هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

الشأن في صدق البيع العرفي على ما يكون فاسدا شرعا كالبيع بلا ثمن ، فإنّ إطلاق البيع عليه عرفا ممنوع ، ولذا يعدّ شرط خلوّ البيع عن الثمن منافيا لمقتضى حقيقة البيع ، لا منافيا لمقتضى إطلاقه ، كما لا يخفى.

الرابع : ما في حاشية المحقق الايرواني قدس‌سره من : «أن العين تشمل غير المتمولة كالخنافس والديدان» (١).

وفيه : أنّه لا ضير في ذلك ، لكون المعرّف هو البيع الأعم من الصحيح والفاسد. إلّا أن يمنع صدق البيع عليه لغة كما يظهر من المصباح ، بل وعرفا.

ويمكن دفع الاشكال عن تعريف المصنف باختصاص العين بالمتموّلة ، لما تقدم منه في ذيل تعريف المصباح من استظهار كون المعوّض عينا ، في قبال أعمية العوض منها ومن المنافع ، فإنّ ذلك كلّه بعد الفراغ عن اعتبار مالية العوضين ، ولذلك منع من جعل العوض عمل الحرّ ، كما منع عن قابلية وقوع بعض الحقوق عوضا. وعليه فلفظ «العين» وإن كان ظاهرا بدوا في ما يقابل المنفعة مطلقا سواء اتصف بالمالية أم لا ، إلّا أن التأمل في كلام المصنف قدس‌سره قاض بإرادة خصوص ما يتموّل كما ذكرناه ، فلاحظ.

الخامس : ما في الحاشية المزبورة أيضا من «شموله لإنشاء العابث واللّاغي ، وإنشاء الإيجاب غير المتعقّب بالقبول ، مع أنّ شيئا من ذلك ليس بيعا ، بل إنشاء البيع».

وفيه : أنّه لا يصدق البيع على إنشاء العابث واللّاغي ، لأنّه ـ على ما عرفت ـ ما يكون مبرزا للاعتبار الموجد في النفس أو موجدا للأمر الاعتباري ، على الخلاف المتقدّم في حقيقة الإنشاء ، ومن المعلوم أنّ إنشاء اللّاغي الفاقد للقصد لا يبرز ذلك ولا يوجده. وأمّا إنشاء الإيجاب غير المتعقب بالقبول فهو بيع قطعا ، إذ المحدود هو فعل البائع ، لا المعاملة الخاصة القائمة بكلا المتبايعين.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٧٤

٢٦١

.................................................................................................

__________________

السادس : ما في حاشيته أيضا من : «أنه يشمل الإنشاء الصريح والضمني ، مع أن مقصوده الإنشاء الصحيح كيلا يشمل القبول من المشتري ، ولا يشمل قبول مستأجر العين ، ولا يشمل الصلح».

ويمكن دفعه : بأن قبول البيع والإجارة عبارة عن إنشاء التملك ، وليس مفهومه لغة أو عرفا إنشاء التمليك ، وإنّما يرجع الى إنشاء التمليك بعد التحليل ، فليس القبول إلّا مطاوعة لإنشاء الموجب ، فمفهوم القبول ليس إلّا إنشاء التملك.

وأمّا الصلح فليس هو أيضا إنشاء التمليك بل إنشاء التسالم ، والتمليك مما يترتب عليه ، فليس الصلح أوّلا وبالذات إنشاء التمليك.

السابع : ما في حاشيته أيضا من : أنه يلزم تعلق الجار بالعين أو بصفة مقدرة لها حتى يكون تقدير الكلام : «إنشاء تمليك عين مقابل بالمال» لينطبق على البيع ، مع أن ظاهره التعلق بالتمليك ، وينطبق التعريف على الهبة المعوّضة بناء على ما تقدم في المتن من كون العوض عوضا لفعل الواهب وهو التمليك ، لا عوضا عن العين الموهوبة المتعلق بها التمليك. والفارق بين البيع والهبة عند المصنف هو هذا أي كون الثمن عوضا عن العين في البيع ، وكونه عوضا عن الفعل في الهبة ، هذا.

وهذا الاشكال وإن كان واردا على تعريف المصنف قدس‌سره ، لكنه لا يختص به ، إذ لا بدّ من تعيين متعلّق للباء الدالة على المقابلة بين العين والثمن حتى يتميّز البيع عن الهبة ، فلا مناص من صرف ظهوره في تعلّقه بالتمليك الى تعلّقه بمقدّر.

هذه جملة من مناقشاتهم في تعريف المتن. وقد تقدم فيما يتعلق بتعريف المصباح بعض وجوه النظر فيه أيضا ، فراجع.

وكذا يظهر ما في تعريف البيع بما في تقرير بحث شيخنا المحقق النائيني قدس سره قال المقرر : «الأولى في تعريف البيع أن يقال : هو تمليك العين بالعوض في ظرف تملّك

٢٦٢

.................................................................................................

__________________

المشتري» (١) وذلك لما مرّ مرارا من أنّ البيع ليس هو التمليك ، بل مفهومه التبديل.

مضافا إلى : أنّ تملك المشتري ليس دخيلا في البيع المصدري الذي هو فعل البائع ، وإنّما هو دخيل في ترتب الأثر المقصود على المعاملة الخاصة القائمة بالبائع والمشتري.

وإلى : لزوم تقييد كل من العين والعوض بالتموّل ، لما عرفت من أنّ البيع هو المبادلة بين المالين لغة وعرفا ولو بأصالة عدم النقل ، هذا.

كما يظهر مما ذكرناه : ما في تعريف البيع بما أفاده الحلبي في كافيه من : «أنه عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع والثمن وتسليمهما» (٢) من الإشكال ، وذلك لما فيه أوّلا : من أنّ «العقد» إن أريد به الإيجاب والقبول اللفظيّان توجّه عليه ما تقدم في تعريف البيع ـ بالإيجاب والقبول الدالين على الانتقال ـ من : أنّ البيع من مقولة المعنى ، وهو الأمر الاعتباري ، وليس من مقولة اللفظ. ومن خروج المعاطاة عنه.

وإن أريد به ما يقوم بالبائع والمشتري من العهد ، ففيه : أنّ المحدود هو البيع بمعناه المصدري الذي هو فعل البائع فقط ، ومن المعلوم أن العهد قائم بالطرفين كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ المحدود أعمّ من البيع الصحيح والفاسد ، ومن البديهي أن استحقاق التصرف والتسليم من آثار خصوص البيع الصحيح ، فلا يشمل الحدّ البيع الفاسد.

