هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

طلبه (١) من الخصم إقرارا له ، بخلاف طلب التمليك (٢).

وأمّا (٣) الهبة المعوّضة

______________________________________________________

الثاني : أن يستدعي منه الصلح على تلك الأرض ، فيقول : «صالحني عليها بكذا».

وفرّقوا بين الطريقين بأنّ الأوّل ـ وهو طلب التمليك والبيع ـ يعدّ تنازلا من المنكر واعترافا بمالكية المدّعي للعين المتنازع فيها ، إذ لا معنى لاستدعاء البيع من غير المالك ، فلا بدّ أن يتضمّن طلب البيع إقرارا بصحة دعوى زيد ومالكيته للأرض. بخلاف الثاني ، فإنّ استدعاء الصلح ليس إقرارا بصحة دعوى زيد ، لأنّ همّه قطع المنازعة.

قال المحقق : «وإذا قال المدّعى عليه : صالحني عليه ، لم يكن إقرارا ، لأنّه قد يصحّ مع الإنكار. أمّا لو قال : بعني أو ملّكني كان إقرارا» (١).

وهذا التفصيل خير شاهد على أنّ حقيقة الصلح ـ مع الغضّ عن متعلّقه ـ ليست تمليكا ، وإلّا لم يكن فرق بين أن يطالب المنكر من المدّعي تمليك العين بالبيع ، وبين أن يطالب الصلح عليها.

هذا توضيح كلمات المصنف قدس‌سره في المقام الأوّل من الجواب عن الاشكال الخامس. وأما المقام الثاني المتعلق بدفع النقض بالهبة المعوّضة فسيأتي.

(١) يعني : أنّ طلب المنكر الصلح واستدعاءه من المدّعي ليس إقرارا له بكونه مالكا.

(٢) حيث إنّ طلب التمليك من المنكر إقرار منه للخصم ، فلو كانت حقيقة الصلح تمليكا لكان طلبه كطلب التمليك إقرارا للخصم وتصديقا له في دعواه ، بداهة أنّ طلب التمليك لا يصحّ إلّا فيما إذا كان بناء طالب التمليك على مالكيّة الخصم للمدّعى به ، إذ لا معنى لطلب التمليك من غير المالك.

(٣) هذا شروع في المقام الثاني أعني به دفع نقض تعريف البيع ـ بإنشاء تمليك عين بمال ـ بالهبة المعوّضة ، أي المشروط فيها العوض ، ومحصّله : اختلاف مفهومي البيع والهبة ، فالبيع متقوّم بالعوض بحيث لو كان التمليك من طرف واحد صحّ سلب العنوان عنه ، ولكنّ الهبة متقوّمة بالمجّانية وتمليك العين بلا عوض ، ففي الهبة المعوّضة لا بدّ من إناطة وجوب العوض

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٢٣

٢٤١

والمراد بها هنا (١) ما اشترط فيها العوض ، فليست إنشاء تمليك بعوض على جهة

______________________________________________________

بالشرط ، بأن يشترط الواهب على المتهب تمليك شي‌ء في قبال هبته ، ومن المعلوم الفرق بين اقتضاء ذات العنوان المعاملي للعوض بحيث لا يصدق بدونه كما في البيع ، وبين عدم اقتضاء نفس العنوان له ، وتوقّف وجوب دفعه على الشرط ، الذي هو خارج عن حدود المفهوم كما لا يخفى.

هذا بحسب الدعوى.

والدليل على الفرق المزبور ما أفتى به الأصحاب في بحث الهبة المعوّضة من : أنّ الواهب لا يتملّك العوض ـ المشروط على المتّهب ـ بمجرّد هبته وقبول المتهب ، بل يتوقف تملكه للعوض على أن يملّكه المتهب ، بحيث لو تخلّف المتهب عن الشرط ولم يف به لم تبطل هبة الواهب ، وإنّما يثبت له خيار تخلّف الشرط ، فيكون رجوعه عن هبته واسترداد عينه مستندا الى الخيار ، لا إلى اقتضاء ذات الهبة للمعاوضة والمقابلة ، إذ لو كان كذلك امتنع تملّك المتهب للعين الموهوبة من دون أن يتملّك الواهب للعوض الذي اشترطه على المتهب.

وهذا الفرق كاشف عن كون هبة المتهب للواهب تمليكا مستقلّا ، ولا يقدح التخلف عنه في صدق عنوان «الهبة» على فعل الواهب. وهذا بخلاف البيع ، فإنّ عدم قبول المشتري ـ بحيث يصير البيع بلا ثمن ـ يمنع عن صدق البيع عليه.

(١) أي : في مقام النقض على تعريف البيع ، ومقصوده قدس‌سره إخراج قسم آخر من الهبة المعوّضة عن مورد النقض ، وهو ما إذا لم يشترط العوض في عقد الهبة ، ولكن المتهب يهب شيئا للواهب جبرا لإحسانه ، وهذه وإن صدقت عليها الهبة المعوّضة ـ على ما قيل ـ لاشتمالها على العوض ، لكن لا ينتقض تعريف البيع بها ، لعدم كون الإعطاء بعنوان العوضيّة حتى يصدق المعاوضة بين المالين أو بين الإعطاءين.

وبهذا ظهر أنّ مقصود المصنف قدس‌سره بقوله : «هنا» ليس الاحتراز عن مثل العطية والنحلة والصدقة والوقف مما يطلق عليها الهبة بالمعنى العام ، كما في بعض الحواشي ، بل المراد به إخراج الهبة المعوّضة التي يعطي المتهب شيئا للواهب إحسانا إليه ، لا لأجل الشرط.

٢٤٢

المقابلة (١) ، وإلّا (٢) لم يعقل (*) تملّك أحدهما (٣) لأحد العوضين من دون تملك الآخر للآخر ،

______________________________________________________

(١) كما في البيع ، فإنّه تمليك عين بعوض على جهة المقابلة بين المالين ، فالهبة المعوّضة يقصد فيها المعاوضة بين الهبتين لا بين العين الموهوبة والعوض ، فالهبة المعوّضة تمليك في قبال تمليك ، لا معاوضة بين مالين كما هو المقصود في باب المعاوضات.

(٢) يعني : ولو كانت الهبة ـ المشروط فيها العوض ـ إنشاء تمليك عين بعوض على وجه المقابلة ، لم يعقل تملك المتّهب للعين الموهوبة قبل أن يملّك العوض للواهب ، لامتناع اعتبار المعاوضة بين المالين إلّا بتملّك كلّ من المتعاملين للعوض في ظرف خروج المعوّض عنه ، مع أنّهم حكموا بانتقال العين الموهوبة إلى المتهب من دون تملّك الواهب لشي‌ء من مال المتهب. وهذا أقوى دليل على عدم كون الهبة مطلقا ـ حتى المعوضة ـ من سنخ المعاوضات.

