هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

ما سيجي‌ء (١) من كون المعاطاة بيعا ، وأنّ (٢) مراد النافين نفي صحتها (٣).

ومنها (٤) :

______________________________________________________

(١) يعني : في بحث المعاطاة عند الاستدلال على إفادتها للملك بآية (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) حيث قال : «وأمّا منع صدق البيع عليه عرفا فمكابرة ، وأمّا دعوى الإجماع في كلام بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعا كابن زهرة في الغنية ، فمرادهم بالبيع : المعاملة اللازمة التي هي إحدى العقود .. إلخ».

(٢) معطوف على «كون» ومبيّن لمراد النافين حتى يندفع توهم المنافاة بين دعوى بيعية المعاطاة وبين نفي بيعيتها. وعليه فلا ينتقض تعريف المصنف قدس‌سره بالمعاطاة.

(٣) فلم يتوارد النفي والإثبات على أمر واحد ، بل المثبت ناظر الى الموضوع ، والنافي إلى الحكم.

د ـ انتقاض التعريف بالشراء

(٤) يعني : ومن الأمور الباقية على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» وهذا رابع الإشكالات التي أوردها المصنف قدس‌سره على تعريف نفسه. ومحصله : انتقاض التعريف بالشراء ، لصدق «إنشاء التمليك» على قبول المشتري ، لأنّ البيع «تمليك الغير» كما صرّح به المصنف قدس‌سره في المنع من جعل القسم الثاني من الحقوق ـ اى ما لا يقبل النقل الى الغير ـ ثمنا في البيع ، فكما يملّك البائع المبيع للمشتري ، كذلك المشتري يملّك الثمن للبائع ، وهذا معنى المبادلة في إضافة الملكية ، فكلّ من المتبايعين ينشئ التمليك ، ولا يختص بالبائع. مع أنّ مقصود المصنف قدس‌سره تعريف البيع بالمعنى المصدري الذي هو فعل البائع وقائم به ، لا الملكية والنقل بالمعنى الاسمي المترتب على مجموع الإيجاب والقبول.

نعم لو لم يعتبر التمليك من الطرفين وكان تمليك البائع كافيا كان تعريفه ب «إنشاء تمليك عين بمال» سليما عن هذا النقض ، لكنه خلاف تصريحه باعتبار التمليك من كلا المتبايعين. وعلى هذا فتعريف البيع بما في المتن غير مانع للغير ، وهو إنشاء قبول المشتري.

٢٢١

صدقه (١) على الشراء ، فإنّ (٢) المشتري بقبوله للبيع يملّك ماله بعوض المبيع (٣) (*).

______________________________________________________

وليعلم أن هذا النقض ناظر إلى ما هو الغالب من كون الثمن عينا خارجية كالمثمن ، سواء أكان نقدا أم عرضا ، إذ يتوجه حينئذ محذور صدق تعريف البيع على قبول المشتري. وأمّا لو كان الثمن منفعة مملوكة ـ كسكنى الدار أو عمل الحرّ بعد المعاوضة عليه ـ لم ينتقض تعريف البيع بقبول المشتري ، لفرض عدم كون الثمن عينا ، حتى يصدق البيع على تمليكه ، لما تقدم من اعتبار عينية المعوّض دون العوض.

(١) أي : صدق تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» على الشراء الذي هو فعل المشتري.

(٢) هذا تقريب النقض ، وقد عرفته آنفا.

(٣) فيصدق على الشراء «أنه إنشاء تمليك عين بمال» مع أنّ المقصود تعريف البيع القائم بالبائع ، فلا بدّ من تعريفه بما لا ينطبق على قبول المشتري.

__________________

(*) قال سيدنا الأستاذ قدس‌سره : «هذا الإيراد لو تمّ توجّه أيضا على التعريف الأوّل والثالث ، ولا يختصّ بهذا التعريف» (١).

أقول : المراد بالأوّل هو تعريف البيع بما في المبسوط والتذكرة وغيرهما «من انتقال عين من شخص الى غيره .. إلخ». وبالثالث هو تعريف جامع المقاصد للبيع : «بنقل العين بالصيغة المخصوصة». ولم يظهر صدق شي‌ء من هذين التعريفين على الشراء.

أما الأوّل فلما فيه أوّلا : من أنّ الشراء ـ بناء على كونه إنشاء التمليك ـ يكون من مقولة الفعل ، والانتقال من مقولة الانفعال ، ولا يصدق أحدهما على الآخر.

وثانيا : من أنّ المال المنتقل من المشتري الى البائع لا يعتبر أن يكون عينا ، لما تقدم من أنّ العينية غير معتبرة في الثمن.

وأمّا الثالث فلما فيه أوّلا : من مغايرة النقل للتمليك.

__________________

(١) نهج الفقاهة ، ص ١٥

٢٢٢

وفيه (١) أنّ التمليك فيه (٢) ضمنيّ ، وإنّما حقيقته التملّك بعوض ، ولذا (٣)

______________________________________________________

(١) هذا جواب الاشكال ، وحاصله : عدم انتقاض تعريف البيع بقبول المشتري ، وذلك لأن المتصدّي لإيجاد المبادلة بين المالين هو البائع ، فهو يملّك ماله للمشتري بالعوض ، وإنشاء المشتري يتعلق بما أنشأه البائع من التمليك بالعوض ، فوظيفة المشتري إنشاء التملّك الذي هو مطاوعة فعل البائع ، وإن انحلّ هذا التملك المطاوعي المعاوضي إلى تمليك ماله للبائع ، إلّا أنّه ليس متعلّقا للإنشاء أوّلا وبالذات ، بل بالتحليل ، حيث إن مطاوعة تمليك البائع تستلزم تمليك المشتري.

والحاصل : أنّ متعلّق إنشاء البائع ـ أوّلا وبالذات ـ هو التمليك ، ومتعلق إنشاء المشتري كذلك هو التملك الذي يكون مطاوعة لفعل البائع ، وحيث إنّ فعل البائع هو التمليك بالعوض فلا محالة يكون فعل المشتري تملّكا بالعوض ، فهذا التملّك ـ الذي هو متعلق إنشاء المشتري أوّلا ـ يتضمّن التمليك أيضا ، لأنّ مقتضى سلطنة الناس على أموالهم عدم انتقال إضافتهم الملكية إلى غيرهم إلّا بفعل اختياري مسمّى بالتمليك.