وثالثا : أنّه يستلزم الدور ، لاشتمال الحدّ على المبيع الذي هو من مشتقات البيع ، فإذا توقّف معرفة الحدّ ـ كلّا أو بعضا ـ على المحدود لزم الدور ، لتوقف معرفة المحدود أيضا عليه.

ورابعا : أنّه يقتضي عدم اعتبار العينية في المبيع.

وخامسا : أنّه يقتضي عدم اعتبار الماليّة في العوضين كما لا يخفى.

فالأولى في تعريف البيع أن يقال : «أنّه تبديل اعتباري بين عين وشي‌ء متموّلين» فإنّ هذا هو البيع العرفي الصادق على الصحيح والفاسد.

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٤٥

(٢) الكافي في الفقه ، ص ٣٥٢

٢٦٣

ثم إنّ ما ذكرنا (١)

______________________________________________________

(١) يعني : من تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» وغرضه بيان أمرين :

الأوّل : أنّ البيع الذي يكون أصلا للمشتقات هو البيع بمعناه المصدري ، الذي هو فعل البائع ، في قبال الشراء الذي هو فعل القابل ، لا البيع بمعناه الاسمي ، فإذا قال : «بعت» فمعناه : أنشأت البيع ، وهذا هو مختار المصنف قدس‌سره في تعريف البيع ، حيث قال : «إنه إنشاء تمليك عين بمال».

الثاني : عدم منافاة التعريف المزبور لإطلاق البيع على معان آخر ، ورجوعها إلى المعنى الذي اختاره ، وهو : إنشاء تمليك عين بمال ، كما سيتّضح عند تعرّضها في المتن.

هذا إجمال الأمر ، والمقصود الأصلي النظر في كلام صاحب المقابس قدس‌سره ، حيث إنّه ادّعى إطلاق البيع حقيقة على معان أربعة ، وجعل ثانيها : إنشاء التمليك الذي يكون بيد البائع.

وأوّل تلك الإطلاقات هو : إنشاء تمليك البائع ، وإنشاء تملك المشتري ـ لكون البيع من الأضداد ـ لكن بشرط انضمام أحدهما إلى الآخر ، فلو لم يتعقب إنشاء البائع بقبول المشتري لم يطلق على إنشاء البائع : أنه بيع.

وثانيها : إنشاء التمليك ، الذي هو فعل البائع.

وثالث تلك المعاني هو النقل المترتب على الإيجاب والقبول.

ورابعها : نفس العقد المؤلّف من الإيجاب والقبول. والفرق بين هذا الإطلاق الأخير وبين إطلاقه على إيجاب البائع بشرط تعقبه بتملّك المشتري هو دخل القبول شرطا في الأوّل ، وشطرا في الأخير.

هذا ما أفاده صاحب المقابس من إطلاق البيع على معان أربعة (١) ، وقد سبقه في التنبيه عليه شيخه الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سره في شرح القواعد ، حيث قال ـ بعد تعريف البيع بالانتقال كما في القواعد ـ ما لفظه : «وقد يراد به ـ أي البيع ـ مجموع النقلين في العوضين أو الانتقالين ، أو مجموع كلا القسمين ، أو ما دلّ على النحو السابق وإن لم يوافق ما أريد به في هذا الكتاب. وعلى نحو اختلاف التعريفات اختلفت الإطلاقات ، فمرّة يقع الشراء قسيمه ، ومرّة قسمه ، ومرّة جزأه. ويتعيّن الأوّل عند تعاطفهما ، والثاني إذا أريد النقل بالنحو الخاص ، والثالث إذا

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٢

٢٦٤

تعريف للبيع المأخوذ في صيغة «بعت» وغيره من المشتقات (١).

ويظهر من بعض من قارب عصرنا استعماله في معان أخر (٢) غير ما ذكر (*) :

______________________________________________________

أريد به العقد في مقابلة العقود الأخر. ومعنى النقل أو إيجابه هو الشائع على اللسان. والعقد إيجابا وقبولا ألصق بباب المعاملات ومذاق الفقهاء. وأمّا الانتقال فلا يوافق مقتضى الحال ، لأنّ البيع على الظاهر من مقولة الفعل لا الانفعال ، ويشهد لذلك تعديته بالاستقلال ..» (١).

وعليه فإطلاق البيع على معان أربعة وإن كان موجودا في كلام صاحب المقابس وشيخه الفقيه كاشف الغطاء قدس‌سرهما ، إلا أنّ مقصود المصنف قدس‌سره من «بعض من قارب عصرنا» هو الأوّل ، بقرينة ما سيأتي نقله في المتن بقوله : «قال : بل الظاهر اتفاقهم على إرادة هذا المعنى في عناوين أبواب المعاملات ..» فإنّها نصّ كلام صاحب المقابس.

(١) ك «أبيع وبائع وبع» ونحوها من التصاريف ، فالمبدأ الساري في الكل معنى وحداني وهو إنشاء تمليك عين بمال. «نعم لو كان في مقام الإخبار عما أنشأه كان معناه «إنشاء التمليك المقرون بقبول المشتري» لا إنشاء البيع مطلقا حتى بدون انضمام القبول ، ولكن خصوصية التعقب مستفادة من كونه في مقام الإخبار عن إنشاء المعاملة المتوقفة على تمامية العقد شطرا وشرطا.

إطلاق البيع على معان أخرى

(٢) أي : معان ثلاثة أخرى ذكرها الفقيهان كاشف الغطاء وصاحب المقابس.

__________________

(*) قال المحقق الايرواني قدس‌سره ما لفظه : «لا يخفى أنّ ما ذكره من المعاني هنا هي عين ما تقدم من المعاني ، فلا وجه للإعادة. نعم المعنى الأوّل مما ذكره هنا مشتمل على قيد زائد على المعنى الذي اختاره المصنف سابقا في تعريف البيع وهو : إنشاء التمليك ، بلا قيد التعقب بإنشاء التملك من المشتري» (٢).

__________________

(١) شرح القواعد ـ مخطوط ـ الصفحة الأولى من عقد البيع.

(٢) حاشية المكاسب ج ١ ص ٧٤.

