاني ، والظاهر أنّ أوّل من قال به بعض مشايخ الشهيد الثاني ، ولعلّ وجهه : إناطة العقود اللازمة بإنشائها بلفظ ، فبدونه لا يصير لازما ، لعدم دليل عليه.

(٣) أي : المقاولة التي هي قبل إنشاء المعاملة ، وإلّا فمفروض الكلام وقوع الإنشاء بالتعاطي.

(٤) بأن كان اللفظ الفاقد للشرائط كالعربية والماضوية ـ بناء على اعتبارهما ـ آلة إنشاء البيع.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٨ ، ص ١٣٩ الى ١٤٢.

٣٦٢

بعض (١) معاصري الشهيد الثاني ، وبعض (٢) متأخّري المحدثين.

لكن في عدّ هذا من الأقوال في المعاطاة تأمّل (٣).

والملك الغير اللازم ، ذهب إليه المحقق الثاني (٤) ، ونسبه الى كلّ من قال بالإباحة ، وفي النسبة ما عرفت (٥).

______________________________________________________

(١) وهو السيد حسن ابن السيد جعفر الكركي ، كما حكاه السيد العاملي (١) عن حاشية المسالك ، قال الشهيد الثاني ـ بعد نقل خلاف المفيد مع المشهور ـ ما لفظه : «وقد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب الى ذلك أيضا ، لكن يشترط في الدال كونه لفظا ، وإطلاق كلام المفيد أعم منه .. إلخ» (٢)

(٢) كصاحب الحدائق ، ونسبه الى جمع من علماء البحرين ، فراجع (٣).

(٣) هذه العبارة حاشية من المصنف قدس‌سره على قوله : «واللزوم بشرط كون الدال .. إلخ» ولعل وجه التأمل هو : أنّه مع شرطيّة مطلق اللفظ يكون إنشاء البيع بالصيغة لا بالفعل ، غاية الأمر ذهب هذا القائل الى عدم اعتبار لفظ خاص.

إلّا أن يكون المراد اعتبار اللفظ في مقام المساومة ، لا إنشاء المعاملة ، بل لا بد من إنشاء البيع باللفظ ، فتأمل.

(٤) هذا هو القول الثالث ، ذهب اليه المحقق الكركي قدس‌سره مصرّا عليه ، حتى أوّل كلمات القائلين بالإباحة به ، وتقدم نصّ كلامه في المتن. واستدل عليه بالسيرة المستمرة على معاملتهم مع المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك وبآيتي التجارة عن تراض وحلّ البيع.

(٥) من الاشكال ، وأنّ حمل «الإباحة» في كلمات القدماء على «الملك الجائز» بعيد غايته ، بل خلاف تصريح بعضهم بعدم الملك.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٦.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٧.

(٣) الحدائق الناضرة ، ج ١٨ ، ص ٣٥٠ و ٣٥٥.

٣٦٣

وعدم الملك مع إباحة جميع التصرفات (١) حتى المتوقفة على الملك ، كما هو ظاهر عبائر كثير ، بل ذكر في المسالك : «أنّ كل من قال بالإباحة يسوّغ جميع التصرفات» (٢).

وإباحة (٣) ما لا يتوقف على الملك ، وهو الظاهر من الكلام المتقدم عن حواشي الشهيد على القواعد (٤) ، وهو (٥) المناسب لما حكيناه عن الشيخ في إهداء الجارية من دون إيجاب وقبول.

______________________________________________________

(١) هذا هو القول الرابع ، ومستنده وجوه :

الأوّل : استقرار السيرة من الخاص والعام والنسوان والصبيان على التصرف في المأخوذ بالمعاطاة ويؤيّده الإجماع المنقول عن الغنية والروضة والمسالك المعتضد بالشهرة المحققة ، إذ لم يقل أحد ـ ممّن عدا المفيد رحمه‌الله ـ بإفادة المعاطاة للملك الى زمان المحقق الكركي.

الثاني : الأخبار الدالة على حصر المحلّل والمحرّم في الكلام ، فإنّها وإن اقتضت نفي الحلّ عند انتفاء الكلام ، لكنها تحمل على نفي لزوم المعاملة عند انتفائه ، جمعا بينها وبين ما دلّ على حصول الإباحة بالتراضي.

الثالث : استصحاب بقاء ملك المالك الأوّل مع فرض الشك في انتقال كل مال عن صاحبه إلى غيره.

(٢) عبارة المسالك هذه : «لأنّ من أجاز المعاطاة سوّغ أنواع التصرفات» (١).

(٣) هذا هو القول الخامس ، ووجهه : أنّ الإباحة غير الملك ، فدليل الإباحة ـ من الإجماع المنقول عن الغنية أو السيرة ـ لا يقتضي التصرفات المنوطة بالملك كالبيع والعتق والوطي.

(٤) حيث ذكر المصنف : أنّ المحكيّ عن حواشي الشهيد على القواعد : المنع عمّا يتوقف على الملك كإخراجه في خمس أو زكاة ، وكوطي الجارية.

(٥) يعني : وما ذكره الشهيد ـ من إباحة التصرفات غير المتوقفة على الملك ـ هو

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٩.

٣٦٤

والقول (١) بعدم إباحة التصرف مطلقا (٢).

______________________________________________________

المناسب لما حكيناه عن الشيخ في إهداء الجارية ، حيث قلنا : «وصرّح الشيخ في المبسوط : بأنّ الجارية لا تملك بالهدية العارية عن الإيجاب والقبول ولا يحلّ وطيها» فإنّ المنع عن وطي الجارية المهداة بالهديّة المعاطاتية ينطبق على هذا القول أي : عدم الملك مع إباحة التصرف غير المتوقف على الملك.

