هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

عن بيع المنابذة والملامسة وعن بيع الحصاة (١) على التأويل الآخر (١). ومعنى ذلك (٢) أن يجعل اللمس بشي‌ء والنبذ له وإلقاء الحصاة بيعا موجبا» (٢) انتهى. فإنّ (٣) دلالة هذا الكلام على أنّ المفروض قصد المتعاطيين التمليك من وجوه متعددة :

منها : ظهور أدلته الثلاثة (٤) في ذلك (٥).

ومنها : احترازه عن المعاطاة والمعاملة بالاستدعاء بنحو واحد (٦).

______________________________________________________

(١) التأويل الأوّل المذكور في كلامه هو : أن يكون بيع الحصاة عبارة عن كون المبيع ما يقع عليه الحصاة ، فبطلان البيع إنّما هو لجهالة المبيع ، وفقدان شرط الصحة وهو العلم بالعوضين وهذا المعنى أجنبي عما نحن فيه ، والمرتبط بالمقام معناه الآخر ، وهو : أن يكون بيع الحصاة إيجاب البيع بنفس إلقاء الحصاة ، ولذا فرّع بطلانه على اعتبار الإيجاب والقبول.

(٢) أي : ومعنى التأويل الآخر أن يجعل .. إلخ.

(٣) غرضه : استظهار مدّعاه ـ وهو قصد التمليك بالمعاطاة ـ من عبارة الغنية.

(٤) أوّلها الإجماع الذي معقده عدم حصول البيع بالمعاطاة.

ثانيها : قوله : «وأيضا فما اعتبرناه مجمع على صحة العقد به .. إلخ». والمراد بهذا الكلام هو كون الأصل في ما عداه البطلان ، والمعاطاة تكون ممّا عداه.

وثالثها : قوله : «ولما ذكرنا نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. إلخ» حيث إنّه لا وجه لبطلان المعاطاة إلّا فقدان اللفظ كإنشاء البيع بالملامسة.

(٥) أي : في قصد المتعاطيين التمليك.

(٦) حيث فرّع السيّد ابن زهرة ـ على اشتراط البيع بالإيجاب والقبول ـ أمرين :

أحدهما : المنع من انعقاده بالاستدعاء من المشتري.

والآخر : المنع من انعقاده بالمعاطاة. ومقتضى التفريع وجود قصد التمليك في المعاطاة كوجوده في الاستدعاء.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢٦٦ ، الباب ١٢ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث : ١٣.

(٢) غنية النزوع في الأصول والفروع ، ص ٥٢٤ (الجوامع الفقهية).

٣٤١

وقال في الكافي ـ بعد ذكر أنه يشترط في صحة البيع أمور ثمانية ـ ما لفظه : «واشترط الإيجاب والقبول ، لخروجه (١) من دونهما (٢) عن حكم البيع» الى أن قال : «فإن اختلّ شرط من هذه لم ينعقد البيع ، ولم يستحق التسليم وإن جاز التصرف مع إخلال بعضها ، للتراضي (٣) ، دون عقد البيع ، ويصح معه الرجوع» (١) انتهى.

وهو في الظهور قريب (٤) من عبارة الغنية.

وقال المحقق قدس‌سره في الشرائع : «ولا يكفي التقابض من غير لفظ وإن حصل من الأمارات ما دلّ على إرادة البيع» (٢) انتهى.

وذكر (٥) كلمة الوصل ليس لتعميم المعاطاة

______________________________________________________

(١) أي : البيع الفاقد للإيجاب والقبول يخرج عن البيع شرعا وإن كان بيعا عرفا ، ومن المعلوم تقوّم البيع العرفي بقصد التمليك.

(٢) أي : من دون الإيجاب والقبول.

(٣) متعلق بقوله : «وان جاز» يعني : وإن جاز التصرف للتراضي لا لأجل عقد البيع ، إذ المفروض عدم تحققه بغير الإيجاب والقبول اللفظيين.

ثم لا يخفى أن قوله : «للتراضي» شاهد على أنّ الإباحة الحاصلة بالمعاطاة مالكية لا تعبدية ، لفرض رضى كلّ من المتعاطيين بتصرف الآخر في المأخوذ بالمعاطاة. نعم تختص هذه الإباحة المالكية بما إذا علم المتعاطيان باشتراط الصيغة الخاصة في حصول الملكية وعدم انعقاد البيع بالتعاطي.

(٤) وجه القرب صراحة قول أبي الصلاح : «لم ينعقد البيع ، ولم يستحق التسليم» في نفي البيعية في فرض بناء المتعاطيين على التمليك.

(٥) يعني : قوله : «وإن حصل .. إلخ» توضيحه : أنّ حرف الوصل يشير الى الفرد الخفي ، وهو في عبارة المحقق قدس‌سره يحتمل وجهين :

__________________

(١) الكافي في الفقه لأبي الصلاح الحلبي ، ص ٣٥٢ و ٣٥٣.

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٣.

٣٤٢

لما لم يقصد به البيع (١) بل للتنبيه على أنّه لا عبرة بقصد البيع من الفعل.

وقال في التذكرة في حكم الصيغة : «الأشهر عندنا أنّه لا بدّ منها ، فلا يكفي التعاطي في الجليل والحقير ، مثل : أعطني بهذا الدينار ثوبا ، فيعطيه ما يرضيه أو يقول : خذ هذا الثوب بدينار فيأخذه. وبه قال الشافعي مطلقا ، لأصالة بقاء الملك ، وقصور الأفعال عن الدلالة على المقاصد. وعن بعض الحنفية وابن شريح : في الجليل. وقال أحمد : ينعقد مطلقا ، ونحوه قال مالك ، فإنّه قال : ينعقد بما يعتقده الناس بيعا» (١) انتهى.

ودلالته على قصد المتعاطيين للملك لا تخفى من وجوه (٢) : أدونها جعل مالك موافقا لأحمد في الانعقاد من جهة أنه قال : «ينعقد بما يعتقده الناس بيعا».

______________________________________________________

الأوّل : أن يكون مقصوده عدم كفاية التقابض في حصول الملك ، سواء قصد المتعاطيان التمليك كما في البيع القولي ، أم قصدا مجرّد إباحة التصرفات والإذن فيها.

الثاني : أن يكون مقصوده عدم تأثير التقابض في ترتب الملك عليه ، سواء قامت قرينة على أنّ المتعاطيين قصدا التمليك ـ كاستظهار قصدهما من المقاولة التي تسبق التقابض غالبا ـ أم لم تقم قرينة على قصد التمليك.

