هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

كما سنوضّحه (١) إن شاء الله ، إلّا (٢) أن الفقهاء قد اختلفوا في تعريفه.

ففي المبسوط والتذكرة وغيرهما (٣) : «انتقال عين (٤) من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي» (١). وحيث إنّ في هذا التعريف مسامحة واضحة (٥)

______________________________________________________

(١) أي : في خلال كلامه المتعلق بتعريفات القوم ، خصوصا ما يتعلق بكلام الشهيدين ، فانتظر.

(٢) هذا كالاستدراك على قوله : «باق على معناه العرفي» حيث إنّ مقتضى نفي الحقيقة الشرعية وبقاء «البيع» على مفهومه العرفي هو عدم اختلاف الفقهاء في تعريفه ، واقتصارهم على ما يتفاهم منه عند العرف العام ، لكنّهم اختلفوا في تحديده على عناوين شتّى ، وربّما أوجب ذلك إجمال المفهوم. إلّا أنّ مقصودهم بيان المعنى العرفي ، والإشارة الإجمالية إليه ، وليس اختلافهم في حقيقة البيع وماهيّته.

(٣) كالسرائر والتحرير والقواعد والنهاية (٢) وقد نقلنا بعض كلماتهم للاستشهاد بها على اعتبار كون المبيع عينا ، فراجع ص ٣٤.

(٤) الموجود في الكتب المذكورة «انتقال عين مملوكة» والأمر سهل.

(٥) الوجه في وضوح المسامحة ـ كما عن مصابيح العلّامة الطباطبائي قدس‌سره ـ وجوه ثلاثة : «أحدها : أن البيع فعل ، فلا يكون انتقالا ، لأنّه انفعال. ثانيها : أن الانتقال أثر البيع وغايته المسببة عنه ، لا نفسه. ثالثها : أن تعريفه بالانتقال لا يوافق تصاريف البيع ، إذ لا يراد من لفظ

__________________

وببيان آخر : ان العقد محصّل للبيع العرفي وسبب له.

أو يقال : ان هذا تعريف لعقد البيع لا لنفسه ، فلا يكون التعريف بالإيجاب والقبول معنى آخر للبيع ، فالحقيقة المتشرّعيّة غير ثابتة فيه.

__________________

(١) المبسوط في فقه الإمامية ، ج ٢ ، ص ٧٦ ، تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢.

(٢) السرائر الحاوي ، ج ٢ ، ص ٢٤٠ ، قواعد الأحكام ، ص ٤٧ ، نهاية الأحكام ، ج ٢ ، ص ٤٤٧ تحرير الأحكام ، ج ١ ، ص ١٦٤.

١٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

ـ بعت ـ انتقلت ، وكذا سائر تصاريفه» انتهى ملخّصا.

والوجه الأوّل ناظر إلى امتناع تفسير المباين بالمباين ، لتقابل المقولات وعدم صدق بعضها على الآخر ، وعليه لا وجه لتفسير «البيع» ـ الذي هو فعل ـ بالانتقال الذي هو افتعال ، وهو هنا الانفعال (*).

والوجه الثاني ناظر إلى امتناع تفسير الشي‌ء بعلّته الغائيّة ، كتعريف السرير بالجلوس عليه. وجه الامتناع : أن غاية الشي‌ء مباينة للشي‌ء ، فلا وجه لتعريف البيع بالانتقال ، كما أنّ الأثر لازم للمؤثّر ، واللازم غير الملزوم ، فلا يعرّف أحدهما بالآخر.

__________________

(*) يمكن منعه بما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من أجنبية المقام عن تعريف مقولة الفعل بمقولة الانفعال ، وذلك لأن الفعل المقولي هو ما له حالة التأثير التجددي في الشي‌ء كتأثير النار في سخونة الماء ، والانفعال المقولي هو ما له حالة التأثر التجددي كالماء المتأثر تدريجا بحرارة النار. وليس كل فعل خارجي ـ فضلا عن النقل الاعتباري ـ مصداقا لمقولة «أن يفعل» حتى يندرج تفسير البيع ـ الذي هو نقل ـ بالانتقال في التعريف بالمباين (١).

كما يمكن منع كون الانتقال أثرا للبيع بما سيأتي تفصيله فيما يتعلق بكلام المحقق صاحب المقابس قدس‌سره من أن النسبة بين النقل والانتقال هل هي كالإيجاد والوجود أم كالإيجاب والوجوب.

فإن أريد من الانتقال حكم الشارع به إمضاء لما أنشأه المتبايعان كان أثرا للعقد. وإن أريد به الانتقال في نظر البائع ـ وهو موضوع الإمضاء ـ فهو لا ينفك عن النقل في نظره حتى يكون أثرا له.

والحاصل : أن التعريف بالنقل أو الانتقال ناظر إلى نفس المعنى الحدثي ، لا المادة المنتسبة إلى البائع أو الى المبيع حتى يتعيّن تعريفه بالنقل بلحاظ حيثية صدوره ، لا الانتقال

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٤.

١٨٢

عدل آخرون (١) إلى تعريفه «بالإيجاب والقبول الدّالّين على الانتقال» (٢).

______________________________________________________

والوجه الثالث ناظر إلى بطلان التعريف بالانتقال ، لأنّ قاعدة «لزوم توافق المشتق والمشتق منه في المعنى الكلّي الساري في المشتقات» تقتضي وحدة مدلولي «بعت وانتقلت» لو كان البيع هو الانتقال.