٢٦٥

أحدها : التمليك المذكور (١) ، لكن بشرط تعقّبه بتملّك المشتري. وإليه (٢) نظر بعض مشايخنا ، حيث أخذ قيد التعقّب بالقبول في تعريف البيع المصطلح (٣). ولعلّه (٤) لتبادر التمليك المقرون بالقبول من اللفظ ، بل وصحّة السلب عن المجرّد ،

______________________________________________________

(١) أي : إنشاء تمليك عين بمال ، وهو فعل البائع ، ولكن البيع ليس مجرّد هذا الإنشاء ، بل المشروط بانضمام القبول إليه. وإطلاق «البيع» على الإيجاب المشروط بالقبول هو أوّل المعاني الأربعة المذكورة في المقابس ، حيث قال : ـ بعد إطلاقه حقيقة على كلّ واحد من الإيجاب والقبول ، لكونه من الأضداد ـ ما لفظه : «ويشترط في كلا الإطلاقين انضمام الفعلين واجتماعهما في الوجود ، فلا يقال لمن أوجب البيع بقوله : بعت : أنّه باع ، إلّا بعد أن ينضمّ قول الآخر. وقبوله. ومثله الآخر ، بل الحكم فيه أظهر .. إلخ».

ووجّه المصنف قدس‌سره هذا الاشتراط بالتبادر وصحة السلب ، حيث إنّ المتبادر من لفظ «البيع» ومشتقاته هو التمليك المتعقّب بتملّك المشتري. وكذا يصح سلب عنوان «البيع» عن التمليك المجرّد عن قبول المشتري ، بشهادة أنّه لا يقال في مقام الإخبار : «باع زيد داره» إلّا بعد أن يشتريها شخص منه. وعلى هذا فلو لم ينضمّ قبول المشتري إلى إيجاب البائع لا يصدق عنوان «البيع» على إنشاء التمليك الذي هو فعل البائع.

(٢) أي : وإلى استعمال البيع في التمليك الإنشائي المشروط بقبول المشتري نظر بعض المشايخ ، ولعلّ هذا البعض صاحب الجواهر قدس‌سره.

(٣) يعني : ما يقابل سائر المعاملات والعقود ، وإلّا فالبيع المقابل للشراء لم يؤخذ فيه قيد التعقّب بالقبول قطعا.

(٤) غرضه قدس‌سره توجيه كلام بعض من عاصره من إطلاق البيع حقيقة على إنشاء تمليك البائع بشرط انضمام القبول إليه. ومحصّل التوجيه : وجود أمارتين من علائم الحقيقة في المقام

__________________

قول : لعل الوجه في التعرض لها مع ذكرها سابقا هو دفع التنافي في بين مختاره في تعريف البيع من كونه إنشاء تمليك عين بمال وبين تلك المعاني ، فالنكتة في الإعادة هي إثبات عدم التنافي بينهما ، فلا تغفل.

٢٦٦

ولهذا (١) لا يقال : «باع فلان ماله» إلّا بعد أن يكون قد اشتراه غيره. ويستفاد (٢) من قول القائل : «بعت مالي» أنّه اشتراه غيره ، لا أنّه أوجب البيع فقط.

الثاني (٣) : الأثر الحاصل من الإيجاب والقبول ، وهو الانتقال (*)

______________________________________________________

تكشفان عن وضع «البيع» لفعل البائع المنضمّ الى قبول المشتري.

أحدهما : تبادر هذه الحصة ـ دون طبيعي التمليك الإنشائي ـ لو قال المخبر : «بعت داري» إذ لا يراد منه الإيجاب المحض.

والآخر : صحة سلب عنوان «البيع» عن الإيجاب المجرد عن قبول المشتري.

وعليه فالتمليك غير المقرون بالتملّك ليس بيعا.

(١) يعني : ولتبادر الإنشاء المتعقب بالقبول ـ وصحة سلب البيع عن الإيجاب المجرّد عن القبول ـ لا يقال لمن يخبر عن بيع داره : أنّه باعها إلّا بعد أن اشتراها غيره.

(٢) زاد المصنف قدس‌سره هذا المثال الثاني لأجل تثبيت التبادر وصحة السلب ، وكان المثال الأوّل وافيا بإثبات الأمارتين ، ولذا اقتصر صاحب المقابس قدس‌سره على مثال واحد.

(٣) قال في المقابس : «ثالثها : الأثر المترتب على تحقق جزأي العقد معا ، وهو النقل العرفي مطلقا ، والشرعي مع صحة العقد ، ويعبّر عنه بالانتقال أيضا ويختلفان بالاعتبار» وحاصله : أنّ البيع موضوع لمعنى ثالث ـ غير ما تقدّم من وضعه تارة للإيجاب المحض ، وأخرى للإيجاب المنضمّ الى القبول ـ وهو الأثر المترتّب على كلا الفعلين : تمليك البائع وتملّك المشتري. وهذا المعنى الثالث هو ظاهر جمع من الفقهاء كشيخ الطائفة والحلّي والعلّامة ـ في ما عدا المختلف من كتبه ـ حيث عرّفوا البيع ب «انتقال عين مملوكة ..» ومن المعلوم أنّ الانتقال ـ القائم بالمال ـ أثر مترتب على مجموع الإيجاب والقبول.

__________________

(*) قال السيد قدس‌سره : «لا يخفى أنّ الانتقال أثر الإيجاب فقط ، لا أثر المجموع ، إلّا أن يراد منه الانتقال الشرعي» (١).

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٦١

٢٦٧

كما يظهر من المبسوط (١) وغيره.

الثالث (١) نفس العقد المركّب من الإيجاب والقبول (٢) ، وإليه (٣) ينظر (*) من عرّف البيع بالعقد ، قال (٤) : بل الظاهر اتّفاقهم على إرادة هذا المعنى في عناوين أبواب

______________________________________________________

(١) قال في المقابس : «رابعها : نفس العقد المركّب من الإيجاب والقبول ، وهذا هو الشائع المعروف بين الفقهاء في سائر ألفاظ العقود ، ممّا كان منها مصدرا بصيغة الفعال والمفاعلة ، أو بمعناه كالقراض والمضاربة والمزارعة والمساقاة والمسابقة والمبارأة والمكاتبة والشركة والصلح. أو اسم عين كالوديعة والعارية .. إلخ».

(٢) ظاهره إرادة الإيجاب والقبول اللفظيين ، لظهور «العقد» في خصوص القولي ، فكلّ من عبّر عن البيع بالعقد أراد العقد اللفظي ، خصوصا مع بناء جلّهم على إفادة المعاطاة للإباحة ، وتصريح بعضهم بنفي بيعيّتها.

(٣) أي : وإلى إرادة نفس العقد المؤلّف من الإيجاب والقبول نظر من عرّف البيع بالعقد كالحلبي وابن حمزة والمحقق وغيرهم قدس‌سرهم.

(٤) يعني : قال بعض من قارب عصرنا ـ وهو صاحب المقابس ـ بأنّ إرادة العقد لا تختص بالبيع ، بل الأمر كذلك في مطلق العقود والمعاملات كالصلح والهبة والإجارة والشركة والعارية والمضاربة وغيرها ، فتعريف كلّ منها في كلمات الفقهاء يراد به تعريف عقدها المؤلّف من الإيجاب والقبول ، وسيأتي مزيد توضيح له.

