هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

وإلّا يبقى الإنشاء على مجرّد إنشائيّته المحفوظة مع الهزل والسخرية ، ويبقى الإخبار على صرف إخباريّته ، المجتمع مع الهزل والسخريّة وغيرهما.

ولا ينافي الإنشاء بهذا المعنى ما أفاده بعض مشايخنا الأساطين وسيدنا المحقق الخويي قدس‌سرهما من أن حقيقة الوضع هي التعهد والالتزام النفسي بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلّق به غرض المتكلم.

وجه عدم التنافي : أنّ بعض الهيئات كصيغة «افعل» وضعت لإيجاد أمر اعتباري وإيقاع المبدأ في وعاء الاعتبار على عهدة المخاطب ، كما أنّ بعض الهيئات كالجملة الاسمية وضعت لإبراز قصد الحكاية عن وقوع نسبة أو لا وقوعها ، فالمعنى المقصود تفهيمه في القسم الأوّل وهو إيجاد المعنى في وعاء الاعتبار ، وفي القسم الثاني هو الحكاية عن نسبة ثبوتية أو سلبية.

وأما غيرهما من الهيئات التي تطلق ويراد بها الإنشاء تارة والإخبار اخرى فالموضوع له فيها هو انتساب المبدإ إلى الفاعل ، وإرادة الإيجاد والحكاية منه منوطة بقرينة خارجية ، فتكون إرادة الإنشاء أو الإخبار حينئذ من باب تعدّد الدال والمدلول.

وبالجملة : فالموضوع له في الهيئات المختصة بالإخبار ـ كالفعل الماضي والمضارع والجملة الاسمية ـ هو الحكاية عن ثبوت النسبة أو نفيها. وفي الهيئات المختصة بالإنشاء كصيغة الأمر هو إيجاد الأمر الاعتباري في وعاء الاعتبار ، فالمعنى الموضوع له في هذين القسمين هو المقصود بالتفهيم ، وفي غيرهما تفهيم المقصود بالقرينة على المراد حتى لا يلزم المجاز في الكلمة.

والحاصل : أنّ الإخبار والإنشاء مفهومان متغايران ، لأنّ الأخبار هو الحكاية عن نسبة لها خارج تطابقه أو لا تطابقه ، والإنشاء عبارة عن إيجاد نسبة ملازم لعدم خارج لها ، بل حقيقتها هي تحققها بنفس الإنشاء الناشئ عن اللفظ. فإن كان الإنشاء بداعي الجدّ ترتّب عليه المنشأ بحكم العقل أو الشرع أو العرف أو الجميع ، حيث إنّ الإنشاء بهذا الداعي موضوع لحكم وموصوف بالموجدية ، دون الإنشاء الهزلي ، فإنّ داعي الهزل يجعل الإنشاء صوريّا وخارجا عمّا هو موضوع لاعتبار العقلاء أو الشارع.

وكذا الحال في الإخبار ، فإن كان الداعي الى الإخبار الجدّ يتصف بالمبرزية للواقع ، وإلّا

٢٠١

.................................................................................................

__________________

فيبقى على خبريّته المجتمع مع الهزل والسخريّة.

فالمتحصل مما ذكرنا : أنّ الإنشاء يوجد معناه إذا كان عن جدّ ، ولا ينافيه ما تقدم من معنى الوضع ، لأنّا ندّعي أنّ إيجاد الأمور الاعتبارية من المعاني المقصودة بالتفهيم ، فوضع الواضع هيئات خاصة لإيجادها ، كما أنّ حكاية النسبة ـ التي لها خارج ـ من المعاني المقصودة بالتفهيم ، فوضع لها هيئات خاصة كالجملة الاسمية. فدعوى إمكان إيجاد اللفظ للمعنى في الإنشاء غير مجازفة ، هذا.

هذا كله في الانتصار لما نسب الى المشهور من الإيجاد بمعنى التسبيب.

واستدلّ المحقق النائيني قدس‌سره على مقالته من كون ألفاظ المعاملات موجدة لتلك العناوين الاعتبارية على حدّ إيجاد الآلة لذي الآلة بما حاصله : أنّ العقود والإيقاعات ليست من باب الأسباب والمسببات وإن أطلق عليها ذلك ، بل إنّما هي من باب الإيجاد بالآلة.

والفرق بين الأسباب والمسببات وبين الإيجاد بالآلة هو : أنّ المسبّب لم يكن بنفسه فعلا اختياريا للفاعل بحيث تتعلق إرادته به أوّلا وبالذات ، بل الفعل الاختياري المتعلّق للإرادة هو السبب ، فيترتّب عليه المسبب قهرا. وهذا بخلاف باب الإيجاد بالآلة ، فإنّ ما يوجد بالآلة كالكتابة باستعانة القلم هو بنفسه فعل اختياري للفاعل ومتعلّق إرادته ، ويصدر عنه أوّلا وبالذات ، ضرورة أنّ الكتابة ليست إلّا عبارة عن حركة القلم على القرطاس بوضع مخصوص ، ومن المعلوم أنّها بنفسها فعل اختياري صادر عن المكلف أوّلا وبالذات ، بخلاف الإحراق ، حيث إنّ الصادر عن المكلّف هو الإلقاء في النار لا الإحراق.

وكذا الكلام في سائر ما يوجد بالآلة من آلات النجارة والصياغة والخياطة وغير ذلك ، فإنّ جميع ما يوجده النجّار مثلا يكون فعلا اختياريّا له ، والمنشار وغيره من آلات النّجارة آلة لإيجاده.

وباب العقود والإيقاعات كلها من هذا القبيل ، فإنّ هذه الألفاظ كلّها آلة لإيجاد الملكية والزوجية والفرقة وغير ذلك. وليس البيع مثلا مسبّبا توليديّا لهذه الألفاظ ، بل البيع بنفسه فعل اختياري للفاعل تتعلّق إرادته به أوّلا وبالذات ويكون إيجاده بيده (١).

__________________

(١) فوائد الأصول ، ج ١ ، ص ٨١

٢٠٢

.................................................................................................

__________________

وبهذا الوجه تخلّص المحقق النائيني قدس‌سره عن الإشكال الآتي بيانه في التمسك بإطلاق أدلة الإمضاء ـ لفظيا أو مقاميّا ـ من أنّ حلية معاملة كالبيع هل تقتضي حلية كل ما يتسبب به أم لا؟ وذلك لأنّ معنى صحة البيع ـ بناء على هذا المسلك ـ صحة إيجاده بكل ما يكون إيجادا له بنظر العرف. هذا.