(١) هذا هو القول السادس أي : كون المعاطاة بيعا فاسدا ، ومستنده وجهان :

أحدهما : أنّ ما قصد لم يقع ، لأنّ المقصود وهو الملك لم يقع ، والإباحة غير مقصودة ، فلا وجه لحصولها ، فالمرجع عمومات حرمة التصرف في مال الغير بدون رضاه.

ثانيهما : ما ورد من أنّه «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» قال في الوافي : «الكلام هو إيجاب البيع ، وإنّما يحلّل نفيا ويحرّم إثباتا» (١).

(٢) يعني : حتّى التصرفات غير المتوقفة على الملك ، فتكون المعاطاة على هذا كالعقود الفاسدة التي ادّعي الإجماع على كون المقبوض بها كالمغصوب.

وهنا قول سابع ذكره السيد قدس‌سره في حاشيته ، وهو : «أنّ المعاطاة معاملة مستقلة مفيدة للملكية ، وليست بيعا وإن كانت في مقامه ، ونسب هذا القول الى الشيخ الكبير كاشف الغطاء» (٢).

وفي مفتاح الكرامة عن حواشي الشهيد على قواعد العلّامة : «أنّها معاوضة برأسها إمّا لازمة وإما جائزة» وقال بعد أسطر : «حيث يجعلونها معاوضة برأسها» (٣).

والفرق بين هذا القول وبين ما عن المحقق الثاني ـ من كون المعاطاة بيعا جائزا ـ هو : أنّ المعاطاة بناء على قول الشيخ كاشف الغطاء ليست بيعا ، فلا تجري عليها أحكام البيع ، بخلافها على قول المحقق الثاني ، لأنّ المعاطاة بناء عليه بيع جائز ، فتجري عليها أحكام البيع.

__________________

(١) الوافي ، ج ٣ ، ص ٩٥ ، كتاب المعايش والمكاسب والمعاملات ، الطبعة الحجرية.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٦٨.

(٣) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨ ، ١٥٩.

٣٦٥

نسب إلى ظاهر النهاية ، لكن ثبت رجوعه عنه في غيرها (١).

والمشهور (٢) بين علمائنا عدم ثبوت الملك (٣) بالمعاطاة وإن قصد المتعاطيان بها التمليك ، بل لم نجد قائلا به إلى زمان المحقق الثاني الذي قال به ، ولم يقتصر على ذلك (٤) حتى نسبه (٥) الى الأصحاب (٦).

______________________________________________________

ومستند هذا القول السابع ـ مع عدم كونها بيعا ـ هو آية التجارة عن تراض ، لوضوح صدق «التجارة» على المعاطاة وإن لم يصدق عليها البيع ، لتوقف صدق البيع على الإيجاب والقبول اللفظيين. وهذا القول يدلّ على كون النزاع في المعاطاة صغرويا ، لأنّه يكشف عن عدم صغرويتها للبيع ، وعدم فرديّتها له ، فيكون مساوقا لنفي بيعيّتها في العبائر المتقدمة.

(١) يعني : ثبت رجوع العلامة قدس‌سره عن هذا القول في غير «نهاية الأحكام» من كتبه ، وسيأتي كلامه في التحرير ـ الموهم لموافقته للمحقّق الكركي في الالتزام بالملك الجائز.

ثم إنّ النزاع في المعاطاة على هذه الأقوال صغرويّ على بعضها ، وكبرويّ على بعضها الآخر ، فإنّ من نفى بيعيّتها نظر إلى عدم صغرويّتها لمفهوم البيع بناء على كون النفي حقيقيّا.

ومن قال ببيعيّتها ونفى صحّتها أو لزومها وأثبت جوازها كان نزاعه كبرويّا ، لتسليمه بيعية المعاطاة ، وإنّما يناقش في الكبرى ، وهي : أنّ كل بيع لازم.

(٢) بعد أن أشار إلى الأقوال وأربابها أراد التنبيه على ما هو المشهور منها وما ليس كذلك ، وما تفرّد به بعض دون آخر.

(٣) لما عرفت من أنّ حمل الإباحة في كلامهم على الملك الجائز ـ كما صنعه المحقق الكركي قدس‌سره ـ بعيد جدّا.

(٤) أي : على إفادة المعاطاة للملك.

(٥) هذا الضمير وضميرا «به» في الموضعين راجعة إلى الملك.

(٦) حيث قال في جامع المقاصد وتعليقه على إرشاد العلامة : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم تكن كالعقد في اللزوم» (١).

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨.

٣٦٦

نعم (١) ربما يوهمه ظاهر عبارة التحرير ، حيث قال فيه (*) : «الأقوى (٢) أنّ المعاطاة غير لازمة ، بل لكل منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية ، فإن تلفت

______________________________________________________

(١) هذا استدارك على قوله : «بل لم نجد قائلا به» يعني : أنّ كلام العلامة في التحرير يوهم ترتّب الملك على المعاطاة ، فلعلّ الأولى نسبة إفادة الملك الجائز إلى العلامة المتقدم عصرا على المحقق الكركي قدس‌سرهما.

(٢) فإنّ ظاهره وجود القول القوي بالملك اللازم. توضيحه : أن تعبير العلّامة ب «الأقوى» يحتمل أمرين ، قال بكلّ منهما بعض.

الأوّل : أن يكون القول القوي ـ المقابل للأقوى ـ هو الإباحة المحضة التي هي القول المشهور المتداول على الألسن إلى زمان العلّامة.

الثاني : أن يكون القول القوي : الملك اللازم المنسوب الى المفيد.

