هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

أعني المبيعية (١) (*).

______________________________________________________

(١) وهو المعبّر عنه بالفارسية ب «فروخته شده ، منتقل شده».

__________________

(*) لا يخفى أنّ هذا المعنى يرجع الى المعنى الأوّل ، ولا يكون مغايرا له ، بناء على ما تقدم آنفا من اتحاد النقل والانتقال ، والإيجاب والوجوب ، والكسر والانكسار ذاتا ، واختلافها اعتبارا ، حيث إنّها باعتبار إضافتها إلى الفاعل نقل وإيجاب وكسر ، وباعتبار إضافتها إلى القابل وجوب وانتقال وانكسار ، لأنّ نسبة كلّ مصدر مجرّد إلى مصدر مزيد فيه من تلك المادة تكون كنسبة الوجود إلى الإيجاد ، فكما أنّ الوجود والإيجاد متّحدان حقيقة ومختلفان اعتبارا ، فكذلك المصادر المجرّدة والمزيد فيها. هذا ما يقال في الفرق بين المصادر المجرّدة والمزيد عليها.

لكن فيه : أنّ هذا الفرق يتمّ في المصادر المجرّدة اللازمة كالحسن والوجود ونحوهما حتى تكون ملحوظة بالنسبة إلى المحل ، وأمّا في المجردة المتعديّة فلا يتم ذلك ، لأنّها مضافة إلى الفاعل وملحوظة بالنسبة إلى جهة الصدور.

وبالجملة : إن أريد بالانتقال ما يكون بنظر الموجب فيرجع الى المعنى الأوّل ، لاتحاد النقل والانتقال ذاتا. وإن أريد به ما هو ثابت شرعا وعرفا بأن يراد بالانتقال الملكية الشرعية أو العرفية فقيل بغلطية هذا الاستعمال ، أي استعمال كلمة البيع في الانتقال ، لأنّ الانتقال حكم مترتب على البيع ترتب الحكم على الموضوع ، ومتأخر عنه تأخّر المعلول عن العلة ، لأنّ نسبة البيع إلى الاعتبار الشرعي أو العرفي نسبة الموضوع إلى حكمه ، فإطلاق البيع على حكمه ولو مجازا غلط كما في تقرير السيد الخويي قدس‌سره (١) هذا.

لكن يمكن أن يقال : بصحة هذا الاستعمال لعلاقة السببية والمسببية ، فإنّ الموضوع كالسبب والعلة للحكم ، فلا بأس بإطلاق البيع وإرادة الحكم منه مجازا بالعلاقة المزبورة.

إلّا أن يقال : إنّ صحة الاستعمال المجازي منوطة باستحسان الطبع له ، لا بالعلاقة ، والطبع لا يستحسن استعمال لفظ الموضوع في الحكم الذي يترتب عليه ، فإنّ البيع غير الحكم الشرعي المترتب عليه ، ولا يستحسن الطبع استعمال لفظ البيع فيه.

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٧٦

٢٨١

وهو (١) تكلّف حسن (*).

وأمّا البيع (٢) بمعنى العقد فقد صرّح (٣) الشهيد الثاني رحمه‌الله بأنّ إطلاقه عليه مجاز ، لعلاقة السببيّة.

______________________________________________________

(١) يعني : أنّ هذا التوجيه تكلّف حسن. أمّا كونه تكلّفا فلظهور التعريف في إرادة البيع بمعناه المصدري ، لا بلحاظ ما يشتقّ منه كالمبيعية التي لوحظ فيها حيثية زائدة على أصل المبدأ ، وهي وقوع البيع على عين متموّلة.

وأما كونه حسنا فلأنّ إشراب المعنى المفعولي لا يوجب خروج «البيع» المحدود عن المبدأ المقصود تعريفه.

٣ ـ إطلاق البيع على العقد مجازا

(٢) هذا هو المعنى الثالث المتقدم في كلام صاحب المقابس ومحصل ما أفاده المصنف قدس‌سرهما في دفع التنافي بين تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» وبين جعله بمعنى العقد هو : أنّ إطلاق البيع على الإيجاب والقبول ليس حقيقيا ، بل هو مجازيّ بعلاقة السببية والمسببية ، لما تقدم في تعريف البيع «بالعقد الدال على الانتقال» من كون المعاملات أمورا اعتبارية أي من مقولة المعنى ، وليست من مقولة اللفظ ، ومن المعلوم أنّ إطلاق اللفظ الموضوع للمسبّب على سببه مجازيّ لا حقيقيّ.

وعليه فللبيع معنى حقيقي واحد ، ولا منافاة بينه وبين استعماله في ما عداه بقرينة كعلاقة السببية والمسببية ونحوها. فما تقدم في كلام صاحب المقابس وغيره من «أن للبيع إطلاقات ، وعدّ منها إطلاقه على الإيجاب والقبول» ممنوع بما عرفت.

(٣) غرضه قدس‌سره الاستشهاد بكلام الشهيد الثاني قدس‌سره على مجازية تعريف البيع بالعقد

__________________

(*) بل لا حسن فيه ، لأنّ الانتقال في نظر الناقل المنشئ للبيع يترتّب على إنشائه ، لا على الإيجاب والقبول معا ، والانتقال في نظر الشارع أو العرف ليس بيعا ، بل هو حكم شرعي أو عرفي يترتب على البيع ، ولا ينشأ بالإيجاب والقبول حتى يكون أثرا لهما.

٢٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الدال على الانتقال ، وبيانه : أنّه قدس‌سره ذكر في المسالك تعريفين للبيع.

أحدهما : العقد كما في الشرائع والمختصر النافع والدروس ، بدعوى أنّه المتبادر عرفا من معنى البيع.

وثانيهما : أثر العقد وهو الانتقال كما في كلام المبسوط وغيره. ثم نقل الشهيد الثاني عن الشهيد الأوّل : إرجاع تعريف البيع بالانتقال الى تعريفه بالعقد ، ووجّهه بقوله : «نظرا إلى أنّ الصيغة المخصوصة سبب في الانتقال ، فأطلق اسم المسبب على السبب ، وعرّف المغيّا بالغاية» ثم اعترض الشهيد الثاني عليه بقوله : «وفيه نظر ، لأنّ الإطلاق المذكور مجازيّ يجب الاحتراز عنه في التعريفات الكاشفة للماهيّة ، إلّا مع قيام قرينة واضحة ، وهو منتف. وأمّا التعريف بالغاية بهذا المعنى فغير جائز .. إلخ» (١).