__________________

لا ينبغي التأمل في إرادة الأثر المترقب وهو الانتقال الخارجي ، لأنّه الحاصل من الإيجاب والقبول معا ، دون الانتقال المترتب على الإيجاب فقط.

(*) كما أنّه يحتمل أن يكون نظر من عرّفه بالعقد إلى المبادلة الحاصلة من الإيجاب والقبول ، لا إلى العقد اللفظي ، كما هو ظاهر تعريف المصباح المتقدم من أنّه «مبادلة مال بمال» بل هو ظاهر قوله تعالى (وَذَرُوا الْبَيْعَ) وقوله تعالى (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)

__________________

(١) المبسوط ، ج ٢ ، ص ٧٦ ، وتقدمت جملة من المصادر أيضا في ص ٣٤ و ٣٥ فلاحظ.

٢٦٨

المعاملات حتّى (١) الإجارة وشبهها التي ليست هي في الأصل اسما لأحد طرفي

______________________________________________________

(١) كلمة «حتى» تدلّ على كون مدخولة أضعف من سابقه ، كقوله : «قدم الحاجّ حتى المشاة». وتوضيح وجه أضعفيته منوط ببيان أقسام عناوين المعاملات على ما ذكره صاحب المقابس قدس‌سره.

فمنها : ما يكون عنوان المعاملة مصدرا من باب المفاعلة أو الفعال ، فالأوّل كالمزارعة والمسابقة والمساقاة والمكاتبة والمضاربة ، والثاني كالقراض. ومن المعلوم أنّ مقتضى الاشتراك في المبدأ في بابي المفاعلة والتفاعل هو كون العنوان المعاملي اسما لطرفي العقد أي الموجب والقابل.

ويلحق بهذا القسم مثل الشركة والصلح ، فإنّهما وإن كانا مصدرين للفعل المجرّد ، إلّا أن العنوان قائم بشخصين.

ومنها : ما يكون عنوان المعاملة اسما لأحد طرفي العقد كالبيع والضمان والخلع وما أشبهها ، فإنّها أسماء للإيجاب الذي هو أحد طرفي العقد.

ومنها : ما يكون العنوان المعاملي اسم عين ، لا هو فعل أحد المتعاقدين ولا فعل كليهما ، وذلك كالوديعة والعارية والصدقة ، فإن معناها لغة وعرفا وشرعا نفس المال الذي يستأمن الودعي على حفظه ، ويسلّط المستعير على الانتفاع به ، ويعطى للغير بقصد القربة.

وقد تستعمل هذه الثلاثة بمعنى المصادر أيضا نادرا. ومن هذا القبيل الإجارة ، فإنّها ليست في الأصل فعل الموجر ولا المستأجر ، بل هي اسم لعوض المنفعة. قال في القاموس : «الأجر الجزاء على العمل ، كالإجارة» (١).

__________________

وغيرهما من الآيات ، بل هو ظاهر الفقهاء في عناوين المعاملات ، كقولهم : «كتاب البيع ، شرائط البيع ، أحكام البيع ، وكتاب الإجارة والصلح والمزارعة والمساقاة» وغيرها من عناوين المعاملات ، فإنّ مورد البحث في تلك الأبواب نفس المعاملات لا عقودها. نعم وقوعها منوط بالعقد المركب من الإيجاب والقبول ، فاحتياجها إلى العقد من أحكامها ، لا أنّها نفس العقود.

__________________

(١) القاموس المحيط ، ج ١ ، ص ٣٦٣

٢٦٩

العقد (١).

______________________________________________________

إذا عرفت هذه الأقسام الثلاثة في العناوين المعاملية ، فنقول : إنّ المقصود بكل واحدة من المعاملات العقد الدال عليه. ولكن إطلاق المعاملات على عقودها ليس على السواء ، فإطلاق المزارعة مثلا على إيجابها وقبولها قريب جدا ، لدلالة «المفاعلة» على قيام المبدأ بالموجب والقابل. وإطلاق البيع ونظائره مما يكون اسما لأحد طرفي العقد إنما هو لوجود علاقة الكلّ والجزء فيها ، حيث إنّ استعمالها في العقد يكون من استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكل ، الذي هو من جنسه أعني به اللفظ الجامع بين الإيجاب والقبول.

وأمّا استعمال الإجارة في العقد القائم بطرفين ـ مع كونها اسما للمال ـ لا فعلا لهما فأبعد من استعمال البيع في العقد ، لأنّ علاقة الجزء والكل المتحققة في البيع مفقودة في مثل الإجارة ، لعدم كون الإجارة ـ بمعنى الأجرة التي هي عين المال ـ بمعنى المصدر حتى تصاغ منها المشتقات. نظير الأمر بمعنى الفعل والشأن ، فإنّه لا يصح حينئذ صوغ المشتقات منه ، بخلاف الأمر بمعناه المصدري ، فإنّه مبدأ للمشتقات وأصل لها.

وعليه فاستعمال الإجارة والوديعة في العقد ليس لعلاقة الكلّ والجزء ، بل لعلاقة السببيّة والمسببيّة.

والحاصل : أنّ مقصودهم من كلّ عنوان معامليّ عقده ، ولكن إطلاق عناوين المعاملات على عقودها ليست على سواء ، فالأقرب ما كان عنوان المعاملة اسما للطرفين كالمزارعة ، ويتلوه مثل البيع ممّا كان العنوان اسما لأحد الطرفين. ويتلوه مثل الإجارة ممّا ليس العنوان اسما لشي‌ء من الإيجاب والقبول ، وكان مصحّح الإطلاق مجرّد علاقة السببية والمسببية ، هذا.

(١) وإنّما هي أسماء لأعيان خارجية ، فالإجارة كالأجرة عوض المنفعة غالبا ، والوديعة اسم للعين المودعة عند المستودع. والعارية اسم للعين التي ينتفع بها المستعير.

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل ، وهو توضيح كلام صاحب المقابس قدس‌سره.

٢٧٠

أقول (١) أمّا البيع بمعنى الإيجاب المتعقّب للقبول فالظاهر أنّه ليس مقابلا للأوّل (٢) ، وإنّما هو (٣) فرد انصرف إليه اللفظ في مقام قيام القرينة (٤) على إرادة

______________________________________________________

تحقيق إطلاق البيع على معان اخرى

١ ـ إطلاقه على الإيجاب المنضم الى القبول

(١) هذا شروع في الأمر الثاني الذي أشرنا إليه بقولنا : «الثاني عدم منافاة التعريف المزبور لإطلاق البيع على معان أخر .. إلخ» فالمقصود مناقشة كلام بعض من قارب عصره ، وأنّ إطلاق البيع على معان أخر ـ غير إنشاء تمليك عين بمال ـ ليس حقيقيا ناشئا من تعدّد الوضع كما يظهر من إطلاق كلامه.