وعلى كلا الوجهين يتمّ استشهاد المصنف قدس‌سره بعبارة التحرير ، لأنّ محطّ نظر شيخنا الأعظم هو قول العلامة : «ان المعاطاة غير لازمة» سواء أكان مقصود العلامة من القول الآخر الملك اللازم المنسوب إلى المفيد ، أم الإباحة التي ذهب إليها المشهور.

__________________

(*) لا يقال : إنّ إيهام عبارة التحرير لإفادة المعاطاة للملك مبني على كون المراد بالمعاطاة في كلامه ما قصد به التمليك ، وهو غير معلوم ، لاحتمال أن يراد بها ما قصد به الإباحة ، ولا ينافيه التعبير باللزوم والفسخ ، لأنّ هذا التعبير إنّما هو بلحاظ كون المعاطاة عقدا قد أنشئ بالفعل ، كما أنّ التعبير بالمعاوضة إنّما هو لأجل كون الإباحة بإزاء الإباحة كما هو مقتضى باب المفاعلة ، فالمعاوضة ثابتة ، غاية الأمر أنّها بين الفعلين لا المالين ، فلا حاجة معه الى ما تكلف به المصنف قدس‌سره.

فإنه يقال : لا يراد هذا الاحتمال ، لمكان قوله بعد ذلك : «بخلاف البيع الفاسد» إذ لا مجال لتوهم كون المعاطاة المقصود بها الإباحة كالبيع الفاسد حتى يدفع بذلك ، وهذا بخلاف المقصود بها التمليك ، فتدبر.

٣٦٧

لزمت» (١) انتهى. ولذا (١) نسب ذلك إليه في المسالك. لكن (٢) قوله بعد ذلك : «ولا يحرم على كل منهما الانتفاع بما قبضه ، بخلاف البيع الفاسد» ظاهر في أنّ مراده مجرد

______________________________________________________

(١) يعني : ولأجل توهم هذا الظهور قال الشهيد الثاني : «وعبارة العلّامة في التحرير كالصريحة في إفادة هذا المعنى ، لأنّه قال : الأقوى عندي : أن المعاطاة غير لازمة .. إلخ» (٢).

وما أبعد ما بين تعبير المصنف بالإيهام ودعوى الشهيد الثاني التصريح.

(٢) غرضه دفع قوله : «نعم ربما يوهمه ظاهر عبارة التحرير» ومحصل ما أفاده تضعيفا لتوهم الظهور المزبور هو : أنّ منشأ توهم الظهور في الملك في عبارة التحرير أمور :

أحدها : قوله : «الأقوى».

ثانيها : قوله : «بل لكل منهما فسخ المعاوضة» لظهوره في كون المعاطاة من المعاوضات ، كما أنّ الفسخ مخصوص بالعقود ، وفي موارد الإباحة استرداد للعين.

ثالثها : قوله : «فان تلفت لزمت» فإنّ جميع ذلك ظاهر في حصول الملك المتزلزل ولزومه بالتلف.

والمصنف قدس‌سره ناقش في الجميع. أما في الأوّل فبأنّ المراد بقوله : «الأقوى» هو في مقابل قول المفيد باللزوم.

وأمّا في الثاني فبأن إطلاق المعاوضة عليها إنّما هو باعتبار قصد المتعاطيين. وكذا إطلاق الفسخ على الرد ، لا باعتبار تحقق عقد مملّك.

وأمّا الثالث فبأنّ إطلاق اللزوم بالتلف إنّما هو بهذا الاعتبار أيضا.

وعلى فرض ظهور هذه الجمل في الملك يكون قوله : «ولا يحرم على كل منهما الانتفاع .. إلخ» أظهر من تلك الجمل في عدم حصول الملك ، إذ مع فرض حصوله لا يبقى مجال لقوله : «ولا يحرم» لأنّه لا ينبغي الارتياب في جواز التصرف في الملك ، فمع حصول الملك بالمعاطاة لا يبقى شك في حليّة التصرف.

__________________

(١) تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ١٦٤.

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٨.

٣٦٨

الانتفاع ، إذ لا معنى (*) لهذه (١) العبارة بعد الحكم بالملك.

وأمّا قوله : «والأقوى .. الى آخره» فهو إشارة إلى خلاف المفيد رحمه‌الله والعامة القائلين باللزوم (**).

وإطلاق (٢) المعاوضة عليها باعتبار ما قصده المتعاطيان. وإطلاق الفسخ على الرّد بهذا الاعتبار (٣)

______________________________________________________

(١) أي : لقول العلامة : «ولا يحرم على كل منهما الانتفاع» إذ لو كانت المعاطاة مفيدة للملك ، لم يكن معنى لحكم العلامة بعدم حرمة الانتفاع ، لكون جواز انتفاع كلّ واحد منهما ـ فيما انتقل إليه ـ من آثار الملك ، فلا حاجة الى التنبيه عليه ، فصون كلام العلامة عن توضيح الواضح يقتضي إرادة الإباحة من الملك ، لما بين الإباحة وجواز الانتفاع من الملائمة والمناسبة.

(٢) معطوف على : «وأما قوله» وهو إشارة إلى منع المنشأ الثاني لظهور عبارة التحرير في الملك ، وهذا هو إطلاق المعاوضة على المعاطاة ، وإطلاق الفسخ على استرداد العينين ما دامتا باقيتين.

(٣) أي : باعتبار قصد المتعاطيين.