(٣) يعني : تملّك المتّهب للموهوبة من دون تملك الواهب لعوضه الذي استحقه بالشرط.

__________________

(*) اعترض عليه المحقق الايرواني قدس‌سره بقوله : «هذا إذا كان العوض مالا ، وأمّا إذا كان فعلا أعني تمليك الآخر للمال على أن تكون الهبة تمليكا بإزاء تمليك ، استحقّ الواهب بقبول المتهب تمليك المتّهب للمال ، لا نفس المال ، فان ملّك فهو ، وإلّا كان كامتناع المشتري من تسليم الثمن ، والمقابلة مع ذلك محفوظة ، لكن بين الفعلين لا بين المالين ، أو بين مال وفعل» (١).

لكنه غير ظاهر ، ضرورة أنّ المفروض أخذ العوض شرطا في الهبة لا مقابلا لها ، فالعوض المشروط سواء كان عينا أم فعلا ـ كالتمليك ـ لم يؤخذ على وجه المقابلة كما صرّح به المصنف بقوله : «على جهة المقابلة» ومن المعلوم أنّ المعاوضة متقومة بجعل كل من المالين أو الفعلين عوضا عن الآخر ، والمعاوضة بهذا المعنى مفقودة في الهبة المعوّضة ، فالهبة المشروطة بهبة لا تقابل فيها بين الفعلين ، واستحقاق الواهب بقبول المتهب تمليكه أعمّ من كونه على وجه المقابلة وعلى نحو الشرط ، فالمقابلة ـ مطلقا ـ مفقودة في الهبة المعوّضة.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٧٤

٢٤٣

مع (١) أنّ ظاهرهم عدم تملّك العوض (٢) بمجرد تملّك الموهوب له الهبة (٣) ، بل (٤) غاية الأمر أنّ المتّهب لو لم يؤدّ (٥) العوض كان للواهب الرجوع

______________________________________________________

(١) غرضه الاستدلال ـ على أجنبية الهبة المعوّضة عن باب المعاوضات ـ بفتوى الأصحاب بأنّ المتّهب يتملّك العين الموهوبة بمجرّد قبول الهبة سواء وفى بالشرط أم لم يف به. قال المحقق : «ولا يجبر الموهوب له على دفع المشترط ، بل يكون بالخيار» (١) يعني : يكون المتّهب مخيّرا بين التعويض وردّ العين الموهوبة إلى الواهب ، فلو امتنع عن دفع العوض تخيّر الواهب ـ بمقتضى الشرط ـ بين الرجوع والإمضاء ، ومن المعلوم أنّ جواز رجوع الواهب كاشف عن تملّك الموهب له ـ ولو بالملك المتزلزل ـ للعين الموهوبة قبل الوفاء بالشرط. ولو كان تملّكه لها منوطا بالعمل بالشرط لم يبق وجه لأن يكون الواهب بالخيار ، لبطلان أصل العقد حينئذ.

وعليه فليست الهبة المشروط فيها الثواب من سنخ المعاوضات ، لاقتضاء المعاوضة ملكيّة كلّ واحد من المالين في رتبة الآخر ، فحكمهم بتملّك المتهب ـ قبل أن يهب العوض للواهب ـ دليل على خروج الهبة عن المعاوضات.

(٢) يعني : عدم تملّك الواهب للعوض قبل أن يهبه المتّهب ، فمجرّد عقد الهبة المعوّضة لا يقتضي تحقّق ملكيّة كلّ منهما في آن ملكية الآخر.

(٣) مفعول لقوله : «تملك» والمراد بالهبة هنا : العين الموهوبة.

(٤) يعني : ليس شرط العوض في الهبة كالبيع الموجب لتملّك كلّ من المتعاملين لكلّ من العوضين في رتبة واحدة ، بل غاية ما يترتب على هذا الشرط هي : أنّ الواهب يتسلّط على الرجوع عن هبته لو لم يف المتّهب بالشرط ، إذ ليست حينئذ هبة معوّضة ، فهي وإن لم تكن باطلة من أوّل الأمر ، لكنها جائزة كما هو الأصل في الهبة.

(٥) المقصود من الأداء هو الهبة الواجبة على المتّهب من جهة الشرط.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ٢٣٢

٢٤٤

في هبته (١) (*) ، فالظاهر (٢) أنّ التعويض المشترط في الهبة كالتعويض غير المشترط

______________________________________________________

(١) المقصود بجواز رجوع الواهب هنا هو الجواز الحقّي الناشئ من تخلف المتّهب عن الوفاء بالشرط ، وهذا وإن اتّحد أثره مع جواز فسخ عقد الهبة ذاتا ، إلا أنّ الأوّل جواز حقي قابل للإسقاط ومتعلّقه العقد ، والثاني حكمي غير قابل للإسقاط ، ومتعلقة استرداد العين الموهوبة. مضافا إلى ظهور الثمرة في الهبة المشروطة لذي رحم ، لانتفاء جوازها الحكمي ، ويبقى جوازها الحقّي خاصة.

(٢) هذه نتيجة عدم كون الهبة معاوضة ، يعني : أنّ شرط العوض في الهبة ـ بعد أن لم يكن موجبا لصيرورة الهبة كالمعاوضات ـ صار كالتعويض من باب الإحسان في كونه تمليكا مستقلّا يقصد به وقوعه عوضا ، فكما لا يكون التعويض غير المشروط في ضمن الهبة إلّا تمليكا مستقلا ، فكذلك التعويض المشروط في ضمنها ، غايته أنّه يكون في الهبة المشروطة هبتان ، بخلاف غير المشروطة ، حيث إنّها واحدة.

والحاصل : أنّ الهبة متقوّمة بالمجّانيّة ، في مقابل المعاوضة ، فلا يصدق عليها «تمليك العين بعوض» حتى ينتقض بها تعريف البيع بإنشاء تمليك عين بمال.

__________________

(*) ويشهد أيضا بعدم اقتضاء الشرط كون الهبة من المعاوضات : ما ذكره الفقهاء من أنّه لو ظهر كون العوض مستحقا للغير لم تبطل الهبة ، بل يجب دفع البدل مطلقا أو خصوص المثل أو القيمة ، ولو كانت المقابلة بين المالين بطل العقد بظهور الاستحقاق ، قال في الجواهر : «ولو خرج العوض أو بعضه مستحقا أخذه مالكه ، ثمّ إن كانت الهبة مطلقة لم يجب دفع بدله ، ولكن للواهب الرجوع. وإن شرطت بالعوض ففي القواعد : دفع المتّهب مثله أو قيمته مع التعيين ، أو العين ، أو ما شاء إن رضي الواهب مع الإطلاق. وهو ظاهر أيضا في وجوب دفع العوض ، وفي وجوب قبول الواهب له مع بذله ، فيكون الهبة كالنكاح في عدم كون ظهور استحقاق المهر مبطلا لها» (١).