والمصنف قدس‌سره استظهر الاحتمال الثاني ، لأنّ المحقق قدس‌سره فرّع عدم كفاية التقابض على العقد الدال على نقل الملك ، فلا بدّ أن يكون المتعاطيان قاصدين للتمليك حتى يتجه التفريع المذكور ، إذ لو كانا قاصدين للإباحة كان عدم حصول الملك مستندا إلى عدم المقتضي لا إلى فقد الشرط. ومن المعلوم أنّ المبيح يجوز له الرجوع عن إذنه في التصرف ، وله استرداد ماله.

(١) كما زعمه صاحب الجواهر قدس‌سره حيث وجّه عدم ترتب الملك في المعاطاة بعدم قصده ، إذ مقصودهما الإباحة لا التمليك.

(٢) أحدها : قوله : «فلا يكفي التعاطي .. إلخ» فإنّ تفريعه على اعتبار الصيغة يدل على كون المتعاطيين قاصدين للتمليك ، وأنّ الفساد نشأ من فقدان الشرط وهو الصيغة.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢.

٣٤٣

وقال الشهيد في قواعده ـ بعد قوله : قد يقوم السبب الفعلي مقام السبب القولي وذكر أمثلة لذلك ـ ما لفظه : «وأمّا المعاطاة (١) في المبايعات فهي تفيد الإباحة لا الملك وإن كان في الحقير عندنا» (١).

ودلالتها على قصد المتعاطيين للملك مما لا يخفى (٢).

هذا كله (٣) مع أنّ الواقع في أيدي الناس هي المعاطاة بقصد التمليك ، ويبعد فرض الفقهاء من العامة والخاصة الكلام في غير ما هو الشائع بين الناس ، مع أنّهم صرّحوا بإرادة المعاملة المتعارفة بين الناس.

______________________________________________________

ثانيها : قوله : «وقصور الأفعال .. إلخ» لظهوره في أنّ مقصود المتعاطيين هو الملك ، وعدم الوقوع إنّما هو لقصور الأفعال عن الدلالة على المقاصد وما في الضمائر.

ثالثها : قوله : «ينعقد بما يعتقده الناس بيعا» إذ لا معنى لوقوع البيع عند الناس بدون قصد التمليك كما لا يخفى.

(١) ليس في النسخة المطبوعة من قواعد الشهيد «قيام السبب الفعلي مقام القولي» لأنّه قدس‌سره قال : «قد يقوم السبب الفعلي غير المنصوب ابتداء مقام الفعلي المنصوب ابتداء ، كتقديم الطعام الى الضيف ، فإنّه مغن عن الإذن في الأصح ، وتسليم الهدية إلى المهدي إليه وإن لم يحصل القبول القولي في الظاهر من فعل السلف والخلف ، وكذلك صدقة التطوع .. إلخ».

نعم الأمثلة المذكورة قرينة على إرادة السبب القولي من قوله : «السبب الفعلي المنصوب» فراجع كلامه.

(٢) يعني : أنّ المعاطاة عند غيرنا تفيد الملك.

(٣) يعني : أنّه ـ مضافا الى كلمات الفقهاء الدالة على أنّ محلّ النزاع هو المعاطاة المقصود بها الملك ـ يكفي لإثبات المطلب المراجعة إلى سيرة العقلاء في بيوعهم المعاطاتية المبنيّة على التمليك لا على الإذن المالكي مع بقاء العينين على ملكهما كما كان قبل التعاطي.

__________________

(١) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ١٧٨ ، القاعدة : ٤٧.

٣٤٤

ثم إنّك (١) قد عرفت ظهور أكثر العبارات المتقدمة في عدم حصول الملك ، بل صراحة بعضها كالخلاف والسرائر والقواعد.

ومع ذلك (٢) كلّه فقد قال المحقق الثاني في جامع المقاصد : «انّهم أرادوا بالإباحة الملك المتزلزل».

فقال : «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع وإن لم يكن كالعقد في اللزوم ، خلافا لظاهر عبارة المفيد (٣) ، ولا يقول أحد بأنّها بيع فاسد سوى المصنف في النهاية ، وقد رجع عنه في كتبه المتأخرة. وقوله تعالى (إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) عام (٤) إلّا ما أخرجه الدليل. وما (٥) يوجد في عبارة جمع من متأخري الأصحاب ـ من أنّها تفيد الإباحة وتلزم بذهاب إحدى العينين ـ يريدون به عدم اللزوم في أوّل الأمر ، وبالذهاب يتحقق اللزوم ، لامتناع (٦) إرادة الإباحة المجرّدة من أصل الملك إذ (٧) المقصود للمتعاطيين الملك ، فإذا لم يحصل كان بيعا فاسدا ،

______________________________________________________

(١) بعد أن استوفى المصنف قدس‌سره مقصوده من نقل كلمات الفقهاء في تحرير محلّ النزاع ، وأنّ مرادهم قصد الملك ، ويترتب عليه الإباحة تعبدا ، تعرّض لجملة مما أفاده المحقق الكركي قدس‌سره في وجه حمل الإباحة على الملك الجائز ، وسيورد المصنف عليه بإباء عبارات الأصحاب عن هذا الحمل.

(٢) أي : مع صراحة بعضها ، وظهور بعضها الآخر.

(٣) قد تقدمت عبارة المفيد التي استفيد منها كون المعاطاة بيعا لازما كالبيع القولي.

(٤) يعني : أنّ الآية المباركة ـ التي هي من أدلة إمضاء البيع ـ قد أخذت التجارة فيها موضوعا للنفوذ والصحة ، ومن المعلوم شمول «التجارة» لكلّ من القول والفعل ، ولا تختص بالمعاملة اللفظية.

(٥) من هنا أخذ المحقق الكركي في التصرف في «الإباحة» الواردة في كلمات القوم بحملها على الملك الجائز.

(٦) تعليل لقوله : «يريدون ..» والمعنى واضح.

(٧) تعليل لامتناع إرادة الإباحة العارية عن الملك ، ومحصله : أنّ قاعدة «تبعية العقود

٣٤٥

ولم يجز التصرف وكافة (١) الأصحاب على خلافه. وأيضا (٢) فإنّ الإباحة المحضة لا تقتضي الملك أصلا ورأسا ، فكيف يتحقق ملك شخص بذهاب مال آخر في يده. وإنّما (٣) الأفعال لمّا لم تكن دلالتها على المراد بالصراحة كالقول ـ لأنّها تدلّ بالقرائن ـ منعوا من لزوم العقد بها ، فيجوز التّراد ما دام ممكنا ، ومع تلف إحدى العينين يمتنع التّراد ، فيتحقق اللزوم ، ويكفي تلف بعض إحدى العينين ، لامتناع التّراد في الباقي ، إذ هو موجب لتبعض الصفقة والضرر» (١) انتهى.