وإن شئت فقل : إنّ متعلق إنشاء المشتري ـ أوّلا وبالذات ـ هو التملك المتضمن لتمليك الثمن للبائع ، لفرض كون البيع من المعاوضات. ومتعلّق إنشاء البائع أوّلا وبالذات هو التمليك ، فالإنشاء ان متعاكسان ، ولا يصدق أحدهما على الآخر.

(٢) أي : في الشراء.

(٣) أي : ولأجل كون التمليك في الشراء ضمنيا غير مستقل لا يجوز إنشاء الشراء بلفظ «ملّكت» وذلك لأنّ هذا اللفظ ليس صريحا ولا ظاهرا في التمليك الضمني ، بل ظاهر في التمليك

__________________

وثانيا : من عدم اعتبار العينية في الثمن ، والمفروض اعتبارها في التعريف المزبور ، وهو نقل العين بالصيغة المخصوصة.

وثالثا : أنّ الشراء لا يقع بلفظ «بعت» الذي هو المراد بالصيغة المخصوصة. ولم يظهر لنا مراده قدس‌سره ، وهو أعلم بما قال.

٢٢٣

لا يجوز الشراء بلفظ «ملّكت» تقدّم على الإيجاب أو تأخّر (١) (*).

______________________________________________________

الأصلي الابتدائي ، والمفروض عدم كون الشراء تمليكا أصليا ، فلا يجوز إنشاؤه بلفظ ليس صريحا ولا ظاهرا في التمليك الضمني.

(١) عدم دلالته على التمليك الضمني واضح ، إذ ليس فيه شائبة التمليك التبعي ولا التملّك بالعوض أصلا ، ولا فرق في هذه الجهة بين تقدم القبول على الإيجاب وتأخره عنه ، لأنّ تمام المناط هو دلالة القبول ـ أوّلا وبالذات ـ على مطاوعة الإيجاب والتملك بالعوض ، ثم دلالته على تمليك الثمن للبائع ، والمفروض عدم تكفل «ملّكت» للتملك بالعوض والتمليك التبعي ، وإنّما مدلوله التمليك الأصلي الذي هو مدلول الإيجاب.

__________________

(*) وعليه فالفرق بين إنشاء البيع وإنشاء الشراء ثبوتي ، حيث إنّ مفهوم القبول هو إنشاء التملك بعوض ، سواء أكان الدال عليه اللفظ أم الفعل كما في المعاطاة ، فيترتب القبول على الإيجاب ترتّب الانفعال على الفعل ، فلا يكون القبول في رتبة الإيجاب ، لكونه بمنزلة العلة للقبول ، فليس التمليك الضمني مفاد اللفظ ، هذا.

لكن قد يورد عليه بما في كلام جمع من الأعيان ، منهم السيد الخويي قدس سره قال المقرّر : «ولكنّا لم نفهم معنى محصّلا للتمليك الضمني ، إذ يرد عليه أوّلا : أنّه إن كان مراده من التمليك الضمني : التمليك التبعيّ ـ بمعنى أنّ البائع يملّك ماله للمشتري أوّلا ، ويملّك المشتري ماله للبائع ثانيا ـ فيرد عليه : أنّ لازم ذلك أن ينعكس الأمر فيما إذا تقدّم القبول على الإيجاب ، بأن يكون التمليك من ناحية المشتري أوّلا ، والبيع من ناحية البائع ثانيا.

وإن كان مراده من التمليك الضمني أنّ ألفاظ الإيجاب والقبول إنّما تدلّ بالدلالة المطابقية على تمليك المشتري ماله للبائع ، سواء في ذلك تقدّم القبول على الإيجاب وعدمه ، فيرد عليه : أنّ هذا يرجع إلى جهة الدلالة ومقام الإثبات ، فلا يوجب فرقا بين التمليكين لبّا وفي

٢٢٤

.................................................................................................

__________________

مقام الثبوت ، بداهة أنّ البيع تبديل شي‌ء بشي‌ء في جهة الإضافة ، ومن الضروري أنّه يستحيل تحقق التبديل بين شيئين إلّا أن ينتقل كل منهما إلى محلّ الآخر في آن واحد وفي مرتبة واحدة. وعليه فلا يعقل وجود التمليك من ناحية البائع ، إلّا في آن وجود التمليك من ناحية المشتري .. وإذن فلا أصالة ولا تبعية في المقام ..» (١).

وأنت خبير بأنّ المراد بتبعية تمليك المشتري لتملّكه هنا هو كون التمليك الشرائي من لوازم التملك الشرائي ، بحيث لا يحتاج إلى جعل على حدة ، ولذا يصح قصد التملك من المشتري وإن لم يلتفت إلى لازمه وهو التمليك حتى يقصده ، فالإصالة والتبعية ملحوظتان في نفس مفهومي البيع والشراء. فالقبول إن كان بلفظ : «قبلت» لم يكن لتقديمه معنى صحيح ، بعد وضوح ترتب مفهوم القبول على مفهوم الإيجاب. نعم إن كان بلفظ آخر يفيد التمليك بالأصالة كان إيجابا لا قبولا.

بل يمكن دعوى عدم الوجه في اعتبار التمليك التبعي في الشراء أيضا ، بدعوى : أنّ البيع هو الإيجاب والقبول ، وليس حقيقة القبول إلّا إمضاء تمليك البائع ، فالعقد هو التمليك والتملّك ، وهما موضوعان لحكم الشارع أو العقلاء بالملكية ، فلا يرد عليه ما في التقرير المزبور من : «أنّه إن سلّمنا التمليك فلا يندفع الإشكال ، لإطلاق إنشاء التمليك على التمليك الضمني ، فنقض تعريف البيع وارد عليه».

وأما ما أفاده من : «أن معنى البيع يقتضي تحقق التبديل بينهما في رتبة واحدة ..» ففيه : أنّ المراد بالتبديل هو التبديل الإنشائي القائم بالبائع ، ومن المعلوم أنّ بدلية كلّ من المالين عن الآخر تحصل في رتبة واحدة بنفس هذا الإنشاء ، لكنه لا يجدي بنفسه في ترتب الأثر وهو

__________________

(١) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٦٠ و ٦١ ، ونحوه ما في حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني ، ج ١ ، ص ١٧ ، وحاشية المكاسب للمحقق الايرواني ، ج ١ ، ص ٧٤

٢٢٥

.................................................................................................