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٨ ، ص ٢٠٧

٢٤٥

فيها في (١) كونه تمليكا مستقلا يقصد به وقوعه (٢) عوضا ، لا أنّ حقيقة المعاوضة والمقابلة مقصودة في كلّ من العوضين (٣) ، كما يتّضح ذلك (٤) بملاحظة التعويض غير المشترط في ضمن الهبة الأولى (٥).

فقد تحقق (٦) مما ذكرنا (٧) أنّ حقيقة تمليك العين بالعوض ليست إلّا البيع ،

______________________________________________________

(١) متعلق بالتعويض ، وهو وجه اشتراك الهبة التي يكون العوض بسبب الشرط ، مع الهبة التي يكون التعويض فيها من جهة الإحسان إلى الواهب ، ووجه الاشتراك ما عرفته من كون هبة المتّهب تمليكا جديدا ، وليس باقتضاء الهبة الأولى أي هبة الواهب.

(٢) هذا الضمير وضمير «به» راجعان الى التمليك المستقل.

(٣) إذ لو كانت المقابلة ملحوظة كانت منافية للهبة التي قصد بها المجانية المقوّمة لحقيقتها ، بداهة منافاة المجانية للمقابلة بين المالين.

(٤) أي : عدم كون الهبة المعوّضة معاوضة حقيقية ، وحاصله : أنّ بذل المتّهب عوضا الى الواهب تداركا لإحسانه كما لا يوجب صيرورة الهبة معاوضة حقيقية بأن تكون البدلية ملحوظة في العين الموهوبة وما يبذله المتّهب ، فكذلك لا تكون الهبة المشروطة بالعوض مندرجة في المعاوضة الحقيقية ، لوضوح خروج الشرط عن حقيقة الهبة ، كما في سائر الشروط الضمنية المأخوذة في المعاملات ، فإنّ المشروط أمر لا يقتضيه طبع تلك المعاملة.

(٥) هذه الكلمة قرينة على أنّ المراد بالهبة المعوّضة في المقام هو القسم الثالث المتقدم عند بيان النقض ، أعني به ما يكون المقابلة بين الفعلين أي الهبتين ، فالهبة الأولى تصير مشروطة بالثانية ، بأن يقول الواهب : «وهبتك هذا الكتاب على أن تهبني هذا الدرهم» فالهبة الأولى فعل الواهب ، والثانية فعل المتهب.

هذا تمام ما حقّقه المصنف قدس‌سره في المقام الثاني أعني به دفع النقض بالهبة المعوّضة.

(٦) هذا تلخيص لما سبق في دفع النقض بالصلح والهبة المعوّضة ، وتمهيد للإشكال على جعل الأصل في تمليك الأعيان هو البيع كما صرّح به الفقيه الكبير كاشف الغطاء قدس‌سره.

(٧) يعني : في جواب انتقاض تعريف البيع بالصلح على عين وبالهبة المعوّضة ، حيث

٢٤٦

فلو (١) قال : «ملّكتك كذا بكذا» كان بيعا (٢) ، ولا يصحّ صلحا ولا هبة معوّضة

______________________________________________________

أفاد : أنّ حقيقة الصلح هي التسالم على أمر ، وليس التمليك مأخوذا فيها ، وأنّ الهبة المعوّضة ليست تمليكا على وجه المقابلة بأن يدخل العوض في ملك الواهب بمجرد هبته ، بل هبة المتهب تمليك جديد ، وقد دخل الموهوب في ملكه سواء وفى بالشرط أم لا.

ومن هنا يعلم أنّ «تمليك عين بعوض» ـ على وجه المقابلة بين العوضين ـ منحصر في البيع ، فلذا لو أنشأ البائع الإيجاب بالتمليك لا بالبيع كان بيعا لا معاملة أخرى ، بأن قال : «ملكتك الكتاب بدينار» فإنّه متحد مفهوما مع قوله : «بعتك الكتاب بدينار» ولا يكون هذا التمليك صلحا ولا هبة معوّضة ، إذ ليس المنشأ فيهما جعل مال عوض مال آخر. والمفروض كما عرفت أنه جعل في قوله : «ملكتك الكتاب بدينار» مال وهو الدينار عوض الكتاب.

(١) هذه نتيجة انحصار «تمليك عين بعوض على وجه المقابلة بين المالين» في البيع ، وعدم كون هذا النحو من التمليك مشتركا معنويا جامعا بين البيع والصلح على عين والهبة المعوّضة ، ولا مشتركا لفظيا بينها. وعليه فحقيقة التمليك بالعوض هي البيع ، واستعماله فيما عداه مجاز يتوقف إرادته على قرينة.

(٢) أمّا كونه بيعا فلأنّ مضمون هذه الصيغة الخاصة ليس إلّا البيع ، والمفروض قصده في مقام الإنشاء. وأمّا عدم كونه صلحا ولا هبة فواضح ، لأنّه إمّا أن يقصد الموجب بقوله : «ملّكتك كذا بكذا» الصلح أو الهبة المشروطة بالعوض ، وإما أن لا يقصد شيئا منهما. فإن قصد أحد الأمرين لم يقع ، لما تقرّر من أنّ المعاملات وإن كانت متوقفة على القصد ، ولذا قيل : «العقود تابعة للقصود» إلّا أن تأثير القصد في حصول المقصود منوط بكون اللفظ كاشفا عمّا قصده ، وظاهرا فيه عرفا ولو بوضع ثانوي ، فلو لم يكن اللفظ كذلك لم يؤثّر في حصول المقصود. وإن لم يقصد بقوله : «ملّكتك كذا بكذا» أحد الأمرين من الصلح والهبة ، كان عدم تحققهما من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، وكان كإنشاء النائم والهازل في عدم تأثيره في حصول العنوان الاعتباري.

٢٤٧

وإن قصدهما (١) ، إذ (٢) التمليك على جهة المقابلة الحقيقية (٣) ليس صلحا ولا هبة ، فلا يقعان به (٤). نعم (٥) لو قلنا بوقوعهما بغير الألفاظ الصريحة توجّه تحقّقهما مع قصدهما (٦).

فما قيل (٧) من : «أن البيع

______________________________________________________

(١) أمّا إذا لم يقصدهما لم يقعا قطعا ، فإنّ قوام الأمر الإنشائي بالقصد.

(٢) تعليل لقوله : «كان بيعا ..»