أمّا عدم التنافي بين المختار في تعريف البيع ـ من إنشاء تمليك عين بمال ـ وبين المعنى الأوّل من المعاني الثلاثة الأخرى ، وهو الإيجاب المتعقّب للقبول ـ فلأنّ البيع في جميع موارد إطلاقه يراد به إنشاء التمليك خاصة ، سواء تعقّبه تملّك المشتري أم لا. ودلالة قولنا : «باع زيد داره» على خصوص الإيجاب المقرون بالقبول وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّها ليست مستندة إلى الوضع ، بل منشؤها قرينية الإخبار على وقوع بيع مؤثّر وهو التمليك المتعقّب بالقبول ، فيكون من باب تعدّد الدال والمدلول. لا أنّ البيع استعمل في التمليك المقيّد بالقبول حتى يكون استعمالا آخر في مقابل المعنى المختار ، ومنافيا لانحصار معناه في جامع التمليك المقرون بالقبول وغير المقرون به.

وعليه فليس مختارنا في تعريف البيع مغايرا لما ذكره بعض من قارب عصرنا من «أن البيع هو التمليك المشروط بتمليك المشتري» بل هذا المعنى الذي ذكره يكون من أفراد البيع بالمعنى الذي ذكرناه وهو «تمليك العين بمال». فالموضوع له هو «إنشاء التمليك» الجامع للمتعقب بالقبول وغيره ، ويتوقف إرادة خصوص المتعقّب على قرينة. وأما إرادة الإنشاء المجرّد فلا يتوقف على شي‌ء ، بل يكفيه الإطلاق الذي هو عدم التقيّد بالتعقب بالقبول.

(٢) المراد بالأوّل هو «إنشاء تمليك عين بمال» الذي اختاره المصنف قدس‌سره في تعريف البيع ، لا الأوّل في كلام صاحب المقابس.

(٣) هذا الضمير وضميرا «أنه ، إليه» راجعة إلى البيع بمعنى الإيجاب المتعقب للقبول.

(٤) يعني : فيكون قيد تملّك المشتري مستفادا من قرينة مقامية ، وهي كون المتكلم

٢٧١

الإيجاب المثمر ، إذ لا ثمرة في الإيجاب المجرّد (١) ، فقول المخبر : «بعت» إنّما أراد الإيجاب المقيّد ، فالقيد مستفاد من الخارج (٢) ، لا أنّ البيع مستعمل في الإيجاب المتعقّب للقبول (٣). وكذلك (٤) (*) لفظ النقل والإبدال والتمليك وشبهها ، مع (٥) أنّه لم يقل أحد بأنّ تعقّب القبول له دخل في معناها (٦).

______________________________________________________

بصدد الإخبار عن فعله ، لا أنّ البيع استعمل في مجموع تمليك البائع وتملّك المشتري.

(١) أي : الإيجاب المجرّد عن القبول ، فلو لم تكن القرينة المقامية لكان المراد من لفظ «البيع» الإيجاب المحض.

(٢) أي : من قرينة مقامية ، لا من حاقّ لفظ «البيع» حتى تكون دلالته على اقتران الإيجاب بالقبول بالوضع. وعليه فتكون استفادة قيد التعقّب من باب تعدد الدال والمدلول ، نظير دلالة «أعتق رقبة مؤمنة» على مطلوبية عتق الصنف لا طبيعي الرقبة ، فإنّ «الرقبة» لم تستعمل إلّا في طبيعة الرقبة ، وقيد «الايمان» استفيد من لفظ «المؤمنة».

(٣) حتى يكون مغايرا للمعنى المختار وهو تمليك العين بالمال.

(٤) غرضه إثبات مقصوده ـ وهو عدم دخل تعقّب القبول في مفهوم البيع ـ بما حاصله :

أنّ ما يرادف البيع من «النقل ، والإبدال ، والتمليك ، وشبهها كالتبديل» لا يتوقف صدق مفاهيمها على تعقّب القبول ، بل يتحقق مفهومها بدونه ، إذ لم يقل أحد بدخل تعقب القبول في معناها ، فلا بدّ أن يكون الأمر في البيع كذلك ، فلا يعتبر في مفهوم البيع أيضا تعقّبه بالقبول كما هو مقتضى الترادف.

(٥) ليس هذا وجها آخر ، بل هو متمّم استشهاده ، فكأنّه قال : «لا يعتبر في مفهوم البيع تعقبه بالقبول ، لعدم اعتباره فيما يرادفه من النقل وغيره ، حيث إنّه لم يلتزم أحد من الأصحاب باعتبار القبول فيه ، فلا بد أن يكون البيع كالنقل والتمليك في عدم اعتبار القبول فيه».

(٦) أي : في معنى النقل والإبدال والتمليك وشبهها ممّا يرادف البيع.

__________________

(*) هذا بمنزلة الدليل لعدم شرطية تعقّب القبول ، فحق العبارة أن تكون هكذا : «ويدل

٢٧٢

.................................................................................................

__________________

عليه عدم اعتبار القبول في معنى لفظ النقل ونحوه ممّا هو مرادف للبيع ، وإن كان القبول معتبرا في ترتب الأثر الخارجي على البيع. لكنّه غير اعتباره في مفهوم البيع.

والوجه في عدم اعتبار القبول في معنى البيع والنقل والتمليك وشبهها هو أنّها من قبيل الإيجاب والوجوب لا الكسر والانكسار ، فإنّ الآمر قد يأمر بشي‌ء ولا يكون واجبا في الخارج ، فينفك الوجوب عن الإيجاب. وكذلك البيع ، فإنّ البائع قد ينشؤه ولا يوجد في الخارج. بخلاف الكسر والانكسار ، فإنّه لا ينفك الانكسار عن الكسر» هذا.

ثم إنّ جعل النقل والإبدال والتمليك مما يرادف البيع لا يخلو من غموض.

أمّا النقل فلأنّه موضوع لمفهوم عام يصدق على النقل الخارجي ، كنقل شي‌ء من مكان الى آخر ، والاعتباري كنقل إضافة مال شخص إلى غيره ، كنقل إضافة داره الى زيد مثلا ، ونقل زيد إلى مالك الدار عشرة دنانير ، فليس معنى النقل مساويا لمعنى البيع.