__________________

التبديل الخارجي الاعتباري ، لأنّه مترتب على إنشاء المشتري قبول إنشاء البائع ، وإلّا كان البيع إيقاعا لا عقدا ، وبعد ضمّ هذا الإنشاء إلى إنشاء البائع يترتب عليه التبديل الاعتباري ، فهنا أمور ثلاثة :

أحدها : إنشاء البائع تمليك المبيع بمال ، وهذا التمليك الإنشائي يتحقق بين المالين في آن واحد وفي رتبة واحدة ، بمعنى صيرورة كلّ من المالين بدلا عن الآخر في مقام الإنشاء.

ثانيها : إنشاء المشتري مطاوعة ما أنشأه البائع ، فمتعلق هذا الإنشاء أوّلا وبالذات هو تملّك المبيع بإزاء الثمن الذي مرجعه مطاوعة بدلية الثمن عن المبيع. ولا إشكال في تأخر هذا الإنشاء عن إنشاء البائع رتبة وزمانا ، ومن المعلوم أنّ إنشاء التملك متضمن لإنشاء تمليك المشتري للثمن ، لكونه مقتضى المعاوضة المترتبة على التمليكين ، أعني بهما : تمليك البائع وتمليك المشتري ، ومن البديهي تأخّر تمليك المشتري عن تمليك البائع برتبتين ، إحداهما : تأخره عن تملك المشتري الذي هو متعلق إنشاء الشراء أوّلا وبالذات ، والأخرى : تأخّره عن تمليك البائع ، ومع التأخّر برتبتين كيف يعقل اتحاد التمليكين رتبة؟ كما في التقرير المزبور.

ثالثها : حكم الشارع أو غيره ممّن بيده الاعتبار بترتب الأثر كالملكية على مجموع الإنشاءين ، فهما كموضوع الحكم التكليفي كوجوب الحج المترتب على البالغ العاقل المستطيع ، فإنشاء تمليك البائع وإنشاء تملّك المشتري معا موضوع لحكم الشارع أو العرف بالملكية.

فتحصّل مما ذكرناه أمور :

الأوّل : أنّ التمليك الإنشائي بين المالين يتحقق بنفس إنشاء البائع وفي زمان واحد.

الثاني : أنّ المراد بضمنية تمليك المشتري هو ترتبّه على إنشاء مطاوعة فعل البائع ، بمعنى : أنّ إنشاء المشتري يتعلّق أوّلا وبالذات بتملّك المبيع ، وثانيا بتمليك الثمن ، وهذا التمليك يكون في ضمن إنشاء التملّك.

٢٢٦

.................................................................................................

__________________

الثالث : أنّ التمليك الضمني ليس راجعا إلى مقام الدلالة والإثبات ، بل إلى مقام الثبوت واللّب.

الرابع : أنّ تمليك المشتري للثمن ليس في عرض تمليك البائع ورتبته ، بل في طوله.

وعليه فما أفاده المصنف قدس‌سره في دفع النقض بالشراء من كون تمليك الثمن ضمنيا في محله.

لكن يرد عليه : أنّ إطلاق تعريف البيع «بإنشاء تمليك العين بمال» يشمل التمليك الضمني كالاستقلالي ، فينتقض بالشراء ، فيما كان الثمن عينا لا منفعة.

وأما النقض عليه ببيع السلم ، حيث إن المحكي إطباقهم على جواز كون الإيجاب فيه من المشتري بأن يقول : «أسلمت إليك عشرة دراهم في منّ من الحنطة» وتعقّبه قبول البائع ، فيكون تمليك المشتري أصليا وتمليك البائع ضمنيا ، مع أنّ البائع هو صاحب الطعام ، الذي يترتب قبوله على تمليك المشتري للدراهم ، فقد تخلّص منه السيد قدس‌سره «بأنّ الإيجاب وإن كان من المشتري ، إلّا أنّه يملّك بعنوان العوض ، فكأنّه قال : أعطيتك الدراهم عوضا عن تمليكك الطعام ، فالتمليك الأصلي من البائع والضمني من المشتري ، فلا نقض» (١).

هذا ، مع إمكان كون العوض في باب السلم منفعة مملوكة كسكنى الدار ، بأن يخلّي المشتري بينها وبين البائع لاستيفائها ، فإنّ الثمن مقبوض ، ولا ينتقض تعريف البيع حينئذ ، لاعتبار كون المعوّض عينا ولو كليّا في الذمة ، هذا.

إلّا أن يقال : بورود الاشكال على تعريف البيع حينئذ ، إذ لازم ذلك إنكار صدق الحدّ على تمليك المنفعة ، لعدم كونها عينا ، مع أنّه لا ريب في مصداقيّته لبيع السّلم ، فينحصر الجواب في توجيه السيد قدس‌سره من أنّ ما يدفعه المشتري إلى البائع معنون بكونه عوضا لا معوّضا ، سواء أكان الثمن عينا أم منفعة أم حقّا قابلا للنقل الى الغير.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٦٠

٢٢٧

وبه (١) يظهر اندفاع الإيراد بانتقاضه (٢) بمستأجر العين

______________________________________________________

ه ـ انتقاض التعريف بالاستيجار بالعين

(١) أي : وبما ذكرناه ـ من كون التمليك في الشراء ضمنيا ـ يظهر اندفاع الإيراد ، .. إلخ. وهذا إشكال خامس على تعريف البيع بإنشاء تمليك عين بمال ، ولم يفرده بالبحث لأجل مشاركته للإشكال الرابع نقضا وجوابا ، فهنا أمران ، أحدهما تقريب النقض ، وثانيهما دفعه.

أما الأوّل ـ وهو أصل النقض ـ فبيانه : أن حقيقة الإجارة ـ كما سبق التعرض له في اعتبار عينية المبيع ـ هي تمليك المنفعة بعوض ، سواء أكان العوض عينا كالدينار والكتاب ونحوهما ، كما إذا آجر داره شهرا بدينار ، أم منفعة كما إذا آجر داره شهرا بخياطة ثوب أو نجارة سرير ونحوهما ، فإذا استأجر زيد دارا من عمرو وكانت الأجرة عينا كدينار صدق على تمليك الدينار للموجر : أنّه إنشاء تمليك عين بمال ، وهذا معنى انتقاض تعريف البيع باستئجار عين بعين.

ويظهر من هذا البيان ورود هذا النقض أيضا على تعريف البيع بانتقال عين مملوكة بعوض.