(٣) التقييد بالمقابلة الحقيقية لأجل اشتمال الصلح والهبة على التمليك من الطرفين ، إلّا أنّه ليس مأخوذا في حقيقتهما كما عرفت.

(٤) أي : فلا يقع الصلح والهبة بقول المنشئ : «ملّكتك كذا بكذا» ووجه عدم الوقوع عدم صراحة لفظ التمليك في إفادة العنوانين.

(٥) استدراك على قوله : «فلا يقعان به» ومقصوده أنّ عدم وقوع الصلح والهبة المعوضة بقوله : «ملّكتك» مبني على اعتبار الألفاظ الصريحة في صيغ العقود ، كعدم وقوع الإجارة بمثل «بعتك سكنى الدار».

فلو قيل بجواز استعمال الألفاظ غير الصريحة ـ من المجازات والكنايات ـ في مقام الإنشاء جاز إنشاء الصلح والهبة بالتمليك عند قصد العنوان.

(٦) هذا الضمير وضميرا «بوقوعهما ، تحققهما» راجعة إلى الصلح والهبة.

أصالة البيع في تمليك الأعيان

(٧) هذا متفرّع على اختصاص التمليك على وجه المقابلة الحقيقية بالبيع ، وعدم كونه جامعا بين أقسام العقود المعاوضيّة ، ومقصوده قدس‌سره الخدشة فيما أفاده الشيخ الفقيه كاشف الغطاء في موضعين من شرح القواعد ، حيث قال في أحدهما : «وأنّ الأصل في مطلق التمليك للأعيان التنزيل على البيع» وقال في ثانيهما : «فالظاهر : أنّه متى جاء الفعل مستقلّا أو مع ألفاظ لا تستجمع الشروط مقصود بها المسامحة جاء حكم المعاطاة. وعلى الأوّل ، فإن صرّح فيها بإلحاق ببيع وغيره بنى عليه. وإلّا فالبيع أصل في المعاوضة على الأعيان مقدّم على الصلح

٢٤٨

هو الأصل (*) في تمليك الأعيان بالعوض ،

______________________________________________________

والهبة المعوّضة. والإجارة في نقل المنافع مقدمة على الصلح والجعالة».

ومحصله : أنّ «نقل العين بالعوض» وإن كان جامعا بين البيع والصلح والهبة المعوضة ، إلّا أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى البيع ، لأنّ الأصل في «انتقال عين بعوض» هو البيع.

وظاهر هذا الكلام : أنّ تمليك الأعيان مشترك معنوي بين البيع والصلح والهبة ، فإذا قصد الصلح أو الهبة فلا كلام ، لأنّ مميّزهما هو القصد ، فيحمل الإنشاء على ما قصده. وإن لم يقصد شيئا منهما كان بيعا ، لكونه الأصل في تمليك عين بعوض. وعليه فخصوصية البيع عدمية ، وخصوصيتهما وجودية.

وناقشه المصنف قدس‌سره بما عرفت آنفا من منع الاشتراك المعنوي ، وأنّ «تمليك عين بعوض» هو حقيقة عقد البيع خاصة ، واستعماله في غيره مجاز منوط بالقرينة ، فإرادة البيع من قوله : «ملكتك الكتاب بدينار» ليست لكونه الفرد الغالب من تمليك العين بعوض حتى يكون صدقه على الصلح والهبة المعوضة حقيقيا أيضا بدعوى مصداقيّتهما لجامع التمليك. بل تكون إرادة البيع من التمليك لأجل أنّه الموضوع له بالخصوص.

نعم يمكن توجيه كون البيع أصلا في تمليك الأعيان بما يبعد عن مساق كلام كاشف الغطاء قدس‌سره بأن يقال : إنّ التمليك بالعوض معنى حقيقي لخصوص البيع ، فلو شكّ في أنّ الموجب بقوله : «ملّكتك» أراد معناه الحقيقي أي البيع ، أو معناه المجازي من الصلح والهبة ، اقتضت أصالة الحقيقة ـ التي هي من الأصول العقلائية الكاشفة عن المرادات ـ إرادة البيع لا غير ، كما لو شكّ في أن القائل : «رأيت أسدا» أراد معناه الموضوع له أو الرجل الشجاع ، فإنّ أصالة الحقيقة تقضي بالحمل على المعنى الحقيقي.

لكن الظاهر أنّ مقصود كاشف الغطاء من الأصل ليس أصالة الحقيقة الكاشفة عن المراد في مقام الإثبات ، بل مراده الغلبة ، وسيأتي مزيد توضيح له.

__________________

(١) يرد عليه ـ مضافا إلى ما أورده المصنف قدس‌سره عليه ـ : أنّ المراد بالأصل ظاهرا هو

٢٤٩

فيقدّم (١) على الصلح والهبة المعوّضة» محل تأمّل بل منع ، لما عرفت (٢) من أنّ تمليك الأعيان بالعوض هو البيع لا غير (٣).

نعم (٤) لو أتى بلفظ التمليك بالعوض واحتمل إرادة

______________________________________________________

(١) يعني : فيقدّم البيع ـ عند إطلاق «ملكتك كذا بكذا» وعدم قصد خصوصية الصلح والهبة ـ على إرادة أحدهما.

(٢) تعليل لقوله : «محل تأمل» وقد عرفت توضيحه.

(٣) يعني : فليس تمليك الأعيان مشتركا معنويا حتى يدّعى انصرافه عند الإطلاق إلى البيع ، بل ليس تمليك الأعيان بالعوض إلّا البيع.

(٤) استدراك على قوله : «محل تأمل بل منع» ومقصوده قدس‌سره تصحيح أصالة البيع في تمليك الأعيان بإرادة أصالة الحقيقة في معنى التمليك ، لا الأصل الذي ادّعاه كاشف الغطاء قدس‌سره وهو الغلبة والانصراف.

وعليه فيكون قوله : «نعم» كالاستثناء المنقطع الذي يختلف فيه المستثنى والمستثنى منه موضوعا. وليس هذا توجيها للأصل الذي أسّسه الشيخ الكبير قدس‌سره في شرح قواعده ، لإباء كلامه عنه. ووجه كون الاستثناء منقطعا أجنبية الأصل بمعنى الغلبة ـ والانصراف في المشترك المعنوي ـ عن أصالة الحقيقة المعوّل عليها في تمييز المراد من المعنى الحقيقي عن المجازي.

__________________

الغلبة. بتقريب : أنّ غالب ما يقع في الخارج من تمليك العين بالعوض هو البيع ، وهذه الغلبة تلحق الفرد المشكوك منه بالبيع ، لقاعدة لحوق الشي‌ء بالأعم الأغلب.

