هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

المورّث وقيام الوارث مقامه ، فلا بد من حدوث إضافة جديدة أيضا بين الوارث ومال المورّث.

ومنها : «الاستدلال على مدّعاه بقاعدة السلطنة وكون الملكية هي السلطنة».

ووجه غموضه أوّلا : منع كون الملك سلطنة ، بل هي من لوازمه وآثاره ، كما تثبت في غير الملك أيضا على ما سيأتي ان شاء الله تعالى في بحث الحقوق من افتراق أحدهما عن الآخر كما في ملك الصبي المحجور عن التصرف في ماله ، وسلطنة ولي الموقوفة على التصرف الناقل عند طروء المسوّغ. وكذا عدّ الماتن قدس‌سره بعض الحقوق سلطنة ، مع اختلاف إضافتي الملكية والحقيّة سنخا. والاستشهاد بحديث السلطنة غير ظاهر ، إذ لو كانت الملكية هي السلطنة ـ كما تكرر في كلماته ـ كان الحديث مسوقا لتوضيح الواضح أعنى به «الناس مالكون لأموالهم». وهو مما يأباه الذوق السليم. مضافا الى عدم التزامهم به كما سيأتي تفصيله في أدلة مملكية المعاطاة إن شاء الله تعالى. فالصحيح أنّ السلطنة من أحكام الملك لا نفسه ، لأنّ المسلّط عليه ليست المباحات الأصليّة ، بل بقرينة إضافتها إلى الملّاك هي الأموال المملوكة لهم ، فالمقصود كون المالك سلطانا على أنحاء التصرفات المشروعة في ماله ولو بإخراجه عن الملك ببيع أو هبة أو إعراض.

وثانيا : أنّ المحذور الذي ألجأ هذا المحقق الى جعل البيع تبديل طرفي الإضافة ـ لعدم سلطنة الناس على الملكية التي هي السلطنة ، بل متعلقها الأموال ـ يترتب على كلامه أيضا ، وذلك لأنّ مقتضى تفسير الملكية بالسلطنة إثبات طرفيها وهما السلطان والمسلّط عليه أي المالك والمملوك ، فخلع المال عن طرفية السلطنة تصرّف في موضوعها ، والمفروض أن الناس مسلّطون على أموالهم لا على سلطانهم ، فلا يتكفل الحديث التصرّف في نفس السلطنة القائمة بطرفين ، والمفروض ارتكاب التصرف قهرا بإخراج المسلّط عليه عن طرفية السلطنة ، ولازمه كما مرّ آنفا انتفاء أصل السلطنة ، مع أنّ إعدام السلطنة ليس مدلول الحديث كما اعترف به.

٢١

.................................................................................................

__________________

ومنها : تفسير الملكية تارة بالجدة كما في قوله : «فالبائع يعطي المثمن لا واجديته له» واخرى بالإضافة مكرّرا. والتنافي بين الجدة الاعتبارية والإضافة الاعتبارية واضح ، فإمّا أن تكون الملكية اعتبار مقولة الجدة تنزيلا لها منزلة الملكية الحقيقية المفسّرة في كلمات بعضهم بالجدة وب «له» ، وإمّا تكون اعتبار مقولة الإضافة كما مال إليها بعض المحققين قدس‌سره.

وقد تحصّل : أنّ البيع يفيد بدلية المضاف والمضاف إليه والإضافة ، لما عرفت من أنّ الملكية ـ ونحوها ـ من البسائط المتقومة بطرفيها ، ويستحيل تبدل الطرف وبقاء الإضافة. والأمور الاعتبارية وان افترقت عن المقولات والحقائق المتأصلة ، إلّا أنّها مشاركة لها في جملة من الأحكام كما لا يخفى ، ولا فرق في استحالة بقاء الإضافة بدون المضاف بين المقولية والاعتبارية.

المبادلة بين المالين تحصل بإنشاء البائع

الأمر الثاني : أن المبادلة ـ التي هي البيع حقيقة ـ هل تتحقق بفعل البائع أم تتوقف على فعل المشتري أيضا؟ الظاهر ذلك ، لأنّ ما ينشؤه البائع هو المبادلة ، غاية الأمر أن تأثير إنشائه منوط بقبول المشتري.

وبعبارة أخرى : جعل كلّ من المالين قائما مقام الآخر وتلوّن كل منهما بلون الآخر يتحقق بإيجاب البائع ، لأنّ تبديل المبيع بالثمن يستلزم العكس ، لكون البدلية من المتضايفات ، فصيرورة المبيع بدلا توجب بدليّة الثمن أيضا عن المبيع ، فإنشاء البائع يوجب اتصاف كل من المالين بالبدلية. لكن تعارف التعبير عن أحدهما بالمعوّض وعن الآخر بالعوض ، من جهة أنّ الملحوظ في إنشاء البيع ـ غالبا ـ مبدلية المبيع وأصالته ، وبدليّة الثمن عنه ، كما يدلّ عليه دخول الباء في الثمن في قول البائع : بعتك هذا بدينار مثلا.

والحاصل : أنّ عنوان المبادلة والمعاوضة يقتضي اتصاف كل منهما بالبدلية. فباب المعاوضة يكون نظير الأبدال العرضية ، كخصال الكفارة المخيّرة ، لا الأبدال الطولية كالكفارة

٢٢

.................................................................................................

__________________

المترتبة ، والأبدال الاضطرارية كالصلوات العذرية ، فإنّها وإن اتصفت بالبدلية ، لكن لا تتصف مبدلاتها ـ وهي الصلوات الاختيارية ـ بالبدلية ، لأنّها واجبات أوّليّة ، وليست هي أبدالا عن الصلوات الاضطرارية التي هي واجبات ثانوية كما لا يخفى.

لا يختص المبادلة في البيع بالإضافة الملكية

الأمر الثالث : قد ظهر أنّ المبادلة البيعية تكون في الإضافة المالكية غالبا ، وهل يتوقف صدق مفهوم البيع على هذه المبادلة الخاصة بحيث لولاها لم يكن المنشأ بيعا بل معاملة أخرى ، أم أنها غير دخيلة في تحقق العنوان؟ الظاهر عدم اعتبار وقوع المبادلة في خصوص إضافة الملكية ، لصدق مفهوم البيع على نقل الأعيان الموقوفة العامة بعوض ـ عند طروء المسوّغ لبيعها ـ لعدم كون الوقف العام ملكا لأحد ، والمتولي الخاص أو الحاكم الشرعي وإن كان سلطانا على البيع ، إلّا أنه لا مالك في البين. وكذا في بيع الحاكم الأجناس الزكوية أو حق الامام عليه‌السلام ، أو اشترى به شيئا ـ بناء على عدم صيرورته ملكا لأحد ، بل جعل لمصرف خاص ، فالمبادلة تكون بين إضافة مصرفية من طرف ، وإضافة ملكية أو غيرها من طرف آخر.