وكذا الحال في الإبدال فإنّه ـ لأعميته من الإبدال الخارجي والاعتباري ـ لا يكون مساويا لمعنى البيع.

وأمّا التمليك فلأنّ النسبة بينه وبين البيع عموم من وجه ، لوجود التمليك بدون البيع كالهبة والوصية وتمليكه سبحانه وتعالى لعباده بالإرث أو الفقر كما في الزكاة ، أو السّيادة كما في الخمس. ووجود البيع بدون التمليك كبيع متاع بسهم سبيل الله من الزكاة ، وبيع الطعام للصرف في التعازي الحسينية بالفلوس المبذولة من الشيعة طول السنة لهذا الأمر الخير ، فإنّ البيع موجود بدون التمليك كما هو واضح. واجتماع التمليك والبيع معا كالبيوع الواقعة على المملوكات بالأثمان المملوكة كبيع زيد داره من عمرو بمائة دينار.

وبالجملة : فلا يكون التمليك مساويا للبيع حتى يقال : إنّ عدم اعتبار قيد التعقب بالقبول في مفهوم النقل والإبدال والتمليك يدلّ على عدم اعتباره في البيع أيضا ، هذا.

والحقّ ما أفاده المصنف قدس‌سره من عدم دخل القبول في مفهوم البيع ، وذلك لأنّ البيع المبحوث عنه هو معناه المصدري الذي يكون مبدأ لمشتقاته ، وهو بهذا المعنى فعل البائع ،

٢٧٣

.................................................................................................

__________________

ومن المعلوم أنّ الصادر منه هو التبديل الإنشائي ، إلّا أنّ الإنشاء متقوم بالقصد ، ومن المعلوم أنّ القصد لا يتمشّى إلا مع العلم بتعقب القبول للإيجاب ، أو رجاء تعقبه له. وأمّا مع القطع بعدمه فلا يتحقق القصد إلى إنشائه.

وبعبارة أخرى : لمّا كان البيع من العناوين القصدية لم يتحقق إلّا بالقصد ، فمع القطع بعدم لحوق القبول لا يحصل قصد الإنشاء الناقل حتى في نظره.

وتفصيل البحث : أنّ للبيع إطلاقات أربعة :

الأوّل : الإنشاء الساذج من دون انضمام القبول إليه ، بمعنى القطع بعدم انضمامه إليه ، وهذا ليس بيعا حتى في نظر الموجب ، لعدم تمشّي القصد المقوّم لإنشائه ، فيصحّ سلب البيع عنه ، ويقال : انّه ليس ببيع.

الثاني : الإيجاب والقبول بدون إمضاء العرف والشرع ، كأن يقول بعتك هذا المنّ من التراب بكذا» فإنّه بيع بنظر الموجب ، لكنّه غير ممضى عرفا وشرعا ، فتأمّل.

الثالث : هذه الصورة مع إمضاء العرف دون الشرع كبيع الخمر ، فإنّه فاسد شرعا وصحيح عرفا.

الرابع : أن يكون ممضى شرعا أيضا ، كبيع منّ من الحنطة بدرهم مثلا ، مع اشتماله لجميع ما يعتبر فيه ، فإنّه صحيح عرفا وشرعا.

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ البيع المصدري الذي هو فعل الموجب ليس إلّا ما يعدّ فعلا له ، ومن المعلوم أنّ فعله ـ بحيث يضاف اليه ـ ليس إلّا التمليك أو التبديل الإنشائي ، وأمّا القبول فليس جزءا ولا شرطا ، لصدق مفهوم البيع عليه بدونه ، كيف؟ وهو ـ أي القبول ـ يكون معنى الشراء الذي هو مقابل البيع وفعل القابل.

نعم بناء على ما ذكره المصباح من كون البيع «مبادلة مال بمال» وكون المفاعلة مثل التفاعل في الدلالة على اعتبار التعدّد في معناه يتجه دخل القبول في مفهوم البيع شطرا ، وإلّا فلا دليل على اعتباره فيه ، والتبادر وصحة سلب مفهوم البيع عن فاقد القبول لا يدلّان على

٢٧٤

.................................................................................................

__________________

اعتبار القبول في مفهومه ، لنشو الانسباق المزبور عن القرينة كما لا يخفى ، كما أنّ انسباقه في النذر ـ فيما إذا نذر بيع شي‌ء ـ يكون لأجل القرينة.

فما في حاشية السيد وتقرير السيد الخويي قدس‌سرهما ـ من الاستدلال على اعتبار القبول في مفهوم البيع بوجوه (١) ـ لا يخلو من غموض. إذ منها التبادر وصحة سلب البيع عن فاقد القبول ، وقد عرفت حالهما من الاستناد إلى القرينة.

ومنها : أنّ البيع «إنشاء تبديل عين بعوض في جهة الإضافة» ومن الظاهر أنّ هذا المعنى لا يتحقق إلّا بتعقب الإنشاء بالقبول.

وفيه : أنّ التبديل الإنشائي لا يتوقف على ذلك ، وإنّما المتوقف عليه هو التبديل الخارجي العرفي أو الشرعي الذي يكون التبديل الإنشائي موضوعا له.

ومنها : أنّ البيع من العقود ، وبناء على كون البيع الإيجاب الساذج يلزم أن يكون من الإيقاعات.

وفيه : أنه إن أريد بالإيقاع ترتب الأثر الخارجي على الإيجاب فقط فهو ممّا لا ريب في بطلانه ، لأنّ الأثر كالملكية حكم شرعي وضعي يترتب على العقد المؤلّف من الإيجاب والقبول ، لا خصوص الإيجاب.

وإن أريد به الأثر المترتب على الإيجاب في نظر الموجب وإن لم يترتب عليه في نظر غيره ـ نظير الإيجاب والوجوب ، حيث انّ الوجوب يترتب على الإيجاب في نظر الآمر وإن لم يترتب عليه في نظر غيره ، ولذا لا يكون وجوبا في نظر العقل حتى يستلزم مخالفته استحقاق العقوبة ، إلّا إذا كان الآمر عاليا مثلا ـ فلا محيص عن الالتزام به ، لأنّ الموجب لا بدّ أن ينشئ ما يريده ويقدر عليه ، وهو ليس إلّا التبديل الإنشائي ، كما أنّ القابل لا ينشئ إلّا القبول الإنشائي ، وهذان الإنشاءان معا عقد يترتب عليه الحكم الشرعي بالملكية أو غيرها ، فتدبر جيدا.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٦٢ ، ٦٣ ، مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٧٢.