______________________________________________________

للقصود» من القواعد المسلّمة عندهم ، وعليه فلمّا كان المتعاطيان قاصدين للتمليك كان اللازم إمّا ترتب الملك على تعاطيهما حتى تتحقق متابعة عقد المعاطاة للقصد ، وإمّا فساد أصل المعاملة وكون التصرف في العينين كالغصب في الحرمة والضمان ، ومن المعلوم أنّ ترتب الإباحة المحضة ليس مقتضى صحة المعاملة ولا فسادها. فلا مجال للقول بها.

(١) يعني : والحال أنّ كافة الأصحاب قائلون بجواز التصرف في المأخوذ بالمعاطاة.

وهذا الإجماع كاشف عن حصول الملك.

(٢) هذا وجه آخر استدل به المحقق الثاني على ضرورة توجيه الإباحة بالملك المتزلزل.

ومحصله : أنّ الفقهاء حكموا بلزوم المعاطاة بتلف إحدى العينين ، ويستبعد جدّا أن تصير إحدى العينين ملكا لمن هي في يده بسبب تلف العين الأخرى في يد المتعاطي الآخر. ويزول هذا الاستغراب بالالتزام بحصول الملك الجائز حتى يصير لازما بتلف إحدى العينين ، فإنّ ترتب الملك الجائز على العقد ثم انقلابه بالملك اللازم أمر واقع في الشريعة كما في موارد الخيارات.

(٣) مقصود المحقق الثاني قدس‌سره تأييد توجيه الإباحة بالملك الجائز ، ومحصله : أنّ الفقهاء حكموا بتوقف العقود اللازمة على إنشائها باللفظ ، لقصور الأفعال عن تأدية القصود والمرادات ، ولأجله منعوا من إفادة المعاطاة للملك اللازم ، وحكموا بجواز ترادّ العينين مع الإمكان ، وبلزوم الملك إذا تلفت إحدى العينين. وليس مقصودهم من جواز التّراد حصول

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٨.

٣٤٦

ونحوه المحكيّ عنه في تعليقه على الإرشاد ، وزاد فيه : «أن مقصود المتعاطيين إباحة مترتبة على ملك الرقبة كسائر البيوع ، فإن حصل مقصودهما ثبت ما قلنا ، وإلّا لوجب أن لا تحصل إباحة بالكلية ، بل يتعيّن الحكم بالفساد ، إذ المقصود غير واقع ، فلو وقع غيره لوقع بغير قصد ، وهو باطل. وعليه يتفرّع النماء وجواز وطي الجارية ، ومن منع فقد أغرب» (١) انتهى.

والذي (٢) يقوى في النفس إبقاء ظواهر كلماتهم على حالها ،

______________________________________________________

الإباحة المجرّدة عن الملك كما اشتهر نسبة ذلك الى الأصحاب ، بل مرادهم الملك الجائز الذي يجوز استرداد المال كما في العقد الخياري.

والنتيجة : أنّ جواز التراد أعم من الإباحة والملك المتزلزل ، فليس قرينة على إرادة الإباحة في كلمات الأصحاب.

(١) هذه العبارة قد نقلها السيد العاملي قدس‌سره (١). وراجعنا نسخة مخطوطة من تعليق المحقق الكركي على إرشاد العلامة قدس‌سرهما وفيها زيادة على ما في المتن ، وهي قوله : «وممّا يرشد إلى ما قلناه ـ مضافا الى ما تقدم ـ عبارات القوم ، فإنّ بعضها كالصريح فيما قلناه. قال المصنف في التحرير : فتجويز الفسخ يستلزم الاعتراف بثبوت ملك في الجملة. وكذا تسميتها معاوضة. والحكم باللزوم بعد الذهاب يستلزم ثبوت شي‌ء متزلزل قبله ليتصف باللزوم بعده .. إلخ».

(٢) لمّا فرغ المصنف من نقل كلمات المحقق الثاني قدس‌سرهما في شرح القواعد وتعليقه على الإرشاد ، شرع في تحقيقها ، والمستفاد من أوّل كلام الماتن الى آخره مطالب ثلاثة.

أحدها : الإيراد على المحقق الكركي.

ثانيها : الانتصار له في إيراده على المشهور.

ثالثها : الاعتراض على المحقق الكركي مرّة أخرى بأن استلزام مقالتهم لمخالفة القواعد المسلّمة لا يوجب التصرف في كلامهم بحمل الإباحة على الملك المتزلزل. وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٥.

٣٤٧

وأنّهم (١) يحكمون بالإباحة المجرّدة عن الملك في المعاطاة (٢) مع فرض قصد المتعاطيين التمليك ، وأنّ الإباحة لم تحصل بإنشائها ابتداء (٣) ، بل إنّما حصلت كما اعترف به في المسالك (٤) من «استلزام إعطاء كلّ منهما سلعته مسلّطا عليها الإذن (٥) في التصرف فيها بوجوه التصرفات».

______________________________________________________

(١) عطف تفسيري لقوله : «حالها» وهذا هو المطلب الأوّل ، ومحصله : أنّه لا وجه لتنزيل الإباحة ـ الواردة في عبارات الأصحاب ـ على الملك المتزلزل كما أفاده المحقق الكركي ، لكونه خلاف الظاهر ، لا يصار إليه بلا قرينة ، والمفروض عدم وجود قرينة على التصرف المزبور.

(٢) خلافا للمحقق الثاني ، حيث جعل الإباحة بمعنى الملك لئلّا يلزم تخلف العقد عن القصد ، وقال : إنّ مرادهم بالإباحة هو الملك المتزلزل.

(٣) يعني : كما هو مقتضى توجيه الجواهر ، لأنّ المفروض أنّ المتعاطيين قصدا التمليك لا الإباحة.

(٤) أي : كما اعترف الشهيد الثاني بحصول الإباحة في المسالك ، حيث قال فيه ـ بعد نفي الملك احتجاجا بأنّ الناقل للملك لا بدّ أن يكون من الأقوال الصريحة في الإنشاء المنصوبة من قبل الشارع ـ ما لفظه : «وإنما حصلت الإباحة باستلزام إعطاء كلّ منهما الآخر سلعته مسلّطا عليها الإذن في التصرّف فيها بوجوه التصرّفات ، فإذا حصل كان الآخر عوضا عمّا قابله ، لتراضيهما على ذلك. وقبله يكون كل واحد من العوضين باقيا على ملك مالكه ، فيجوز له الرجوع فيه. ولو كانت بيعا قاصرا عن إفادة الملك المترتب عليه لوجب كونها بيعا فاسدا إذ لم يجتمع شرائط صحته ، وما جاء من قبل الشارع أنّ البيع على قسمين ، فما حصل فيه الإيجاب والقبول على وجههما لازم ، وما حصل فيه التراضي بدونه جائز ، ومن ثمّ ذهب العلامة في النهاية إلى كونها بيعا فاسدا ، وأنّه لا يجوز لأحدهما التصرف فيما صار إليه أصلا» (١).