وعليه فأخذ التمليك في حدّ البيع منزّل على الغالب ، وليس لحصر المفهوم فيه.

اعتبار مالية العوضين

وكيف كان فهل يعتبر مالية العوضين في صدق البيع عرفا أم لا؟ وعلى الأوّل فهل اللازم الاتصاف بها قبل إنشاء المعاملة أم يصح البيع ولو صار مالا بنفس البيع كما هو مبنى التشكيك في مالية عمل الحر قبل المعاوضة عليه ، وعدم وقوعه ثمنا في البيع أم تكفي ماليته مطلقا؟ الظاهر اعتبار مالية العوضين وإن كان الاتصاف بها بعد البيع ، لصدق المبادلة بين مال ومال ، فليتأمل.

وأمّا إنكار أصل المالية بدعوى : «أن المدار على صدق المعاوضة بين شيئين سواء أكانا

٢٣

.................................................................................................

__________________

مالا عند العقلاء أم لا كالحشرات ، فإذا لم يكن المبيع مما يرغب فيه النوع الذي هو المناط في مالية الأشياء لا الرغبات الشخصية واشتراه بأغلى الثمن صدق عليه مفهوم البيع. كما إذا اشترى أحد تصوير جدّه أو خطّه لرغبته في حفظه ، ولم يكن بنظر العقلاء يساوي فلسا صحّ شراؤه. والمعاملة وإن كانت سفهية ، إلّا أنّه لا دليل على بطلانها ، بعد ما شملتها أدلة الإمضاء ، والفاسد شرعا معاملة السفيه من جهة الحجر لا المعاملة السفهية. وعليه فأخذ المال في تعريف المصباح مبني على المسامحة ، إذ لا تعتبر المالية فيه عرفا وشرعا ، ولو سلّم قيام الدليل الشرعي على اعتبار المالية فيه كان ذلك حكما تعبديا غير مرتبط بمفهوم البيع حتى يؤخذ في تعريفه» (١).

فلا يخلو من غموض ، ودعوى دخل المالية في مفهوم البيع عرفا قريبة جدّا ، ودخلها شرعا في الصحة والنفوذ ليس لتعبد خاص ، بل لتوقف صدقه على ذلك ، لأنّ المقصود بالبيع هو المعاملة الاعتبارية التي يتداولها العقلاء لغرض تسديد حوائجهم وتمشية أمورهم ، وهذا هو موضوع أدلة الإمضاء ، ومن المعلوم أنّ ما لا يتنافس العقلاء على اقتنائه ولا يرغبون في تحصيله لعدم ترتب فائدة عليه لا يتعاملون عليه ، إذ لا غرض يتعلق بالمبادلة بين ما يكون فاقدا لمناط المالية ، فيصح سلب عنوان البيع عن تبديل مقدار من الثلج بمثله في فصل الشتاء في منطقة جليدية ، وعن تبديل كأس من ماء النهر بمثله على الشاطئ ، ونحو ذلك ، بل نفس هذا التبديل لغو بحيث لو صدر من بعضهم كان سفهيّا.

والحاصل : أنّ البيع ماهية اعتبارية تدور في كل مورد مدار اعتبار العقلاء وتبانيهم ، وليس التبديل بين ما لا يتعلّق غرضهم بتحصيله بيعا. وحيث اعتبر مالية العوضين في صدق مفهومه فدخلها في البيع النافذ شرعا أمر مفروغ عنه. ولا أقل من كون الشبهة مفهومية ، ولا مجال حينئذ للتمسك بالإطلاقات.

هذا بحسب الكبرى. وأما خصوص المثال المذكور في كلامه قدس‌سره من بذل الثمن بإزاء

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٢٤.

٢٤

.................................................................................................

__________________

اقتناء خط الجدّ ونحوه فيمكن أن يقال : بكونه بيعا ، لوجود مناط المالية ـ وهو الرغبة النوعية ـ فيه ، إذ من المتعارف ـ لا سيّما في هذا العصر ـ بذل المال الكثير لاقتناء آثار السلف كتراث يتحفّظ عليه ، فشراء شخص خطّ جدّه لا يعدّ بنظر العقلاء سفهيّا بل هو أمر جرت سيرتهم عليه ، لما عرفت من أن ما يوجب انحفاظ الخصوصيات وصفات الأب والجد أو غيرهما ـ ممّن له علقة طبيعية أو معنوية بمن يطلب تصويره أو خطّه أو سائر آثاره ـ مال قطعا. ولو نوقش في صدق البيع عليه أمكن جعلها معاملة مستقلة.

وعليه فتعريف المصباح من جهة أخذ المال فيه سليم عن المناقشة.

نعم نوقش فيه بوجوه أخرى :

مناقشات في تعريف البيع بالمبادلة بين المالين

أ ـ أعمية المال من العين والمنفعة

منها : ما في حاشية السيد قدس‌سره من قوله : «ثم لا يخفى ما في تعريف المصباح من المسامحة ، لأنّ مطلق مبادلة مال بمال لا يكون بيعا ، وإلّا فالصلح والإجارة ونحوهما كذلك. وأيضا البيع ليس مبادلة بل تمليك عين بعوض .. وأيضا يعتبر أن يكون المبيع عينا ، والمال أعم ، فيعلم من هذه أنه ليس بصدد بيان الحقيقة إلّا في الجملة ..» (١).

أقول : لا ريب في عدم كون شأن اللغوي تحديد المفهوم من جميع الجهات ، خصوصا في الأمور الاعتبارية التي هي من البسائط الفاقدة للجنس والفصل ونحوهما ممّا يبيّن حقيقة الشي‌ء ويكشف عنه ، كما اعترف السيد قدس‌سره بذلك في آخر كلامه.