٢٧٥

نعم (١) تحقق القبول شرط للانتقال في الخارج ، لا في نظر الناقل ، إذ (٢)

______________________________________________________

(١) بعد أن نفى دخل القبول في مفهوم البيع ـ والتزم بتحققه بدون القبول ـ استدرك عليه وقال : نعم يشترط القبول في تحقق الانتقال الخارجي لا الانتقال في نظر البائع ، لأنّ النقل الإنشائي يؤثّر في الانتقال الإنشائي لا محالة ، وإلّا يلزم انفكاك الأثر عن المؤثّر ، فالأثر المترتب على الإيجاب المتعقّب للقبول هو الانتقال الخارجي ، لا الانتقال في نظر البائع.

(٢) تعليل لعدم شرطيّة القبول للانتقال في نظر الناقل ، وملخّصه : أنّ المؤثر التام في الانتقال الإنشائي في نظر الناقل هو نقله المفروض تحققه ، ولا يمكن التفكيك بين المؤثّر وأثره ، غاية الأمر أنّ هذا الأثر الإنشائي غير الأثر الخارجي الذي يترتّب على الإيجاب المتعقّب بالقبول.

__________________

فالمتحصل : أنّه لا وجه لأخذ القبول في مفهوم البيع الإنشائي.

وأمّا ما أفاده السيد من الاشكال على المتن بقوله : «وما ذكره المصنف قدس‌سره من أن ذلك من جهة الانصراف الى البيع المثمر فيه : أنّه لو كان كذلك وجب أن يكون كذلك في فقد جميع الشرائط الشرعية. مع أنّه لو تحقق القبول ولم يكن صحيحا شرعيا من جهة فقد بعضها يكون بيعا قطعا ، ولا يكون اللفظ منصرفا عنه ، ولا يعدّ الإخبار به معه من الكذب. وأيضا لو قال : بعت ، وما قبل المشتري يعدّ تناقضا» فغير ظاهر ، إذ مع قرينية الإخبار على إرادة الإيجاب المثمر لم يفرّق فيه بين اعتبار لحوق القبول وبين اجتماع شرائط الصحة ، فلو قصد الإخبار عن بيع داره وفاء بالنذر أو أداء للدين ، وكانت المعاملة فاقدة لبعض شرائط الصحة كان قوله : «بعت داري» كذبا قطعا ، لفرض عدم تأثير العقد ـ غير المستجمع لشرائط النفوذ ـ في النقل والانتقال.

وإن كان مقصوده الإخبار عن إيجابه البيع بلا نظر الى تحقق جميع ماله دخل في ترتب الأثر كان إخباره صدقا ، سواء أكان عدم ترتب الأثر مستندا إلى عدم تعقّب القبول أم الى اختلال الشرائط.

وعليه فما في المتن من قوله : «الإيجاب المثمر» سليم عمّا أورد عليه.

٢٧٦

التأثير لا ينفك (١) عن الأثر ، فالبيع (٢) وما يساويه معنى من قبيل الإيجاب والوجوب ، لا الكسر والانكسار كما تخيّله بعض (٣) ، فتأمّل (٤).

______________________________________________________

(١) بل التأثير والأثر واحد وتعددهما اعتباري ، لأنّه إذا نسب الى الفاعل فهو تأثير ، وإذا نسب الى المحل فهو أثر ، فلا يعقل التأثير بدون الأثر.

(٢) هذا بمنزلة التعليل لعدم اعتبار القبول في مفهوم البيع ، يعني : أنه لا يعتبر القبول في البيع ، لأنّه من قبيل الإيجاب والوجوب ، فكما ينفك الوجوب عن الإيجاب ، فكذلك ينفك إيجاب البيع عن الانتقال الخارجي المترتب على انضمام القبول. وليس البيع من قبيل الكسر والانكسار حتى لا ينفك إيجاب البيع عن الانتقال ، كما لا ينفك الكسر عن الانكسار.

(٣) وهو المدقق صاحب المقابس قدس‌سره.

(٤) لعله ـ كما قيل ـ إشارة إلى : أنّ البيع من قبيل الكسر والانكسار ، حيث إنّ الانتقال الإنشائي لا ينفك عن النقل ، فلا يتوقف على القبول. نعم الانتقال الشرعي الذي هو الحكم الشرعي موقوف على القبول. وكذا الحال في الوجوب والإيجاب ، فإنّه لا يكاد يمكن انفكاكهما في مرتبة واحدة بحسب نظر واحد. نعم إنّما ينفكّ الإيجاب في مرتبة ـ أو بحسب نظر ـ عن الوجوب في مرتبة اخرى ونظر آخر.

وبالجملة : فالإيجاب في نظر أو في مرتبة لا ينفكّ عن الوجوب في ذلك النظر أو تلك المرتبة ، وينفكّ عنه في مرتبة اخرى أو نظر آخر.

وكذا النقل والانتقال ، فإنّ النقل في كل نظر أو مرتبة لا ينفكّ عن الانتقال في ذلك النظر أو تلك المرتبة. فلا فرق بين الإيجاب والوجوب والنقل والانتقال والكسر والانكسار

__________________

ولا يبعد أن يكون النزاع بين المثبتين والنافين لفظيا ، ببيان : أنّ البيع المثمر لمّا كان متوقفا على الإيجاب والقبول معا قالوا : ان البيع مركّب منهما ، غفلة عن أنّ ذلك خارج عن مفهوم البيع المصدري ، وأنّ اعتباره فيه ناش عن القرينة ، فمن ادّعى اعتبار القبول فيه أراد اعتباره في تأثيره ، ومن نفى ذلك عنه أراد خروجه عن مفهومه.

٢٧٧

ومنه (١) يظهر ضعف أخذ القيد المذكور في معنى البيع المصطلح (٢)

______________________________________________________

إلّا في كونهما من الأمور الخارجية التي لها مرتبة واحدة ، بخلاف الإيجاب والوجوب والنقل والانتقال ، فإنّهما من الأمور الاعتبارية التي لا واقع لها إلّا بحسب الاعتبار الذي يختلف بحسب الأنظار.

ولعلّه إشارة إلى الدقّة والإمعان فيما أفاده لا تمريضه. ولعلّه أولى بملاحظة ما فرّعه عليه بقوله : «ومنه يظهر ضعف ..» إذ لو كان المطلب السابق موهونا لم يبق مجال لبناء قدحه في مطالب الآخرين على أساس ضعيف في نظره.

(١) أي : ومن عدم دخل القبول في النقل والانتقال في نظر البائع ـ وأنّ البيع لم يستعمل إلّا في مجرّد النقل ، وأنّ قيد التعقب بالقبول يستفاد من دالّ آخر ـ يظهر ضعف أخذ قيد التعقب بالقبول في معنى البيع الاصطلاحي.