والمقصود من نقل عبارة المسالك أمران :

أحدهما : أنّ قول المصنف ـ من تصريح الشهيد الثاني قدس‌سره بمجازية إطلاق البيع على العقد ـ لا يخلو من شي‌ء ، فإنّه وإن صرّح بهذا الإطلاق المجازي ، إلّا أنّ علاقة السببية والمسببية قد نقلها عن الشهيد الأوّل في مقام توجيه تعريف البيع بالعقد ، وكان مقصود الشهيد الثاني الإيراد على الشهيد الأوّل بإلزامه بما اعترف به من وضع البيع للانتقال ـ أي المسبّب ـ وأطلق مجازا على العقد ، لكونه سببا له. لا أنّ الشهيد الثاني صرّح بمجازية إطلاق البيع على الإيجاب والقبول.

ثانيهما : أنّ ما في بعض الحواشي «من عدم العثور على تصريح الشهيد الثاني في المسالك» غير ظاهر ، لوفاء عبارته المتقدمة بكون العقد معنى مجازيا للبيع بعلاقة السببية والمسببية ، غايته أنّه نقله عن الشهيد الأوّل ولم يعترف به.

وقد ظهر مما ذكرناه مسامحة دعوى صاحب الجواهر من «أن الشهيد صرّح بالمجازية

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٤

٢٨٣

والظاهر (١) أنّ المسبّب هو الأثر الحاصل في نظر

______________________________________________________

في الروضة» (١) لا في المسالك ، فإنّا لم نظفر على المطلب في بيع شرح اللمعة ، فراجع.

هذا تمام الكلام في نفي ما ذكره الفقيهان في شرح القواعد والمقابس من إطلاق البيع حقيقة على معان أربعة ، فيكون مشتركا لفظيا فيها.

وقد تحصّل من كلمات المصنف : أنّ تلك الإطلاقات ليست على نحو الحقيقة إلّا واحدا منها وهو الإيجاب القائم بالبائع ، وعليه فاستعمال اللفظ في المعاني الثلاثة الأخر مجازي ، فلا ينافي إرادة الحقيقة عند التجرّد عن القرينة.

وجه عدم المنافاة : أنّ المعنى الأوّل قد استفيد قيد التعقب بالقبول فيه من قرينة خارجية مثل كون المتكلم في مقام الإخبار عن بيع داره.

والمعنى الثاني أيضا ليس مدلول البيع أصلا ، إذ النقل المعتبر في مقام الإنشاء هو قصد المنشئ مبادلة مال بمال ، وليس ترتب الأثر ـ أعني به الانتقال في وعاء الاعتبار عرفا أو شرعا ـ دخيلا في المفهوم.

والمعنى الثالث ـ وهو العقد ـ قد عرفت أنّ استعمال البيع فيه مجازيّ بعلاقة السببية والمسببية.

(١) غرضه قدس‌سره توجيه ما حكاه عن الشهيد الثاني قدس‌سره ـ من أنّ إطلاق البيع على العقد مجاز بعلاقة السببية ـ بنحو لا يرد عليه إشكال ، وهو عدم كون المقام من صغريات إطلاق اللفظ الموضوع للمسبب على السبب ، بتقريب : أنّ لفظ «البيع» وضع للنقل الذي هو فعل البائع فقط ـ على ما اختاره المصنف من عدم دخل القبول في معناه ـ ومن الواضح أنّ البيع بهذا المعنى مسبّب عن جزء العقد وهو الإيجاب فقط ، لا عن جزئي العقد معا حتى يصح إطلاق البيع على العقد بعلاقة السببية ، فهذا الإطلاق خارج عن حيّز استعمال اللفظ الموضوع للمسبّب في السبب مجازا بعلاقة السببيّة والمسببيّة.

وملخّص ما أفاده المصنف في دفع الاشكال وتوجيه هذا الإطلاق المجازي بعلاقة

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٦

٢٨٤

الشارع (١) ، لأنّه (٢) المسبّب عن العقد (٣). لا النقل الحاصل من فعل الموجب ، لما (٤) عرفت من أنه (٥) حاصل بنفس إنشاء الموجب من دون توقف على شي‌ء (٦) ، كحصول وجوب الضرب

______________________________________________________

السببية بقوله : «والظاهر ..» هو : أنّ الإشكال المذكور إنّما يتوجه على الشهيد قدس‌سره إذا أراد من المسبّب الأثر المتحقق في نظر الموجب. وأمّا إذا أراد من المسبّب الأثر الحاصل في نظر الشارع لم يرد عليه هذا الإشكال أصلا ، بداهة أنّ السبب فيه هو تمام العقد لا جزؤه ، فيصح حينئذ استعمال «البيع» بمعنى الأثر الشرعي المترتب على العقد ـ بكلا جزئية ـ في العقد بعلاقة السببية والمسببية.

(١) والشاهد على إرادة هذا النقل الشرعي لا النقل في نظر البائع ما ورد ـ في تعريف شيخ الطائفة بالانتقال ـ من القيود مثل كون العين مملوكة والعوض مقدّرا ، ورضى المتبايعين ، فإنّها تكشف عن إرادة الانتقال بنظر الشارع أي الإنشاء المثمر ، لا مطلق الإنشاء وإن كان فاقدا لشرائط التأثير في نظر الشارع.

(٢) أي : لأنّ الأثر الحاصل في نظر الشارع من النقل الاعتباري هو المسبّب عن العقد.

(٣) فالمصنف والشهيد الثاني قدس‌سرهما متفقان على كون البيع مجازا في العقد المراد به الإيجاب والقبول ، ومختلفان في العلاقة المصحّحة للاستعمال المجازي ، فالمصنف يقول : إنّها علاقة الكل والجزء ، إذ البيع اسم للإيجاب ، فاستعماله في العقد يكون بعلاقة الكل والجزء ، والشهيد يقول : إنّها علاقة السببية والمسببية.

(٤) تعليل لقوله : «لا النقل ..».

(٥) أي : أنّ النقل الحاصل من فعل الموجب حاصل بنفس إنشائه.

(٦) فيكون إنشاء الموجب والنقل المترتب عليه في نظره نظير الكسر والانكسار ، والإيجاب والوجوب ، والإيجاد والوجود ، ولا فرق بينها إلّا في كون ما عدا الكسر والانكسار من الأمور الاعتبارية التي يمكن اختلاف الأنظار فيها كما مرّت الإشارة إليه ، بخلاف الكسر والانكسار ، فإنّه أمر خارجي لا اختلاف فيه حتى يحصل بنظر دون نظر آخر.

٢٨٥

في نظر الآمر (١) بمجرد الأمر وإن لم يصر واجبا في الخارج في نظر غيره.