لكن لو فرض كون تعريف المصباح لفظيا لم يرد عليه بعض ما أورده السيّد عليه.

أما الإشكال الأوّل فلا يخلو من تهافت مع الثالث ، وذلك لابتناء النقض بالإجارة على فرض أعمية المال من العين ، فلو قيل باختصاصه بها ـ كما هو مبنى الاشكال الثالث ـ لم ينتقض

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٥٣.

٢٥

.................................................................................................

__________________

تعريف المصباح بالإجارة ، لفرض عدم كونها مفيدة لتمليك العين سواء قيل في تعريفها بأنها تمليك منفعة بعوض ، أم بأنها التسليط على العين لاستيفاء منفعتها كما اختاره السيد في العروة. وعلى كلّ لا تقع العين طرفا للتمليك إلّا بناء على جعل حقيقة الإجارة «تمليك العين في جهة خاصة» في قبال البيع المفيد لملك العين من جميع الجهات ، لكنه لا يخلو من بحث سيأتي التعرض له إن شاء الله تعالى.

والحاصل : أنّ النقض بالإجارة موقوف على أعمية المال من العين ، كما هو مبنى الاشكال الأوّل ، فلو قيل باعتبار كون المبيع عينا وهو الصحيح ـ كما أفاده في الاشكال الثالث ـ لم يبق مجال للنقض بالإجارة كما هو واضح.

وأمّا النقض بالصلح فغير ظاهر أيضا ، لما تقدم في ما يتعلق بكلام المحقق الإيرواني قدس‌سره من أنّ المناط في العناوين المعاملية القصدية هو المنشئات لا النتائج المترتبة عليها ، ولمّا كان المنشأ بعقد الصلح نفس التسالم ـ مهما كان المتسالم عليه ـ لم ينتقض تعريف البيع به.

وأما الإشكال الثاني ـ وهو كون البيع تمليكا لا مبادلة ـ فنوقش فيه بظهور التمليك في المقابلة بين التسليطين لا المالين ، وحيث إنّ السلطنة حكم شرعي موضوعه الأملاك لا الأحكام ، فإنّ الناس مسلطون على أموالهم لا على أحكامهم ، لم تكن قابلة للنقل الى الغير حتى يكون البيع نقلا لها ، وإنما القابل له طرف الإضافة وهو المال ، وإلّا فالسلطنة والملكية كجواز شرب الماء أحكام شرعية ليست ممّا يتعلق به السلطان حتى تنتقل إلى الغير (١). هذا محصّل ما في تقرير بحث المحقق النائيني قدس‌سره.

لكن يمكن أن يقال : بأنّه إن أريد بالتمليك إحداث السلطنة التي هي حكم شرعي ، اتجه الاشكال عليه ، لكونه نظير إحداث جواز شرب الماء ، وهو غير قابل للنقل إلى الغير. وإن أريد به الإضافة الاعتبارية المعبّر عنها بالملكية فالظاهر جواز نقلها إلى الغير بما جعله الشارع ناقلا لها ، كما لا مانع من سلبها عن نفسه بالإعراض بناء على زوال الملك به. والمبادلة البيعية وإن

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٣٤.

٢٦

.................................................................................................

__________________

كانت بين المالين ، إلّا أنّ أشخاص الملكيات والإضافات تتغيّر أيضا بعد ما تقدم من تشخّص كل إضافة بطرفيها ، ومن عدم كون السلطنة هي الملكية بل من آثارها.

نعم يمكن منع إشكال السيد قدس‌سره بعدم كون إنشاء التمليك جامعا لجزئيات البيع ، لاختصاصه بما إذا نقل الملك. وأمّا في مثل بيع العبد تحت الشّدة وبيع آلات البناء لتعمير القناطر والخانات والمساجد بسهم سبيل الله من الزكاة ، فلا تمليك في البين إلّا على توجيه لا يخلو من تكلّف.

وعلى هذا فلو كان مقصود الفيّومي من تعريف البيع بالمبادلة خصوص التبديل الملكي كان إشكال عدم جامعية التعريف باقيا عليه. ولو كان مراده ما هو أعم من ذلك ، أي قيام كل منهما مقام الآخر فيما له من الأوصاف ـ نظير التنزيلات الشرعية كتنزيل الطواف منزلة الصلاة في مالها من الأحكام والآثار ـ كان متينا. كما لو باع المتولّي العين الموقوفة ـ عند طروء مسوّغ بيعها ـ فإنّها تصير ملكا للمشتري وتكتسب لون الثمن وهو الملكية ، كما يكتسب الثمن لون المبيع ويصير وقفا ، ومن المعلوم كون المبادلة حيثية وإضافة قائمة بالمالين ، وهذه الحيثية دعت الى تفسير البيع بالمبادلة. هذا إذا كان مقصود السيد قدس‌سره أخذ التمليك في مفهوم البيع من جهة كونه من العقود المعاوضية الناقلة للملك.

وإن كان مقصوده لحاظ حيثية إضافة الفعل الى فاعله ومبدأ صدوره وهو البائع المتصدّي لتبديل الإضافة الاعتبارية من دون دخل لقبول المشتري إلّا في التنفيذ والإمضاء ـ وهذا يناسبه التعبير بالتبديل دون المبادلة ـ فسيأتي بيانه في إشكال صاحب الكفاية إن شاء الله تعالى.

ب ـ البيع تبديل بين مالين لا مبادلة بينهما

منها : ما أورده المحقق الخراساني قدس‌سره على تعريف المصباح بقوله : «التعبير بالمبادلة لا يخلو من مسامحة ، وحقّه أن يقال : تبديل مال بمال ، فإنه من فعل الواحد ، لا الاثنين ،

٢٧

.................................................................................................

__________________

فافهم» (١).

ومحصله : أن المنسوب إلى مشهور علماء العربية في الفرق بين بابي المفاعلة والتفعيل دلالة الأوّل على قيام المبدأ باثنين واشتراكهما في صدور الفعل كما هو ظاهر مثل «ضارب زيد عمروا» وتلبسهما بالضرب معا ، بخلاف الفعل الثلاثي المجرّد من هذه المادة مثل «ضرب زيد عمروا» الظاهر في قيام المبدأ صدورا بزيد ووقوعا بعمرو. ودلالة الثاني ـ وهو التفعيل ـ على قيام الفعل بالفاعل مع لحاظ حيثية التعدية إلى الغير. وحيث إنّ إنشاء البيع يكون بيد البائع فقط ولا دخالة للمشتري فيه سوى الإمضاء كان المناسب التعبير بالتبديل لا المبادلة الظاهرة في تصدّي كلّ من الموجب والقابل لها ، هذا.