(٥) بالنصب مفعول قوله : «استلزام» و«مسلّطا» حال من «إعطاء» يعني : أنّ الإعطاء التسليطي يستلزم الإذن في التصرف.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٨ و ١٤٩.

٣٤٨

ولا يرد عليهم (١) عدا ما ذكره المحقق المتقدم في عبارته المتقدمة (٢) وحاصله (٣) : أن المقصود هو الملك ، فإذا لم يحصل فلا منشأ لإباحة التصرف ،

______________________________________________________

(١) هذا هو المطلب الثاني ، وهو تقوية كلام المحقق الثاني في الإيراد على المشهور ، الذي دعاه الى حمل الإباحة ـ في كلامهم ـ على الملك الجائز.

(٢) وهو قول المحقق الكركي : «إذ المقصود للمتعاطيين إنما هو الملك لا الإباحة».

(٣) أي : حاصل ما ذكره المحقق الكركي : أنّ المقصود هو الملك ، فإذا لم يحصل لزم عدم تأثير المعاطاة أصلا ، لكونها عقدا فاسدا ، فلا منشأ للإباحة.

ثم إنّ هذا بيان المطلب الثاني المشار إليه آنفا ، وهو الانتصار للمحقق الثاني في الاعتراض على المشهور ، وهو يتضمن أمرين ، أحدهما : المناقشة في ترتب الإباحة على المعاطاة ، وثانيهما : تأييد المناقشة بالاستناد إلى إطلاق كلامهم.

أمّا أصل المناقشة فبيانها : أنّ الإباحة التي ادّعاها المشهور إمّا مالكية وإمّا تعبدية.

فإن أرادوا ترتب الإباحة المالكية على المعاطاة اتّجه عليهم : أنّه لا ريب في انتفائها ، إذ مفروض الكلام قصد المتعاطيين للملك لا الإباحة المحضة ، ومن المعلوم إناطتها بالقصد كالملك.

وإن أرادوا ترتّب الإباحة التعبدية اتجه عليهم أوّلا : أنّ هذه الإباحة حكم شرعي يتوقف إسناده إلى الشارع على حجة شرعية ، والمفروض خلوّ كلمات الأصحاب عن الاستناد إلى نصّ يدلّ على ترتب الإباحة على المعاطاة المقصود بها التمليك.

وثانيا : لا ريب في أنّ قاعدة «العقود تابعة للقصود» من القواعد الفقهية المسلّمة بينهم ، ومقتضى هذه التبعية عدم وقوع ما لم يقصده المتعاقدان ، وعليه يستبعد جدّا أن يلغي الشارع التمليك الذي قصده المتعاطيان ، وأن يحكم بحصول الإباحة المحضة غير المقصودة.

هذا مضافا إلى : منع أصل النسبة ، إذ لم يثبت التزام المشهور بترتب الإباحة الشرعية على المعاطاة المقصود بها التمليك ، فإنّ التأمل في كلماتهم يعطي ترتب الإباحة المالكية لا التعبدية ، لقولهم «برضى المتعاطيين بتصرف كلّ منهما فيما يأخذه من الآخر بالمعاطاة» ومن المعلوم

٣٤٩

إذ (١) الإباحة إن كانت من المالك فالمفروض أنّه لم يصدر منه إلّا التمليك (٢) ،

______________________________________________________

بعد ـ بل منع ـ حمل الرضا بالتصرف على أنّ الشارع حكم بترتب الإباحة على المعاطاة تعبدا من باب إعمال مولويّته ، ولم يمض إذن المالك المبيح بتصرف الآخذ فيما أخذه.

فالنتيجة : أنّه ـ بعد بطلان إرادة الإباحة المالكية والتعبدية في كلمات المشهور ـ يتعين الالتزام بترتب الملك الجائز على المعاطاة طبقا لقصد المتعاطيين. وهذا هو الذي استظهره المحقق الثاني من عبارات القوم.

وأما تأييد المناقشة المتقدمة فبيانه : أنّه لا بدّ أن يريد المشهور بقولهم : «المعاطاة تفيد الإباحة» الملك. وذلك لأنّهم حكموا بجواز تصرف المتعاطيين مطلقا فيما يأخذانه ، سواء أكان ذلك التصرف منوطا بالملك ، كالبيع والوقف والعتق ونحوها ، أم لم يكن منوطا به ، كجواز أكل المارّة من ثمرة الشجرة الممرور بها ، وكجواز الأكل من بيوت من تضمّنته الآية المباركة من الأقارب.

ووجه التأييد واضح ، فإنّ تجويز أنحاء التصرفات المخصوصة بالمالك ـ ومن يقوم مقامه ـ يتوقف على صيرورة المتعاطيين مالكين لما يأخذانه ، وإلّا لزم مخالفة حكم الشارع في قوله عليه‌السلام : «لا بيع إلّا في ملك» ونحوه. ولو كان مقصودهم من الإباحة ظاهرها ـ لا الملك ـ كان عليهم تقييد جواز التصرف بأن يقولوا : «إنّ المعاطاة تفيد إباحة خصوص التصرفات غير المتوقفة على الملك» فإطلاق الجواز كاشف عن إرادة الملك.

وأمّا وجه التعبير بالتأييد فسيأتي.

(١) تعليل لقوله : «فلا منشأ لإباحة التصرف» وهذا وجه بطلان ترتب الإباحة على المعاطاة ، وقد أوضحناه بقولنا : «فإن أرادوا ترتب الإباحة المالكية على المعاطاة اتجه عليهم .. إلخ».

(٢) ومن المعلوم أنّ التمليك مضادّ للإباحة ، وليست الإباحة من مراتب الملك ، فإنّ حقيقة الإباحة هي الإذن في التصرف في ملك الغير ، وهي غير إباحة التصرف للمالك في ملكه لقاعدة السلطنة.

٣٥٠

وإن كانت (١) من الشارع فليس عليها دليل ، ولم يشعر كلامهم بالاستناد إلى نصّ (٢) في ذلك. مع (٣) أنّ إلغاء الشارع للأثر المقصود وترتيب غيره بعيد جدّا. مع (٤) أنّ التأمّل في كلامهم يعطي إرادة الإباحة المالكية لا الشرعية (٥).

ويؤيّد (٦) إرادة الملك أنّ ظاهر إطلاقهم إباحة التصرف شمولها للتصرفات التي لا تصحّ إلّا من المالك كالوطي والعتق

______________________________________________________

(١) معطوف على قوله : «إن كانت من المالك» وهذا إبطال لترتب الإباحة التعبدية على المعاطاة ، وقد أوضحناه بقولنا : «وإن أرادوا ترتب الإباحة التعبدية اتجه عليهم أوّلا .. إلخ».