وأمّا الثاني ـ وهو جواب النقض ـ فتوضيحه : أن الاستيجار ليس إنشاء تمليك الأجرة كالدينار بالمنفعة ، بل حقيقته إنشاء تملّك المنفعة بالأجرة ، فتمليك الأجرة لمالك الدار مثلا ضمني ، وليس بنفسه ـ أوّلا وبالذات ـ متعلّقا للإنشاء ، كما تقدّم في حقيقة الشراء.

(٢) بيان للإيراد ، يعني : ينتقض تعريف البيع ـ بإنشاء تمليك عين بمال ـ بباب الإجارة إذا كانت الأجرة عينا كالدينار والكتاب.

__________________

ثم إنّ في استشهاد المصنف قدس‌سره ـ على ضمنية تمليك المشتري ـ بعدم جواز إنشاء القبول بلفظ «ملّكت» مسامحة ، إذ لا شهادة في عدم جواز ذلك على كون التمليك الشرائي ضمنيا ، إذ لو أريد عدم الجواز شرعا كان خارجا عن محل الكلام ، إذ مورد البحث هو البيع العرفي. وإن أريد عدم الجواز عرفا فهو غير ظاهر ، بل ممنوع.

٢٢٨

بعين (١) ، حيث (٢) إنّ الاستيجار يتضمّن تمليك العين بمال أعني المنفعة (*).

ومنها (٣) : انتقاض

______________________________________________________

(١) قد عرفت أنّ تقييد النقض ـ بالإجارة ـ بما إذا كانت الأجرة عينا إنّما هو لأجل إخراج مستأجر العين بالمنفعة ، فإنّه لا تمليك للعين أصلا لا من طرف المؤجر لكونه مملّكا لمنفعة العين لا رقبتها ، ولا من طرف المستأجر ، لفرض كونه مملّكا لمنفعة كالخياطة والنجارة ، فتقع المبادلة بين منفعتين ، فلا مورد حينئذ لدخول الإجارة في تعريف البيع حتى ينتقض تعريفه بها.

(٢) هذا تقريب النقض ، وقد عرفته. وأمّا جواب النقض فقد أحاله المصنف على ما ذكره في دفع النقض بالشراء ، ومحصله : أن المستأجر بالعين إنما يتملّك المنفعة بعوض بالأصالة ، ويملّك عينه للموجر ضمنا ، كما أنّ المشتري يتملّك المبيع أصالة ، ويملّك الثمن للبائع ضمنا ، فلا موضوع للنقض.

وـ انتقاض التعريف بالصلح

(٣) أي : ومن الأمور الباقية على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» انتقاضه

__________________

(*) لا يخفى أنّ دفع الاشكال عن الاستيجار بالعين بما في المتن مبني على كون الإجارة بمعنى «تمليك المنفعة» حتى يكون الاستيجار تملك المنفعة ، كي يجاب عن الإشكال بأنّ مفهوم الاستيجار ـ إذا كانت الأجرة عينا ـ هو تملك المنفعة بالعين ليصير تمليك العين بعوض ضمنيا.

لكن الأمر ليس كذلك ، لأنّ حقيقة الإجارة ليست تمليك المنفعة بعوض والاستيجار تملك المنفعة ، إذ لو كانت حقيقتها التمليك لخرجت الإجارات الواقعة على الموقوفات ، خصوصا إذا كانت الأجرة غير مملوكة أيضا ، كما إذا استأجر الوليّ العام خانا وقفيا لحفظ الزكوات أو للزّوّار والغرباء ، فإنّ شيئا من المنفعة والأجرة ليس مملوكا للموجر والمستأجر ، مع صحة الإجارة ، ودخول هذا النحو من المعاملة في عنوان الإجارة عرفا ، فحقيقة الإجارة هي التبديل بين المنفعة والأجرة.

٢٢٩

طرده (*) بالصلح على العين

______________________________________________________

بالصلح على عين بعوض وبالهبة المعوضة ، وهذا خامس الإشكالات التي أوردها المصنف قدس‌سره على تعريفه للبيع ، وقد أورده صاحب الجواهر قدس‌سره على تعريف المصابيح ـ الذي هو كالأصل لما في المتن ـ بقوله : «وفيه ـ مع كونه مبنيّا على أصالة البيع في نقل الأعيان بالعوض ـ من دون توقف على قصد البيع ـ ينتقض بالصلح والهبة المعوضة» (١).

وقد سبقهما الشهيد الثاني ، حيث عدّ النقض بالصلح والهبة المعوّضة من وجوه الخلل في تعريف البيع «بالعقد الدال على نقل الملك» كما في الشرائع ، قال في المسالك : «الثالث : ينتقض أيضا بالهبة المشروط فيها عوض معيّن ، فإنّ التعريف يشملها وليست بيعا. الرابع : يدخل فيه أيضا : الصلح المشتمل على نقل الملك بعوض معيّن ، فإنّه ليس بيعا عند المصنف» (٢).

ويظهر منه عدم اختصاص النقض بهما بتعريف البيع بإنشاء التمليك أو بالعقد الدال على نقل الملك ، بل يرد على تعريفه بانتقال عين مملوكة أيضا ، كما أورد به المحقق الثاني على تعريف العلّامة ، فراجع (٣).

وكيف كان فتوضيح هذا الاشكال الخامس هو : عدم مانعية التعريف عن دخول غير البيع في الحدّ ، وذلك لأنّ «إنشاء تمليك عين بمال» يصدق على عقدين آخرين.

أحدهما : الصلح على العين بمال ، كما إذا صالح على الدار بألف دينار.

__________________

(*) الأولى أن يقال : «ومنها : صدقه على الصلح بعين ..» أو «انتقاض طرده أيضا بالصلح ..» إذ ربما يوهم تعبير المتن «طرده» مخالفة هذا النقض سنخا للنقوض المتقدمة ، والمفروض أنّ النقض بالصلح إشكال على عدم طرد التعريف كالنقوض السابقة ، وليس إشكالا على عكس التعريف حتى يكون مغايرا لتلك النقوض سنخا. فإنّ الإشكال على عكسه ـ أي : جامعيته ـ سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولم يظهر وجه للعدول عن السياق.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٦.

(٢) مسالك الافهام ، ج ٣ ، ص ١٤٦

(٣) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٥

٢٣٠

بمال (١) ، وبالهبة (٢) المعوّضة (*).

______________________________________________________

الثاني : الهبة المعوّضة ، كما إذا وهبه كتابا بشرط أن يدفع المتهب دينارا إلى الواهب.