وذهب شيخنا المحقق العراقي قدس‌سره الى أنّ المائز بين الإخبار والإنشاء ليس هو قصد الحكاية والإيجاد كما ذكروه ، بل كما أنّ بينهما جهة مشتركة وهي الدلالة على إيقاعية النسبة ـ خلافا للمركّبات الناقصة ـ فكذا يفترقان في أنّ المحكي في الجملة الخبرية مبدأ ثابت فارغا عن ثبوته ، وأنّ المحكي في الجملة الإنشائية إيقاع المبدأ ، الملازم لعدم وجود نسبة خارجية تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه. فإذا قال : «بعتك» إخبارا كان المتبادر منه إبراز نسبة ثابتة محفوظة في قبال كونه إنشاء ، إذ المتبادر منه إبراز نسبة إيقاعية أوجدها المستعمل في وعائها المناسب لها.

وحيث كانت الحكاية والإبراز عمّا في الضمير مأخوذة في استعمال الجملة في الإخبار تارة والإنشاء اخرى جرى فيهما قصد الجدّ والهزل ، ويكون قصد الإيجاد من أطوار الإنشاء لا مقوّما له ، وإلّا لزم لحاظ الإيجاد مرّتين لو قصد موجديّة الإنشاء لمضمونه ، وهو خلاف الوجدان (١).

وبهذا البيان يجاب عن بعض ما أورده القائل بالايجادية على هذا القول أعني به اشتراك الإنشاء والاخبار في جهة الإبراز والحكاية ، وافتراقهما في المبرز والمحكي.

ورتّب قدس‌سره على هذا المبنى كون الإنشاء في باب الأحكام التكليفية من وسائط إثبات الإرادة ، لأنّ قول المولى «صلّ» مثلا يدل على إيقاع المادة ـ أعني بها الصلاة ـ على المخاطب ، وهذه النسبة الإيقاعية من لوازم الطلب القائم بنفس المولى ، فيكون «صلّ» مبرزا لذلك الطلب الحقيقي ، ويترتب على هذا الإبراز الوجوب والبعث والتحريك ونحوها من العناوين ، فلا توجد هذه العناوين بنفس الإنشاء ، بل توجد بإبراز الطلب النفساني الذي يكون إبرازه منشأ لاعتبار عنوان الوجوب والبعث مثلا ، فالإنشاء واسطة في إثبات الوجوب ، لا واسطة ثبوتية له.

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٢٥ (الطبعة الحجرية) ، نهاية الأفكار ، ج ١ ، ص ٥٦ الى ٥٨

٢٠٣

.................................................................................................

__________________

وهذا بخلاف الإنشاء في باب العقود والإيقاعات ، فإنّه من الوسائط الثبوتية ، لمضامينها التي هي حقائق اعتبارية (١).

هذا كله في الفرق بين الإنشاء والإخبار ثبوتا. وأمّا في مقام الإثبات فحيث إن طبع هذه الجمل كان على الحكاية عن واقع ثابت فيحمل الكلام على الإخبار ، ويتوقف إرادة الإنشاء على قرينة صارفة عن الحكاية عن الواقع الثابت إلى إبراز الإيقاع الذي هو خروج النسبة من العدم الى الوجود (٢). هذا.

وذهب سيّدنا الخويي قدس‌سره الى هذا المسلك ببيان آخر ، محصّله : أنّ الإنشاء والإخبار يشتركان في كون كل منهما مبرزا لمقاصد المتكلم في مقام التفهيم ، ويستعمل اللفظ في كل منهما في معناه الموضوع له. ويفترقان في أنّ الجمل الإنشائية بما لها من الهيئات الخاصة وضعت لإبراز الأمور النفسانية سواء أكانت من الاعتباريّات كالملكية والزوجية والوجوب والحرمة وغيرها ، أم من الصفات كالتمني والترجّي ونحوهما ، ولمّا لم يكن في مواردها خارج ـ تطابقه النسبة الكلامية أو لا تطابقه ـ لا تتصف بالصدق والكذب ، بخلاف الجمل الخبرية ، فإنّ المعنى الموضوع له فيها ـ المبرز بها ـ لمّا كان عبارة عن قصد الحكاية ، وهو متصف بالصدق والكذب ـ اتصف بأحدهما لا محالة بالتبع.

فالفرق بين الخبر والإنشاء ليس من ناحية دواعي الاستعمال كما ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره ، بل من ناحية الوضع الذي هو التعهد والالتزام النفساني بجعل لفظ خاص أو هيئة خاصة مبرزا لقصد تفهيم أمر تعلق غرض المتكلم بتفهيمه.

وما اشتهر من أنّ «الإنشاء إيجاد المعنى باللفظ» ممنوع ، إذ الإيجاد إمّا تكويني كإيجاد الجواهر والأعراض ، وهو ضروري البطلان ، لعدم كون الألفاظ من سلسلة علل وجود الموجودات الخارجية ، بل لها علل ومعدّات أجنبية عن عالم الألفاظ. وإمّا اعتباري كايجاد الوجوب والحرمة والملكية والزوجية ونظائرها من الأمور الاعتبارية. وهو أيضا كذلك ،

__________________

(١) مقالات الأصول ، ج ١ ، ص ٢٦

(٢) نهاية الأفكار ، ج ١ ، ص ٥٨

٢٠٤

.................................................................................................

__________________

ضرورة كفاية نفس اعتبار المعتبر في وجودها في وعاء الاعتبار بلا حاجة الى اللفظ أصلا ، وإنّما اللفظ مبرز له وحاك عنه.

وعليه فالصحيح أنّ الإنشاء مبرز للاعتبار النفساني لا موجده.

هذا محصل ما أفاده قدس‌سره (١) في مواضع. وأضاف إليه في بعض كلماته : أنّ العناوين المعاملية ليست هي مجرد الأمور النفسانية الموجودة في أفق الاعتبار فحسب حتى يكون اللفظ مجرّد مبرز لها ، بل البيع مثلا لا يترتب عليه الأثر عرفا وشرعا إلّا بإبرازه ، فموضوع الأثر مجموع المبرز والمبرز. (٢) هذا.

ويمكن أن يورد على القول بالإبراز أوّلا : بأن الإبراز والكشف يستلزمان حصول المنشأ بكلّ ما يدلّ عليه ويبرزه ولو غير اللفظ من إشارة أو كتابة أو إلقاء حصاة أو فتح باب أو غير ذلك ، لأنّ هذا من لوازم العناوين المشيرة التي لا دخل لها في هويّة العناوين المحكية بها والمشار إليها. والالتزام بذلك كما ترى.

وأمّا ثانيا : فلاستلزام ذلك كون الإنشاءات بأسرها إخبارا ، لأنّها حاكية عمّا في النفس ، فإن كانت النسبة الكلامية مطابقة لما في النفس فهي صادقة ، وإلّا فهي كاذبة ، فتتصف بالصدق والكذب. وهذا خلاف ما اتفقت عليه كلمتهم من أنّ الإنشاء لا يتصف بالصدق والكذب ، وإنّما المتصف بهما هو الخبر فقط.