(٢) بل استند بعضهم ـ كالخلاف والغنية ـ إلى الإجماع ، فراجع.

(٣) هذا إشارة إلى الإشكال الثاني على المشهور إن أرادوا بالإباحة التعبدية ، وقد تقدم بيانه بقولنا : «وثانيا : لا ريب في أن قاعدة العقود تابعة للقصود .. إلخ».

(٤) مقصوده قدس‌سره منع صحة ما نسب الى المشهور من ترتب الإباحة التعبدية على المعاطاة ، ومن أنّ مرادهم من الإباحة هي المالكية. وقد عرفته بقولنا : «مضافا إلى منع أصل النسبة ، إذ لم يثبت التزام المشهور .. إلخ».

(٥) بل كلام المسالك ـ المتقدم آنفا ـ كالصريح في كون الإباحة مالكية ، لقوله : «استلزام إعطاء كل منهما الآخر سلعته مسلّطا عليها الإذن في التصرف فيها».

(٦) بعد أن أبطل المصنف قدس‌سره ترتب الإباحة ـ بقسميها ـ على المعاطاة وأنّه يتعيّن إرادة ما استظهره المحقق الثاني قدس‌سره من الملك الجائز من قولهم : «المعاطاة تفيد الإباحة» أراد تأييده بالاستناد إلى كلماتهم الظاهرة في جواز كلّ تصرف في المأخوذ بالمعاطاة سواء أتوقف على الملك أم لا ، ومن المعلوم أنّ المعاطاة لو لم تؤثّر في الملك لم يكن للمتعاطيين إباحة مثل البيع والعتق فيما وصل إليهما ، فإنّ توقّف البيع على كون العوضين مملوكين ـ أو كالمملوكين ـ حكم شرعي ليس بيد المتعاطيين جوازه ومنعه.

وأمّا وجه التعبير بالتأييد دون الدلالة ـ مع أنّ الإطلاق أصل لفظي يصح الاحتجاج به على المشهور ـ فهو : أنّ الأخذ بالإطلاق منوط بعدم معارض أقوى منه. ولعلّ صراحة

٣٥١

والبيع لنفسه (١) ، والتزامهم (٢) حصول الملك مقارنا لهذه التصرفات ـ كما إذا وقعت

______________________________________________________

كلمة «الإباحة» في ما يقابل الملك مانعة عن انعقاد الإطلاق في قولهم : «المعاطاة تفيد الإباحة» فيكون نتيجة تقديم أقوائية الإباحة ـ في الإذن المجرّد ـ على إطلاق التصرف هي : اختصاص إباحة التصرف بما لا يتوقف على الملك ، وقد صرّح بهذا التقييد الشهيد في محكي حواشيه على القواعد ، حيث منع دفع المال ـ المأخوذ بالمعاطاة ـ بعنوان الخمس والزكاة المتوقفين على الملك.

(١) تقييد البيع لنفسه لأجل أنّ المتعاطي يجوز له أن يبيع المأخوذ بالمعاطاة بقصد مالكه ، فجواز البيع للمالك لا يصير مؤيّدا لإرادة الملك من «الإباحة» في كلام المشهور ، وإنّما يحصل التأييد إذا استفيد من إطلاق كلام المشهور إباحة أن يبيع المباح له لنفسه بأن يصير الثمن ملكا له لا للمبيح.

(٢) هذا دفع دخل مقدر ، وحاصل الدخل : أنّ ما ذكره المصنف بقوله : «ويؤيد إرادة الملك» ممنوع ، وذلك لتوقف التأييد المزبور على أنّ المشهور أرادوا «بإباحة أنحاء التصرفات» حصول الملك للمتعاطيين بمجرّد التقابض ، إذ يتعيّن حينئذ حمل الإباحة على الملك ، ضرورة توقف بعض التصرفات على الملك.

ولكن يمكن منع هذه الاستفادة ، بأن يلتزم المشهور بالملكية الآنيّة ، وبيانه : أن المشهور أرادوا بالإباحة الإذن المقابل للملك ، وتجويز البيع والعتق والوقف ليس قرينة على إرادة الملك من حين التعاطي ، فما دامت العين باقية على حالها فهي ملك المبيح ، وإذا أراد المباح له بيعها أو وقفها دخلت العين في ملكه آنا مّا ، فيكون ذلك التصرف المتوقف على الملك واقعا في ملكه ، لا في ملك المبيح.

وعليه فلا وجه لاستفادة مالكية المتعاطيين ـ من حين التعاطي ـ من إطلاق قول المشهور بإباحة التصرفات. بل لا بد من إبقاء الإباحة على ظاهرها ، والالتزام بالملكية الآنيّة التي ليست هي عديمة النظير في الشريعة المقدسة. وذلك كتصرف ذي الخيار ، فإنّهم حكموا بأنّ البائع إذا جعل لنفسه الخيار صارت العين ملكا جائزا للمشتري ، فإن أمضى البائع العقد

٣٥٢

هذه التصرفات من ذي الخيار أو من الواهب الذي يجوز له الرجوع ـ بعيد (١). وسيجي‌ء (٢) ما ذكره بعض. الأساطين من أنّ هذا القول (٣) مستلزم لتأسيس قواعد جديدة (٤).

______________________________________________________

صارت ملكا لازما للمشتري ، وإن فسخ بقوله : «فسخت» عادت الى ملكه كما كانت قبل البيع ، وإن فسخ بالفعل بأن باعها من شخص آخر فقد قالوا بصحة هذا البيع ، ويكون فسخا فعليا للبيع الأوّل ، وتصير العين ملكا له آنا مّا قبل بيعه الثاني حتى يقع البيع في ملكه.

وكذلك حكم الفقهاء بالملكية الآنيّة في رجوع الواهب عن هبته. وليكن المقام كذلك. وعليه فلا مجال للتأييد المتقدم.

(١) خبر قوله : «والتزامهم» ودفع للدخل المزبور. وحاصل الدفع : أنّ حمل إطلاق كلام المشهور على بقاء العينين على ملك المتعاطيين ـ ودخول كل منهما في ملك الآخر آنا مّا قبل التصرف المتوقف على الملك ـ بعيد جدّا ، لعدم كون الملكية الآنيّة معهودة منهم في باب المعاطاة. ومجرّد التزامهم بها في فسخ ذي الخيار ورجوع الواهب لا يوجب الالتزام بها في المقام ، فإنّ الجمع بين الأدلة يقتضي القول بالملكية الآنيّة في المسألتين السابقتين ، وهما : فسخ ذي الخيار ورجوع الواهب.