ومقصوده قدس‌سره في خاتمة مناقشته في أوّل إطلاقات البيع هو التنبيه على أن قيد التعقب بالقبول غير دخيل في معنى البيع سواء أريد به معناه المصطلح عليه بين الفقهاء من «إنشاء تمليك عين بمال» وما يقرب منه ، أم أريد به معناه اللغوي من مبادلة مال بمال.

وعليه فلا وجه لما ذهب إليه بعض مشايخه من عدم دخل قيد التعقب بالقبول في معناه اللغوي ، وإنّما هو دخيل في معناه باصطلاح الفقهاء. ولا لما أفاده صاحب المقابس قدس‌سره من أخذ قيد التعقب في معناه اللغوي ، حيث ادّعى إطلاق البيع حقيقة على معان أربعة ، وكونه مشتركا لفظيا بينها ، وجعل أوّل تلك المعاني : الإيجاب المشروط بالقبول والمقترن به.

وقد نفى المصنف قدس‌سره دخل القبول في البيع الاصطلاحي واللغوي معا ، ومن المعلوم أنّ عدم دخله في البيع الاصطلاحي يدلّ بالأولوية القطعية على عدم دخله في معناه اللغوي ، ووجه الأولوية : أنّ الفقيه ربّما يتصرّف في المعنى اللغوي بزيادة قيد التعقب بالقبول في مصطلحه وإن لم يكن دخيلا في الوضع اللغوي ، فإذا ثبت عدم دخله في معناه الاصطلاحي فقد ثبت ـ بالأولوية ـ خلوّ معناه اللغوي عن هذا القيد.

(٢) الذي أخذه بعض مشايخه ، على ما تقدم في قوله : «وإليه نظر بعض مشايخنا حيث أخذ قيد التعقب بالقبول في تعريف البيع المصطلح».

٢٧٨

فضلا (١) عن أن يجعل أحد معانيه.

وأما البيع (٢) بمعنى الأثر ـ وهو الانتقال ـ فلم يوجد في اللغة (٣) ولا في العرف (٤) ،

______________________________________________________

(١) قد عرفت آنفا وجه الأولوية ، ومحصله : أنّ القبول لا يكون دخيلا في المعنى الاصطلاحي الذي هو أهون من المعنى الأصلي اللغوي ، فكيف جعله صاحب المقابس قدس‌سره دخيلا في معناه اللغوي؟

إلّا أن يناقش في هذه الأولوية بمنع الملازمة بين اللغة والاصطلاح الفقهي ، لإمكان دخل القبول في البيع باصطلاح الفقهاء وإن لم يكن دخيلا في معناه اللغوي.

هذا تمام الكلام فيما يتعلق بإطلاق البيع حقيقة على الإيجاب المشروط بتعقبه بالقبول ، وقد ظهر أنّ شرطية التعقب ليست مدلول نفس البيع ، بل استفيدت من قرينة خارجية من باب تعدّد الدال والمدلول.

٢ ـ إطلاق البيع على الأثر

(٢) هذا هو المعنى الثاني الذي قيل بإطلاق البيع عليه حقيقة في قبال إطلاقه على إنشاء تمليك عين بمال. وحاصل إشكال المصنف عليه : أنّ استعمال «البيع» في الانتقال ـ المترتب على الإيجاب والقبول ـ غير معهود لا لغة ولا عرفا ، على ما سبق تفصيله في مناقشة تعريف الشيخ والعلّامة وغيرهما بالانتقال.

وعليه فلم يثبت كونه من معاني البيع حتى يتكلّف في دفع التنافي بينه وبين ما اختاره المصنف ـ وجعله صاحب المقابس ثاني إطلاقات البيع ـ من كونه إنشاء تمليك عين بمال. فالانتقال أثر البيع وغايته ، ويكون استعماله فيه مجازيا ، ومن المعلوم عدم التنافي بين استعمال لفظ في معناه الحقيقي تارة والمجازي أخرى.

(٣) لأنّ معناه اللغوي «مبادلة مال بمال» والمبادلة مغايرة للانتقال مفهوما.

(٤) لأنّ معناه العرفي إمّا هو إيجاب البائع خاصة ، وإمّا العقد كما ادّعى العلّامة في المختلف تبادره منه (١).

__________________

(١) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥١

٢٧٩

وإنّما وقع في تعريف جماعة (١) تبعا للمبسوط. وقد يوجّه (٢) بأن المراد من البيع المحدود المصدر من المبني للمفعول

______________________________________________________

(١) كابن إدريس والعلّامة في ما عدا المختلف من كتبه.

(٢) نسب هذا التوجيه إلى العلامة الطباطبائي قدس‌سره في المصابيح ونقله صاحب الجواهر معترضا عليه ، قال قدس‌سره : «بل ربما قيل : انّ التعريف بالانتقال للبيع مصدرا للفعل المبني للمجهول ، فيوافق حينئذ تعريفه بالنقل مصدرا للفعل المعلوم ، ويسلم من التجوز في الحد والمحدود ، وان كان فيه ما فيه» (١).

وتوضيح هذا التوجيه : أنّ للمصدر حيثيتين ، إحداهما : انتساب المادة إلى الفاعل ، وهو في المقام من يصدر منه البيع ، وهذا موافق لتعريفه بإنشاء التمليك ونحوه ممّا ظاهره الصدور من البائع ، وأثره الانتقال.

ثانيتهما : حيثية انتساب المادة إلى المفعول به ، وهو ما يقع عليه البيع أعني به العوضين.

والفرق بين هاتين الحيثيتين : أنّ الملحوظ في الأولى نسبة الصدور من الفاعل ، والملحوظ في الثانية نسبة الوقوع على المفعول به. مثلا «الضرب» يراد به تارة ضاربية زيد ، واخرى مضروبية عمرو.

وعلى هذا فتعريف البيع ب «إنشاء التمليك» ناظر إلى ظهوره في نسبة المادة إلى البائع ، فيكون المعرّف حيثية بايعيّته. ولكن هذا الظهور لا يمنع من إرادة المعنى المفعولي من المصدر ، فيكون المعرّف مبيعية المعوّض ، ومن المعلوم أنّ تعريف البيع بالانتقال ناظر إلى تعريف المصدر المبني للمفعول الذي هو أثر البيع المصدري المبني للفاعل.

وعليه فليس إطلاق البيع على الانتقال مجازيا ، بدعوى : كونه أثرا مسبّبا عن الإيجاب والقبول. وذلك لما عرفت من إرادة المبيعية من «البيع» المعرّف بالانتقال ، لكون الانتقال صفة للمبيع ، هذا.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٧

٢٨٠