وإلى هذا (٢) (*) نظر جميع ما ورد في النصوص والفتاوى من قولهم : «لزم البيع» (٣)

______________________________________________________

(١) الظاهر أنّ مقصوده من الآمر هنا هو من لم يحكم العقل بلزوم إطاعته ، وإلّا فالسيادة الحقيقية تقتضي الوجوب والامتثال في نظر المأمور قطعا. نعم إذا لم يكن الآمر عاليا ولا مستعليا لم يكن إيجابه مستتبعا للوجوب كما هو واضح.

(٢) يعني : وإلى الأثر الحاصل في نظر الشارع ـ الذي هو المسبب عن العقد ـ نظر جميع ما ورد في النصوص والفتاوى ، فالمراد بالبيع الموجود فيهما هو هذا المعنى ، لا النقل الحاصل من فعل الموجب.

(٣) كما في رواية عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجل اشترى أرضا على أنّها عشرة أجربة ، فإذا هي خمسة أجربة ، قال : ان شاء استرجع فضل ماله ، وإن شاء ردّ البيع وأخذ ماله كلّه ، إلّا أن يكون له الى جنب تلك الأرض أيضا أرضون فليؤخذ ويكون البيع

__________________

(*) بل إلى المعاملة الخاصة الحاصلة بالإيجاب والقبول ينظر جميع ما ورد في النصوص والفتاوى وغيرهما ، لأنّها هي التي يعرضها البقاء ويتعلّق بها الفسخ والإمضاء ، ويرد عليها الشروط والأحكام. بخلاف العقد ، فإنّه من مقولة اللفظ ويتصرّم ولا يقبل الاستمرار حتى يمضي أو يفسخ ، فلا يصحّ إرادة الإيجاب والقبول من البيع في قولهم : «كتاب البيع» أو «عقد البيع». فالمراد بالبيع في كلمات الفقهاء وكذا الآيات الشريفة والنصوص هو المعاهدة الخاصة الحاصلة بين المتبايعين المترتبة عليها الأحكام ، فإضافة العقد حينئذ إلى البيع بيانيّة ، فإطلاق لفظ البيع على الإيجاب والقبول وإن كان صحيحا بعلاقة السببية والمسببية ، إذ العقد سبب لتحقق تلك المعاملة ، وليس من الأغلاط الواضحة ـ كما قيل ـ إلّا أنّه لم يعهد ذلك في الإطلاقات المتعارفة.

٢٨٦

أو «وجب البيع» (١) أو «لا بيع بينهما» (٢) أو «أقاله في البيع» (٣) ونحو ذلك (٤).

والحاصل (٥) (*) : أن البيع الذي يجعلونه من العقود يراد به النقل بمعنى اسم المصدر مع اعتبار تحققه في نظر الشارع المتوقف على تحقق الإيجاب والقبول ، فإضافة العقد الى البيع ـ بهذا المعنى ـ ليس بيانية : ولذا يقال : انعقد البيع ولا ينعقد البيع.

______________________________________________________

لازما له ، وعليه الوفاء بتمام البيع ..» الحديث (١).

(١) كما في عدة نصوص ، منها معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «أيّما رجل اشترى من رجل بيعا فهما بالخيار حتى يفترقا ، فإذا افترقا وجب البيع» (٢) الحديث.

(٢) كما في معتبرة علي بن يقطين «أنّه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يبيع البيع ولا يقبضه صاحبه ، ولا يقبض الثمن ، قال : فإنّ الأجل بينهما ثلاثة أيّام ، فإن قبض بيعه ، وإلّا فلا بيع بينهما» (٣).

(٣) كما في مثل رواية هارون بن حمزة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «أيّما عبد أقال مسلما في بيع أقاله الله عثرته يوم القيامة» (٤).

(٤) مثل قوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وقوله عليه‌السلام في ما رواه إسحاق بن عمار : «فلا بيع له» (٥).

(٥) يعني : وحاصل كلام الشهيد بملاحظة التوجيه المذكور : أنّ البيع ـ الذي يعدّونه من

__________________

(*) لا يخفى أنّ ما أفاده المصنف قدس‌سره في توجيه كلام الشهيد قدس‌سره ـ من كون إطلاق البيع على العقد مجازا بعلاقة السببية بإرادة النقل الشرعي من البيع وإطلاقه على سببه وهو العقد ـ

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٦١ ، الباب ١٤ من أبواب الخيار ، الحديث : ١.

(٢) المصدر ، ص ٣٤٦ ، الباب ١ ، من أبواب الخيار ، الحديث : ٤.

(٣) المصدر ، ص ٣٥٧ ، الباب ٩ من أبواب الخيار ، الحديث : ٣.

(٤) المصدر ، ص ٢٨٦ ، الباب ٣ من أبواب آداب التجارة ، الحديث : ٢.

(٥) المصدر ، ص ٣٥٧ ، الباب ٩ من أبواب الخيار ، الحديث : ٢٤.

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

العقود ، ويستعملونه في العقد بعلاقة السببية ، ويقولون : البيع عقد مركب من إيجاب وقبول ـ يراد به النقل الشرعي المسبّب عن العقد ، ويطلق عليه العقد بعلاقة السببية ، لا النقل في نظر الموجب ، لما مرّ من أنّه مسبّب عن الإيجاب خاصة.

وعلى هذا فإضافة العقد إلى البيع لاميّة من قبيل إضافة السبب الى المسبّب ، لا بيانية بأن يكون البيع بمعنى العقد ، إذ لا يصح حينئذ أن يقال : «انعقد البيع أو لم ينعقد» حيث إنّ مرجعه إلى انعقاد العقد وعدمه ، ومن المعلوم أنّه لا معنى له ، لأنّ العقد بمعنى الإيجاب والقبول اللفظيين بعد تحققه لا يكون موردا للنفي ، فلا يقال : لم ينعقد البيع ، مع أنّه يصحّ ورود النفي والإثبات على البيع بعد تحقق العقد ، فلا بدّ أن تكون الإضافة لاميّة حتى يصح أن يقال : «انعقد البيع أو لم ينعقد» لأنّ انعقاده عبارة عن ترتب الأثر الشرعي ، وعدم انعقاده عبارة عن عدم ترتب الأثر الشرعي عليه. فبعد تحقق الإيجاب والقبول يمكن أن ينعقد البيع ـ أي الأثر الشرعي ـ إذا كان العقد جامعا للشرائط ، ويمكن أن لا ينعقد كما إذا كان فاقدا لها.

__________________

تمهيد للإشكال عليه.