وأمّا ثالثا : فلاستلزامه كون الأحكام الشرعية هي الطلب والكراهة الحقيقيّين القائمين بالنفس اللّذين هما من الأمور الخارجية المباينة للأمور الاعتبارية.

وهذه الوجوه يمكن التفصّي عنها ـ أو عن بعضها ـ بما تقدم في كلامي شيخنا المحقق العراقي والسيد المحقق الخويي قدس‌سرهما.

وقد يفرض للقول بالإبراز وجه آخر غير ما أفاده العلمان ، ومحصله : أنّ إيجاد الأمر الاعتباري الشرعي أو العقلائي ليس بيد المنشئ ، وإنّما بيده إيجاد موضوع ذلك الأمر الاعتباري كالسفر والحضر ، فانّ المكلف لا يتمكّن من إيجاد حكمهما وهو وجوب القصر أو التمام ، لكنه يقدر على إيجاد موضوعهما أعني به السفر والحضر اللّذين هما موضوعا وجوب

__________________

(١) أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٢٦ و ٢٧

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٥٣

٢٠٥

.................................................................................................

__________________

القصر والتمام. والألفاظ لم توضع إلّا لتفهيم المقاصد وما في الضمائر ، وهذا من الأفعال الاختيارية ، فما بيد المتكلم هو إبراز ما في نفسه باللفظ سواء أكان صفة راسخة فيها كالشجاعة ، أم اعتبارا ـ كالملكية والزوجية والرقية ونحوها من الاعتبارات الشرعية أو العقلائية ، فإنّ إيجاد تلك الاعتبارات في وعاء الاعتبار بيد معتبرها من الشارع أو العقلاء.

وعليه فمقتضى عدم اختياريّة تلك الاعتبارات للمتكلم ، وكون الألفاظ مبرزة للمعاني المقصودة ـ حيث إنّ الغرض من وضع الألفاظ هو المبرزية والحكاية عن المقاصد ، على اختلافها في التفهيم من كونها حكاية عن نسبة لها خارج أو عن إيجاد نسبة ـ هو كون الإنشاء عبارة عن إبراز نسبة إيجادية ، فإن كان ما في النفس إيجاد نسبة بين الصلاة مثلا وبين المخاطب وإيقاع المادة عليه فيبرزه بقوله : «صلّ» أو كان ما في النفس ملكية دار معيّنة لزيد ، أو زوجية هند له ، فيبرزه بقوله : «بعت ، أو زوّجت» فإذا أبرز ما في النفس بألفاظ وضعت لإفهامها وإبرازها اعتبر العقلاء أو الشرع في عالم الاعتبار ذلك الاعتبار المقصود له الكامن في نفسه.

فالإخبار والإنشاء يشتركان في الإبراز عمّا في النفس كما هو الغرض من وضع الألفاظ ، ويفترقان في المبرز ، لأنّه في الإنشاء قصد إيجاد نسبة ، وفي الإخبار قصد الحكاية عن نسبة لها خارج تطابقه أو تخالفه ، فلذا يتصف الخبر بالصدق والكذب ، بخلاف الإنشاء ، لأنّه إيجاد نسبة كانت معدومة ، فليس لها خارج حتى يتصف بالصدق والكذب.

والحاصل : أنّ الأمرين المتقدمين ـ وهما : كون الألفاظ موضوعة لتفهيم المقاصد وما في الضمائر ، وكون الأمر غير الاختياري غير قابل للإيجاد ـ يقتضيان أن يكون موضوع الأمر الاعتباري بيد المتكلم ، لا نفس الاعتبار ، فإنّ ذلك من شأن معتبره من العقلاء أو الشرع. فالمتكلم حين تلفظه بقوله : «بعت» مثلا يبرز ما في نفسه من تبديل ماله بمال ، فيبرز هذا المقصود بلفظ «بعت» المستعمل فيما وضع له. وهذا الإبراز موضوع لحكم الشرع أو العقلاء بالملكية. وهكذا التزويج ونحوه. فالاختلاف بين الإنشاء والإخبار إنّما هو في الوضع ، لا في القصد كما عليه صاحب الكفاية ، ولا يرد عليه شي‌ء مما أسلفناه كما هو ظاهر بالتأمّل.

لكن هذا التقريب لا يخلو أيضا من تأمل ، فإنّ مصبّ النزاع في إيجادية الإنشاءات

٢٠٦

ولا يلزم (١) عليه شي‌ء ممّا تقدّم.

نعم (٢)

______________________________________________________

(١) أي : لا يرد على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» شي‌ء من الإشكالات المتقدمة على تعريفه بالانتقال أو بالعقد أو بالنقل بالصيغة ، نعم تبقى وجوه من المناقشة في التعريف المتقدم تعرّض المصنف قدس‌سره لجملة منها ، ونتعرض ـ بعدها ـ لجملة أخرى منها في التعليقة إن شاء الله تعالى.

مناقشات في التعريف المختار

(٢) استدارك على قوله : «لا يلزم» يعني : أنّ إشكالات سائر التعاريف وإن لم ترد على تعريف المتن ، لكن هنا وجوه اخرى ربما يتوهم ورودها عليه ، فلا بد من ذكرها وبيان سلامة التعريف منها.

وليعلم أنّ جملة من الوجوه ـ التي تعرّض المصنف لها ـ لا تختص بتعريفه ، بل يشترك فيها تعريف البيع بالعقد أو بالانتقال أو بالنقل ، فإنّ الشهيد الثاني قدس‌سره أورد بها على تعريف المحقق بالعقد كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

__________________

ومبرزيّتها هو فعل المنشئ ، سواء في إنشاء الشارع في مقام التشريع كاعتبار اللابدية والحرمان أو اعتبار البعث والزجر النسبيين ، أم في إنشاء العقلاء ، أم في إنشاء كل من له إنشاء ، وقد تحقق في محلّه ـ وسيأتي التنبيه عليه ـ أنّ الملكية ونحوها من الاعتباريات تكون بيد المنشئ سواء قلنا بالإيجاد أم بالإبراز ، وليس للعرف والشرع إلّا الاعتبار المماثل.

وعليه فلا وجه لجعل إنشاء المنشئ إبرازا وإمضائه عقلا وشرعا إيجادا له في وعاء الاعتبار ، بل إمّا أن يلتزم بالإيجاد في المراحل الثلاث وهي فعل المنشئ واعتبار العقلاء والشارع ، أو بالإبراز فيها.