__________________

(*) بل لا معنى لهذه العبارة بعد الحكم بالإباحة ، لأنّه تكرار لما يستفاد من العبارة السابقة على القول بالإباحة ، بخلافه على القول بالملك ، لأنّه بناء على هذا يكون من قبيل الحكم بعد حصول موضوعه ، فكأنّه قال : «الأقوى : أن المعاطاة تفيد الملك غير اللازم ، فلا يحرم على كل منهما الانتفاع بما قبضه ، ليتحقق الملك. بخلاف البيع الفاسد ، فإنّه يحرم الانتفاع فيه ، لعدم تحقق الملك ، فلا مسوّغ للتصرف فيه».

وعليه فما استظهره المسالك من عبارة التحرير ونسبه إليه من كون المعاطاة مفيدة للملك الجائز لا يخلو من جودة.

(**) لا يخفى أنّ المنسوب الى شيخنا المفيد وبعض العامة هو الملك اللازم ، فالمقابلة تقتضي أن يكون المراد بقوله : «الأقوى أنّ المعاطاة غير لازمة» أنّ المعاطاة تفيد الملك الجائز ، فاستظهار المسالك في محله ، والله العالم.

٣٦٩

أيضا (١) ، وكذا اللزوم (٢).

ويؤيّد (٣) ما ذكرنا ـ بل يدل عليه ـ : أنّ الظاهر من عبارة التحرير في باب الهبة توقفها على الإيجاب والقبول ، ثم قال : «وهل يستغنى عن الإيجاب والقبول في هدية الأطعمة؟ الأقرب عدمه (٤) ، نعم (٥) يباح التصرف بشاهد الحال» (١) انتهى. وصرّح بذلك (٦) أيضا في الهدية (٢) ، فإذا لم يقل (٧) في الهبة بصحة المعاطاة فكيف يقول بها في البيع؟

______________________________________________________

(١) أي : كصدق المعاوضة على المعاطاة باعتبار قصدهما.

(٢) أي : إطلاق لزوم المعاطاة باعتبار القصد. وهذا منع المنشأ الثالث.

(٣) أي : يؤيّد إرادة مجرّد الانتفاع ـ لا الملكية المتزلزلة ـ في عبارة التحرير ما أفاده العلامة في هديّة التحرير من توقف مملّكيّتها على الإيجاب والقبول اللفظيين ، وإلّا أفادت إباحة محضة.

والتعبير بالتأييد لعلّه لاحتمال وجود تعبّد في البين فارق بين باب المعاطاة في البيع والهدية. والإضراب عنه إلى الدلالة ناظر الى منع التعبد ، وكونهما من باب واحد.

(٤) أي : عدم الاستغناء عن الإيجاب والقبول.

(٥) الشاهد في تصريح العلامة قدس‌سره بحصول إباحة التصرف في الهدية الفعلية ، ولو كانت بالإيجاب والقبول اللفظيين لأفادت الملك.

(٦) أي : بعدم استغناء الهدية عن الإيجاب والقبول اللفظيين ، وبحصول مجرّد إباحة التصرف ، كعدم استغناء الهبة عنهما.

(٧) يعني : أنّ عدم التزام العلّامة قدس‌سره بالمعاطاة في عقد الهبة يستلزم إنكار المعاطاة في البيع بالأولوية القطعية ، إذ البيع عقد لازم ، والهبة جائزة ، فتوقف العقد الجائز على إنشائه باللفظ يستلزم أولوية توقف العقد اللازم عليه.

__________________

(١) تحرير الاحكام ، ج ١ ، ص ٢٨١.

(٢) المصدر ، ص ٢٨٤.

٣٧٠

وذهب (١) جماعة تبعا للمحقق الثاني إلى حصول الملك (٢). ولا يخلو عن قوّة ، للسيرة (٣) المستمرة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك في التصرف فيه بالعتق والبيع والوطي والإيصاء وتوريثه ، وغير ذلك من آثار الملك.

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «والمشهور بين علمائنا عدم ثبوت الملك بالمعاطاة» وهذا إشارة إلى القول الثاني ـ المعتنى به ـ في حكم المعاطاة ، بعد القول المشهور النافي للملك.

(٢) هذا مختاره قدس‌سره من بين الأقوال الستة المتقدمة. والعبارة ظاهرة بدوا في الميل الى مختار المحقق الكركي قدس‌سره من الملك المتزلزل. لكن مقصود المصنف قدس‌سره ـ بقرينة أدلة مملّكيّة المعاطاة وما سيأتي من أدلة اللزوم ـ هو الاستدلال على أصل إفادة المعاطاة للملك ، مع الغض عن جوازه ولزومه ، بقرينة قوله : «الى حصول الملك» ولم يقل «الملك المتزلزل» وليس مقصوده تقوية خصوص الملك الجائز الذي أسّسه المحقق الكركي حتى يتوهم منافاة قوله : «ولا يخلو عن قوة» لما سيأتي من الأدلة الثمانية على كون المعاطاة كالبيع بالصيغة مفيدة للملك اللازم.

ثم إن هذا شروع في المقام الثالث المتكفل لحكم المعاطاة بحسب الأدلّة الاجتهادية ، وتعرّض المصنف لوجوه خمسة استدلّ بها القوم ، وناقش في بعضها. أوّلها : السيرة ، ثانيها : آية حلّ البيع ، ثالثها : آية التجارة عن تراض. رابعها : حديث السلطنة ، خامسها : الإجماع المركّب.

المقام الثالث : الاستدلال على القول المختار

الدليل الأوّل : السيرة

(٣) هذا هو الدليل الأوّل على مملّكية المعاطاة ، وقد استدل به المحقق الثاني في ما تقدم من عبارتي جامع المقاصد وتعليق الإرشاد ، وتبعه غيره ممّن قال بالملك.