ومحصل ما يستفاد من مجموع عبارات المصنف في المقام : أنه إن أريد بالبيع النقل بنظر الموجب ، ففيه : أن علاقة السببية المصحّحة لإطلاق البيع بهذا المعنى على العقد مفقودة ، حيث إنّ العقد ليس سببا للبيع بمعنى النقل في نظر الموجب ، بل سببه الإيجاب فقط الذي هو أحد جزئي العقد ، لا العقد المركّب من الإيجاب والقبول.

وإن أريد بالبيع النقل الشرعي فالعلاقة المصحّحة لإطلاق البيع على العقد مجازا وإن كانت موجودة ، بداهة سببيّة العقد للنقل الشرعي. لكن فيه : أنّ جعل البيع بمعنى الأثر الشرعي مما لم يثبت لا في اللغة ولا في العرف كما مرّ في المعنى الثاني.

مضافا إلى : أنّ إطلاق البيع على العقد غير سديد ، لأنّ البيع من مقولة المعنى ، والعقد من مقولة اللفظ ، وتصحيحه بما أفاده الشهيد ـ من إطلاق البيع على العقد مجازا بعلاقة السببية ـ قد عرفت ما فيه.

٢٨٨

ثمّ (١) إنّ الشهيد الثاني نصّ في كتاب اليمين من المسالك على أنّ عقد البيع

______________________________________________________

ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم

(١) لمّا فرغ المصنف قدس‌سره من تثبيت تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» ودفع ما أورده عليه ، وناقش في كلام بعض من قارب عصره وهو إطلاق «البيع» على معان ثلاثة أخرى غير إنشاء التمليك ـ من باب تعدد الوضع والاشتراك اللفظي ، أراد التنبيه على أمر آخر ،

__________________

إلّا أن يوجّه كلام الشهيد الثاني بما لا يرد عليه الإشكال بأن يقال : إنّ المراد بالمسبّب الذي وضع له لفظ البيع هو اعتبار المتعاقدين ، وسببه هو الإيجاب والقبول ، فالمسبّب ـ وهو اعتبارهما يوجد بإنشاء الإيجاب والقبول ، بناء على ما ذهب إليه القدماء من كون الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ. وعلى هذا فالمسبّب يوجد بالعقد وهو الإيجاب والقبول اللفظيان ، أو مطلقا ، فيصح كلام الشهيد الثاني قدس‌سره من كون استعمال لفظ البيع في العقد مجازا بعلاقة السببية.

ولا يرد عليه تعريض المصنف قدس‌سره به من : أنّ المراد بالمسبّب هو الأثر الشرعي ، والمفروض أنّ استعمال لفظ البيع في الأثر الشرعي غير ثابت ، لا لغة ولا عرفا ، كما أفاده في بيان المعنى الثاني والاشكال عليه ، هذا.

لكن صحة هذا التوجيه مبنية على كون الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ ، وهو غير ثابت ، لما مرّ سابقا من أنّ في الإنشاء مسلكا آخر وهو أنّه عبارة عن إبراز الاعتبار النفساني بالمبرز اللفظي أو الفعلي ، فلا سببيّة في البين أصلا.

فالمتحصل : أنه لا منافاة بين ما اختاره المصنف من معنى البيع وبين المعاني الثلاثة التي ذكرها بعض من قارب عصره.

أما المعنى الأوّل فلأنّه فرد من أفراد معنى البيع الذي اختاره المصنف من كونه إنشاء تمليك عين بمال.

وأما المعنى الثاني فلم يثبت لا لغة ولا عرفا.

وأما المعنى الثالث فلرجوعه الى المعنى الثاني.

٢٨٩

وغيره حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد (١) ،

______________________________________________________

وهو وضع ألفاظ المعاملات لخصوص الصحيح أو للأعم منه ومن الفاسد ، فنقل كلام الشهيدين قدس‌سرهما الظاهر في الوضع للصحيح ، ثم أورد عليهما بأنّ لازم ذلك إجمال الأدلة الإمضائية المانع عن التمسك بها ، ثم وجّه التمسك بالإطلاقات حتى على القول بوضعها لخصوص الصحيح ، وستظهر هذه الأمور إن شاء الله تعالى.

كما أنّ في نقل خصوص كلام الشهيد الثاني قدس‌سره غرضا آخر ، وهو التنبيه على تهافت كلامه المتقدم ـ من كون إطلاق البيع على العقد مجازا بعلاقة السببية والمسببية ـ مع ما أفاده في كتاب اليمين ، وذلك لدلالة كلامه المتقدم على كون البيع حقيقة في المسبب وهو الانتقال الشرعي ، وعلى خروج القبول عن مفهوم البيع ، وكون استعماله في العقد المركّب من الإيجاب والقبول مجازا بعلاقة السببية ، ولدلالة كلامه في يمين المسالك ـ الذي سيتلى عليك ـ على دخل القبول في مفهوم البيع ، لأنّه حقيقة في العقد الصحيح ، فيكون البيع على هذا اسما للسبب وهو العقد ، لا المسبب أعني به الأثر الشرعي ، ومن المعلوم أنّ هذا تناقض.

توضيحه : أنّ المتصف بالصحة والفساد هو الشي‌ء المفروغ عن وجوده ، لكونهما وصفين للشي‌ء الموجود. فإن أريد بالبيع «العقد» اتّصف بالصحة تارة وبالفساد اخرى.

وإن أريد به الأثر الحاصل ـ وهو الانتقال ـ لم يتصف بالصحة والفساد ، بل يتصف بالوجود تارة وبالعدم اخرى. وكذا الحال لو أريد بالعقد معناه اللغوي ـ المعبّر عنه بالفارسية ب ـ گره ـ لدوران أمره بين الوجود والعدم.

فالمتحصل : أنّ المراد بعقد البيع هو الإيجاب والقبول ، لأنّه المتصف بالصحة إن كان جامعا لشرائط التأثير ، وبالفساد إن كان فاقدا لها ولو لبعضها ، فيكون إضافة «العقد» إلى «البيع» لاميّة ، كما أنّ إضافة العقد بمعناه اللغوي إلى البيع بيانية من قبيل إضافة الكلّي إلى الفرد.