بخلاف المعاطاة ـ بناء على المشهور من إفادتها للإباحة المحضة ـ إذ كان عليهم تقييد التصرفات الجائزة بما لم يتوقف على الملك ، لا إبقاء «جواز التصرف» على إطلاقه حتى يتكلف لمشروعيّته بالملكيّة الآنيّة بلا دليل عليها. وعليه فالتأييد المتقدم في محله.

(٢) مقصوده قدس‌سره إقامة الشاهد على بعد حمل كلام المشهور على الملكية الآنيّة ، وهو ما أفاده الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره ـ وسيأتي كلامه مفصّلا ـ من أن القول بترتّب الإباحة المحضة على المعاطاة ثم تبدّلها بالملك يستلزم تأسيس قواعد جديدة. وليس البعد منحصرا في الالتزام بدخول العين آنا مّا في ملك المباح له قبل تصرفه فيها ، بل هناك محاذير أخرى سيأتي بيانها ان شاء الله تعالى.

(٣) أي : القول المنسوب إلى المشهور ، وهو إفادة المعاطاة للإباحة مع قصد الملك.

(٤) يعني : فعلى هذا لا بدّ من إرادة الملك من الإباحة المذكورة في كلماتهم ، لا ظاهرها من

٣٥٣

لكنّ الإنصاف (١) أنّ القول بالتزامهم لهذه الأمور أهون من توجيه

______________________________________________________

الإباحة المجرّدة عن الملك ، لاستلزام ذلك تأسيس قواعد جديدة.

(١) هذا شروع في المطلب الثالث مما أفاده المصنف حول كلام المحقق الثاني قدس‌سرهما ومحصّله : المناقشة في حمل الإباحة ـ في كلام المشهور ـ على الملك المتزلزل ، وذلك لوجهين :

أحدهما : راجع إلى منع الكبرى ، وهو أصل الاستبعاد عن ترتيب آثار الملك على المأخوذ بالمعاطاة المفيدة للإباحة المحضة.

وثانيهما : راجع الى منع الصغرى ، وهو عدم جواز التصرفات المتوقفة على الملك في المأخوذ بالمعاطاة.

وتوضيح الوجه الأوّل : أنّ حكم المشهور بإباحة التصرفات المتوقفة على الملك مع كون المعاطاة مفيدة للإباحة عندهم وإن لم يكن مستأنسا ، إلّا أنّ في رفع اليد عن الإباحة بحملها على الملك الجائز ـ كما صنعه المحقق الكركي ـ محذورا أكثر ، وذلك لإمكان توجيه رأي المشهور بما ينطبق على القواعد الفقهية ولا تبقى غرابة في البين.

وبيانه : أنّ الدليل على الحكم الشرعي لا ينحصر في الآية والرواية الواضحتين دلالة ، بل الجمع بين الأدلة المختلفة لو اقتضى حكما شرعيا كان حجة أيضا بنظر الفقيه.

وعلى هذا يقال في تأييد كلام المشهور : إنّ هنا طائفتين من الأدلة.

إحداهما : استصحاب عدم مالكية المتعاطيين لما انتقل إليهما ، بعد قصور الأدلّة الاجتهادية عن إفادة حكم المعاطاة.

ثانيتهما : الإجماع المدّعى في كلامهم على مشروعية أنحاء التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة سواء توقفت على الملك أم لا. ومن المعلوم أنّ الجمع بين هذين الدليلين يقتضي الالتزام بالإباحة العارية عن الملك ما لم يتصرف المباح له فيما أخذه تصرّفا متوقفا على الملك كالوقف والعتق ، فإذا تصرّف فيه بهذا التصرف الخاص دخل في ملكه آنا ما.

وأما قاعدة «تبعية العقود للقصود» فهي قاعدة شرعية قابلة للتخصيص كما سيأتي تفصيله.

وعليه فليس في كلام المشهور ما يكون خارقا للقواعد الفقهية المسلّمة ، والأحكام

٣٥٤

كلامهم (١) ، فإنّ هذه الأمور لا استبعاد في التزامها إذا اقتضى الأصل عدم الملكية ، ولم يساعد عليها (٢) دليل معتبر ، واقتضى (٣) الدليل (٤) صحّة التصرفات المذكورة.

______________________________________________________

الضرورية.

وتوضيح الوجه الثاني ـ وهو المنع الصغرويّ ـ : أنّ جواز التصرفات المتوقفة على الملك ليس مجمعا عليه حتى يتجه الاستبعاد ، بل هو من المسائل الخلافية ، وذلك لما يستفاد من تضاعيف كلماتهم ، فشيخ الطائفة قدس‌سره منع من مباشرة الجارية المهداة بالمعاطاة. والشهيد منع من أداء الزكاة والخمس بالمأخوذ بالمعاطاة ، لتوقّفهما على الملك ، والمعاطاة مفيدة للإباحة دون الملك.

وقد تحصّل : أنّ توجيه المحقق الكركي للإباحة بالملك المتزلزل ـ لأجل تلك الاستبعادات ـ غير سديد ، فالأولى إبقاء ظواهر كلماتهم على حالها ، والتخلّص عن الاستبعادات بوجه آخر.

(١) بإرادة الملك من الإباحة كما صنعه المحقق الكركي قدس‌سره وذلك لأنّ الأمور المبعّدة المذكورة الموجبة لتأسيس قواعد جديدة لا استبعاد في التزامها إذا اقتضى الدليل صحة تلك التصرفات ، مع أنّ صحّتها ليست مسلّمة عند الكل كما عرفت آنفا.

(٢) أي : لم يقم على الملكية دليل معتبر حتى يكون حاكما على أصالة عدم حدوث الملك بالتعاطي.

(٣) معطوف على قوله : «اقتضى» ومقصوده الجمع بين الاستصحاب وما دلّ على نفوذ التصرف المتوقف على الملك في المأخوذ بالمعاطاة ، ومحصّله : الالتزام بالملكية الآنيّة أي دخول العين في ملك الآخذ في الآن المقارن للتصرف المتوقف على الملك كالبيع لنفسه والعتق ونحوهما. وقد تقدم توضيح هذا الوجه بقولنا : «وتوضيح الوجه الأوّل : أن حكم المشهور .. إلخ».

(٤) الكلام كلّه في وجود هذا الدليل ، وسيأتي تفصيله فيما يتعلق باستبعادات الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره.

٣٥٥

مع (١) أنّ المحكىّ عن حواشي الشهيد على القواعد : المنع عمّا يتوقف على الملك كإخراجه في خمس أو زكاة ، وكوطي الجارية (١).