والوجه في النقض واضح ، لما فيهما من إنشاء تمليك عين بمال كإنشاء تمليكها به في البيع ، وعليه لا يكون تعريف البيع هنا مانعا عن دخول الغير فيه ، كالصلح والهبة المعوضة والإجارة ، مع أنه لا ريب في خروجها عن حد البيع ، بشهادة عقد باب على حدة لكل منها في المعاملات ، فتعيّن حينئذ تعريف البيع بتعريف آخر مطرد ومنعكس.

(١) تقييد النقض بما إذا كان «الصلح على عين» إنّما هو لسلامة تعريف البيع عن هذا النقض إذا كان الصلح على منفعة أو على حقّ قابل للإسقاط أو النقل ، أو كان الصلح على إبراء دين ، فالأوّل كما إذا صالح على سكنى الدار شهرا بدينار ، والثاني كالصلح على حق الخيار أو حق التحجير بدينار ، والثالث كالصلح على إبراء ما في ذمة المديون من الدين بدينار ، فالصلح في هذه الموارد لا يصدق عليه «إنشاء تمليك عين بمال» حتى ينتقض تعريف البيع به كما هو واضح.

ز ـ انتقاض التعريف بالهبة المعوّضة

(٢) معطوف على قوله : «بالصلح» وتقريب انتقاض التعريف بالهبة المعوّضة هو : أنّ الموهوب لا بدّ أن يكون عينا ، ففي الهبة المعوّضة ينشئ الواهب تمليك عين بعوض ، فيصدق تعريف البيع على الهبة ، وتندرج هي في الحدّ مع وضوح خروجها عنه ، وعليه فليس التعريف مانعا للأغيار.

__________________

(*) لا يخفى أنّ الهبة المعوضة تكون على أقسام :

أحدها : أن يعطي المتهب شيئا للواهب من دون أن يشترط الواهب عليه عوضا ، بل يعطيه تداركا لإحسانه.

ثانيها : أن يشترط الواهب على المتهب عوضا ، كأن يهبه دارا بشرط أن يعطيه كتاب البحار مثلا.

ثالثها : أن تكون الهبة في مقابل مثلها ، كأن يقول : «وهبتك كذا بهبتك كذا» بحيث تكون المقابلة بين الهبتين.

٢٣١

وفيه (١) أنّ حقيقة الصلح

______________________________________________________

(١) هذا دفع الاشكال الخامس ، ولمّا كان متضمنا لنقض تعريف البيع بعقدين آخرين ـ وهما الصلح والهبة المعوضة ـ فلذا تصدّى للجواب عن كل واحد منهما بما يناسبه. فيقع الكلام في مقامين : أحدهما في التفصّي عن النقض بالصلح ، والثاني في دفع النقض بالهبة المعوّضة.

أمّا المقام الأوّل ، فمحصّل ما أفاده فيه : مغايرة البيع والصلح مفهوما ، واستدل عليه بأمور ثلاثة.

أمّا اختلافهما مفهوما فبيانه : أنّ البيع ـ كما تقدّم في كلام بعض أهل اللغة كالفيومي

__________________

رابعها : أن تكون الهبة مشروطة بشي‌ء بنحو شرط النتيجة ، كأن يقول الواهب : «وهبتك كذا بشرط أن تكون دارك ملكي».

والمناسب للنقض هو الهبة التي تقع المقابلة فيها بين المالين بنحو يكون العوض جزءا لا شرطا كما في القسم الثالث ، إذ الهبة الثانية تكون عوضا عن الهبة الأولى ، فيصدق عليه : «إنشاء تمليك عين بعوض» بخلاف ما عداه من الأقسام المزبورة ، فإنّ شرط العوض غير نفس العوض بنحو الجزئية ، وكونه مقابلا للعين الموهوبة كمقابلة الثمن للمثمن في البيع. ولذا تبطل الهبة بانتفاء العوض فيما إذا كان مقابلا للموهوب ، كبطلان كلّ معاوضة بفقدان أحد العوضين قبل القبض ، دون ما إذا كان بنحو الشرطية ، لأنّ انتفاء الشرط لا يوجب البطلان ، بل يوجب الخيار.

وبالجملة : فتمليك مال بإزاء مال خارجي بيع ، وكذا تمليك مال بإزاء فعل من الأفعال المتمولة من إعطاء وتمليك وخياطة وقصارة وغير ذلك من الأعمال المتمولة ، فإنّ جميع هذه التمليكات مصاديق البيع الذي هو تمليك عين متمولة بمال.

ومما ذكرناه يظهر ما في حاشية السيد قدس‌سره من جعل بعض أقسام التمليكات المزبورة من الهبة مع أنّها من البيع (١). لأنّ تمليك العين بعوض ـ سواء أكان العوض عينا أم منفعة أم حقا ـ ليس إلّا البيع ، فإنّ التمليك المقابل بالتمليك أيضا بيع ، لكون التمليك عملا ، وسيأتي تفصيل مقابلة العين بالتمليك أو التمليك بمثله في رابع تنبيهات المعاطاة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٦١.

٢٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وكذا في كلمات الفقهاء ـ تمليك عين بمال على وجه المقابلة ، فلا يصدق على تمليك غير الأعيان من الحقوق والمنافع ، كما لا يصدق على تمليك عين خال عن العوض. ومعنى الصلح هو التراضي بين المتنازعين وتسالمهما على أمر من تمليك عين أو منفعة ، أو إباحة تصرّف ، أو سقوط حقّ ، أو إبراء دين ، ونحوها. قال العلامة الطريحي في بيان النبوي : «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا» ما لفظه : «أراد بالصلح : التراضي بين المتنازعين ، لأنّه عقد شرّع لقطع المنازعة» (١).

وعليه فحقيقة الصلح ـ إذا تعلّق بعين مع عوض ـ ليست إنشاء تمليك عين بمال حتى ينتقض به البيع ، بل هي التسالم الاعتباري ، يعني : أنّ الإنشاء يتعلّق أوّلا بالتراضي والموافقة ، لا بالتمليك ، إلّا أنّ التسالم حيث إنّه من سنخ المعاني التعلّقية ـ لاستحالة التراضي المطلق كاستحالة تعلقه بالأعيان ـ فلا بد من تعلّقه بفعل أو بحكم ، فالأوّل ـ أي تعلّقه بالفعل ـ نظير الصلح عن الدار بألف دينار ، بأن يكون المقصود التسالم على تمليكها بالألف ، والثاني كالصلح على ملكيتها بالألف.