واعترض عليه تلميذه المحقق الأصفهاني قدس‌سره بوجهين ، يبتني أحدهما على تصحيح التعبير بالمبادلة على مختار مشهور علماء الأدب ، وثانيهما على مبنى آخر ابتكره في مدلول هيئة المفاعلة والتفاعل.

ومحصل هذا الوجه الثاني : أن باب المفاعلة وضع للدلالة على مجرّد تعدية المادة وإنهائها الى الغير من غير فرق بين الأفعال اللازمة والمتعدية ، فإنّ صوغها من باب المفاعلة يدل على أنّ حيثية إنهاء المادة إلى شخص آخر ملحوظة فيها. واستشهد على مدعاه بعديد من استعمالات هذه الهيئة في الكتاب العزيز وغيره مع عدم صحة إفادة الاشتراك في المبدأ ، أو عدم إرادته ، وقد تصدى قدس‌سره لإثبات مرامه ببيان أو في في تعليقته الأنيقة على الكفاية (٢) وقد تعرضنا له ولما يتعلق به في رسالة لا ضرر ، فراجع (٣).

ولهذا فالأولى الاقتصار هنا على ما أفاده في الوجه الأوّل من الاشكال قال قدس‌سره : «ويمكن أن يقال : ان التبديل مجرد جعل شي‌ء ذا بدل ، سواء كان له مساس بالغير أم لا ، والمبادلة

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٣.

(٢) نهاية الدراية ، ج ٢ ، ص ٣١٧ ، الطبعة الحجرية.

(٣) منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٥٦٦ الى ٥٧٣.

٢٨

.................................................................................................

__________________

تكون بهذا المعنى مع المساس بالغير ، وينسب الفعل المشتق منها إلى من هو الأصيل في التبديل كالموجب في البيع ، ومع الأصالة في الطرفين ينسب إليهما التبادل كما هو الفارق بين المفاعلة والتفاعل في فنّ الأدبية ، فتبيّن وجه التعبير عن البيع بالمبادلة دون التبديل ..» (١).

أقول : الظاهر أولوية تعريف البيع بالمبادلة سواء أريد به المعاملة البيعية أم فعل البائع وإنشاؤه. أمّا على الأوّل ـ كما هو الظاهر ، إذ المقصود تعريف البيع وتمييز حقيقته عن سائر العقود المالية ـ فواضح ، لقيام هذه الماهية الاعتبارية بطرفين وبمالين ولو كان قبول المشتري مجرد إمضاء ومطاوعة لإيجاب البائع.

وأما على الثاني فلأنه لا بدّ من وفاء التعريف بما يكون دخيلا في المعرّف ، وهو في المقام أمران ، أوّلهما : أنّ الملحوظ حين إنشاء البيع ـ غالبا ـ هو مبدلية المبيع وأصالته ، وبدلية الثمن عنه ، حيث يعتني المشتري بخصوصية المبيع. لا مجرّد ماليته ، بخلاف البائع الذي لا يهمّه إلّا حفظ مالية ماله. فالبيع يمتاز عن سائر المعاوضات بهذه الجهة.

ثانيهما : أن البيع وإن كان من العقود القائمة بطرفين ، إلّا أنّ إنشاء ماهيّته يكون بيد البائع ، وشأن المشتري المطاوعة والإمضاء ، لا إحداث فرد آخر من المبادلة الاعتبارية.

والمتكفل لهذين الأمرين هيئة المفاعلة لا التفعيل ، فإنّها تدل على قيام المبدأ بطرفين مع حيثية أخرى لا تتكفلها هيئة التفاعل بعد تضمن كلا البابين للاشتراك في المادة ، والفارق ـ كما نسب الى مشهور علماء الأدب ـ دلالة المفاعلة على انتساب المادة إلى أحدهما بالأصالة وإلى الآخر بالتبع ، كما في «ضارب زيد عمروا». ودلالة التفاعل على استواء نسبتهما إليها بلا أصالة من أحدهما وتبعية من الآخر كما في : تضارب زيد وعمرو.

وعليه فتعريف البيع بالمبادلة يدلّ على أنّ الأصيل في التبديل هو البائع ، ويكون قبول

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٢.

٢٩

.................................................................................................

__________________

المشتري تبديلا ضمنيا تبعيا ، فحيثية الأصالة والتبعية الملحوظة في الإيجاب والقبول مدلول عليها بهيئة المبادلة.

ومن المعلوم قصور «التبديل» عن إفادة دخل هذه الحيثية في البيع ، لما أفاده المحقق الأصفهاني ـ ويظهر بمراجعة اللغة ـ من أن التبديل مجرّد جعل الشي‌ء ذا بدل ولو بتغيير هيئته كتغيير صورة الخاتم بالحلقة ، وتغيير صورة الثوب بالرداء ، وهذا لا ربط له بالبيع القائم بطرفين. قال في لسان العرب : «وتبديل الشي‌ء تغييره وإن لم تأت ببدل. والأصل في التبديل : تغيير الشي‌ء عن حاله. والأصل في الإبدال : جعل شي‌ء مكان شي‌ء آخر .. وبادل الرجل مبادلة وبدالا : أعطاه مثل ما أخذ منه ..» (١).

وعلى هذا فالبيع وإن كان فعل البائع ، لكن المفروض مساسه بالغير وهو المشتري ، والدال على هذه الحيثية ـ مع الأصالة والتبعية ـ هي هيئة المفاعلة لا التبديل.

كما أنه تستفاد حيثية كون المبيع أصلا والثمن بدلا من حرف الجر في «بمال» فإنّها للعوض ، فتدل على مبدلية المال الأوّل وبدلية المال الثاني عنه. هذا لو لم يدل نفس هيئة المبادلة على لحاظ معوّضيّة المبيع وعوضيّة الثمن ، وإلّا كان الدال على هذه الحيثية أمرين أحدهما هيئة المبادلة وثانيهما حرف الجرّ.