وفيه : أنّ مجرّد الغلبة لا حجية فيها ، بل ولو مع إفادتها الظن أيضا ، لعدم الدليل على اعتباره ، فيقع تحت عموم دليل عدم الحجية.

إلّا أن يقال : إنّ المراد بالأصل هو الإطلاق في مقام الثبوت بمعنى عدم قصد خصوصية الصلح أو الهبة التي بها يمتازان عن البيع المعرّى عن الخصوصية ، فيكون مراد القائل بهذا الأصل هو عدم الخصوصية ، وهذا أصل ثبوتي أجنبي عن الغلبة التي هي أصل إثباتي.

٢٥٠

غير حقيقته (١) كان مقتضى الأصل اللفظي حمله (٢) على المعنى الحقيقي ، فيحكم بالبيع (٣).

لكن (٤) الظاهر أنّ الأصل بهذا المعنى (٥) ليس مراد القائل المتقدم ، وسيجي‌ء (٦) توضيحه في مسألة المعاطاة في غير البيع إن شاء الله تعالى.

بقي القرض (٧) داخلا في ظاهر الحد.

______________________________________________________

(١) أي غير حقيقة «التمليك بالعوض» التي هي البيع ، والمراد بالغير احتمال إرادة الصلح والهبة المعوّضة ، ومن المعلوم أنّ حمل كل لفظ على معناه الموضوع له عند دوران الأمر بين إرادته وإرادة المعنى المجازي هو مقتضى أصالة الحقيقة كما عرفت في مثل الأسد.

(٢) أي : حمل «التمليك بالعوض» على معناه الحقيقي وهو البيع.

(٣) ولا يقبل منه دعوى إرادة الصلح أو الهبة المعوّضة.

(٤) هذا بيان أجنبية التوجيه الذي أفاده بقوله : «نعم» عن مراد الشيخ الكبير قدس‌سره.

(٥) أي : أصالة الحقيقة التي هي حجة في تشخيص المراد ، ولذا عدّت من الأصول المراديّة التي هي معتبرة في مقام الإثبات. والظاهر عدم إرادة كاشف الغطاء قدس‌سره هذا المعنى ، لظهور عبارته في مقام الثبوت ، وهو تحديد مفهوم البيع وتمييزه عن مفهومي الصلح والهبة ، فمراده بالأصل هو عدم دخل خصوصية في مفهوم البيع ، والمفروض أنّه لم يقصد إلا التمليك بالعوض ، وهذا أصل ثبوتي لا إثباتي ، فالبيع لا خصوصية فيه ، بخلاف الصلح والهبة ، فإنّ مفهومهما متخصّص بخصوصية وجودية وهي قصد عنوانهما.

(٦) في خامس تنبيهات المعاطاة. لكنه قدس‌سره لم يف بوعده في ذلك التنبيه كما ستقف عليه.

ح ـ انتقاض التعريف بعقد القرض

(٧) هذا سابع النقوض التي أوردها المصنف قدس‌سره على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» تقريب النقض : أن هذا التعريف يصدق على القرض كصدقه على البيع ، حيث إنّ المقرض يملّك المقترض عينا في قبال العوض الذي يؤدّيه المقترض عند المطالبة أو عند حلول

٢٥١

ويمكن إخراجه (١) بأنّ مفهومه ليس نفس المعاوضة ، بل هو تمليك على وجه

______________________________________________________

الأجل ، فإذا أقرض زيد عمروا دينارا مثلا فقد ملّكه دينارا بعوض ، وهو الدينار المماثل للدينار الذي أقرضه ، وعليه ف «إنشاء تمليك العين بعوض» صادق على القرض أيضا.

ثم إنّ هنا أمرين ينبغي التنبيه عليهما.

الأوّل : أنّ سوق العبارة يقتضي أن يقال : «ومنها : صدقه على القرض» يعني : ومن الأمور الباقية على تعريف البيع عدم مانعيّته للغير ـ أي القرض ـ كعدم مانعيّته عن الشراء والصلح والهبة المعوّضة ، مع خروج القرض عن البيع قطعا ، فلا بد من تعريفه بما لا ينتقض بالقرض. ولم يظهر وجه عدول المصنف قدس‌سره عن السياق الى قوله : «بقي القرض».

الثاني : أنّ هذا النقض لا يختص بتعريف البيع بما في المتن من «إنشاء تمليك عين بعوض» لوروده على تعريفه بالانتقال وبالعقد الدال عليه أو على النقل إذا كان الإنشاء بلفظ التمليك ، لاشتراك الكل في جامع التمليك بالعوض. نعم في ورود النقض على تعريفه بما في جامع المقاصد من «نقل العين بالصيغة المخصوصة» تأمل لا يخفى وجهه.

(١) هذا الضمير وضمير «مفهومه» راجعان الى القرض ، وهذا جواب الاشكال. ومحصل ما أفاده في دفع نقض تعريف البيع بالقرض هو : أنّ حقيقة القرض تمليك وتضمين ، بمعنى أنّ المقرض تارة ينشئ تمليك المال للمديون ، واخرى ينشئ شرطية ضمانه عليه بما يناسبه ويكون أقرب إليه من المثل إذا كان مثليّا أو القيمة إذا كان قيميّا. فيكون نظير الهبة بشرط العوض في كون شرط العوض خارجا عن البدلية المقوّمة للمقابلة المعتبرة في حقيقة المعاوضة.

وببيان آخر : يخرج القرض عن تعريف البيع بقيد «العوض».

توضيحه : أنّه يعتبر عرفا في مفهوم المعاوضة المقوّمة للبيع تغاير العوض للمعوّض وتعدّدهما ، إذ لا يعقل اعتبار المعاوضة في شي‌ء واحد بأن يكون عوضا عن نفسه كما هو واضح.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المديون تشتغل ذمته بكلّيّ ينطبق على الأفراد الخارجية المساوية للعين المقترضة في الخصوصيات النوعية والصنفيّة الدخيلة في المالية التي تدخل

٢٥٢

ضمان المثل أو القيمة ، لا معاوضة للعين بهما (*).

______________________________________________________

تحت الضمان ، بخلاف الخصوصيات الشخصية فإنها لا تدخل تحت الضمان ، لبناء الدائن والمديون على ذلك ، حيث إنّ القرض يوجب ملكية العين للمديون ليتمكن من صرفه في حوائجه ، فلو كانت الخصوصيات الشخصية داخلة تحت الضمان لزم من ذلك نقض الغرض من القرض ، وكان ضمان الدين كضمان الغصب ، حيث إنّ العين المغصوبة بجميع خصوصياتها النوعية والصنفية والشخصية مضمونة على الغاصب.