ثم إنّ السيرة أمّا عقلائية وإمّا متشرعية ، والمراد بالأولى بناء العقلاء ـ بما هو عقلاء ـ مع الغضّ عن تديّنهم بشريعة ، كسيرتهم على الأخذ بظاهر الكلام في مقام الاحتجاج ، وبالعمل

٣٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

بإخبار الثقة ونحوهما. والمراد بالثانية عمل المتشرّعة بأمر والتزامهم به بما أنّهم متديّنون.

والفارق بين السيرتين : أنّ اعتبار الاولى يتوقف على إمضاء الشارع لها ولو بعدم الردع ، دون الثانية ، لكونها إجماعا عمليا متلقاة من الشارع.

والظاهر أنّ مقصود المصنف قدس‌سره من السيرة هنا هي السيرة العقلائية دون المتشرعية ، وذلك لما سيأتي منه في التشكيك في حجيتها بقوله : «فهي كسائر سيرهم الناشئة عن المسامحة وقلّة المبالاة في الدين ..» ومن المعلوم أنّ سيرة المتشرعة لا سبيل للطعن فيها بمثله ، وإلّا لم تكن سيرة المتشرعة.

وكيف كان فالاستدلال بالسيرة العقلائية على ترتيب آثار الملك على المعاطاة منوط بأمور ثلاثة لا بدّ من إحرازها :

الأوّل : أصل ثبوت بناء العقلاء على معاملة الملك مع المأخوذ بالمعاطاة.

الثاني : استمرار عملهم من زماننا إلى عهد الشارع وعدم كونه من السير الحادثة.

الثالث : عدم ردع الشارع الأقدس عنه حتى يستكشف إمضاؤه له وتقريره إيّاه. وهذه الأمور الثلاثة محققة في المقام.

أمّا الأمر الأوّل ، فلوضوح استقرار بناء العقلاء على ترتيب آثار الملك على المعاطاة ، لتصرفهم في المأخوذ بها بما يكون من شؤون سلطنة المالك خاصة ، من جواز بيعه وعتقه والإيصاء به الى الغير ، وتوريثه ، ووقفه ، والتصدّق به ، ونحو ذلك من التصرفات التي يتوقف نفوذها على صدورها من المالك أو من يقوم مقامه ، ولا تكون مشروعة من المباح له. ولو كانت المعاطاة مؤثّرة في الإباحة المحضة دون الملك لكانت التصرفات المذكورة غير نافذة شرعا ، وأوجب ذلك اختلال نظام المعيشة. وإنكار هذه السيرة مكابرة ، فإنّها ثابتة من العقلاء بما هم عقلاء ، ومن المتشرعة بما هم متشرّعون. فدعوى كون المتيقن من هذه السيرة هو إباحة التصرفات لا الملكية مجازفة.

وأمّا الأمر الثاني : فلأنّ هذه السيرة ليست حادثة في الزمن المتأخر عن عصر الشارع ،

٣٧٢

ويدلّ عليه (١)

______________________________________________________

بل مقتضى تشابه الأزمنة وعدم نقل خلافها في التواريخ ثبوت هذه السيرة في عصر الشارع. وقد أشار المصنف الى هذه الجهة بقوله : «المستمرة».

وأمّا الأمر الثالث فلأنه يكفي في إحراز الإمضاء ـ بعد ثبوت الاستمرار ـ عدم ثبوت الردع الشرعي ، ولو لم تكن سيرة العقلاء مرضيّة له لزمه الردع عنها.

فان قلت : يكفي في الردع إطلاق دليل الاستصحاب القاضي بلزوم الجري العملي على اليقين ـ أو المتيقّن ـ السابق ، وعدم نقضه بالشك ، فأصالة عدم حدوث الملك بالمعاطاة حجة شرعية صالحة للردع. وكذا الإجماع المتقدم ـ في عبارة شيخ الطائفة وابنا زهرة وإدريس ـ على كون المعاطاة مبيحة لا مملّكة. وعليه فالسيرة هنا ساقطة عن الاعتبار.

قلت : لا مجال للردع بإطلاق دليل الاستصحاب مع كون السيرة دليلا اجتهاديا حاكما على الاستصحاب ، بعد البناء على حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية الكلّية ، وأما الإجماع المنقول ففيه عدم حجيّته في نفسه خصوصا مع احتمال مدركيّته.

الدليل الثاني : آية حلّ البيع

(١) أي : ويدلّ على حصول الملك بالمعاطاة عموم قوله تعالى. وهذا هو الدليل الثاني على كون المعاطاة ـ كالبيع بالصيغة ـ في إفادة الملكية. والمذكور في المتن في تقريب دلالة الآية المباركة على المدّعى وجوه ثلاثة :

أوّلها : دلالة الآية بالمطابقة على حلية أنحاء التصرفات ـ تكليفا في المأخوذ بالمعاطاة سواء توقفت على الملك أم لا ، ومدلولها الالتزامي الشرعي هو صحة المعاطاة أي : كونها مؤثّرة في النقل.

والشاهد على ابتناء هذا الوجه على الملازمة الشرعية بين حلية البيع وصحته هو ما سيأتي منه قدس‌سره في مقام المناقشة فيه بقوله : «وإباحة هذه التصرفات إنّما تستلزم الملك بالملازمة الشرعية الحاصلة في سائر المقامات .. إلخ».

٣٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ثانيها : دلالتها بالمطابقة على الصحة ، لأنّ تعلق الحلية بالأمر الاعتباري يناسب إرادة الوضع لا التكليف ، ومعه لا حاجة الى تقدير الأفعال الخارجية التي هي متعلقات الأحكام التكليفية.

ثالثها : دلالة الآية بالملازمة العرفية ـ لا الشرعية ـ على صحة المعاطاة ، وإفادتها للملك من أوّل الأمر. وسيأتي بيان الأخيرين عند تعرّض الماتن لهما.