(١) الأولى نقل كلام الشهيد الثاني قدس‌سره بألفاظه ، قال في المسألة الثانية من مسائل المطلب الرابع ـ ذيل قول المحقق : إطلاق العقد ينصرف الى الصحيح دون الفاسد ـ ما لفظه : «عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ، لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما ، كمبادرة المعنى الى ذهن السّامع عند إطلاق قولهم : باع فلان داره ، وغيره ، ومن

٢٩٠

لوجود (١) خواصّ الحقيقة والمجاز كالتبادر وصحة السلب (٢) ، قال : «

______________________________________________________

ثمّ حمل الإقرار به عليه ، حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا. وعدم صحة السلب ، وغير ذلك من خواصّه. ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد ليقبل تفسيره بأحدهما كغيره من الألفاظ المشتركة. وانقسامه الى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة. وحيث كان الإطلاق محمولا على الصحيح لا يبرّ بالفاسد ، ولو حلف على الإثبات سواء أكان فساده لعدم صلاحيته للمعاوضة كالخمر والخنزير ، أو لفقد شرط فيه كجهالة مقداره وعينه ، وسيأتي البحث فيه» (١).

والمستفاد من كلامه قدس‌سره أنّ ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح المؤثّر ، لا للجامع بينه وبين الفاسد ، وذلك لوجود أمارة الحقيقة من تبادر خصوص الصحيح ، وصحة السلب عن الفاسد ، واطّراد استعمالها في الصحيح. وحيث إنّ المتّصف بالصحة والفساد هو العقد لا الأثر المترتب عليه كان دعوى وضع عناوين المعاملات لخصوص العقود الصحيحة منافية لما تقدم عن الشهيد الثاني قدس‌سره ـ بناء على صحة النسبة ـ من التصريح بكون إطلاق البيع على العقد مجازا بعلاقة السببية ، فلاحظ.

ثم إنّ في كلامه تأمّلا من جهات سيأتي بيانها في التعليقة إن شاء الله تعالى.

(١) تعليل لقوله : «حقيقة في الصحيح ، مجاز في الفاسد» وقد تقدم آنفا

(٢) هذا التعبير أولى مما في عبارة المسالك من قوله : «وعدم صحة السلب» فإنّ مقصود الشهيد الثاني قدس‌سره إقامة أمارة على وضع «البيع» ونحوه من العقود لخصوص الصحيح المؤثّر ، فكان المناسب أن يقول : «وصحة السلب عن الفاسد» لا «وعدم صحة السلب» وذلك لأنّ عدم صحة السلب عن الصحيح ليس أمارة الوضع لخصوص الصحيح ، لوضوح أنّ عدم صحة السلب عن الحصة لا يشهد بعدم كون الجامع والطبيعي موضوعا له ، فإذا لم يصح سلب الإنسان عن العالم لم يكشف ذلك عن عدم وضع لفظ «الإنسان» للجامع بين العالم والجاهل ، فعلامة الوضع لخصوص العالم صحة سلب الإنسان عن الجاهل ، لا عدم صحة سلبه عن العالم.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٢ ، ص ٢٤٢ (الطبعة الحجرية).

٢٩١

ومن ثمّ (١) حمل الإقرار به عليه (٢) حتّى لو ادّعى (٣) إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا. ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما ، كغيره من الألفاظ المشتركة. وانقسامه (٤) إلى الصحيح والفاسد أعم

______________________________________________________

والحاصل : أنّ عدم صحة سلب «البيع» عن العقد الصحيح لا يدلّ على كون الموضوع له هو خصوص الصحيح. كما أنّ عدم صحة سلب الإنسان عن العالم لا يشهد بوضعه لخصوص العالم ومجازيته في غيره. ولعلّه لهذا أصلح المصنف قدس‌سره العبارة وقال : وصحة السلب.

(١) أي : ولأجل وجود علائم الحقيقة في إطلاق العقود على خصوص الصحيح منها ـ ومجازية إطلاقها على الفاسد ـ حمل الإقرار بالبيع على الصحيح خاصة ، كما لو ترافع شخصان في بيع دار فادّعاه أحدهما وأنكره الآخر ، ثمّ اعترف المنكر بوقوع البيع ، ولكنّه وجّهه بكون عقده فاسدا لفقده بعض الشرائط ، فإنّه يلزم المقرّ بالبيع ، ولا يسمع منه اعتذاره بفساد العقد. ومن المعلوم أنّ قبول أصل إقراره بوقوع البيع ـ وعدم سماع اعتذاره بفساد العقد ـ دليل على وضع «البيع» لخصوص الصحيح ، لا للجامع بينه وبين الفاسد ، إذ لو كان الموضوع له هو الجامع المشترك بين الصحيح والفاسد لزم قبول دعوى فساد العقد ، كما هو الحال في الإقرار بلفظ مشترك بين معنيين أو أكثر.

(٢) أي : حمل إقرار أحد المترافعين بالبيع على الصحيح.

(٣) أي : لو ادّعى المقرّ بالبيع إرادة عقد فاسد لم يقبل منه ، بل يؤاخذ بظاهر إقراره ، وهو البيع الصحيح أي العقد الجامع للشرائط.

(٤) أي : وانقسام البيع ، ومقصود الشهيد قدس‌سره دفع دخل ، أمّا الدخل فتقريبه : أنّ القائل بوضع ألفاظ المعاملات للجامع بين الصحيح والفاسد يستدلّ بصحة تقسيم العنوان المعاملي ـ كالبيع ـ الى الصحيح والسقيم ، فيقال : «هذا بيع صحيح لاستجماعه لشرائط الصحة ، وذاك بيع فاسد لاختلال شرائطه لكونه غرريا مثلا» ولو كان «البيع» حقيقة في خصوص الصحيح ومجازا في الفاسد لم يصح توصيف البيع بأنّه فاسد ، إذ البيع الفاسد ليس ببيع وإنّما هو كإنشاء العابث واللّاغي يصح سلب العنوان عنه ، مع أنّه لا ريب في صحة تقسيم البيع الى الصحيح

٢٩٢

من الحقيقة» (*).

______________________________________________________

والفاسد ، كصحة تقسيم كل لفظ موضوع للجامع إلى حصصه وأفراده.

وأمّا الدفع فهو : أنّ مجرّد الانقسام الى الصحيح والفاسد لا يدلّ على كون المقسم معنى حقيقيا للفظ ، فيمكن أن يكون المقسم معنى مجازيا له ، فلا يثبت كون لفظ «البيع» ونحوه حقيقة في الجامع بين الصحيح والفاسد ، لأنّ مجرّد الاستعمال ـ الذي هو أعم من المعنى الحقيقي ـ لا يثبت الوضع ، وذلك لما ثبت في محله من اختصاص أصالة الحقيقة بالشك في المراد مع العلم بالمعنى الحقيقي. وأمّا لو علم بالمراد وشك في الموضوع له فلا تجري حتى يثبت كون المراد معنى حقيقيا.