فالفارق بين الضمان القرضي والغصبي هو : أنّ جميع الخصوصيات في الغصب مضمونة على الغاصب ، ولذا يجب دفع العين لو كانت موجودة إلى المغصوب منه. بخلاف القرض ، إذ المضمون على المديون ليس إلّا الخصوصيات النوعية والصنفية ، وأمّا الشخصية فلا ، ولذا لا يجب على المديون دفع العين إذا كانت موجودة ، كما ليس للدائن إلزام المديون بذلك بقاعدة اليد ، لعدم موضوع لها بعد وضوح كون يد المقترض على العين المقترضة مالكية. ولا قاعدة الإقدام ، لأنّها تابعة لما تعهّد به الضامن. وقد عرفت أنّ ما ثبت به تعهّده هو المال المقترض بخصوصياته النوعية والصنفية دون الشخصية. هذا كله في اختلاف البيع والقرض مفهوما.

ويترتب عليه اختلافهما بحسب الآثار والأحكام ، وهو كاشف إنّا عن مغايرتهما سنخا ، وقد استشهد المصنف قدس‌سره بأمور أربعة يفترق فيها البيع عن القرض ، وسيأتي بيانها.

__________________

(*) قد يشكل هذا الجواب بما في حاشية المحقق الايرواني قدس‌سره من أنّ إنكار المعاوضة في عقد القرض والالتزام بكونه تمليكا على وجه ضمان البدل لا يخلو من أحد وجهين لا سبيل إلى شي‌ء منهما ، لكون أحدهما تسليما للنقض مع تغيير العبارة ، والآخر غير معقول.

توضيحه : أنّ «التمليك على وجه ضمان المثل أو القيمة» إن كان بمعنى المقابلة بأن يكون تمليك العين بإزاء عوض كلّيّ في الذمة كان التزاما بالإشكال ، لصدق «تمليك عين

٢٥٣

.................................................................................................

__________________

بعوض» على القرض كصدقه على البيع ، إذ ليس مفاد صيغة «أقرضتك» أو «ملّكتك هذا وعليك ردّ عوضه» إلا تمليك عين في قبال عوضها.

وإن كان تمليك المقرض لا على وجه المقابلة بل كان تمليكه مجّانيا وخاليا عن العوض ـ وإنّما اشترط على المقترض ضمان البدل ، كحكم الشارع على الضامن باشتغال العهدة في موارد الضمانات كالإتلاف ـ كان غير معقول. لاستحالة أن يضمن الشخص مال نفسه ، لا سيّما مع قيام عينه ، فيكون العين له قد تملّكها مجّانا ، ومع ذلك يضمنها على أن يؤدّي العوض للغير (١).

وهذا الاشكال لا يخلو من وجه ، والتفصي منه «بأنّ ضمان المقترض للإقدام عليه لا لقاعدة اليد ، فالمقترض أقدم على ضمان مالية العين وإن لم يضمن خصوصيتها» (٢) لا يخلو من غموض ، إذ لا إقدام هنا إلّا على القرض ، والإشكال كلّه في تصوير الضمان ، لانحصار سببه في أحد أمرين ، إمّا اقتضاء ذات العقد للمعاوضة ، فيعود انتقاض تعريف البيع بالقرض ، لاشتراكهما في جامع التمليك بالعوض ، وإن كان العوض فيه كلّيا دائما ، بخلاف الثمن في البيع ، فإنّه أعمّ منه ومن العين الشخصية والمنافع المملوكة ، بل وبعض الحقوق.

وإمّا لاقتضاء الشرط المدلول عليه بقوله : «وعليك ردّ عوضه» مع فرض عدم اقتضاء نفس تمليك المقرض للبدل ، وهذا هو محذور ضمان الشخص لما تملّكه مجّانا ، وهو غير معقول.

وبهذا ظهر أنّه لا إقدام على ضمان العين من غير ناحية الاقتراض ، فإمّا أن يكون الضمان مقتضى طبع القرض ، وإمّا أن يكون مقتضى الشرط.

وتخلّص المحقّق الإيرواني قدس‌سره عن النقض بإنكار المعاوضة في باب القرض ، وأنّ حقيقته تمليك العين وتأمين المالية ، وقد أوضحه في موضع آخر بقوله : «إنّ القرض ينحل إلى أمرين : هبة واستيمان. أمّا الهبة فبالنسبة إلى العين ، فإنّ المقرض يرفع يده عن العين ويدفعها إلى المقترض مجّانا وبلا عوض. وأمّا الاستيمان فبالنسبة إلى مالية العين ، فإنّه يستأمن ماليّة

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧٤

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٦٨

٢٥٤

.................................................................................................

__________________

العين عند المقترض ، وفي ذمّته على أن يردّها إليه في رأس الأجل ، ولذا يطالب حينما يطالب بماله ، لا بعوض ماله. فلا معاوضة في القرض بوجه. وإنّما هو إعراض عن خصوصية العين واستيمان لماليتها» (١).

وهذا البيان كما تراه إنكار للمعاوضة في القرض رأسا ، فينهدم أساس النقض ، ولا بأس به من جهة التفكيك في حيثيات العين الشخصية بين خصوصيتها ونوعيتها ، فيكون نظير اللقطة التي حكم الشارع بجواز التصرف فيها مع ضمان البدل الواقعي مثلا أو قيمة.

لكنه قد يشكل الالتزام به من جهة تصريحات الأصحاب بعدّ القرض من العقود المعاوضية ، فنفس تمليك المقرض يقتضي استحقاق البدل ، فإن أنشأه بقوله : «أقرضتك» لم يفتقر الى الاشتراط ، وإن أنشأه بمثل «ملّكتك» لزم الاشتراط بمثل «وعليك ردّ عوضه».

وجعل حقيقته منحلّا الى عقدين هبة العين واستيمان المالية وإن كان محتملا ثبوتا ، لكنه لا شاهد عليه في مقام الإثبات ، بل الكلمات ظاهرة في خلافه ، قال ابن حمزة قدس‌سره في تعريفه : «القرض كل مال لزم في الذمة بعقد عوضا عن مثله» (٢). فالقرض عنده ذلك البدل الكلي المستقر في العهدة عوضا عمّا أخذه من المقرض.

وقال المحقق الأردبيلي قدس‌سره لدى التعليق على قول العلّامة : «فإن كان مثليا يثبت في الذمة مثله ، وإلّا القيمة وقت التسليم» ما لفظه : «لعلّ دليله : أن القيمي إنّما خرج عن ملك المالك بالعوض ، وليس له العوض إلّا القيمة ، لعدم المماثلة كما في سائر المعاوضات ..» (٣). وقال في موضع آخر : «لأنّ الاذن إنّما حصل من المالك بأن يكون مالكا ويكون عليه العوض ، لا مطلقا

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧١

(٢) الجوامع الفقهية ، كتاب الوسيلة ، ص ٧٤٨

(٣) مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان ، ج ٩ ، ص ٦٩

٢٥٥

.................................................................................................