هذا بعض الكلام في المسألة ، وتحقيقه موكول إلى علم الأصول.

والإنصاف أنّ المسألة لا تخلو من إعضال ، فكلّ على ما يختاره ثمة ، والله الهادي إلى الصواب.

٢٠٧

يبقى عليه (١) أمور :

منها (٢) : أنّه موقوف على جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» وإلّا (٣) لم يكن مرادفا له.

ويردّه (٤) : أنّه (٥) الحق كما سيجي‌ء (٦) (*).

______________________________________________________

(١) أي : على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال».

أ ـ توقف التعريف على جواز الإنشاء بالتمليك

(٢) هذا أوّل الإشكالات التي أوردها المصنف على تعريفه البيع بما ذكره ، ومحصله : أنّ هذا التعريف يتوقّف صحته على جواز إيجاب البيع بلفظ «ملّكت» ووجه التوقف واضح ، إذ المفروض تفسير ماهية البيع بالتمليك الإنشائي ، فلو لم يصح إنشاء البيع بلفظ التمليك امتنع تفسيره به ، لاحتمال كون حقيقته أمرا آخر غير التمليك. وعليه فصحة التعريف موقوفة على جواز إنشاء البيع بالتمليك ، فإن جاز إنشاؤه به صحّ تعريفه به ، وإلّا فلا.

(٣) أي : وإن لم يجز الإيجاب بلفظ «ملّكت» لم يكن التمليك مرادفا للبيع ، ولم يصح حينئذ تعريف البيع بإنشاء التمليك.

(٤) هذا جواب الإشكال الأوّل ، وحاصله : الالتزام بجواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» فلا محذور من هذه الناحية في تعريف البيع بإنشاء التمليك ، فالترادف ثابت بين المادّتين.

(٥) أي : أنّ جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» هو الحق.

(٦) سيأتي تصريحه بجواز الإنشاء بلفظ «ملّكت» في موضعين :

أحدهما : قوله في جواب الاشكال الخامس على تعريف البيع : «فلو قال : ملكتك كذا بكذا كان بيعا ، ولا يصح صلحا ولا هبة معوّضة وان قصداهما ..».

ثانيهما : في المقدمة المعقودة لألفاظ العقود ـ بعد تنبيهات المعاطاة ـ حيث قال : «ومنها : لفظ ـ ملّكت ـ بالتشديد».

__________________

(*) ظاهره تسليم الاشكال ، وأنّ تعريف البيع بالتمليك يلزمه جواز إنشائه به ، لكن

٢٠٨

.................................................................................................

__________________

يمكن منع الملازمة كمنع الترادف بينهما.

أمّا منع الملازمة بين تعريف العنوان المعاملي بمادة خاصة وجواز الإنشاء بها فلإمكان اعتبار الإنشاء بلفظ خاص ، وعدم الاكتفاء بمطلق ما يدلّ عليه ، فإنّ الطلاق الذي حقيقته البينونة بين الزوجين لا يتعين إنشاؤه بصيغة خاصة ، ولا يقع بلفظ البائن الصريح في المنشأ.

وعليه فالمهم في التعريف اتّحاد الحدّ والمحدود ذاتا واختلافهما بالإجمال والتفصيل ، فلا مانع من صحة تعريف البيع بالتمليك مع عدم جواز الإنشاء به.

إلّا أن يقال : إنّ مقتضى الترادف جواز إنشاء الطلاق بالبينونة أيضا لو لا التعبد الشرعي ، وحيث إنه لم يؤخذ في البيع خصوص لفظ «بعت» فلا بد من الالتزام بجواز إنشائه بالتمليك.

وأمّا منع الترادف فلأنّ مفهوم البيع هو التبديل لا التمليك. وما عن فخر المحققين قدس سره من «أن بعت في لغة العرب ملكت غيري» معارض بما عن الشهيد الثاني من «أنّ ـ ملّكت ـ يفيد معنى غير البيع».

نعم التمليك يلزم البيع غالبا ، ولذا جعله العلامة من الكنايات ، هذا أولا.

وثانيا : أنّ جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» على فرض ثبوته أعم من المرادفة ، إذ يمكن أن تكون دلالته على البيع مع قرينة ولو مقاميّة ، فالدلالة على البيع تكون من قبيل تعدد الدال والمدلول. فلعلّ التمليك بمنزلة الجنس للبيع أو من لوازمه ، والقرينة المقامية أو غيرها تدلّ على النوع وهو البيع. كما أنّ عدم جواز الإيجاب بلفظ «ملّكت» لا يدل على عدم الترادف بعد إمكان التعبّد في صيغ العقود ، فتدبّر.

وثالثا : أنّ التعريف لم يكن بلفظ التمليك حتى يتوجه عليه هذا الاشكال ، بل كان بإنشاء التمليك ، فالإشكال المتوجه عليه هو استلزامه جواز إنشاء التمليك ، وهو عين إشكال عدم قابلية الإنشاء للإنشاء ، حيث إنّ التبديل متضمن للإنشاء ، فيلزم إنشاء إنشاء الملكية.

٢٠٩

ومنها (١) :

______________________________________________________

ب ـ خروج بيع الدين عن الحدّ

(١) هذا ثاني الإشكالات التي أوردها المصنف قدس‌سره على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» وحاصله : عدم جامعية التعريف لأفراد البيع ، وذلك لأنّ مقتضى أخذ التمليك في حقيقة البيع هو صيرورة المشتري مالكا للمبيع ، كمالكية البائع للثمن ، فلو لم يترتب عليه مالكية المشتري له لم يكن بيعا ، ومن المعلوم عدم صدق التعريف على بيع الدين على المديون ، إذ لا يصير المشتري مالكا لمال على نفسه.

مثلا : لو كان زيد مديونا لعمرو بمنّ من الحنطة ، فباعه عمرو على زيد بدينار ، فإنّ المشتري لم يتملك شيئا في هذه المعاملة ، لعدم معقولية تملك الإنسان شيئا على عهدة نفسه ، وإذا امتنع التملك امتنع تمليك البائع إيّاه ، لتضايف التمليك والتملّك ، فلا يفيد بيع الدين تمليك الدين للمديون ، وإنّما يؤثّر في سقوط ما في ذمته.

وعليه فلازم عدم ترتّب انتقال الملك ـ في بيع الدين ـ هو عدم صحة إطلاق البيع عليه ، مع أنّ كون «بيع الدين» من أفراد البيع لعلّه مما لا خلاف في مشروعيّته وصحته في الجملة ، قال العلامة قدس‌سره : «قد بيّنّا أنه يجوز بيع الدين ، وهو مذهب علمائنا ، ولا فرق بين بيعه على من هو عليه أو على غيره» (١).