والحاصل : أنّ تعريف المصباح يتكفل الأمور المعتبرة في البيع من قيامه بطرفين ، وكون إنشائه بيد البائع ، ومن ملاحظة المبيع أصلا والثمن بدلا ، كما ظهر قصور تعريفه بالتبديل عن إفادتها.

ولا فرق فيما ذكرناه ـ من أولوية المبادلة من التبديل ـ بين المصير الى ما هو المشهور بين علماء العربية من دلالة المفاعلة على نسبة المادة إلى أحد الطرفين أصالة وإلى الآخر تبعا ،

__________________

(١) لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٤٨.

٣٠

والظاهر (١) اختصاص المعوّض

______________________________________________________

اختصاص المبيع بالأعيان

(١) أي : الظاهر من إطلاق «البيع» اختصاص المعوّض بالعين ، ومقصوده قدس‌سره تصحيح تعريف المصباح وعدم كون مطلق مبادلة مال بمال آخر بيعا ، بل البيع مبادلة عين متمولة بمال آخر ، ويستفاد اعتبار عينية المبيع من نفس عنوان البيع ، بحيث لو قال المتكلم : «بعت» استفيد منه نقل عين ، ولو قال : «بعت عينا» كان تأكيدا لما دلّ عليه مادة البيع. ولو قال : «بعت كتابا» كان ذكر المبيع لأجل تعيينه ، لا لتوقف صحة إطلاق البيع على ذكره حتى يتوهم أعمية المفهوم من تمليك العين والمنفعة.

والغرض من هذا البحث تحديد موضوع الأدلة المتكفلة لإمضاء البيع وأحكامه وشرائطه ، مثل «البيع حلال» و«وجب البيع» إذ يحتمل إرادة المعاوضة التي يكون العوضان عينين ، كما يحتمل إرادة ما يكون المعوّض فيه عينا سواء أكان العوض عينا أم منفعة أم حقّا قابلا للنقل إلى الغير.

وتوضيح ما أفاده المصنف قدس‌سره : أنّ «المال» إما أن يختص بالأعيان ذوات المنافع كما تقدم عن ابن الأثير ، ويترتب عليه اعتبار عينية كلا العوضين كما ذهب إليه الوحيد البهبهاني قدس‌سره لعدم صدق المال على المنافع ، ولا أقلّ من الشك فيه. وإمّا أنّ يعمّ المنافع كسكنى الدار وركوب الدابة وخياطة الثوب. وعلى هذا الاحتمال الثاني يبتني استظهار

__________________

وبين ما اختاره نجم الأئمة في شرح الشافية من إنكار هذه الدلالة رأسا ، وظهورها في مجرد المشاركة في المبدأ (١). وذلك لدلالة الباء الجارة على حيثية معوّضيّة المبيع وأصالته ، وبدلية الثمن وعوضيّته عنه.

__________________

(١) شرح الشافية ، ج ١ ، ص ٩٦.

٣١

.................................................................................................

______________________________________________________

المصنف قدس‌سره اختصاص المعوّض بالعين ، لتصريحه بجواز وقوع المنفعة عوضا في البيع ، مع وضوح اعتبار المالية في كلّ من الثمن والمثمن.

ولأجل صدق المال على المنافع تصدّى لتمييز البيع ـ من ناحية المتعلق ـ عن الإجارة ونحوها من العقود المالية ، وقال باعتبار كون المعوّض عينا.

وهذه الدعوى تتوقف على أمرين مسلّمين :

أحدهما : أنّ المتبادر إلى الأذهان في هذه الأعصار من «البيع» هو تمليك العين لا مطلق المال.

ثانيهما : إحراز ذلك في عصر التشريع حتى يحمل إطلاق «البيع» في الأدلة على تمليك خصوص العين ، وعدم إطلاقه على تمليك المنافع إلّا بالمسامحة.

وكلا الأمرين مسلّم. أمّا الأوّل فلوجهين : التبادر وصحة السلب ، وهما من علائم الحقيقة والمجاز. أمّا التبادر فلأنّ المنسبق من إطلاق «البيع» ومشتقاته هو مبادلة عين بمال ، ويكفيه شاهدا تعريفه في كتب الفقهاء بذلك ، وجلّهم من أهل اللسان. وأمّا صحة السلب ، فلاعترافهم بمجازية استعمال البيع في تمليك المنافع ، كما إذا أنشأ تمليك سكنى الدار بقوله : «بعتك سكناها سنة بكذا» وهذا كاشف عن صحة سلب عنوان «البيع» عن تمليك غير الأعيان من الأموال ، وعن مجازية إطلاق البيع على تمليك غير الأعيان.

وأما الثاني ـ أعني به إحراز كون معنى البيع في عصر التشريع تمليك الأعيان ـ فلأصالة عدم النقل الجارية في معاني اللغات عند الشك في الموضوع له سابقا ، وأنّه هل هو المعنى المتبادر من اللفظ فعلا أم أنّه نقل المعنى الفعلي عن الوضع الأوّلي؟ فبناؤهم على التمسك بأصالة عدم النقل لإثبات وحدة المعنى. وعليه يحرز كون معنى «البيع» الوارد في الأدلة الشرعية هو المنسبق الى أذهاننا من تمليك خصوص العين ، لا كلّ ما يملك وإن لم يكن عينا.

٣٢

بالعين (١)

______________________________________________________

هذا منشأ استظهار المصنف قدس‌سره اختصاص المعوّض بالعين ، وقد ظهرت المسامحة في تعريف المصباح ، حيث أطلق كلمة «المال» ولم يقيّده ـ في جانب المعوّض ـ بالعين.

(١) قد تطلق «العين» ويراد بها ما يقابل الكلّي ، أي الأعيان الخارجيّة ، وقد تطلق ويراد بها ما يقابل المنفعة والحق ، والمراد بها هنا المعنى الثاني ، سواء أكانت موجودة بالفعل أم ممّا يمكن أن يوجد في المستقبل ، فالعين في المقام هي ما إذا وجدت خارجا كانت جسما ، وفي قبالها المنفعة التي هي عرض قائم بالعين ، وحيثيّة فيها توجب بذل المال بإزائها كسكنى الدار وخياطة الثوب وبناء الدار ونحوها.

والدليل على عموم «العين» للشخصية والكلية وعدم اختصاصها بالجزئيات الخارجية هو تسالمهم على جواز كون المبيع كلّيا في موارد :

الأوّل : بيع الكلّي في المعيّن ، كصاع من صيعان صبرة الحنطة بدينار ، فإنّ الصاع منتشر في الصّبرة ، ويتعيّن بعد البيع في مقام الوفاء بالعقد.