وفائدة هذا السنخ من الصلح ـ إذا تعلّق بالتمليك ـ وإن كانت متّحدة مع البيع من حيث وقوع المبادلة بين عين وعوض ، إلّا أنّ العبرة في صدق كل عقد ـ ليترتب عليه أحكامه الخاصة به ـ هي نفس العنوان المنشأ ، سواء اتحدت نتيجته مع عقد آخر أم اختلفت عنه. هذا كلّه في اختلاف مفهومي البيع والصلح سنخا.

وأما الدليل عليه فوجوه ثلاثة نشير إليها فعلا ، وسيأتي توضيحها عند شرح كلمات المصنف قدس‌سره.

أوّلها : تعدي البيع بنفسه الى المبيع ، وتعدي الصلح إلى متعلّقه بالحرف ، سواء أكان المتصالح عليه عينا أم منفعة ، وسواء أفاد الملك أم الإباحة أم غيرها ، ومن المعلوم أنّ التعدّي بالنفس وبالحرف أمارة اختلاف المفهومين.

ثانيها : أنّ الصلح يجري في موارد طائفة من العقود المعاوضية والإيقاعات ، فلو كان

__________________

(١) مجمع البحرين ، ج ٢ ، ص ٣٨٨

٢٣٣

ـ ولو (١) تعلّق بالعين ـ ليس هو التمليك على وجه المقابلة (٢) والمعاوضة ، بل معناه الأصلي (٣) هو التسالم ، ولذا (٤) لا يتعدّى بنفسه إلى المال.

______________________________________________________

مدلوله كالبيع تمليك عين بعوض فإمّا أن يكون إطلاقه في تمليك المنفعة وإسقاط الحق ونحوهما مجازيا ، وإمّا بنحو الاشتراك اللفظي ، وكلاهما ممنوع.

ثالثها : أنّه لو كان التمليك مأخوذا في مفهوم الصلح لزم أن يكون طلبه من الخصم إقرارا بمالكيّته ، مع أنّهم فرّقوا بين طلب التمليك وطلب الصلح على المتنازع فيه.

فهذه أمور تشهد بأنّ «التمليك على وجه المقابلة» غير ملحوظ في تعريف الصلح ، وأنّ مفهومه مجرّد التسالم مهما كان المتسالم عليه ، هذا.

(١) وصليّة ، يعني : لا فرق في عدم تضمّن مفهوم الصلح للتمليك على وجه المقابلة بين كون المتصالح عليه عينا ، وغيرها ، فالمنشأ في وعاء الاعتبار هو التسالم ، لا التمليك بنحو المعاوضة بين عين ومال.

ونبّه بقوله : «ولو تعلق بعين» على مورد النقض ، حيث إنّ مورد انتقاض تعريف البيع إنّما هو الصلح على العين ، كما تقدّم في عبارتي المسالك والجواهر ، فدفعه المصنف قدس‌سره بأجنبية مفهوم الصلح عن التمليك بالعوض ، بل هو التسالم والتراضي بلا فرق بين تعلّقه بالعين أو بالمنفعة أو بغيرهما كالحقوق.

(٢) أي : المقابلة بين العوضين ، وبهذه العبارة يمكن إخراج الهبة المعوّضة عن تعريف البيع أيضا ، لأنّ تمليك المتّهب للواهب ليس لاقتضاء تمليك العين الموهوبة له ، بل للشرط ، مع أنّ الثمن في باب البيع عوض نفس المبيع ، ولذا يصحّ سلب العنوان حقيقة عمّا إذا قال : «بعتك بلا ثمن».

(٣) الذي هو المنشأ ، وهو المناط في تعنون الإنشاء بعنوان الصلح ، ولا عبرة بالفائدة المترتبة عليه.

(٤) هذا هو الدليل الأوّل على تغاير مفهومي البيع والصلح سنخا ، ومحصّله : أنّ مادة

٢٣٤

نعم (١) هو متضمن للتمليك إذا تعلّق بعين ، لا أنّه (٢) نفسه.

والّذي يدلّك على هذا (٣) أنّ الصلح قد يتعلّق

______________________________________________________

«البيع» تتعدى الى المبيع بنفسها ، فيقال : «بعت الدار بكذا». ولكن الصلح لا يتعدّى الى المتصالح عليه بنفسه ، بل بمعونة حرف المجاوزة أو الاستعلاء ، فيقال : «صالحتك عمّا علم بما علم» أو «صالحتك على أن يكون هذا لك وذلك لي» فيعلم منه عدم كون الصلح بمعنى التمليك والنقل والبيع المتعدية بأنفسها إلى العين ، لأنّ التعدية بالنفس وبالحرف أمارة اختلاف المفهومين. ولو كان الصلح بمعنى التمليك على وجه المقابلة لصحّ إنشاؤه بمثل «صالحتك الدار بألف دينار» مع عدم صحته.

(١) استدراك على قوله : «ليس هو التمليك» وقد عرفت عدم المنافاة بين كون المنشأ في الصلح هو التراضي على أمر ، وبين إفادته التمليك.

(٢) يعني : لا أنّ الصلح نفس تمليك العين على وجه المقابلة كالبيع.

(٣) أي : على أنّ الصلح هو التسالم الاعتباري ، لا التمليك. وغرضه إقامة دليل ثان على عدم كون الصلح نفس التمليك ، وحاصله : أنّ الصلح يجري في موارد عقود ومعاوضات متعددة ، ويفيد في كل واحد منها فائدة تلك المعاملة. والمذكور منها في المتن خمسة :

أوّلها : أن يتعلق التسالم بتمليك عين في قبال عوض ، وفائدته فائدة البيع ، غير أنّ الأحكام الخاصة به لا تجري في الصلح ، كخيار المجلس ، فيتملك لزوما كلّ من المتصالحين المال عقيب وقوع العقد وإن لم يفترقا عن مجلس المعاملة.

ثانيها : أن يتعلّق التسالم بتمليك منفعة كسكنى الدار مدة شهر بدينار ، وثمرته متّحدة مع الإجارة.

ثالثها : أن يتعلّق التسالم بتسلط المتصالح على الانتفاع بملك المصالح ، فيباح له الانتفاع به من دون دخول المنفعة في ملكه ، وهذا فائدة عقد العارية.

رابعها : أن يتعلّق الصلح بإسقاط حقّ أو بنقله ، فالأوّل كما إذا تصالح الشفيع والمشتري

٢٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

على إسقاط حق الشفعة ، أو تصالح ذو الخيار مع من عليه الخيار على رفع اليد عن حقّه.