وفي الجواهر : «يجوز بيع الدين ـ بعد حلوله ـ على الذي هو عليه ، بلا خلاف فيه بيننا ولا إشكال ، بل وعلى غيره ، وفاقا للمشهور شهرة عظيمة كادت تكون إجماعا ، بل لعلها كذلك ، بعد انحصار الخلاف في الحلّي (٢) ، لوجود المقتضي وارتفاع المانع ..» (٣).

والحاصل : أنّ بيع الدين على الغريم بيع حقيقة ، مع أنّ أثره سقوط الدين ، ولا تمليك فيه.

__________________

(١) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٣٧٩

(٢) راجع السرائر ، ج ٢ ، ص ٣٨ الى ٤٠

(٣) جواهر الكلام ، ج ٢٤ ، ص ٣٤٤

٢١٠

أنّه (١) لا يشمل بيع الدين على من هو عليه (٢) ، لأنّ (٣) الإنسان لا يملك مالا على نفسه.

وفيه (٤) ـ مع ما

______________________________________________________

وهذا النقض يوجب بطلان تعريف البيع بإنشاء التمليك. بل لا بد من تعريفه بما ينطبق على بيع الدين ونحوه مما لا يترتب عليه تبديل إضافة الملكية.

ثم لا يخفى أنّ هذا النقض ـ لو تمّ في نفسه ـ لا يختص بتعريف المصنف ، بل يرد على التعاريف المتقدمة أيضا ، إذ كما لا يتملك المديون ما في ذمة نفسه ، فكذا لا ينتقل إليه شي‌ء ، وعليه فلا بد من علاج الاشكال على جميع التعاريف ، هذا.

(١) أي : أنّ هذا التعريف غير جامع لأفراد البيع.

(٢) تقييد بيع الدين ببيعه على خصوص المديون إنّما هو لأجل إفادته التمليك لو باع الدائن دينه للأجنبي ، فيصير المشتري مالكا للكلّي في ذمة المديون بدلا عن مالكية البائع له. وعلى هذا فإشكال عدم اطّراد التعريف مختص بما إذا كان المشتري للدين هو المديون ، لا الأجنبي.

(٣) محصل هذا التعليل : أنّ عنواني «المالك والمملوك عليه» متقابلان كتقابل عنواني «المسلّط والمسلّط عليه» ومن المستحيل اتحاد المتقابلين ، فإذا بني على جواز تملك المديون لما في ذمة نفسه لزم وحدة المتقابلين وهما المالك والمملوك عليه ، وهذا المحذور ألجأ بعضهم الى القول بأن بيع الدين على المديون يفيد السقوط لا الملك.

(٤) هذا جواب الإشكال الثاني على تعريف البيع ، وهو يرجع الى وجهين ، أحدهما : تقدّم في القسم الثاني من أقسام الحقوق ، وأضاف إليه هنا تنظيره بباب التهاتر ، وثانيهما : نقض على المستشكل ، وأنّ الإشكال لا يختص بتعريف البيع بإنشاء التمليك ، بل يرد على تعريفه بالنقل والانتقال أيضا ، فلا بدّ من علاجه على جميع التعاريف.

هذا إجمال الوجهين.

أمّا توضيح الوجه الأوّل فهو : أنّه لا مانع من تعريف البيع ب «إنشاء التمليك» وترتب الملكيّة عليه في جميع الموارد حتى في بيع الدين على المديون ، ولا منافاة بين مالكية المديون لما

٢١١

.................................................................................................

______________________________________________________

في عهدة نفسه وبين سقوطه عنه ، لأنّ الممتنع هو تملك الإنسان لمال على نفسه حدوثا وبقاء ، وأمّا تملّكه له حدوثا فقط ثم سقوط المال عن ذمته فليس بممتنع. فالمقام ـ من حيث التملك آنا ما ثم السقوط ـ نظير أن يكون زيد مديونا لعمرو دينارا ، واشترى عمرو منه متاعا بدينار كلّي في ذمته ، فإنّ الدينارين يسقطان عن كلتا الذمّتين بالتهاتر.

وعليه فلم ينتقض تعريف المصنف ببيع الدين أصلا ، لفرض دخول المبيع الكلّي في ملك المديون آنا ما ، وهذا المقدار كاف في صحة البيع ، ولا يعتبر فيه تأثيره في بقاء المبيع على ملك المشتري.

وأمّا توضيح الوجه الثاني فهو : أنّ إشكال عدم جامعية التعريف لأفراد المعرّف لا يختص بما إذا كان البيع بمعنى التمليك ، بل هو مشترك الورود على تعريفه بالانتقال أو بالنقل أو بالعقد الدال على أحدهما ، إذ لو كانت نتيجة بيع الدين على من هو عليه مجرّد فراغ الذمة لا التملّك كان تعريفه بالنقل والانتقال منتقضا أيضا ببيع الدين ، لفرض عدم انتقال شي‌ء إلى المديون.

وعليه فلا وجه لإيراد هذا المحذور على خصوص تعريف المصنف قدس‌سره بل اللازم ـ على من عرّفه بالنقل وشبهه ـ التفصّي عن هذا الاشكال ، وتصحيح بيع الدين على المديون على كلّ حال ، سواء أكان البيع هو التمليك ، كما عن فخر المحققين ، حيث قال فيما حكي عنه : «انّ بعت في لغة العرب بمعنى ملّكت غيري» (١) أم هو المبادلة أم النقل ، لأنّ عدم معقولية مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه يوجب عدم معقولية البيع ، الذي هو عبارة في العرف واللغة عن المبادلة والنقل والتمليك وما يساويها من الألفاظ.

والحاصل : أنّ استحالة تملك الشخص لما في ذمته يوجب عدم معقولية بيع الدين مطلقا حتى لو عرّفنا البيع بالمبادلة والنقل ، مع أنّ من عرّفه بالانتقال ـ كشيخ الطائفة والعلامة وغيرهما ، أو بالعقد الدال على نقل الملك كما في الشرائع ـ صرّح بجواز بيع الدين ممّن هو عليه ،

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٢

٢١٢

عرفت (١) وستعرف (٢) من تعقل تملك ما على نفسه ، ورجوعه (٣) إلى سقوطه عنه (٤) ، نظير (٥) تملك ما هو مساو لما في ذمته وسقوطه (٦) بالتهاتر ـ أنّه (٧) لو لم يعقل التمليك لم يعقل البيع ، إذ ليس للبيع لغة وعرفا معنى غير المبادلة والنقل والتمليك

______________________________________________________

كما تقدم في عبارة المختلف والجواهر.

(١) يعني : في القسم الثاني من الحقوق ، حيث قال : «لأنّه لا مانع من كونه تمليكا فيسقط .. والحاصل : أنه يعقل أن يكون مالكا لما في ذمته ، فيؤثّر تمليكه السقوط».