وممّا يشهد (٢) على نفي البعد عمّا ذكرنا من إرادتهم الإباحة المجرّدة مع قصد المتعاطيين التمليك : أنّه قد صرّح الشيخ في المبسوط (٢) والحلّي في السرائر كظاهر العلّامة في القواعد بعدم حصول الملك بإهداء الهديّة (٣) بدون الإيجاب والقبول (٤) ولو من الرّسول (٥) ،

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الإشكال على المحقق الكركي. ومحصله : منع الصغرى ، وبه لا يبقى موضوع للاستبعاد أصلا ، لفرض عدم جواز التصرف المتوقف على الملك في المأخوذ بالمعاطاة.

(٢) وجه الشهادة : أنّه لو كان التعاطي مفيدا للملك المتزلزل لم يكن وجه لاستثناء وطي الجارية ، لأنّه يسوغ بالملك ولو كان متزلزلا ، فاستثناؤه يشهد بأنّ المعاطاة ـ المقصود بها التمليك ـ لا تسوّغ إلّا إباحة التصرف ، دون التصرفات المتوقفة على الملك كالوطي ، ومع هذا الاستثناء كيف تحمل الإباحة على الملك المتزلزل كما أصرّ عليه المحقق الثاني قدس‌سره؟

(٣) مطلقا سواء كانت جارية أم شيئا آخر.

(٤) قال الشيخ : «وإذا وصلت الهدية الى المهدي إليه لم يملكها بالوصول ولم تلزم ، ويكون ذلك إباحة من المهدي ، حتى أنّه لو أهدي إليه جارية لم يجز أن يستمتع بها ، لأنّ الإباحة لا تدخل في الاستمتاع. ومن أراد الهدية ولزومها وانتقال الملك فيها الى المهدي إليه الغائب فليوكّل رسوله في عقد الهدية معه .. إلخ». ونحوه كلام ابن إدريس ، فلاحظ.

(٥) هذا إشارة إلى الفرد الخفي من الهدية المفيدة للملك. إذ تارة يكون العاقد هو الواهب الأصيل ، وأخرى رسوله بالوكالة من مرسل الهدية ، فلو لم يقترن إقباض الهدية بالعقد ـ سواء من المالك أم من وكيله ـ لم يفد إلّا إباحة التصرف ، ولا تشرع التصرفات المنوطة بالملك فيه.

__________________

(١) الحاكي هو الفقيه العاملي في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٨.

(٢) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٣ ، ص ٣١ ، السرائر ، ج ٣ ، ص ١٧٧ ، قواعد الاحكام ، ص ١١٠.

٣٥٦

نعم (١) يفيد ذلك إباحة التصرف ، لكن الشيخ استثنى وطي الجارية (٢).

ثم (٣) إنّ المعروف بين المتأخرين أنّ من قال بالإباحة المجرّدة في المعاطاة قال بأنّها ليست بيعا حقيقة كما هو ظاهر بعض العبائر المتقدمة (٤) ومعقد إجماع الغنية (٥)

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «بعدم حصول الملك» ومقصوده أنّ الهبة المعاطاتية ليست عقدا فاسدا بالكليّة حتى لا يباح التصرف غير المنوط بالملك فيها ، بل تؤثر في إباحة ما لا يتوقف على الملك.

(٢) ففرق ـ بنظر شيخ الطائفة ـ بين الاستمتاع وبين سائر التصرفات ، فتباح هذه دون الاستمتاع ، لتوقفه على الملك ، ولم يحصل حسب الفرض.

(٣) غرضه قدس‌سره من هذا الكلام الى الشروع في الأقوال : التنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّهم اختلفوا فيما يراد من قول القدماء : «المعاطاة تفيد الإباحة» فاستظهر منه جماعة عدم كونها بيعا حقيقة ، إذ البيع عقد مملّك ، فترتب الإباحة المحضة على المعاطاة كاشف عن عدم كونها بيعا حقيقة ، فيصح سلب الاسم عنها.

واستظهر منه المحقق الثاني قدس‌سره الملك المتزلزل ـ كما تقدم كلامه مشروحا ـ فالمعاطاة بيع قطعا ، ولا يقدح جواز الملك في بيعيّتها كما هو حال البيوع الخيارية ، حيث إنه لا يصير الملك لازما إلّا بانقضاء أمد الخيار.

ولا يخفى على المتأمّل تقابل هذين الاستظهارين وتهافتهما.

ثانيهما : أنّ كلا الاستظهارين المذكورين ممنوع ، فلا وجه لدعوى نفي بيعية المعاطاة المفيدة للإباحة ، كما لا وجه لدعوى كون المعاطاة بيعا جائزا. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

(٤) مثل قول الشيخ في الخلاف : «فإنّه لا يكون بيعا» وقول ابن إدريس في السرائر : «فإنّه لا يكون بيعا ولا عقدا» وقول السيد ابن زهرة في الغنية : «فإنّ ذلك ليس ببيع ، وإنّما هو اباحة للتصرف».

(٥) حيث قال : «يدلّ على ما قلناه : الإجماع المشار إليه» والمشار إليه في كلامه هو نفي بيعية المعاطاة.

٣٥٧

وما أبعد ما بينه (١) وبين توجيه المحقق الثاني من إرادة نفي اللزوم.

وكلاهما (٢) خلاف الظاهر.

ويدفع الثاني (٣) تصريح بعضهم بأنّ شرط لزوم البيع منحصر في

______________________________________________________

(١) يعني : ما بين نفي البيع حقيقة وبين توجيه المحقق الثاني من إرادة نفي اللزوم ، وهذا هو الأمر الأوّل الذي ذكرناه.

(٢) يعني : أنّ نفي بيعية المعاطاة ، وتوجيه الإباحة بالملك الجائز خلاف الظاهر.

أمّا كون الأوّل خلاف الظاهر فلأنّ المعاطاة بيع عرفي يقصد بها التمليك.

وأمّا الثاني فلأنّ الإباحة المحضة والملك المتزلزل مغايرتان ماهية ، فلا معنى لتنزيلها عليه ، لكونه تصرفا في ظاهر الإباحة بلا شاهد.

(٣) هذا شروع في إبطال كلا الاستظهارين سواء أراد المشهور من قولهم : «المعاطاة تفيد الإباحة» نفي البيعية أم الملك المتزلزل أم أرادوا معنى آخر.

وإرادة الملك الجائز من الإباحة وإن ناقش فيها المصنف قدس‌سره بقوله : «لكن الإنصاف .. إلخ» إلّا أن ما أفاده هنا وجه آخر للمناقشة فيه ، ومحصّله وجهان :

الأوّل : أنّ بعض الفقهاء صرّح بكون البيع عقدا لازما من غير جهة الخيارات ، فتزلزله منوط بوجود خيار فيه ، فلو لم يكن فيه خيار فلا بد من لزومه. فلو اقتضت المعاطاة ملكا جائزا كان ذلك مخالفا لطبع البيع المبني على اللزوم ، وانحصار سبب جوازه في ثبوت خيار فيه. وعليه فصدق البيع على معاملة مساوق للزومه ، ولا معنى لصدق البيع على المعاطاة مع الالتزام بإفادتها ملكا جائزا.