__________________

(*) لا يخفى أن في كلامه مواقع للنظر :

منها : الاستدلال بالتبادر على الوضع للصحيح.

إذ فيه : أنّ تبادر الصحيح هنا ليس دليلا على الحقيقة ، لقوّة احتمال نشوه عن القرينة ، ومن المعلوم أنّه حينئذ ليس أمارة عليها ، فإنّ التبادر ـ بناء على تسليم أماريته على الوضع ـ يختص بما إذا كان من حاقّ اللفظ ، وهذا في المقام غير ظاهر. وإثبات كونه من حاقّ اللفظ ـ بأصالة عدم القرينة ـ غير سديد ، لاختصاصها بالشك في المراد ، فلا يشمل الشك في الوضع.

ومنها : الاستدلال بصحة السلب عن الفاسد. إذ فيه : أنه مخصوص بما إذا كان الفساد من جهة عدم انضمام القبول ، وأمّا من جهة غيره فلا.

ومنها : قوله «لم يسمع إجماعا» إذ فيه : أنّه يمكن أن يكون عدم سماع إرادة العقد الفاسد لأجل ظهور حال المسلم ، لا لظهور لفظ البيع في العقد الصحيح الشرعي.

ويشهد لهذا كلامه في المسالك والروضة في تقديم قول مدّعي الصحة عند اختلاف المتبايعين في صحة العقد وفساده. قال قدس‌سره في المسالك : «نبّه بقوله : ـ فالقول قول مدّعي صحة العقد ـ على علّة الحكم ، وهو أصالة الصحة في العقود ، فإنّ الظاهر من العقود الجارية بين

٢٩٣

وقال (١) الشهيد الأوّل في قواعده : «الماهيات الجعلية كالصلاة والصوم

______________________________________________________

(١) غرضه من نقل كلام الشهيد قدس‌سرهما أنّ مختاره في مسألة الصحيح والأعم هو الوضع

__________________

المسلمين الصحة ، فيكون قول مدّعي الصحة موافقا للأصل ..» (١).

وقال في شرح اللمعة في مسألة اختلافهما في الشرط : «يقدّم قول مدّعي الصحة ، لأنّها الأصل في تصرفات المسلم» (٢).

وعليه فمجرد عدم سماع إرادة الفاسد لا يكشف عن وضع ألفاظ المعاملات للعقود الصحيحة منها.

ومنها : التنافي بين قوله في أوّل كلامه : «عقد البيع وغيره حقيقة في الصحيح ، مجاز في الفاسد ، لوجود خواص الحقيقة والمجاز» وآخره من قوله : «وحيث كان الإطلاق محمولا على الصحيح لا يبرّ بالفاسد». وجه التنافي : أنّ انصراف إطلاق العقد إلى حصّة منه ـ وهو الصحيح ـ يقتضي تسليم كون اللفظ حقيقة في الأعم حتى ينصرف إلى فرد من الجامع ، لبعض موجبات الانصراف كالتشكيك في الصدق ، ومن المعلوم أنّه مع إقامة أمارات الحقيقة على الوضع لخصوص الصحيح ـ في أوّل كلامه ـ لا يبقى موضوع للانصراف ، هذا.

مضافا إلى : أنّ ظاهر كلام المحقق قدس‌سره : «إطلاق العقد ينصرف الى الصحيح» تسليم الوضع للجامع ، ولكنّه ينصرف الى الصحيح من باب ظهور حال المسلم ، ومعه لا يتّجه استدلال الشهيد الثاني على الوضع للصحيح بالتبادر ونحوه من خواصّ الحقيقة والمجاز. فتأمل في العبارة حقه.

ومنها : قوله في آخر كلامه «بأعمية التقسيم من الحقيقة» إذ يمكن يقال : إنّ الظاهر من تقسيم شي‌ء هو تقسيمه باعتبار معناه الحقيقي لا المجازي ، فتأمل.

__________________

(١) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ٢٦٧ و ٢٦٨

(٢) الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٥٤١

٢٩٤

وسائر العقود لا تطلق على الفاسد إلّا الحجّ ، لوجوب المضيّ فيه» (١). وظاهره (٢)

______________________________________________________

لخصوص الصحيح ، والفارق بينه وبين كلام الشهيد الثاني المتقدم : أنه قدس‌سره خصّ نزاع الصحيح والأعم بالمعاملات ، ولم يتعرّض للنزاع في العبادات ، ولكن الشهيد الأوّل عمّم الوضع للصحيح لمطلق الألفاظ المتداولة في الخطابات الشرعية ، سواء أكانت معاملة أم عبادة.

(١) وقال بعد ذلك : «فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحة ، وهو الدخول فيهما ، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث. ويحتمل عدمه ، لأنّها لا تسمّى صلاة شرعا ولا صوما مع الفساد. أمّا لو تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعا» (١).

وعلى هذا فكلام الشهيد الأوّل موافق لما حكاه المصنف عن الشهيد الثاني قدس‌سره من وضع ألفاظ العبادات والمعاملات للصحيح أي الواجد لكلّ ما يعتبر فيه شرطا وشطرا.

واستثنى الشهيد الأوّل قدس‌سره الحجّ ، لكونه موضوعا للأعم من الصحيح والفاسد ، بشهادة إطلاقه ـ على الفاسد ـ في النصوص الآمرة بإتمام الحج فيمن أفسده بالوقاع قبل الوقوفين ، كمضمرة زرارة ، قال : «قلت : فأيّ الحجّتين لهما؟ قال : الأولى التي أحدثا فيها ما أحدثا ، والأخرى عليهما عقوبة» (٢). فإنّ الحجّة الاولى مع فسادها بالجماع قد وجب إتمامها. ومن المعلوم أنّ إطلاق الحج على الفاسد منه ظاهر في كونه على نحو الحقيقة.

وهذا بخلاف الصلاة والصوم والزكاة والمعاملات ، فإنّها موضوعة للصحيح خاصة ، واستعمالها في الفاسد ـ أي الفاقد شطرا أو شرطا ـ مجاز.

(٢) يعني : وظاهر قول الشهيد : «لا تطلق على الفاسد» هو الإطلاق الحقيقي ، وعليه فاستعمال هذه الألفاظ على نحو الحقيقة منوط بكون تلك الماهية المخترعة واجدة للأجزاء

__________________

(١) القواعد والفوائد ، ج ١ ، ص ١٥٨ ، القاعدة : ٤٢ الفائدة : ٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٩ ، ص ٢٥٧ ، الباب ٣ من أبواب كفارات الاستمتاع في الإحرام ، الحديث : ٩.

٢٩٥

إرادة الإطلاق الحقيقي (*).