(٢) يعني : بعد أسطر ، حيث يقول : «فإذا لم يعقل ملكية ما في ذمة نفسه ، لم يعقل شي‌ء مما يساويها .. إلخ».

(٣) أي : ورجوع التملّك ، يعني : أنّ مآل تملك الإنسان لما في ذمة نفسه هو سقوط الدين الذي كان في ذمته.

(٤) أي : سقوط ما على عهدته عن نفسه.

(٥) كالمثال المتقدم آنفا من كون زيد مديونا لعمرو دينارا ، ثم شراء عمرو من زيد متاعا بدينار كلّي نسيئة ، إذ يتساقط الديناران عن الذمتين قهرا.

وغرضه من هذا التنظير رفع الاستبعاد عن سقوط ما في الذمة قهرا بدون الإسقاط في بيع الدّين على المديون ، وأنّ السقوط يترتب على مالكية المديون لما في ذمته آنا ما. وليس الغرض من هذا التنظير ما أفاده بعض المحشين من «مجرّد رفع الاستبعاد عن سقوط ما في الذمة قهرا بدون الاسقاط» (١) بل المقصود إثبات مالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما أيضا حتى يتجه بيع الدين من المديون.

(٦) أي : سقوط ما في ذمة المديون بسبب التهاتر القهري.

(٧) هذا وبعده مرفوع محلّا لكونه مبتدأ مؤخرا لقوله : «وفيه» وهذا إشارة إلى الوجه الثاني مما أجاب به عن الاشكال ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «وأما توضيح الوجه الثاني فهو .. إلخ».

__________________

(١) هداية الطالب إلى أسرار المكاسب ، ص ١٥٢

٢١٣

وما يساويها من الألفاظ ، ولذا قال (١) فخر الدين : «ان معنى بعت في لغة العرب ملّكت غيري» فإذا لم يعقل ملكية ما في ذمة نفسه لم يعقل شي‌ء ممّا يساويها ، فلا يعقل البيع (٢).

______________________________________________________

(١) مقصوده قدس‌سره جعل كلام فخر المحققين قدس‌سره شاهدا على أنّ معنى البيع في اللغة والعرف هو التمليك ، فإذا لم يتحقق «تمليك الغير» في مثل بيع الدين من جهة استحالة تملك الإنسان لما في ذمة نفسه لم يعقل النقل والمبادلة أيضا ، لاتحاد هذه العناوين مفهوما ، وحيث إنّ القائلين بأن البيع هو الانتقال أو العقد أو المبادلة صرّحوا بصحة بيع الدين ، فلا بدّ من صحته بناء على كونه التمليك أيضا. وينحلّ الاشكال بحصول النقل والملك والمبادلة آنا ما ، ثم يسقط الدين عن المديون.

(٢) مع أن البيع بمعنى النقل والانتقال معقول في بيع الدين ، فليكن معقولا بناء على تعريفه بالتمليك (*).

__________________

(*) ما أفاده قدس‌سره في بيع الدين من تصحيحه بالالتزام بالملكية آنا ما ومن تنظيره بالتهاتر لا يخلو من تأمل.

أمّا تأثيره في الملكية ثم سقوط الدين عن المديون ففيه : أنّ السقوط إن كان معلولا لمالكية الإنسان لما في ذمة نفسه فمن المعلوم عدم معقولية تأثير الشي‌ء في عدم نفسه. وإن كان للغوية بقاء الملكية فمانع البقاء مانع الحدوث أيضا ، إذ لو لم يكن مانع عن التمليك فلم يسقط ، وإن كان مانع عنه فلم يثبت.

وبالجملة : محذور استحالة اجتماع المتقابلين كما يمنع من البقاء كذلك يمنع من الحدوث ، نعم لو كان المانع شرعيا كما في مالكية العمودين تعيّن الالتزام بالملكية الآنامائية جمعا بين الأدلة.

إلّا أن يقال : بأجنبية المقام عن المحذور العقلي ، إذ حكم العقلاء بالسقوط كحكمهم بالملكية اعتباري لا حقيقي ، ولو لأجل لغوية اعتبار مالكية الشخص لما على عهدة نفسه ،

٢١٤

.................................................................................................

__________________

وهذا المقدار لا يزاحم الإجماع على جواز بيع الدين على من هو عليه ، فيلتزم بالملكية الآنية.

ولكنّك خبير بأنّ منشأ الاشكال أخذ التمليك في البيع ، فلو نوقش فيه ـ كما تقدم في جعل إسقاط الحق عوضا ـ لم تكن منافاة بين صحة بيع الدين وتأثيره السقوط من أوّل الأمر بعد المناقشة في اعتبار التمليك في البيع ، فيكون نفس سقوط الدين عوضا من دون حاجة الى اعتبار سبق ملكية الدين للمديون في سقوطه عنه.

وأمّا تنظيره بالتهاتر فيمكن منعه أوّلا : بالفرق بين البابين ، بأنّه في بيع الدين تتّحد الذمة المالكة والمملوكة ، ولا بدّ حينئذ من الالتزام بالسقوط ، وإلّا يلزم كون الإنسان مديونا لنفسه ، وذا حقّ المطالبة على نفسه. بخلاف باب التهاتر ، لتعدد الذمة فيه ، وإنّما أوجبت المماثلة بين ما عليهما براءتهما.

وثانيا : بأنّ التهاتر ـ فيما إذا أتلف الدائن مماثلا لما له في عهدة المديون ـ وإن كان مشهورا بين الفقهاء ، لكن يمكن منعه بصيرورة كل منهما مديونا للآخر ، ويتوقف براءة الذمة على الصلح أو الإبراء كما ذهب إليه المحقق الأردبيلي قدس‌سره حيث قال معلّقا على كلام العلامة : «ومن عليه حقّ ، وله مثله تساقطا ، وإن كان مخالفا افتقر إلى التراضي» ما لفظه : «لعلّ دليله ما يظهر أنّ الحقّين متساويان من غير فرق ومرجّح ، فيبرء ذمة كل واحد بما له في ذمة الآخر ، ولا يظهر دليل آخر.

وينبغي التراضي ، لأن شغل الذمة معلوم ، ولا تحصل البراءة إلّا به شرعا ، إذ لكلّ حقّ يمكن أن يكون له طلبه واستيفاؤه ، ولا يمنع من ذلك حقّه في ذمته ، كما في الحدود والتعزيرات. ولا شك أنّ الأحوط هو التراضي من الجانبين بالإبراء والصلح ونحوهما ، كما إذا كان مخالفا ..» (١).