الثاني : أنّ جماعة صرّحوا بكون الإيجاب والقبول اللفظيين من شرائط صحة انعقاد البيع ، لا من شرائط لزومه ، ومعنى هذا الاشتراط عدم بيعية المعاملة العارية عن الإيجاب والقبول ، فكيف التزم المحقق الثاني قدس‌سره بصدق البيع على المعاطاة حقيقة ، وبإفادتها للملك الجائز.

ثم إنّه لا يخفى الفرق بين ما أورده المصنف على المحقق الثاني هنا. بقوله : «ويرد الثاني» وبين ما تقدم في قوله : «لكن الإنصاف أن القول بالتزامهم بهذه الأمور أهون ..» وذلك لأنّ

٣٥٨

مسقطات الخيار (١) فكلّ بيع عنده لازم من غير جهة الخيارات. وتصريح (٢) غير واحد (٣) بأنّ الإيجاب والقبول من شرائط صحة انعقاد البيع بالصيغة (٤).

وأمّا الأوّل (٥) فإن قلنا بأنّ البيع عند المتشرعة حقيقة في الصحيح

______________________________________________________

مقصود المصنف هناك إبطال ما صنعه المحقق الكركي من حمل عبارات القوم على الملك المتزلزل. ومقصوده هنا إبطال أصل كون البيع مفيدا للملك الجائز ، وهذا مع الغضّ عن أنّ حمل الإباحة على الملك المتزلزل ممكن أولا. وعليه فليس في كلمات المصنف هنا تكرار.

(١) كان الأولى بسلاسة العبارة أن يقال : «بأن شرط جواز البيع منحصر في الخيار».

(٢) معطوف على «تصريح» وهذا إشارة إلى الوجه الثاني المانع عن الالتزام بإفادة المعاطاة ملكا جائزا. والمصرّح بتوقف صحّة البيع على العقد جمع ، منهم القاضي حيث قال : «وتفتقر صحته ـ أي صحة عقد البيع ـ الى شروط ثمانية .. وقول يقتضي إيجابا من البائع وقبولا من المبتاع» (١).

(٣) كما تقدم في عبارتي الغنية والكافي وغيرهما من جعل الإيجاب والقبول من شرائط الصحّة ، لا من شرائط اللزوم.

(٤) هذه اللفظة مخلّة بالمقصود ، إذ الصيغة هي الإيجاب والقبول اللفظيان ، فلا معنى لشرطية الصيغة للإيجاب والقبول.

ويمكن توجيهه : بأنّ البيع يقع بالصيغة تارة وبالفعل أخرى. فالبيع القولي يعتبر فيه الإيجاب والقبول ، بخلاف الفعلي ، إذ لا يعتبر فيه ذلك.

لكنه كما ترى ، إذ «البيع بالصيغة» ليس إلّا البيع بالإيجاب والقبول.

نعم لو كانت العبارة : «انعقاد البيع باللفظ أو بالقول» أمكن توجيهها ، وذلك لأعمية مطلق اللفظ من الصيغة ، فأمكن اعتبار لفظ خاص في البيع القولي ، وأمّا البيع بالصيغة فهو بيع بلفظ خاص ، فلا يعقل التقييد بالصيغة. فلاحظ.

(٥) وهو نفي بيعيّة المعاطاة الذي صرّح به جماعة كالشيخ في الخلاف ، والحلّي

__________________

(١) الكافي في الفقه ، ص ٣٥٢.

٣٥٩

ـ ولو (١) بناء على ما قدّمناه في آخر تعريف البيع من أنّ البيع في العرف اسم للمؤثّر منه في النقل ، فإن كان في نظر الشارع أو المتشرعة من حيث إنّهم متشرعة ومتديّنون بالشرع ـ صحيحا مؤثرا في الانتقال كان بيعا حقيقيّا ، وإلّا كان (٢) صوريّا ، نظير بيع الهازل في نظر العرف (١) ـ فيصح (٣) على ذلك نفي البيعيّة على وجه

______________________________________________________

في السرائر ، وابن زهرة في الغنية. ومقصوده المناقشة في قولهم : «المعاطاة ليست بيعا» فإنّهم إن أرادوا نفي البيع العرفي كان واضح المنع ، لما تقدم من أنّ المعاطاة المقصود بها التمليك بيع عرفي ، وإنّما الكلام في صحته شرعا وعدمها.

وإن أرادوا نفي الصحة الشرعية أمكن توجيه النفي بأن يكون على نحو الحقيقة ، وذلك بما تقدم في التمسك بالإطلاقات من أنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح المؤثّر عند العرف فالبيع موضوع لما يؤثّر في الملكيّة بنظر العرف ، فإن كان مؤثّرا فيها بنظر الشارع بل المتشرّعة أيضا كان بيعا حقيقة. وإلّا كان البيع العرفيّ بيعا صوريّا لا حقيقيّا ، كما أنّ بيع الهازل ليس عند العرف بيعا حقيقة.

وعلى هذا فبناء على جعل الإيجاب والقبول شرط صحة البيع ، أو جعل البيع نفس العقد الدال على النقل ـ كما تقدم في كلام جماعة كالمحقق وابن حمزة والعلامة في المختلف ـ كان البيع الصحيح هو المنشأ باللفظ ، وصحّ سلب البيع عن المعاطاة حقيقة.

(١) هذا بيان للفرد الخفيّ ، إذ الصحة إمّا أن تكون بنظر الشارع ، كما كان ظاهر كلام الشهيدين من وضع ألفاظ المعاملات للصحيح ، وعليه فعدم كون المعاطاة بيعا حقيقيا واضح. حيث إنّ المشروط عدم عند عدم شرطه. وإمّا أن تكون بنظر العرف أي الإنشاء المستجمع لشرائط التأثير عندهم ، فإذا كان مؤثّرا عرفا لا شرعا ـ لخلوّه عن الإيجاب والقبول اللفظيين ـ صحّ سلب العنوان عنه حقيقة ، لعدم كونه مؤثّرا في النقل شرعا ، ويعدّه العرف كإنشاء الهازل مما لا يصدق عليه البيع حقيقة.

(٢) أي : وإن لم يكن البيع مؤثّرا في النقل كان بيعا صوريا.

(٣) جواب قوله : «فان قلنا» وجملة الشرط والجزاء جواب قوله : «وأما الأوّل»

__________________

(١) تقدّم كلامه في ص ٣٠٣ ، فراجع.

٣٦٠