__________________

كما في سائر المعاوضات» (١).

وقال في الجواهر : «انّ القرض وإن كان له شبه بالضمانات ، إلّا أنه من المعاوضات أيضا» (٢).

وفي هذه الكلمات كفاية لعدّ القرض من العقود المعاوضية وإن كان له أحكام خاصة به ، ولا سبيل لإخراجه منها ، كما لا وجه لجعله منحلّا الى عقد هبة للعين ، وعقد استيمان واستيداع للمالية.

وبالجملة : فما تفصّى به المحقق الايرواني قدس‌سره عن النقض غير ظاهر.

واختار المحقق الأصفهاني قدس‌سره لدفع النقض وجها آخر ، فأفاد في توضيح المتن ما حاصله : أنّ العوض وإن كان مقصودا في القرض ، لكنه لا يكفي في عدّه من العقود المعاوضية ، إذ المناط فيها أن يتسبّب إليه بنفس الإنشاء كأن يقال : «بعت هذا بهذا» فلو كان العوض مقصودا ولم يتسبّب الى وجوده الاعتباري بالإنشاء لم يكن معاوضة ، ولذا فعقد القرض تمليك على وجه التضمين ، لا تمليك محض ولا تضمين محض (٣).

وهذا الوجه أيضا لا يخلو من تأمل ، إذ لا ريب في أنّ التمليك على وجه التضمين ، إمّا أن يلاحظ فيه الضمان بنحو العوض ، وامّا أن يلاحظ فيه بنحو الشرط ، وعلى كلّ منهما يكون تمليك المقرض حصّة من طبيعي التمليك ، وهي الملحوظ فيها استحقاق العوض.

فالأولى الالتزام بكون القرض من المعاوضات ، وإن اختصّ بأحكام لم تجر في البيع كما سيأتي التنبيه عليها في المتن.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٩ ، ص ٧٤

(٢) جواهر الكلام ، ج ٢٥ ، ص ١٦

(٣) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٨

٢٥٦

ولذا (١) لا يجري فيه ربا المعاوضة ، ولا (٢) الغرر المنفيّ فيها ، ولا (٣) ذكر العوض ،

______________________________________________________

(١) أي : ولأجل عدم كون مفهوم القرض هو التمليك على وجه المقابلة ، بل مفهومه «التمليك على وجه ضمان المثل أو القيمة» لا يجري فيه ربا المعاوضة.

وهذا أوّل الوجوه الأربعة التي استشهد بها المصنف قدس‌سره على خروج القرض عن مفهوم البيع ، وحاصله : أنهم ذكروا انقسام الربا الى قسمين أحدهما معاوضي ، والآخر قرضي. واعتبروا في صدق الربا في المعاوضة أن يكون العوضان من جنس واحد ، وأن يكونا مكيلين أو موزونين ، فلا يحرم مطلق التفاضل بين العوضين كما إذا كانا من جنسين أو لم يكونا من المكيل والموزون.

وهذا بخلاف الربا القرضي ، فإنّه يحرم التفاضل ـ في القرض ـ مطلقا ، ولا يشترط بكون العين المقترضة من المكيل والموزون ، ولا بوحدة الجنس.

وعلى هذا نقول : بخروج القرض عن باب المعاوضة ، إذ لو كان بيعا لاعتبر في رباه ما يعتبر في ربا المعاوضة ، مع وضوح حرمة اشتراط التفاضل ـ مطلقا ـ في باب القرض ، حتى إذا لم تكن العين المقترضة من المكيل والموزون ، فلو أقرض معدودا كالبيض ـ كما هو المتعارف في بيعه بالعدّ في بعض البلاد ، لا بالوزن ـ بأكثر منه كان ربا حراما. أو أقرض منّا من حنطة بمنّين من عدس ، وهكذا. بخلاف ما إذا باع بيضة واحدة باثنتين ، أو منّا من حنطة بمنّين من عدس ، فإنّه لا بأس بذلك. وهذا شاهد على عدم كون القرض بيعا.

(٢) هذا ثاني الوجوه التي استشهد بها على عدم كون القرض معاوضة ، وحاصله : أنّه لو كان القرض بيعا لم يجز قرض المجهول ، إذ يعتبر في البيع كون المبيع معلوما ، لنهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر (١) ، فجواز قرض المجهول ـ كصبرة أو قبضة من الدراهم ـ دليل على عدم كون القرض بيعا ، إذ القرض وقع صحيحا.

(٣) هذا ثالث الوجوه ، وحاصله : أنّه يعتبر في المعاوضة ذكر العوضين في متن العقد ، لأنّهما ركنان في باب المعاوضة ، فعدم ذكر أحدهما أو كليهما يوجب اختلال العقد ، لعدم ذكر

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ، ج ٢ ، ص ٤٥ و ٤٦ ، الحديث ١٦٨ ، وفيه : «وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر» وعلى هذا فالرواية منقولة بطرقنا أيضا.

٢٥٧

ولا (١) العلم به ، فتأمّل (٢).

______________________________________________________

ركنية أو أحدهما. مع أنّه لا يجب ذكر العوض في باب القرض ، وعليه فعدم وجوب ذكره فيه كاشف عن خروجه عن باب المعاوضة.

(١) هذا رابع تلك الوجوه ، ومحصله : أنّه يعتبر العلم بالعوض في باب المعاوضة ، مع أنّه غير معتبر في القرض ، بشهادة صحة القرض مع عدم العلم بكون العين المقترضة مثليّا أو قيميّا ، ومن المعلوم أنه لو كان القرض معاوضة بين العين المقترضة وما يؤدّيه المقترض لزم إحراز كون العين مثليا أو قيميا حتى يعلم بما اشتغلت الذمة به من المثل أو القيمة.

(٢) لعلّه كما أفاده جماعة من المحشّين ـ منهم الفقيهان المامقاني والسيد قدس‌سرهما (١) ـ إشارة إلى : أنّ الوجوه الأربعة المتقدمة لا تشهد بعدم كون القرض من المعاوضات ، لإمكان اختلاف أنواع المعاوضات في الأحكام ، فلا يدلّ شي‌ء من تلك الوجوه على خروج القرض موضوعا عن حيّز المعاوضات ، كما هو المقصود من الاستشهاد بها ، إذ ليست تلك الأمور الأربعة مقوّمة لمفهوم المعاوضة عرفا حتى يكون انتفاؤها موجبا لانتفاء حقيقة المعاوضة ، بل هي أحكام تعبّديّة ثبتت في البيع لقيام الدليل على ثبوتها له ، وعلى هذا فلا سبيل لإخراج القرض عن باب المعاوضات ولا بدّ من افتراقه عن البيع بوجه آخر (*).