وهو في غاية المتانة ، إذ لا دليل على أن مجرد المماثلة بين ما في الذمتين يكون مسقطا قهريّا ، خصوصا مع تنظيره بباب الحدود والتعزيرات ، كما لو قذف شخصان كل منهما الآخر ، فإنّ اشتغال الذمة قطعي ، ومجرّد المماثلة لا يسقط الحد ولا الاستحلال ، فليكن كذلك في

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ، ج ٩ ، ص ٩٩

٢١٥

.................................................................................................

__________________

الحقوق المالية. هذا.

ومنه يظهر غموض الوجه الثاني أيضا ، فإنّه التزام بالإشكال لا جواب عنه ، إذ لا مناص ـ من محذور استحالة ملك الشخص لما في ذمته ـ بجعل البيع نقلا أو مبادلة بناء على إرادة التبديل في إضافة الملكية أو في طرفي الإضافة. فالإشكال كلّه ينشأ من تخصيص البيع بالتمليك ، فمع إنكار إطلاقه لا مانع من صحة بيع الدين على من هو عليه وإن كان فائدته السقوط لا الملك حتى آنا ما.

إلّا أن يشكل صدق البيع عليه من جهة اعتبار عينية المبيع ، المختصة بالعين الخارجية والكلّية الذمية التي يترقّب وجودها خارجا كالمبيع سلفا. وأمّا الدين فحيث إنه يمتنع وجوده ببيعه على من هو عليه فلا يصح ، فتأمل.

وعليه فلا بد من أن يكون حقيقته الإبراء بالعوض ، وإطلاق البيع عليه لا يخلو من مسامحة. وصحته بعنوان البيع وإن كان إجماعيا كما ادعاه الحلي والعلامة وغيرهما ، إلّا أنّه محتمل الاستناد إلى إطلاق الأدلة وخصوص ما ورد في نصوص بيع الدين بأقلّ منه ، ولا مناص إمّا من التوسعة في مفهوم البيع ، وإمّا من إرادة جواز أخذ الدائن مالا من غريمه بإزاء إبراء ذمته عن الدين.

كما يمكن تصحيحه بجعله من باب الهبة المشروطة ، بأن يهب المديون شيئا للدائن على أن يبرئ ذمّته ، ويكون عوض الهبة نفس الإبراء الذي هو فعل يبذل بإزائه المال كإسقاط الحق.

ولا يخفى أن للمحقق النائيني قدس‌سره كلاما في الجواب عن النقض المزبور لا بأس بنقله ، قال المقرر : «فالصواب أن يقال : بيع الدين على من هو عليه وإن كان صحيحا ، إلّا أن البيع لم يقع على ما في الذمة بقيد كونه في الذمة ، فيكون من قبيل مالكية الشخص لما في ذمته ، وذلك لأنّه بهذا القيد لا يمكن تحققه في الخارج. ولا شبهة أنّه يعتبر في المبيع أن يكون من الأعيان الخارجية ، بل يقع البيع على الكلي وهو منّ من الحنطة مثلا ، فيصير المشتري ـ أعني المديون ـ مالكا لذلك الكلي على البائع وحيث إنّ البائع كان مالكا لمنّ من الحنطة على ذمة المديون

٢١٦

.................................................................................................

__________________

ـ وهو المشتري ـ فينطبق ما على البائع على ما كان له على المديون المشتري ، فيوجب سقوط ذمة كليهما. وهذا وإن لم يكن من التهاتر حقيقة ، إلّا أنّه أشبه شي‌ء به» (١).

وملخّصه : أنّ بيع الدين تارة يقع على نفس ما في ذمة المديون ـ بوصف كونه ما في الذمة ـ وهو باطل ، لأنّه بهذا القيد لا يصلح للوجود الخارجي. واخرى يقع على كليّ في ذمة البائع مماثل لما في ذمة المشتري وهو المديون. ولمّا كان المبيع منطبقا على ما على المشتري من الدين صار هذا الانطباق منشأ لسقوط ما في ذمة البائع والمشتري. ففي الحقيقة بيع الدين من المديون ليس بيعا لنفس الدين ، بل لما ينطبق على الدين. هذا.

وفي كلامه مواقع للنظر :

منها : قوله : «إلّا أن البيع لم يقع على ما في الذمة بقيد كونه في الذمة» إذ فيه : أنه لا وجه لهذا الاستثناء بعد وضوح كون الذمة ظرفا للمبيع ، إذ لو لم يضف الكلي إلى ذمة شخص لا يتعلق به إضافة الملكية ، وليست الذمة قيدا له ، فإنّ الالتزام بصحة البيع موقوف على عدم قيدية الذمة للمبيع ، وإلّا لم يكن المبيع حينئذ مالا حتى يبذل بإزائه المال ، فيختل أحد أركان البيع وهو مالية المبيع.

فالأولى تعليل عدم جواز بيع الدين على المديون بعدم المالية. بل يتجه حينئذ عدم جواز بيعه مطلقا ولو من غير المديون ، لسقوطه عن المالية بسبب تقيده بذمة المديون المانع عن صلاحية الانطباق على الخارجيات ، فعدم تقيده بالذمة مقوّم للمالية ، وليس شرطا لبيعه من خصوص المديون.

والحاصل : أنّه لا وجه للاستثناء المزبور ، إذ التقييد بعدم الذمة شرط لمالية الكلي الذمي سواء قلنا بجواز بيع الدين على من هو عليه ، أم لم نقل.

نعم إن كان الإشكال في بيع الدين من المديون من جهة المالية كان للاستثناء المزبور وجه ، فتدبّر.

__________________

(١) منية الطالب ، ج ١ ، ص ٤٣

٢١٧

.................................................................................................

__________________

ومنها : قوله : «ليكون من قبيل مالكية الشخص لما في ذمته» إذ فيه : أنّه موهم بل ظاهر في أن ما في الذمة ـ بقيد كونه في الذمة ـ مملوك للشخص ، وحينئذ لا يمكن بيعه من أحد ، إذ مع هذا القيد يمتنع وجوده في الخارج. وكذا سائر المعاملات ، مع أنّ المعاملات الذمية في غاية الكثرة.

وبالجملة : لا مجال لتوهم مالكية الشخص لما في ذمته مقيّدا بكونه في الذمة ، إذ لا يصلح حينئذ للمعاوضة عليه أصلا ، بل الذمة ظرف للكلّي.

ومنها : قوله : «ولا شبهة أنّه يعتبر في المبيع أن يكون من الأعيان الخارجية». إذ فيه : أنّه لا يعتبر الوجود الخارجي الفعلي في المبيع قطعا ، بل المعتبر فيه هو إمكان وجوده في موطن استحقاق المشتري له ، إذ لو كان وجوده الخارجي الفعلي معتبرا فيه لانسدّ باب بيع الذمي رأسا ، وهو كما ترى. ولعلّ مقصوده من عينية المبيع الخارجي هو قابلية الوجود لا فعليته ، فيرتفع الاشكال.