الثاني : بيع الكلّي المشاع ، كبيع نصف الدار بمائة دينار ، إذ لا تعيّن للنصف قبل الإفراز والتقسيم ، ويتعيّن بالتقسيم.

الثالث : بيع الكلّي الذّمي ، وهو على أنحاء ، فتارة يكون المبيع كلّيا ثابتا في ذمة غير البائع ، كما إذا كان زيد مالكا لمنّ من الحنطة في ذمة عمرو ، فيبيعه زيد من بكر ، فتشتغل ذمة عمرو لبكر بعد ما كانت مشغولة لزيد. وأخرى يثبت الكلي في ذمة البائع ، إمّا بأن يسلّم المبيع حالّا ، كم إذا باع زيد منّا من الحنطة ، الموصوفة بكذا من عمرو ، ويسلّمه بعد العقد. وإمّا بأن يسلّم المبيع بعد مضيّ زمان ، كما هو الحال في بيع السلف ، كما إذا باع زيد في ذمة نفسه منّا من الحنطة على أن يسلّمها بعد ستة أشهر مثلا.

وصحة البيع في هذه الموارد كاشفة عن عدم اعتبار كون المبيع عينا خارجية متشخصة ، بل يكفي وجودها في المستقبل ، ولو وجد كان عينا لا عرضا لعين.

٣٣

فلا يعمّ (١) إبدال المنافع بغيرها (٢) ، وعليه (٣) استقرّ اصطلاح الفقهاء (٤).

______________________________________________________

(١) هذا متفرّع على اختصاص المبيع بالعين ، يعني : أنّ إبدال المنافع وتمليكها ليس بيعا ، بل هو إجارة ، فتمليك منفعة الدار ـ وهي سكناها مدّة عام مثلا سواء أكان العوض عينا كالدينار والكتاب ، أم منفعة كخياطة الثوب ـ ليس بيعا ، بل لا بد من إنشائه بما يدل على نقل المنفعة ، مثل «آجرتك الدار ، أو ملّكتك سكناها ، أو أكريتك الدار» ولا يصحّ إنشاؤه بمثل «بعتك منفعة الدار أو سكناها مدّة عام مثلا» سواء أكان العوض عينا كالدينار والكتاب ، أم منفعة كخياطة الثوب ، لعدم تعلّق البيع بما عدا العين. نعم لو قصد الإجارة وقيل بصحة إنشاء العقود بالمجازات جاز ذلك ، كما سيأتي بيانه في التعليقة إن شاء الله تعالى.

(٢) أي : بغير المنافع ، وهذا الغير هو العوض سواء أكان عينا أم منفعة أم حقّا.

(٣) يعني : استقرّ اصطلاح الفقهاء على اختصاص المعوّض بالعين ، حيث جعلوا البيع في قبال الإجارة ، وقالوا : البيع لتمليك الأعيان ، والإجارة لتمليك المنافع. والمائز بينهما تعلق البيع بالعين ، والإجارة بالمنافع. ويترتب عليه أنه لو شكّ في صدق عنوان البيع على تمليك غير الأعيان كفى في عدم جواز التمسك بأدلة نفوذ البيع ، لكون الشبهة مفهومية ، فلا وجه لترتيب الأحكام المختصة به عليه.

(٤) كما يظهر بمراجعة كلماتهم في تعريف البيع ، وسيأتي طائفة منها في المتن ، وهي وإن اختلفت مضامينها من الانتقال والنقل والعقد الدال على الانتقال أو على النقل وغير ذلك ، إلّا أنّها تطابقت على أخذ «العين» واعتبارها في المبيع ، فمنها قول شيخ الطائفة قدس‌سره : «انتقال عين مملوكة من شخص الى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي» (١) واختاره ابن إدريس والعلامة في كثير من كتبه كالتذكرة والتحرير والقواعد والنهاية (٢).

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٧٦.

(٢) السرائر ، ج ٢ ، ص ٢٤٠ ؛ تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢ ؛ تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ١٦٤ ؛ قواعد الأحكام ، ص ٤٧ ؛ نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٧.

٣٤

نعم (١) ربما يستعمل في

______________________________________________________

ومنها : قول ابن حمزة : «البيع عقد على انتقال عين مملوكة أو ما هو في حكمها من شخص إلى غيره بعوض مقدر على جهة [وجه] التراضي» (١) واختاره العلامة في المختلف (٢).

ومنها : قول المحقق : «أما البيع فهو الإيجاب والقبول اللذان تنتقل بهما العين المملوكة من مالك إلى غيره بعوض مقدّر» (٣).

ومنها : قول المحقق الثاني : «نقل العين بالصيغة المخصوصة» (٤).

وعليه فاختصاص «البيع» بتمليك الأعيان كأنّه من المسلّمات ، ولعلّه لذا قال في الجواهر : «ثم لا خلاف ولا إشكال في اعتبار كون المبيع عينا» (٥).

نعم ورد تعريفه في بعض الكلمات بنقل الملك : كما في الشرائع واللمعة ، إلّا أنّ المراد بالملك هو العين لا ما يعمّ المنفعة ، كما ستقف عليه في التعليقة.

استعمال البيع في نقل المنافع

(١) هذا استدراك على ما نسبه الى الفقهاء من اعتبار كون المبيع عينا. وحاصل الاستدراك : منع اختصاص البيع بكون المعوّض عينا ، ومنع استقرار اصطلاح الفقهاء على اعتبار عينية المبيع ، وذلك لما يتراءى من استعمال «البيع» في نقل المنافع وبعض الحقوق على حدّ استعماله في تمليك الأعيان ، ولا قرينة في ذلك الاستعمال حتى يدّعى مجازيّته. فالظاهر كون الجميع معنى حقيقيّا للبيع ، ومعه لا وجه لدعوى اختصاص المعوّض بالعين.

وقد ورد استعمال البيع في تمليك ما عدا الأعيان في موضعين :

__________________

(١) الوسيلة (ضمن الجوامع الفقهية) ص ٧٤٠.

(٢) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥١.

(٣) المختصر النافع ، ص ١١٨.

(٤) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٥.

(٥) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٨.