والثاني كالصلح على نقل حق التحجير الى الغير حتى يكون المتصالح ـ بمنزلة المحجّر ـ أولى بإحياء الأرض وعمارتها من غيره.

خامسها : أن يتعلّق الصلح بتقرير مقاولة بين المتصالحين ، كما إذا اشترك شخصان في رأس مال للتجارة به ، فاتّجرا وربحا ، غير أنّ الفوائد موزّعة بعضها نقود وبعضها ديون على آخرين ، فإنّ مقتضى عقد الشركة توزيع الأرباح والخسائر على ذوي الحصص بنسبتها. لكن لو أراد أحد الشريكين فسخ الشركة وأخذ رأس ماله جاز أن يصالح شريكه على سحب حصته ، بأن يكون الربح والخسارة المحتملان في مال الآخر ، فإن كانت شركتهما رابحة كانت الفائدة له بمنزلة هبة من الذي أخذ حصّته ، وإن كانت خاسرة فالمتضرّر أبرأ ذمة ذلك الذي استقلّ برأس ماله.

وفائدة هذا الصلح تثبيت المقاولة المذكورة بين المتصالحين ، إذ لولاها كان اللازم العمل بمقتضى عقد الشركة من توزيع الربح والخسارة على الشريكين بنسبة الحصص.

هذه جملة من الموارد التي شرّع عقد الصلح فيها ، ولا يترتب تمليك العين فيها إلّا على الأوّل منها أعني به الصلح على عين بعوض ، وهو متحد مع البيع أثرا وفائدة.

وحيث كانت الفوائد في هذه المقامات متفاوتة فالمتعيّن جعل المنشأ جامع التسالم والتراضي كي ينطبق المفهوم على جميع الموارد ، ولم يؤخذ التمليك في حقيقة عقد الصلح حينئذ. ولو لم يكن المنشأ هو جامع التسالم فإمّا أن يلتزم بأنّ الصلح كالبيع تمليك عين بعوض لا غير ، فيكون استعماله مجازا في ما لو تعلق بتمليك المنفعة أو بإباحة الانتفاع أو بإسقاط حقّ وما شابه ذلك. وإمّا أن يلتزم بتعدد الوضع ، بأن يكون موضوعا مرة لتمليك العين ، واخرى لإباحة الانتفاع ، وثالثة للإبراء ، وهكذا.

٢٣٦

بالمال عينا (١) أو منفعة ، فيفيد التمليك.

وقد يتعلّق (٢) بالانتفاع فيفيد فائدة العارية ، وهو مجرّد التسليط.

وقد يتعلّق (٣) بالحقوق ، فيفيد الإسقاط أو الانتقال.

______________________________________________________

وكلاهما كما ترى أمّا مجازية استعماله فيما عدا تمليك الأعيان فظاهر المنع ، فإنّ استعماله في الأمثلة المتقدمة يكون بوزان واحد ، وليس في الصلح على الإبراء مثلا قرينة صارفة عن معناه الحقيقي ـ أي تمليك العين ـ الى معنى آخر. وأمّا اشتراكه اللفظي فكذلك واضح البطلان ، إذ المعهود بينهم هو انطباق الصلح بمفهومه الوحداني على تلك الموارد ، وإن كان مفيدا في كل مورد فائدة غير الفائدة المترتبة على مورد آخر.

(١) هذا إشارة إلى المورد الأوّل ، وهو يفيد فائدة البيع ، وإن لم يترتب عليه أحكامه الخاصة به ، فلا يثبت في هذا الصلح خيار المجلس.

كما أنّ قوله : «أو منفعة» إشارة إلى المورد الثاني ، وهو يفيد فائدة الإجارة.

ثم إنّ تصريحه بأعمّيّة المال من العين والمنفعة يوافق ما أفاده في أوّل كتاب البيع من كفاية كون الثمن منفعة متمولة ، ويخالف ما سيأتي منه في بحث المقبوض بالعقد الفاسد من التشكيك في صدق المال على المنافع.

(٢) هذا إشارة إلى المورد الثالث ، وهو : إفادة الصلح فائدة العارية وهي التسليط على العين للانتفاع بها. والفارق بين الانتفاع والمنفعة أن الانتفاع عرض قائم بالمستعير ، بخلاف المنفعة التي هي حيثية في نفس العين ذات المنفعة.

وهل تفيد العارية الإذن في الانتفاع من دون أن يتملّك المستعير شيئا ، أم تفيد الملك ، كما أنّ الإجارة تمليك المنفعة؟ وجهان ، ولا صراحة في عبارة المصنف قدس‌سره في واحد منهما.

ولعلّ قوله : «مجرد التسليط» أقرب الى إفادة الإباحة المالكية لا التمليك.

(٣) هذا إشارة إلى المورد الرابع ، وهو الصلح على الحقوق ، فإن كان الحقّ قابلا للإسقاط خاصة ترتّب على الصلح عليه سقوطه عمّن عليه الحق. وإن كان قابلا لكلّ من الإسقاط والنقل جاز الصلح على كلتا الحيثيتين. وأمّا الحق غير القابل للإسقاط كحق الولاية ونحوه

٢٣٧

وقد يتعلّق (١) بتقرير أمر بين المتصالحين ، كما في قول أحد الشريكين لصاحبه : «صالحتك على أن يكون الربح لك والخسران عليك» فيفيد مجرّد التقرير.

فلو كانت (٢) حقيقة الصلح هي عين كلّ من هذه المفادات الخمسة ، لزم كونه مشتركا لفظيّا ، وهو واضح البطلان (٣) ، فلم يبق إلّا أن يكون مفهومه معنى آخر (٤) ،

______________________________________________________

فلا يقبل الصلح عليه.

(١) هذا إشارة إلى المورد الخامس وهو الصلح على مقاولة بين شريكين لأجل تقريرها وتثبيتها ، والظاهر مشروعية هذا النوع من الصلح ، قال المحقق : «وإذا اصطلح الشريكان ، على أن يكون الربح والخسران على أحدهما ، وللآخر رأس ماله ، صحّ» (١).

ومستنده ـ مضافا الى إطلاق دليل الصلح ـ خصوص معتبرة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «في رجلين اشتركا في مال ، فربحا فيه ، وكان من المال دين ، وعليهما دين [وفي التهذيب : وكان من المال دين وعين] وقال لصاحبه : أعطني رأس المال ولك الربح وعليك التّوى ، فقال : لا بأس إذا اشترطا ، فإذا كان شرط يخالف كتاب الله فهو ردّ إلى كتاب الله عزوجل» (٢).