______________________________________________________

والشرائط وفاقدة للموانع ، فلو كانت فاسدة كالصلاة الفاقدة للستر أو للسورة كان استعمالها فيها مجازيا. وكذا الحال في ألفاظ المعاملات كالبيع ، فإنّها موضوعة لخصوص المؤثّر في النقل والمبادلة ، فالبيع الربوي والغرري ليسا بيعا حقيقة ، ولا يصحّ أن يقال : إنّهما بيع فاسد.

__________________

(*) نعم ، لكن تعليل استثناء الحج الفاسد بوجوب المضيّ فيه قرينة على أنّ مراده الإطلاق في مقام الطلب والأمر ، يعني : أنّ المأمور به من الصلاة والصوم وسائر العبادات والمعاملات هو الصحيح دون الفاسد ، إلّا الحج ، لأنّ فاسده كصحيحه مأمور به ، حيث إنّه يجب إتمامه إذا أفسده الحاج بما يفسده من الجماع قبل الوقوفين.

وعلى هذا فيراد من قوله : «لا تطلق على الفاسد» أنّه لا يطلب الفاسد إلّا مسامحة ، فيراد من الإطلاق تعلّق الطلب بالفاسد ، يعني : أنّ الأمر لا يتعلق بالفاسد إلّا الحج ، فإنّ فاسده أيضا يتعلّق به الأمر. وعليه فليس مورد كلام الشهيد الاستعمال الحقيقي ـ كما استظهره المحقق القمي قدس‌سره ـ حتى يقال : إنّه قائل بوضع ألفاظ العبادات والمعاملات للصحيح. ولا أقلّ من الاحتمال ، خصوصا بقرينة تعقيبه بحنث النذر.

نعم ما جزم به الشهيد هنا من إطلاق الحج على الفاسد حقيقة ينافيه ما أفاده في الدروس من تقوية كون الفرض ما بيده ، وأنّ الحج الواجب عليه من قابل عقوبة ، قال : «وروى زرارة أن الأولى فرضه ، وتسميتها فاسدة مجاز» (١). فيتعين الجمع بينها وبين معتبر سليمان بن خالد من «أنّ الرفث فساد الحج» بحمل الفساد على النقص ، كالنقص الوارد عليه بارتكاب محرّمات الإحرام المنجبر بالكفارة ، فيكون الحجّ من قابل كفّارة للرّفث قبل الوقوفين والتفصيل موكول إلى محله.

__________________

(١) الدروس الشرعية ، ج ١ ، ص ٣٧٠.

٢٩٦

ويشكل (١) ما ذكراه

______________________________________________________

امتناع التمسك بالإطلاق بناء على الوضع للصحيح

(١) بعد أن فرغ المصنف قدس‌سره من نقل كلام الشهيدين قدس‌سرهما الظاهر في وضع ألفاظ المعاملات ـ بل والعبادات كما في قواعد الشهيد الأوّل ـ لخصوص الصحيح ، أخذ في بيان الإشكال الوارد على هذه المقالة ، ومحصله : أنّ مقتضى وضع ألفاظ المعاملات للصحيح ، وعدم شمول الموضوع له فيها للفرد الفاسد هو عدم صحة التمسك بإطلاق ما دلّ على مشروعية المعاملة عند الشك في أصل مشروعيّتها أو في اعتبار أمر فيها ، ضرورة أنّ الشك حينئذ يكون في موضوع دليل الإمضاء ، ومن المعلوم أنّه مع الشك في انطباق موضوع الدليل على المشكوك فيه لا سبيل للتمسّك بإطلاقه ، فينسدّ باب التمسّك بإطلاقات أدلة المعاملات طرّا ، ويجري أصالة الفساد في جميع موارد الشك في دخل شي‌ء شطرا أو شرطا في المعاملة.

وهذه الدعوى مما يقطع بفساده ، لاستقرار سيرة الأصحاب «رضوان الله عليهم» قديما وحديثا على التمسك ، بالإطلاقات في دفع الشك في جزئية شي‌ء أو شرطيته في المعاملات ، بل نسب المصنف على ما في تقرير بحثه الشريف الى الشهيد تمسكه بها ، قال مقرر بحثه : «حتى أنّ الشهيد قد ملأ الأساطير من ذلك ، بل ولولاه لما دار رحى الفقه كما لا يخفى على المستأنس بكلامهم. وقد ادّعى الفاضل الإجماع على جواز التمسك بعموم قوله تعالى «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (١).

ثم لا يخفى أنّ كلام المصنف قدس‌سره مسوق لبيان الاشكال من جهة إجمال الأدلة الإمضائية بناء على الوضع للصحيح.

ولمّا كان ذلك متوقفا على القول بالحقيقة الشرعية وتصرّف الشارع في الأوضاع اللغوية والعرفية كان الاشكال منحلّا إلى أمرين وإن لم يصرّح بهما معا.

الأوّل : أنّ اختصاص وضع الماهيّات المخترعة الشرعية ـ والعقود ـ بالأفراد الصحيحة

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ص ٥.

٢٩٧

بأنّ وضعها (١) للصحيح يوجب عدم جواز التمسك بإطلاق نحو (٢) (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وإطلاقات (٣) أدلة سائر العقود في مقام الشك في اعتبار شي‌ء فيها (٤) ،

______________________________________________________

مبني على القول بالحقيقة الشرعية بمعنى أخذ قيد الصحة في الموضوع له ، فكما أنّ الشارع وضع لفظ «الصلاة» للماهية التي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم ، فكذلك وضع لفظ «البيع» مثلا للمعاملة المؤثّرة في نقل العوضين ، وهي الواجدة لجميع الشرائط والقيود ، فالمعاملة الفاقدة لبعضها ليست بيعا حقيقة.

الثاني : أنّ لازم وضع أسامي المعاملات لخصوص الصحيح المؤثّر في ترتب الأثر المقصود على العقد هو إجمال الأدلة عند صدق العنوان عرفا على المعاملة ، والشك في اعتبار شي‌ء فيه شرعا. مثلا إذا أحرز صدق «البيع» عرفا على عقد المكره ، وشكّ في اشتراط البيع الممضى شرعا بالرضا المقارن للعقد لم يمكن الرجوع إلى مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) للحكم بنفوذ عقد المكره المتعقب بالرضا ، إذ المفروض كون البيع موضوعا للصحيح الشرعي لا العرفي ، ومع الشك في اعتبار مقارنة الرضا للعقد يشك في صدق موضوع الدليل ، ومن المعلوم عدم جواز التمسك بالدليل ما لم يحرز موضوعه من الخارج.