وأما الأوّل فتقريبه : أنّه مبني على أمور مسلّمة :

أحدها : أنّ المعاطاة المقصود بها الملك بيع عرفا.

ثانيها : أنّ مقتضى إلقاء الخطابات الى العرف كون موضوع الأدلة الشرعية هو البيع الصحيح ـ بنظرهم ، لا الصحيح ـ شرعا ، لما تقدم قبيل بحث المعاطاة من أن المستعمل فيه ـ من كلمة البيع في الأدلة ـ هو النقل المؤثّر عند العرف.

ثالثها : أنّ الموجب لتقدير «التصرفات» وإرادة الحلية التكليفية من الآية المباركة ـ مع تعلق الحلّ بنفس البيع ـ أحد أمور أربعة :

الأول : ظهور «الحلّ» في التكليفي ، خصوصا مع تأكّد هذا الظهور الذاتي بالعرضي وهو تحريم الربا ، وعدم تعلق الحلّ التكليفي بالبيع بمعنى إنشاء التمليك ، إذ لا يتوهم فيه غير الحلّ حتى يحتاج إلى البيان.

الثاني : ورود الآية مورد الامتنان ، ومن المعلوم عدم الامتنان في حلّيّة مجرّد الإنشاء ، بل لا بدّ في حصول الامتنان من تحليل التصرفات المترتبة على البيع.

الثالث : كون البيع بنفسه غير اختياري ، لترتبه على سببه بلا اختيار ، فلا بدّ حينئذ من تقدير ما يصحّ تعلق الحلّ التكليفي به وهو التصرفات.

الرابع : أنّ الملكية اعتبار ذهني لا يتعلق بها الجعل ، بل تنتزع من التكليف المجعول بالاستقلال.

وبهذا يتم الاستدلال ، حيث إنّ إباحة التصرف في المأخوذ بالمعاطاة تستلزم شرعا

٣٧٤

أيضا (١) عموم (٢) قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (١) حيث إنّه (٣) يدلّ على حليّة جميع التصرفات المترتبة على البيع (*).

______________________________________________________

صحّتها ، إذ لو لم تكن مؤثّرة في النقل لم يحلّ التصرف فيه أصلا.

هذا تقريب الاستدلال ، وسيأتي مناقشة المصنف قدس‌سره فيه من عدم اقتضائه أزيد من الملك الآنيّ ، وأمّا حصول الملكية من أوّل الأمر فلا.

(١) أي : كما دلّت السيرة العقلائية الممضاة شرعا على صحة المعاطاة وتأثيرها في الملك من حين التعاطي.

(٢) المراد به الشمول الصادق على كل من العموم الوضعي والإطلاق الحكمي ، لوضوح أنّ شمول «البيع» للقولي والفعلي ليس بالوضع ، بل بمعونة مقدمات الحكمة.

(٣) يعني : حيث إنّ عموم الآية يدلّ على حلّيّة جميع التصرفات ، والوجه في هذه الدلالة بعد تقدير متعلق الحلّ أي ـ التصرف ـ هو العموم الناشي من حذف المتعلق ، فتثبت حلّية كل تصرف في المأخوذ بالمعاطاة ، سواء توقف على الملك أم لا.

__________________

(*) الحق دلالة الآية على المدّعى بلا حاجة الى تقدير أصلا. وتوضيحه يتوقف على تقديم أمور :

الأوّل : أنّ التصرفات المترتبة على البيع مختلفة بحسب الحكم ، مثلا : إذا باع زيد فرسه بدنانير معيّنة ، فركوبه حلال تكليفا ، وبيعه ووقفه وهبته وصلحه ونحوها حلال وضعا ، وإنفاقه واجب تكليفا ، وحمل ما يحرم أكله وشربه عليه كالميتة والخمر حرام تكليفا.

والحاصل : أنّ التصرفات المترتبة على البيع مختلفة سنخا وحكما ، لكون بعضها خارجيّا كالركوب والأكل والشرب واللّبس ، وهذا القسم محكوم بالحلّ التكليفي أو الحرمة أو الوجوب كذلك ، كحرمة حمل المحرّمات من الخمر ولحم الخنزير ونحوهما عليه ، وكوجوب الإنفاق عليه. وبعضها اعتباريا كالبيع والصلح والهبة والوقف والعتق ونحوها ،

__________________

(١) البقرة ، الآية ٢٧٥.

٣٧٥

.................................................................................................

__________________

وهذا القسم محكوم بالحكم الوضعي كما لا يخفى.

الثاني : أنّ القيود الناشئة عن الحكم يمتنع دخلها في المتعلق ، ومن تلك القيود الصحة ، فإنّها ناشئة عن الدليل ، فدخلها في موضوع الدليل غير صحيح كما هو واضح.

الثالث : أن الحل في اللغة ـ كما عن الصحاح ـ هو الطلق الذي هو الإرسال وعدم المنع والحجر ، في مقابل الحرمة الّتي هي المنع والحجر ، ومن المعلوم أنّ الحلّ بهذا المعنى أعم من التكليفي والوضعي ، فنفوذ البيع يصدق عليه الحلّ ، لعدم منع عنه ، في مقابل البيع غير النافذ ، فإنّه ممنوع عنه ، للمنع عن نفوذه وكونه كسائر البيوع النافذة. فمعنى حرمة بيع الملامسة والمنابذة والحصاة والمجهول وغير ذلك هو عدم نفوذها وعدم ترتب الأثر المقصود عليها.

فكلّ من الحل والحرمة يعمّ التكليفي والوضعي ، وتعيّن أحدهما في بعض الموارد إنّما هو بالقرينة ، فتنظر بعض المحشين قدس‌سره في جواز إرادتهما معا ، نظرا إلى عدم القدر المشترك (١) ، غير ظاهر الوجه.