٣٥

كلمات بعضهم في نقل غيرها (١) ، بل (٢)

______________________________________________________

الأوّل : في كلام غير واحد من الفقهاء كالشيخ والإسكافي ، والثاني في عدة نصوص.

أمّا الأوّل فقد عبّر شيخ الطائفة قدس‌سره عن تمليك منفعة العبد المدبّر بالبيع ، فقال في المبسوط في مسألة «عدم جواز بيع رقبة العبد المدبّر إلّا إذا أراد نقض تدبيره» ما لفظه : «لأنّ عندنا يصحّ بيع خدمته دون رقبته مدة حياته» (١). وقال في النهاية ـ في بطلان بيع رقبته : ـ «إلّا أن يعلم المبتاع أنّه يبيعه خدمته» (٢).

وحكي نحو ذلك عن ابن الجنيد ، من أنه «تباع خدمته مدة حياة السيد» (٣).

وأما الثاني ، فقد استعمل «البيع» في روايات متعددة وأريد منه نقل غير العين ، كما سنذكرها إن شاء الله تعالى.

(١) أي : تمليك غير الأعيان ، وهذا الغير هو المنفعة وبعض الحقوق.

(٢) هذا إشارة إلى الموضع الثاني ـ وهو استعمال البيع في النصوص في إبدال غير الأعيان ـ والإتيان بأداة الإضراب لأجل التنبيه على أنّ استعمال البيع في كلام بعض الفقهاء في إبدال المنافع يمكن توجيهه بكونه مسامحيّا غير مناف لاستقرار ظهور اللفظ في تمليك الأعيان خاصة ، إذ التنافي يترتب على اشتراك المادة لفظا بتعدد الوضع ، أو معنى بالوضع لجامع نقل الملك ، وأمّا إذا كان اللفظ حقيقة في حصّة من طبيعي النقل ومجازا في حصة أخرى منه بمعونة القرينة لم يكن بأس بكلا الاستعمالين.

وهذا التوجيه ـ لو تمّ ـ لا يجري بالنسبة إلى استعمال «البيع» في الكتاب والسّنة في غير نقل العين مجرّدا عن قرينة المجاز ، ضرورة وروده في الأخبار في نقل الأعيان والمنافع وبعض الحقوق بوزان واحد. ومعه يشكل ما استظهره المصنف قدس‌سره من اختصاص المعوّض بالعين واستقرار الاصطلاح الفقهي عليه.

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٦ ، ص ١٧.

(٢) النهاية ، ص ٥٥٢.

(٣) الحاكي هو الشهيد في الدروس الشرعية ، ج ٢ ، ص ٢٣٣.

٣٦

يظهر ذلك (١) من كثير من الأخبار ، كالخبر (٢) الدال على جواز بيع خدمة العبد المدبّر (٣) ، وبيع (٤) سكنى الدار التي لا يعلم صاحبها ،

______________________________________________________

(١) أي : استعمال البيع في إبدال المنافع.

(٢) المراد به الجنس لا الواحد الشخصي ، لتعدد الأخبار الدالة على جواز بيع خدمة العبد المدبّر ، وهو المملوك المعلّق عتقه على موت مولاه.

(٣) كصحيح أبي مريم عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سئل عن رجل يعتق جاريته عن دبر ، أيطأها إن شاء أو ينكحها أو يبيع خدمتها حياته؟ فقال : أيّ ذلك شاء فعل» (١). والشاهد في تقرير الامام عليه‌السلام لسؤال الراوي من إطلاق البيع على تمليك خدمة الأمة وعملها ، ولا قرينة في الكلام على مجازية هذا الإطلاق.

ونحوه خبر السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ عليهم‌السلام ، قال : «باع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خدمة المدبّر ، ولم يبع رقبته» (٢). ونحوهما غيرهما. والتقريب كما تقدم آنفا.

(٤) معطوف على «بيع خدمة» وهذا إشارة إلى المورد الثاني من موارد استعمال البيع في الأخبار في تمليك غير الأعيان ، ولا قرينة على مجازية الاستعمال ، كمعتبرة إسحاق بن عمّار عن عبد صالح عليه‌السلام ، قال : «سألته عن رجل في يده دار ليست له ، ولم تزل في يده ويد آبائه من قبله ، قد أعلمه من مضى من آبائه أنّها ليست لهم ، ولا يدرون لمن هي ، فيبيعها ويأخذ ثمنها؟ قال : ما أحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت : فإنّه ليس يعرف صاحبها ولا يدري لمن هي ، ولا أظنّه يجي‌ء لها ربّ أبدا؟ قال : ما أحبّ أن يبيع ما ليس له. قلت : فيبيع سكناها أو مكانها في يده ، فيقول : أبيعك سكناي ، وتكون في يدك كما هي في يدي؟ قال : نعم ، يبيعها على هذا» (٣).

ودلالتها على المدّعى أوضح مما تقدم ، لإطلاق الإمام عليه‌السلام البيع على تمليك السكنى

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٦ ، ص ٧٤ ، الباب ٣ من أبواب التدبير ، الحديث : ١.

(٢) المصدر ، الحديث : ٤.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢٥٠ ، كتاب البيع ، الباب ١ من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث : ٥.

٣٧

وكأخبار (١) بيع الأرض الخراجيّة وشرائها.

______________________________________________________

بعد كراهته عليه‌السلام بيع الرقبة ، ولا قرينة في الكلام على كون الإطلاق بالعناية والمسامحة.

(١) معطوف على «كالخبر الدال ..» وهذا إشارة إلى المورد الثالث مما استعمل فيه البيع في إبدال غير الأعيان ، كاستعماله في نقل حقّه من الأرض الخراجية ، كما في خبر أبي بردة بن رجاء ، قال : «قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال : ومن يبيع ذلك؟ هي أرض المسلمين. قال : قلت : يبيعها الذي هي في يده ، قال : ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟ ثم قال : لا بأس ، اشترى حقّه منها ويحوّل حقّ المسلمين عليه ، ولعلّه يكون أقوى عليها وأملى بخراجهم منه» (١).

وتقريب الاستدلال : أن الامام عليه‌السلام أفاد في جواب السائل حكمين ، أحدهما : النهي عن بيع رقبة الأرض ، لكونها ملكا لكافّة المسلمين ، وليس لأحد منهم أن يبيعها.