هذا تقريب الإشكالين ، وسيأتي الجواب عنهما.

(١) يفهم من هذه الكلمة ابتناء إشكال إجمال الأدلة على القول بالحقيقة الشرعية ، بمعنى : جعل وضع شرعيّ لأسامي المعاملات كالعبادات ، فكما أنّ «الصلاة» في عرف الشارع تختلف عن معناها اللغوي والعرفي وهو الدعاء ، فكذلك البيع والنكاح والصلح ونحوها من عناوين المعاملات موضوعة بوضع جديد لمفهوم آخر أضيق من مفاهيمها العرفية واللغوية.

(٢) مثل (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) بناء على اختصاص التجارة بالبيع والشراء ، وقوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بناء على كونه عنوانا مشيرا إلى آحاد العقود.

(٣) مثل «النكاح سنّتي» و«الصلح جائز بين المسلمين» ونحوهما.

(٤) للإجمال الناشي من احتمال دخل ما يحتمل اعتباره ـ في صحة المعاملة ـ في صدق الاسم ، فيتوقف صدق «البيع» على رعاية جميع الشرائط الشرعية ، ولا يكفي إطلاقه عرفا

٢٩٨

مع (١) أنّ سيرة علماء الإسلام التمسك بها في هذه المقامات (٢) (*).

______________________________________________________

على العقد الفاقد لبعض ما يحتمل دخله شرعا فيه.

(١) هذا وجه الاشكال على كلام الشهيدين قدس‌سرهما ومحصله : منافاة الوضع للصحيح ـ المستلزم للإجمال ـ لسيرة الفقهاء على تسليم إطلاق الأدلة ، ونفي دخل ما يشك في اعتباره في المعاملات بها ، فيتمسكون بإطلاق آية حلّ البيع لمشروعية العقد بالفارسية وبالمعاطاة ، وذلك لصدق البيع العرفي عليهما.

(٢) أي : مقام الحكم بعدم دخل ما يحتمل اعتباره شرعا في المعاملات.

__________________

(*) هذا الاشكال مبني على أمرين :

أحدهما : وضع ألفاظ المعاملات للصحيح الشرعي لا العرفي.

وفيه أوّلا : أنّه مبنيّ على ثبوت الحقيقة الشرعية ، وهي غير ثابتة في ألفاظ العبادات فضلا عن المعاملات.

وثانيا : أنّه يمتنع إرادة الصحيح في ألفاظ المعاملات الواقعة في حيّز الخطابات ، كقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و«الصلح جائز بين المسلمين» ونحو ذلك من أدلة إمضاء المعاملات ، وذلك لأنّ الصحة مستفادة من نفس الأدلة ، فكيف تؤخذ في متعلقها مع تأخرها عنها؟ فإنّ من الممتنع دخل ما يتأتى من الحكم في متعلقة.

نعم إن استفيدت الصحة من غير دليل الإمضاء لا يلزم الامتناع ، لكن يترتب عليه اللغوية ، إذ لا فائدة حينئذ في جعل الحلية بقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مثلا مع فرض صحته بدون هذا الدليل ، هذا.

ثانيهما : كون المراد من عقد البيع في كلام الشهيد الثاني نفس البيع ، على أن تكون الإضافة بيانيّة ، لا عقده حتى تكون الإضافة لاميّة. والظاهر هو الأوّل ، لأنّه جعل عقد البيع كسائر ألفاظ المعاملات والعقود أسامي لخصوص الصحيح ، ومن المعلوم أنّ مورد النزاع هو عناوين العقود كالإجارة والهبة والعارية والوديعة والمزارعة والمساقاة وغيرها.

مضافا إلى القرائن الموجودة في كلامه كالإقرار به والإخبار به ، فإنّها قرائن على إرادة العقد من البيع ، هذا.

٢٩٩

نعم (١) يمكن أن يقال : إنّ البيع

______________________________________________________

توجيه الوضع للصحيح

(١) استدراك على قوله : «ويشكل ما ذكراه» وغرضه قدس‌سره دفع الاشكال الوارد على مقالة الشهيدين قدس‌سرهما من وضع ألفاظ المعاملات للصحيح ، وكونها مجازا في الفاسد. وكلام المصنف متضمن لمقامين.

أحدهما : إمكان وضع أسامي المعاملات لخصوص الصحيح ، بنحو لا يترتب عليه إجمال الأدلة الإمضائية ، ولا ينسدّ باب التمسك بإطلاقاتها.

وثانيهما : توجيه التمسك بالإطلاق بناء على الوضع لخصوص الصحيح.

والكلام فعلا في المقام الأوّل ، ولا بأس بالإشارة إلى أمرين تمهيدا لتوضيح المتن :

الأوّل : أنّ المعاملات أمور اعتبارية ، متقوم حقائقها باعتبار المعتبر ، وليس لها وجود وراء وجودها في وعاء الاعتبار ، وبهذا تمتاز عن الموجودات الحقيقية التي لا دخل للجعل والمواضعة في وجودها في موطنها ، ولا تتغيّر حقائقها باختلاف الأنظار. وأمّا الأمر الاعتباري فيمكن وجوده باعتبار معتبر ، دون آخر ، وذلك كالأوراق النقدية التي يعتبر ماليّتها حكومة ، ولا يعتبرها حكومة أخرى ، فتسقط عن الاعتبار حينئذ.

الثاني : أنّ انطباق العنوان والمفهوم على المصاديق مختلف ، فقد يكون قهريّا لا يتوقف على أزيد من تحققه خارجا بمعدّاته ومباديه كالقتل ، الصادق على إزهاق الروح قسرا سواء أكان مع القصد أم بدونه ، ولذا يسند القتل حقيقة إلى القاتل في القتل الخطائي الذي لم يقصد القاتل ذلك أصلا. وقد يكون متوقفا على القصد والاعتبار كالتعظيم ، فإنّه لا ينطبق على مجرّد القيام عند قدوم الغير ، بل لا بدّ من كونه بقصد إكرامه ورعاية عظمته.

ثم إنّ مثل التعظيم مما يناط صدقه بالاعتبار ربما يقع الخلاف في مصداقه مع عدم الخلاف في أصل المفهوم ، فقد يعدّ القيام بنظر جمع ـ بقصد إكرام القادم الى مجلس ـ من أظهر أنحاء التعظيم ، بينما يرى آخرون كشف الرأس أو الانحناء إلى حدّ الركوع مطابقا للمفهوم. وهذا الاختلاف ناش من اعتبار فعل مصداقا للتعظيم عند جمع ، واعتبار فعل آخر كذلك

٣٠٠