فالمتحصل : أنّه مع عدم القرينة على إرادة خصوص أحدهما يحمل كلّ من الحلّ والحرمة على القدر المشترك.

الرابع : أنّ الأصل عدم التجوز وعدم التقدير ، فمع إمكان إرادة الظاهر لا تصل النوبة إلى ارتكابهما ، لأنّه رفع اليد عن الظاهر وارتكاب خلافه بلا دليل ، فلا يصار إليه بلا موجب.

الخامس : أنّ الحلّ كالحرمة تارة يتعلق بالأعيان الخارجية كقوله تعالى (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) (٢). و (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ، وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) (٣) و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (٤). واخرى يتعلق بالأفعال الخارجية كالأكل والشرب

__________________

(١) حاشية المحقق الايرواني على المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٧.

(٢) المائدة ، الآية : ١.

(٣) المائدة ، الآية : ٥.

(٤) النساء ، الآية : ٢٣.

٣٧٦

.................................................................................................

__________________

والنكاح وغير ذلك. وثالثة يتعلق بالأمور الاعتبارية المبرزة بمبرز خارجي أو المنشئة بإنشاء قولي أو فعلى كالصلح والبيع والإجارة ، وغيرها من الأمور الاعتبارية.

فإن تعلّق بأعيان خارجية لم يصح الكلام إلّا بتقدير فعل مناسب يتعلّق به الحكم ، وإلّا كان لغوا ، فدلالة الاقتضاء توجب التقدير المزبور ، فيتعلق الحلّ في الآيات المتقدمة بالأكل وفي آية حرمة الأمّهات بالنكاح.

وإن تعلّق بالأفعال الخارجية يصحّ الكلام من دون حاجة الى تقدير ، كقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (١) لكون متعلق الحل ـ وهو الفعل كالرفث في الآية الشريفة ـ مذكورا في الكلام.

وإن تعلق بالأمور الاعتبارية فكذلك ، لصحة تعلّقه بها من دون حاجة الى تقدير.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم : أن مقتضاه إرادة حلية نفس البيع من الآية الشريفة وعدم تقدير التصرفات ، لأنّه خلاف الأصل كما عرفت ، فمعنى الآية الشريفة ـ والله العالم ـ : أنّ الله تعالى شأنه قد رخّص في إيجاد البيع وأطلقه ، ولم يمنع عن تحققه في الخارج. فيراد بالحلّ الجامع بين التكليفي والوضعي ، فتدلّ الآية المباركة ـ بالمطابقة ـ على جواز البيع تكليفا ونفوذه وضعا. ولا ينبغي الارتياب في كون المعاطاة المقصود بها التمليك بيعا ، فيشمله قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لأنّ المراد بالبيع في هذه الآية المباركة هو معناه العرفي لا الشرعي ، بمعنى ما يكون جامعا للشرائط الشرعية حتى يكون مؤثرا فعلا ، لما عرفت ـ في بعض الأمور المتقدمة من امتناع دخل ما ينشأ عن الحكم في متعلقة ، والمفروض أنّ الصحة مترتبة على الدليل ، فلا يمكن أخذها في متعلقة. فالمقصود من البيع في الآية هو العرفي ، فالبيع العرفي بمقتضى هذه الآية حلال تكليفا ووضعا ، فالمعاطاة حلال كذلك ، لأنّها بيع عرفي.

فالمتحصل : أنّ الاستدلال بقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) على كون المعاطاة بيعا جائزا ونافذا في غاية المتانة.

__________________

(١) البقرة ، الآية : ١٨٧.

٣٧٧

.................................................................................................

__________________

وقد ظهر أن الدلالة على ذلك تكون مطابقيّة.

لا يقال : إنّ مقتضى المقابلة بين حلية البيع وحرمة الربا هو إرادة الحلية التكليفية في مقابل الحرمة التكليفية للربا ، وحيث إنّ حلية البيع ـ الذي هو إنشاء تمليك عين بمال ـ تكليفا غير محتاجة إلى البيان ، فلا بد من تقدير ليصحّ تعلق الحلية التكليفية به ، والمقدّر هو التصرفات ، فجميع التصرفات المترتبة على البيع حلال تكليفا بالدلالة المطابقية ، ونفس البيع حلال التزاما ، فالتصرفات المترتبة على المعاطاة حلال تكليفا وإن كانت متوقفة على الملك ، فلا يستفاد من الآية الملكية بل حلية التصرفات ، إذ لا يراد حينئذ من «أَحَلَّ» إلّا الحلية التكليفية كما هو ظاهر المصنف قدس‌سره.

فإنّه يقال : لا مجال لإرادة حلية التصرفات المترتبة على البيع من قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لما عرفت من اختلاف أحكامها بحيث لا يشملها الحلّ ، وإرادة بعضها مما لا قرينة عليه ، هذا.

مضافا إلى : لغوية ذلك ، لتضمن أدلة تشريع تلك الأحكام لها ، فتشريعها ثانيا ممتنع على الحكيم.

وإلى : أنّ الحمل على التصرفات محتاج الى تقدير أو تجوز. وكلاهما خلاف الظاهر جدّا من دون حاجة إليه ، لما مرّ من صحة تعلق الحل بنفس البيع ، وعدم الوجه في رفع اليد عن هذا الظاهر.