(٢) غرضه قدس‌سره الاستنتاج مما ذكره بقوله : «ويدلك على هذا» إلى هنا ، وأنّ الصلح لو استعمل في تلك الموارد حقيقة ـ بعد عدم وجود جامع بينها كالتمليك ـ لزم كونه مشتركا لفظيا ، والمقرر في محلّه بطلانه ، فهذا التالي الفاسد شاهد على نفى تعدّد الوضع ، فلا بدّ من فرض جامع بين الموارد وهو التسالم. وعليه يخرج التمليك ـ في الصلح على العين ـ عن حريم المفهوم ، وإنّما يقتضيه المتعلّق.

(٣) إذ لم يدّعه أحد ، وعدم ادّعائه يدلّ على عدم اشتراكه اللفظي ، مضافا إلى كونه خلاف الأصل.

(٤) يعني : غير التمليك والتسليط والإسقاط والتقرير ونحوها.

__________________

(١) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٢١

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٦٥ ، الباب ٤ من كتاب الصلح ، الحديث : ١

٢٣٨

وهو التسالم (*) ، فيفيد في كل موضع فائدة من الفوائد المذكورة بحسب ما يقتضيه متعلّقه. فالصلح (١) على العين بعوض تسالم عليه ، وهو (٢) يتضمّن التمليك ، لا أنّ مفهوم الصلح في خصوص هذا المقام (٣) وحقيقته

______________________________________________________

(١) هذه نتيجة نفي الاشتراك اللفظي ، وأنّ الصلح موضوع بنحو الاشتراك المعنوي لجامع التسالم والتراضي ، فيكون التسالم على كل شي‌ء بحسبه مقتضى متعلق الصلح ، ولا دخل لذلك الأثر المترتب عليه في مفهوم الصلح ومعناه.

(٢) أي : الصلح على العين يقتضي التمليك وإن لم يكن المنشأ تمليك عين بعوض. وقد عرفت أنّ المدار في صدق عنوان من العناوين الاعتبارية نفس المنشأ ، لا الخواص التي قد يشترك فيها عقدان أو أكثر.

(٣) وهو مقام نقض تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» بالصلح على عين بعوض ، فكما أنّ الصلح على الانتفاع ليس معناه التسليط بل معناه التسالم ، فكذا في الصلح على عين بعوض ، فليس مفهومه التمليك وإن ترتّب عليه لأجل خصوصيّة في متعلق التسالم.

__________________

(*) قد يشكل التفصي عن النقض ـ بجعل حقيقة الصلح تسالما على أمر ـ بما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من : أنّ التسالم من مقولة الالتزام ، وهو سنخ معنى لا يتعلق بالعين ، بل لا بدّ من تقدير الفعل المناسب كالحلية والحرمة المتعلقتين بالأعيان ، وعليه فلا معنى للتسالم على العين إلّا باعتبار فعل كالتمليك أو نتيجته كالملكية ، فالمنشأ حقيقة هو التسالم على مثل التمليك أو الإباحة ، لا التراضي المطلق حتى يخرج المتعلق عن حاق المفهوم ويصير فائدة له.

فالتسالم كالتنازع وإن تعلّقا ظاهرا بالأعيان ، إلّا أنّ المتسالم عليه لبّا والمتنازع فيه كذلك ليس هو نفس العين ، بل حيثية أخرى من حيثياتها ، كملك الرقبة أو المنفعة أو إباحة الانتفاع بها ، ونتيجة ذلك انتقاض تعريف البيع «بإنشاء التمليك» ونحوه بالصلح على العين بعوض ، كما ذكره الشهيد الثاني وصاحب الجواهر قدس‌سرهما إذ المنشأ هو التسالم على تمليكها لا التسالم المطلق حتى يكون متضمّنا للتمليك (١) ، هذا.

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٧.

٢٣٩

هو إنشاء التمليك (١).

ومن هنا (٢) لم يكن

______________________________________________________

(١) حتى ينتقض تعريف البيع بهذا المورد من موارد الصلح.

(٢) يعني : ومن عدم كون مفهوم الصلح ـ إذا تعلّق بعين على عوض ـ هو التمليك لم يكن طلب الصلح من المنكر إقرارا بصحة ما يدّعيه المدّعي ، وغرضه إقامة دليل ثالث على اختلاف البيع والصلح مفهوما ، وعدم كون الصلح تمليكا ، وتوضيحه : أنّهم ذكروا في كتاب الصلح : إذا تنازع زيد وعمرو على أرض ـ مثلا ـ فادّعى زيد ملكيّتها ، وأنكر عمرو ذلك ، فأرادا التصالح وفصل الخصومة ، أمكن ذلك بأحد نحوين :

الأوّل : أن يستدعي عمرو من زيد بيع الأرض أو تمليكها ، فيقول : «بعني الأرض أو ملّكنيها».

__________________

مضافا إلى : أنّ حقيقة الصلح لو كانت هي التسالم للزم جواز إنشاء الصلح بلفظ «سالمت» مقام «صالحت» كما تقدّم نظير هذا الاشكال من المصنف على بعض التعاريف ، ولم يظهر من الأصحاب جوازه ، وذلك يكشف عن عدم كون التسالم مرادفا للصلح ، وإلّا جاز إنشاؤه به.

فلعل الأولى أن يقال : إنّ الجامع بين موارد الصلح ـ بحيث ينطبق عليها ـ هو التجاوز ورفع اليد عن متعلق الصلح ، فمعنى قوله : «صالحتك عن الدار أو عن منفعتها أو عن الخيار أو غيره من الحقوق» هو رفع اليد والإعراض عنه.

أو يقال : إنّ الصلح في غير موارد التمليك أجنبي عن البيع ، فلا ينتقض به ، وفي موارد التمليك إذا كان ـ متعلّقا بالعين ـ كالصلح على الدار والدكّان وغيرهما من الأعيان بعوض ، فيمكن أن يقال : إنّه بيع حقيقة ، غاية الأمر أنّه إنشاء بغير لفظ البيع ، فلا يرد نقض.

نعم بناء على عدم جواز إنشاء البيع بلفظ آخر فالنقض وارد ، ودفعه منحصر بكون الصلح حقيقة في التجاوز ورفع اليد عما تعلّق به كما قيل.

٢٤٠