ومنها : قوله : «بل يقع البيع على الكلي .. إلخ» إذ فيه : أنّ هذا ليس من بيع الدين على من هو عليه في شي‌ء ، ضرورة أنّ المبيع هو الكلي الذي ظرفه ذمة البائع لا ذمة المديون والمفروض أنّ المبيع في «بيع الدين من المديون» هو نفس ذلك الدين ، لا شي‌ء آخر ينطبق على الدين حتى يسقط عن ذمة المديون بسبب انطباق كلّيّ آخر عليه ، فإنّه خارج عن مورد النقض المذكور في المتن أعني به بيع الدين على من هو عليه.

والحاصل : أنّ الكلام في بيع نفس ما في ذمة المديون ، وأنّه كما يجوز بيعه من أجنبي بلا إشكال ، كذلك يجوز بيعه من نفس المديون.

وأمّا جعل المبيع كلّيا في ذمة البائع الدائن قابلا للانطباق على ما في ذمة المديون فهو خارج عن بيع الدين الثابت على المديون كما لا يخفى. فكلام المحقق النائيني قدس‌سره ليس جوابا عن نقض تعريف البيع ببيع الدين من المديون ، فتدبّر.

٢١٨

ومنها (١) أنه يشمل التمليك بالمعاطاة (٢) ، مع (٣) حكم المشهور (٤) بل (٥) دعوى الإجماع على أنّها ليست بيعا.

______________________________________________________

ج ـ انتقاض التعريف بالمعاطاة

(١) أي : ومن الأمور الباقية على تعريف البيع ب «إنشاء تمليك عين بمال» عدم كونه مانعا عمّا لا يفيد التمليك ، فينتقض بالمعاطاة ، فإنّها وإن كانت تمليكا فعليا فاقدا للصيغة المعتبرة في العقود اللازمة ، إلّا أنّه يصدق عليها «إنشاء تمليك عين بمال» كالبيع القولي ، فإنّ كل واحد من المتعاطيين يدفع ماله الى الآخر بقصد التمليك. مع أنّ المشهور ـ بل المجمع عليه ـ عدم كون المعاطاة بيعا ، فيلزم أن يكون تعريف المصنف للبيع غير مانع عن دخول ما ليس من أفراد البيع في البيع.

(٢) لعلّ تعبيره بالتمليك بالمعاطاة دون «يشمل المعاطاة» لأجل التنبيه على أنّ المعاطاة ـ كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ـ قد يقصد بها إباحة التصرف ، وقد يقصد بها التمليك. ومن المعلوم أن انتقاض تعريف البيع إنّما هو بالمعاطاة المقصود بها التمليك دون ما يقصد بها الإباحة ، لخروجها موضوعا عن تعريف البيع ، لفرض بقاء المالين على ملك المتعاطيين كما كانا قبل التعاطي.

(٣) هذا هو منشأ ورود الإشكال الثالث على التعريف ، ومحصله : ذهاب مشهور الفقهاء إلى نفي بيعية المعاطاة المقصود بها التمليك ، لتوقف العقود اللازمة على اللفظ ، والمعاطاة فاقدة للصيغة ، فليست بيعا ، مع أنّها إنشاء فعليّ لتمليك عين بمال ، فلو عرّف المصنف البيع بقوله : «إنشاء تمليك عين بمال بالصيغة» كان سليما عن نقضه بالمعاطاة.

(٤) قال السيد الفقيه العاملي : «وفي الميسية : أن المشهور بين الأصحاب أنّها ليست بيعا محضا» (١).

(٥) غرضه تقوية الاشكال والإضراب عن قيام مجرّد الشهرة على نفي بيعية المعاطاة ، حتى يقال بكفاية كونها بيعا عند بعض الفقهاء ، فلا ينتقض التعريف حينئذ بها.

__________________

(١) مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٥٤

٢١٩

وفيه (١) :

______________________________________________________

ومحصل الإضراب : انعقاد الإجماع على عدم كون المعاطاة بيعا ، قال السيد ابن زهرة : «إنّها ليست ببيع ، وإنّما هي إباحة للتصرف. يدل عليه الإجماع المشار إليه .. إلخ» (١). وقال الشهيد الثاني معلّقا على كلام المحقق : «ولا يكفي التقابض من غير لفظ» ما لفظه : «هذا هو المشهور بين الأصحاب ، بل كان يكون إجماعا ..» (٢).

(١) هذا جواب الاشكال الثالث ، وتوضيحه : أنّ النقض بالمعاطاة غير وارد ، لأنّ المحدود هو البيع بالمعنى الأعم الشامل للصحيح والفاسد ، ومن المعلوم أنّ المعاطاة ـ المقصود بها التمليك ـ بيع عرفا ، ونفي بيعيتها في بعض العبائر راجع إلى حكمها أي عدم ترتب أثر البيع اللفظي على مجرد التعاطي ، وهذا نظير بيع ما لا يملك شرعا ـ كالخمر ـ بالصيغة ، فإنّه لا يؤثّر في الملكية وإن صدق عليه عرفا حدّ البيع.

وبعبارة اخرى : إن كان مورد النفي بيعية المعاطاة كان للنقض المزبور مجال ، إذ المفروض وجود «إنشاء التمليك» في المعاطاة مع عدم كونها بيعا. وإن كان مصبّ النفي حكم المعاطاة من الصحة أو اللزوم لم يبق مورد للنقض المذكور ، إذ المفروض صدق البيع على المعاطاة وإن كانت بيعا باطلا. وعلى هذا فنفي بيعيّتها ـ الذي هو المشهور أو المجمع عليه ـ يرجع إلى نفي الحكم أعني الصحة ، لا الموضوع ، وورود النقض يتوقف على كون مورد النفي هو الموضوع أعني البيعية ، لا الحكم.

والشاهد على أنّ مراد النافين نفي الحكم لا الموضوع ـ بعد بداهة صدق مفهوم البيع لغة وعرفا على المعاطاة المقصود بها التمليك ـ أنّ الإجماع لا بدّ أن ينعقد على حكم شرعي ، لا على ثبوت موضوع عرفي أو نفيه. وعليه فلا محيص عن كون معقد الإجماع على النفي هو الحكم الشرعي من صحة المعاطاة أو لزومها.

__________________

(١) غنية النزوع في الأصول والفروع ، ص ٥٢٤

(٢) مسالك الأفهام ، ج ٣ ، ص ١٤٧ ، ونحوه كلامه في الروضة ، ج ٣ ، ص ٢٢٢

٢٢٠