وأمّا حرمة الربا فليست قرينة على إرادة خصوص الحل التكليفي ، لأنّ المرادة بالحرمة هو المنع والحجر ، في مقابل الإطلاق والإرسال ، فالمراد بحرمة الربا هو المنع عنها ، وعدم نفوذ البيع فيها. وليس المراد خصوص الحرمة التكليفية ، لأنّها إن كانت عين حرمة التصرف في مال الغير فهي لغو ، فلا بد من الالتزام بالتأكد ، وهو خلاف الأصل. وإن كانت غيرها لزم تعدد العقاب على المخالفة ، وتعدد الثواب على الموافقة ، وهو كما ترى ممّا يبعد الالتزام به. وهذا يصلح لأن يكون قرينة على إرادة الحل الوضعي وهو نفوذ البيع من «أَحَلَّ» ويقابله حرمة الربا ،

٣٧٨

.................................................................................................

__________________

فيراد بها عدم النفوذ.

فحاصل المعنى : أن البيع نافذ ، والربا غير نافذة ، فبالقرينة المقامية يتعيّن إرادة الحلية الوضعيّة من «أَحَلَّ» والحرمة الوضعيّة من «حَرَّمَ الرِّبا».

ومع الغضّ عن هذه القرينة لا مانع من إرادة القدر المشترك ـ وهو الإرسال ـ من «أَحَلَّ» والمنع الذي هو ضدّ الإرسال من «حَرَّمَ الرِّبا».

فقد ظهر من جميع ما ذكرنا : ضعف ما أفاده المصنف قدس‌سره من دلالة الآية الشريفة على حلّية التصرفات المترتبة على البيع ، بل المراد الحلية الوضعية ، فالبيع يوجب الملكية ، لا أنّه يبيح التصرفات بدون الملكية كما أفاده المصنف قدس‌سره حتى نحتاج الى الالتزام بالملك التقديري بالنسبة إلى التصرفات المتوقفة على الملك.

نعم يتجه ما أفاده قدس‌سره من تعلق الحلية بالتصرفات بناء على أنّ المراد بالبيع خصوص الصحيح ، حيث إنّه لا معنى حينئذ لحلية البيع الصحيح ، بل لا بدّ من جعل متعلّق الحلّ التصرفات المترتبة على البيع الصحيح.

لكن لا مجال لذلك بعد البناء على إرادة البيع العرفي ، وبعد ما عرفت من امتناع جعل الحلّ بالنسبة إلى التصرفات المختلفة الأحكام المترتبة على البيع.

وأما ما أفاده المصنف قدس‌سره من جعل الحلّ متعلقا بالتصرفات ففيه أوّلا : أنّ التقدير خلاف الأصل ، ولا موجب له بعد صحة تعلق الحلّ بنفس البيع الذي هو معاملة خاصة عرفية ، حيث إنها من الأمور الاعتبارية التي يصح أن يتعلّق بها الحلية والحرمة كما مرّ في بعض المقدمات.

وثانيا : عدم صحة تعلق الحلّ التكليفي بتلك التصرفات بعد اختلافها في الأحكام كما تقدم أيضا.

وثالثا : أنّ حليّة التصرفات لا تنطبق على المدّعى ، وهو كون المعاطاة مفيدة للملك ، لأنّ مجرّد إباحة التصرفات لا يدلّ على الملكية التي هي المدّعاة ، إذ المفروض أنّ

٣٧٩

.................................................................................................

__________________

المحقق الثاني قدس‌سره يلتزم بمملّكية المعاطاة ، لا مجرّد كونها مبيحة للتصرفات ، والمصنف قدس‌سره يريد إثبات هذا المدّعى بالسيرة وبآية حلّ البيع. ومن المعلوم أنّ حلية التصرفات ـ تكليفا ـ المترتبة على البيع لا تثبت الملكية ، فالدليل لا ينطبق على المدّعى.

اللهم إلّا أن يقال : إنّ المقصود ترتب حلية جميع التصرفات ـ حتى المتوقفة على الملك ـ على البيع الصادق على المعاطاة ، فالآية حينئذ تدلّ بالمطابقة على حلية التصرفات المترتبة على البيع ، وبالالتزام على تأثير البيع الصادق على المعاطاة في الملكية.

لكن قد عرفت عدم صحة تعلق الحلّ بالتصرفات المختلفة حكما ، فلا وجه لتقدير «التصرفات» وجعل الحلّ متعلّقا بها.

وأمّا شي‌ء من الوجوه الأربعة ـ من ظهور الحلّ في التكليفي ، وورد الآية مورد الامتنان ، وكون البيع غير اختياري وانتزاعية الملكية ـ فلا يصلح لإثبات تقدير التصرفات وجعلها متعلقة للحل.

إذ في الأوّل أوّلا : منع الظهور في الحلّ التكليفي ، بعد ما عرفت من عدم إرادة الحرمة التكليفية في قوله تعالى (وَحَرَّمَ الرِّبا).

وثانيا : بعد تسليمه عدم مانع عن إرادة الحل التكليفي ، لأنّ متعلقة المعاملة الخاصة المعهودة بين الناس ، وحليّتها التكليفية ملازمة عرفا لحليتها الوضعية.

وفي الثاني : حصول الامتنان بحلّ البيع العرفي تكليفا المستلزم لحلّه وضعا ، فلا حاجة الى تقدير التصرفات.

وفي الثالث : منع عدم اختيارية البيع ، لأنّ المراد به هو المعاملة المتداولة بين العقلاء التي هي من أفعالهم الاختيارية. نعم ليست هذه المعاملة فعلا اختياريا لأحد المتعاقدين ، لأنّها فعلهما معا ، لا واحد منهما ، فتأمّل.

وفي الرابع : أن الملكية ليست اعتبارا ذهنيا ، بل هي حكم وضعي قابل لتعلق الجعل به ، استقلالا ، كما تقدم مرارا.

٣٨٠