__________________

(*) لكن الظاهر دلالة الأمور الأربعة المتقدمة على خروج القرض عن باب المعاوضات بنظر المصنف ، وأنّ أمره بالتأمل ناظر إلى مطلب آخر ، لكون المقام من صغريات دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ، وقد اختار قدس‌سره حجية أصالة العموم في مثله واقتضائها إحراز حال الفرد وعدم كونه من مصاديق العام ، مثلا : إذا علمنا بعدم وجوب إكرام زيد وشككنا في أنّ خروجه عن عموم «أكرم العلماء» هل يكون تخصيصا أم تخصّصا لعدم كونه منهم ، فمقتضى أصالة عدم تخصيص العام الحكم بخروجه تخصّصا ، لحجية مثبتات الأصول اللفظية.

قال مقرّر بحث المصنف : «وعلى ذلك جرى ديدنهم في الاستدلالات الفقهية ،

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ١٧٥ ، حاشية السيد على المكاسب ، ص ٦١

٢٥٨

.................................................................................................

__________________

كاستدلالهم على طهارة الغسالة على أنّها لا تنجّس المحلّ ، فإن كان نجسا غير منجّس يلزم تخصيص قولنا : كل نجس منجّس» (١).

وعلى هذا المبنى يمكن الاستشهاد على خروج القرض من المعاوضة موضوعا ـ بهذه القاعدة ـ ببيان : أنّه يشك في كيفية خروج القرض عن عموم أدلة أحكام المعاوضات ، وأنه موضوعي أو حكمي ، فأصالة عدم تخصيص تلك الأدلة تثبت عدم كون القرض من المعاوضات ، لا أنه معاوضة غير محكومة بتلك الأحكام الأربعة.

وعليه فمرجع الاستشهاد بتلك الوجوه ـ ببركة حجية أصالة عدم التخصيص ـ إلى عدم كون القرض من المعاوضات ، فتدبّر جيّدا.

ولذا كان ينبغي تنزيل الأمر بالتأمل هنا على تثبيت ما أفاده بقوله : «ولذا لا يجري فيه ربا المعاوضة .. إلخ» من استكشاف خروج القرض موضوعا عن باب المعاوضات ، لا حمله على عدم التنافي بينها وبين كونه معاوضة كما أفاده الشرّاح قدس‌سرهم.

نعم ، الإشكال كلّه في المبنى ، لما تقرّر في أصالة العموم من اقتصار حجيّتها على جهة الحكم ، سواء كان الشك في أصل التخصيص أم في التخصيص الزائد ، ولا أقلّ من الشك في بناء العقلاء على العمل بها لإحراز حال الموضوع ، عند العلم بعدم محكوميته بحكم العام.

مناقشات أخرى في تعريف البيع

هذا تمام الكلام في الإشكالات التي أوردها المصنف قدس‌سره على تعريفه للبيع ودفعها ، وقد أورد عليه جمع من المحشين بوجوه أخرى ، ينبغي التعرّض لجملة منها :

الأوّل : أن البيع يوجد بالإنشاء ، فهو موضوع له لا نفسه. وإن شئت فقل : إن الإنشاء سبب للبيع لا نفسه ، فهو من الاعتبارات الناشئة منه ، فتعريفه به تعريف للشي‌ء بسببه. نعم هذا التعريف يلائم إنشاء البيع لا نفسه كما لا يخفى.

وقد تقدّم توضيح وجه الحاجة الى ذكر لفظ الإنشاء في تعريف المصنف قدس‌سره.

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ص ١٩٦

٢٥٩

.................................................................................................

__________________

ولكن مع ذلك لا نحتاج الى ذكر لفظ الإنشاء ، لأنّ وجه الحاجة إليه ـ وهو إخراج التمليك الشرعي والعرفي الذي ليس تحت قدرة البائع وكون ما بيده هو التمليك الإنشائي ـ يتأدّى بلفظ «التمليك» لأنّه عبارة عن إيجاد الملكية الإنشائية ، فيكون لفظ الإنشاء مستدركا ، إذ مرجع إضافة الإنشاء إلى التمليك إلى «إنشاء إنشاء الملكية».

ولو فرض الحاجة إلى زيادة لفظ الإنشاء بدعوى : عدم دلالة التمليك على الإنشائي لم يحسن جعل الإنشاء جنسا للحد ، إذ ليس ذلك جنسا ، بل سببا للبيع ، فالمناسب ان يقال : البيع هو التمليك الإنشائي.

الثاني : أنه يستلزم انخرام قاعدة توافق المشتق والمشتق منه في المعنى ، لوضوح أنّ «الإنشاء» لم يؤخذ في مفهوم شي‌ء من تصاريف البيع ، فإنّ قوله في مقام الاخبار : «بعت ، أو أبيع ، أو باع زيد ، ويبيع» ونحو ذلك لا يراد به إلّا التمليك ، لا إنشاؤه الذي هو سبب له ، هذا.

ويمكن دفعه : بأنّ المراد بالإنشاء هو التمليك الإنشائي ، في قبال التمليك الخارجي الممضى شرعا أو عرفا ، لا الإنشاء في مقابل الإخبار ، ومن المعلوم سريان التمليك الإنشائي في جميع تصاريف البيع ، فقوله : «بعت» إخبارا يراد به الإخبار عن التمليك الإنشائي ، فلا يلزم انخرام قاعدة لزوم توافق المشتقات للمشتق منه في المعنى ، فتدبّر.

الثالث : ما في حاشية الفقيه المامقاني قدس‌سره من «أن العوض غير مأخوذ في مفهوم البيع وضعا ، فيصح الإخبار بالبيع عمّن قال : بعت هذه الدار مثلا بدون ذكر العوض. والوجه في ذلك واضح ، فإنّه اسم لما هو أعم من الصحيح والفاسد ، ولذلك تراهم يذكرون مسألة البيع بلا ثمن ، ويختلفون في حكمه ، فلو لم يكن بيعا لم يكن لذلك وجه» (١).

وفيه ما لا يخفى ، لما مرّ في تعريف المصباح للبيع بأنه «مبادلة مال بمال» فالعوض مأخوذ في مفهوم البيع لغة. وأمّا صحة الاخبار بالبيع بدون ذكر العوض فلعدم الحاجة إلى ذكر العوض بعد وضوح دخله في مفهوم البيع لغة وعرفا ، وكون البيع من العقود المعاوضية. وأمّا كون البيع اسما للأعم من الصحيح والفاسد وكون التعريف للأعم فلا كلام في ذلك ، إلّا أنّ

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ١٧٤

٢٦٠