ثانيهما : جواز بيع الحق وشرائه ، لقوله عليه‌السلام : «لا بأس ، اشترى حقّه منها» والمراد بالحقّ هو ماله من جواز التصرف ، دون ملكية رقبة الأرض ، قال شيخ الطائفة قدس‌سره : «إن أهل الذمة لا يخلو ما في أيديهم من الأرضين من أن يكون فتحت عنوة أو صولحوا عليه ؛ فإن كانت مفتوحة عنوة فهي أرض المسلمين قاطبة ، ولهم أن يبيعوها إذا كانت في أيديهم بحقّ التصرف ، دون أصل الملك ، ويكون على المشتري ما كان عليهم من الخراج كما كانت خيبر مع اليهود. وان كانت أرضا صولحوا عليها فهي أرض الجزية يجوز شراؤها منهم إذا انتقل ما عليها إلى جزئه رؤوسهم ، أو يقبل عليها المشتري ما كانوا قبلوه من الصلح ، وتكون الأرض ملكا يصلح التصرف فيه على كلّ حال» (٢).

وعلى هذا فلمّا كانت ولاية التصرف من منافع الأرض الخراجية وهي ممّا يبذل المال بإزائها صحّ المعاوضة عليها بتفويض حقّ الانتفاع الى الغير. وبهذا يثبت استعمال البيع

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ١١٨ ، الباب ٧١ من أبواب جهاد العدوّ ، الحديث : ١ ، ونحوه أخبار أخر وردت في ج ١٢ ، ص ٢٧٤ و ٢٧٥ ، الباب ٢١ من أبواب عقد البيع.

(٢) الاستبصار ، ج ٣ ، ص ١١١.

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

والشراء في إبدال المنافع والحقوق ، وعدم اختصاص استعماله بما كان المعوّض عينا.

هذا ما أشار إليه المصنف قدس‌سره من الموارد الثلاثة ، وكذا ورد إطلاق البيع والشراء على غير تمليك العين ، في مواضع اخرى :

منها : جواز نظر مريد التزويج إلى وجه المرأة ومحاسنها ، كما في معتبرة محمد بن مسلم ، قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل يريد أن يتزوّج المرأة أينظر إليها؟ قال : نعم ، إنّما يشتريها بأغلى الثمن» (١).

ودلالتها على المدّعى ظاهرة ، إذ ليس المقصود شراء الرقبة ، بل استيفاء منفعة خاصة ، فأطلق الشراء ـ المقابل للبيع ـ على بذل المال بإزاء التمتع الخاص.

ومنها : جواز أخذ الزوجة مالا على إسقاط حقّ القسم ، كما في معتبرة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليهما‌السلام ، قال : «سألته عن رجل له امرأتان ، قالت إحداهما : ليلتي ويومي لك يوما أو شهرا أو ما كان ، أيجوز ذلك؟ قال : إذا طابت نفسها واشترى ذلك منها فلا بأس» (٢).

وهي كالرواية السابقة في إطلاق الشراء على نقل غير العين ، كرفع اليد عن حقّ القسم.

والحاصل : أنّ شيوع استعمال البيع والشراء في الأخبار في غير تمليك الأعيان مانع عن استقرار ظهور «البيع» في الأدلة المتكفلة لأحكامه ـ كأدلة خيار المجلس ـ في خصوص مبادلة الأعيان ، بل مقتضى القاعدة تعميم المعوّض لمطلق ما يبذل بإزائه المال عينا كان أو منفعة أو حقّا.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٥٩ ، الباب ٣٦ من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، الحديث : ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ٨٥ ، الباب ٦ من أبواب القسم والنشوز ، الحديث : ٢.

٣٩

والظاهر (١) أنّها مسامحة في التعبير ، كما (٢) أنّ لفظ الإجارة يستعمل عرفا في نقل بعض الأعيان

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره منع الاستدراك المتقدم بقوله : «نعم ربما يستعمل ..» وتوجيه استعمال البيع في الروايات وكلمات بعض الفقهاء في إبدال غير الأعيان. ومحصّل التوجيه : أنّ التنافي بين ما ذكرناه من اختصاص البيع بنقل العين وبين استعماله في الكلمات في الأعمّ من ذلك مبنيّ على كونه حقيقيا في كلا المقامين ، لصيرورة «البيع» مشتركا بين معنيين أحدهما أخص وهو ما يعتبر فيه عينية المعوّض ، وثانيهما أعم وهو كفاية كونه مالا سواء أكان عينا أم منفعة أم حقّا ، ونتيجة الاشتراك إجمال موضوع الأدلة ، لدورانه بين الخاص والعام.

لكنك عرفت آنفا أمارية التبادر وصحة السلب على كون البيع حقيقة في خصوص مبادلة الأعيان بعوض ، وهو الذي استقرّ عليه اصطلاح الفقهاء ، كاستقرار اصطلاحهم على اختصاص الإجارة بنقل المنافع بعوض. وعلى هذا يكون استعمال البيع في غير تمليك الأعيان مسامحيّا ، كالمسامحة في إطلاق «الإجارة» في بعض الأخبار على تمليك العين. وعليه يتعيّن حمل «البيع» في الأدلة على معناه الحقيقي ، إلّا مع قيام قرينة على إرادة المعنى المجازي.

وبالجملة : لا منافاة بين الاصطلاح المزبور وبين استعمال البيع في نقل غير العين ، إذ المفروض كون الاستعمال المذكور مبنيّا على العناية والمسامحة ، وهو غير قادح في حمل «البيع» على نقل الأعيان خاصة.

(٢) غرضه إقامة الشاهد على أنّ الاستعمال المسامحي غير قادح فيما استقرّ عليه الاصطلاح ، وحاصله : أنّ البيع الموضوع لنقل العين كما يستعمل مجازا في نقل المنفعة ، كذلك الإجارة ـ التي استقرّ اصطلاح الفقهاء على كونها حقيقة في نقل المنفعة ـ قد تستعمل مجازا في «تبديل العين بعوض» الذي هو معنى حقيقي للبيع ، ولمّا كان الاستعمال في المقامين مبنيّا على العناية والمسامحة ، لم يلزم إجمال في أدلة كلا البابين ، فيحمل «البيع» بدون القرينة على تمليك العين ، والإجارة كذلك على تمليك المنفعة مع بقاء العين على ملك المؤجر.

٤٠