هذا مضافا الى مسامحتين أخريين :

إحداهما : توصيف «العين» بالمملوكة ، لعدم اشتراط صحة البيع بكون المبيع مملوكا ، وإلّا لم يصح بيع الوقف والزكاة ، مع أنّه لا ريب في صدق البيع العرفي عليه.

ثانيتهما : انّ الانتقال صفة العوضين ، والبيع كالتمليك والتبديل ونحوهما ممّا يقوم بالبائع ، فجعل الانتقال قائما بالبائع مسامحة ، لأنّه من قبيل الوصف باعتبار المتعلق.

(١) كابن حمزة والعلامة في خصوص كتابه «المختلف» حيث قال في تعريفه بعد نقل تعريف المبسوط : «وقال ابن حمزة : البيع عقد على انتقال عين مملوكة ـ أو ما في حكمها ـ من شخص إلى غيره بقدر معيّن على وجه التراضي (١). والأقرب قول ابن حمزة ، لنا : انه المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق ، فيكون حقيقة فيه» (٢).

(٢) أي : انتقال عين مملوكة أو ما في حكمها من شخص الى غيره بقدر معيّن على وجه التراضي ، ولم يذكر المصنف قدس‌سره تمام التعريف اتّكالا على وضوحه ، ولأنّ مقصوده الإشارة إلى تعريف البيع بالعقد في قبال تعريفه بالانتقال.

__________________

الذي يوصف به المبيع.

إلّا أن يقال : ان تكثير القيود في تعريفاتهم ـ ككون العين مملوكة ، والعوض معلوما ، واشتراط الرضا ـ شاهد على إرادة الانتقال الشرعي الذي هو أثر الإنشاء ، لا الانتقال في نظر المنشئ حتى يتّحد مع النقل ، وعليه فما أفاده السيد الطباطبائي في وجه المسامحة في محله.

__________________

(١) لاحظ كتاب الوسيلة في الجوامع الفقهية ، ص ٧٤٠

(٢) مختلف الشيعة ، ج ٥ ، ص ٥١

١٨٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ثمّ إنّ تعريف البيع بالعقد شائع بين الفقهاء كما نسبه صاحب المقابس قدس‌سره إليهم ، قال في مقام بيان إطلاقات البيع : «رابعها نفس العقد المركّب من الإيجاب والقبول ، وهذا هو الشائع المعروف بين الفقهاء في سائر ألفاظ العقود ممّا كان منها مصدرا بصيغة الفعال والمفاعلة ، أو بمعناه كالقراض والمضاربة والمزارعة» (١). وعليه فأشهر معاني البيع ـ بل مشهورها ـ هو هذا المعنى.

وأمّا وجه العدول عن تعريفه «بالانتقال» الى تعريفه «بالإيجاب والقبول الدالّين عليه» فهو ما تقدم من كون الانتقال اسم مصدر ، وصفة للعوضين ، مع أن البيع المقصود في التعريف معنى مصدري لكونه فعل البائع ، ولا ينبغي تعريف المعنى المصدري بالمعنى الاسمي المغاير له. وهذه المسامحة لا ترد على تعريفه بالإيجاب والقبول ، لأنّ ما بيد المتعاقدين هو العقد المؤثّر في الانتقال ، لا نفس الانتقال المترتب عليهما (*).

__________________

(*) ربما يستفاد من تعبير المصنف قدس‌سره : «وحيث ان في هذا التعريف مسامحة واضحة عدل آخرون .. إلخ» أنّ كلّ من لم يرتض من الفقهاء تعريف البيع بالانتقال عدل إلى تعريفه بالعقد الدال على الانتقال ، مع أنّه يظهر للمتتبع في كلماتهم خلافه ، لوجود تعاريف أخرى فيها ، فعرّفه جمع بالعقد الدال على النقل ، كالمحقق في الشرائع (٢) ، والشهيد في الدروس واللمعة (٣) ، وعرّفه أبو الصلاح الحلبي بأنه «عقد يقتضي استحقاق التصرف في المبيع والثمن وتسليمهما» (٤). وعليه فلعلّ الأنسب تبديل «آخرون» ب «الجمع» بأن يقال : «عدل جمع الى تعريفه بالإيجاب والقبول ..» والأمر سهل.

__________________

(١) مقابس الأنوار ، كتاب البيع ، ص ٢

(٢) شرائع الإسلام ، ج ٢ ، ص ١٣

(٣) الدروس الشرعية ، ج ٣ ، ص ١٩١ ، الروضة البهية ، ج ٣ ، ص ٢٢١

(٤) الكافي في الفقه ، ص ٣٥٢

١٨٤

وحيث (١) إنّ البيع

______________________________________________________

(١) غرضه قدس‌سره تزييف تعريف البيع بالعقد ـ الدال على الانتقال ـ بأنّ ظاهره كون البيع من مقولة اللفظ ، مع أنّه من مقولة المعنى ، لأنّه مقتضى أمور مسلّمة :

الأوّل : أنّ الإنشاء ـ على المشهور ـ هو التسبيب باللفظ أو بالفعل إلى حصول أمر اعتباري موجود في صقع النفس ، كما إذا اعتبر الشارع لا بديّة الصلاة على المكلّف وأنشأها بقوله : «أقم الصلاة» فيوجد به الصلاة في عهدته.

والمعاملات من العقود والإيقاعات كلّها أمور اعتبارية ، فهي أمور قصدية يتوقف وجودها في وعاء الاعتبار على إيجادها بآلة كالصيغ المخصوصة بها.

الثاني : أنّ اللفظ موجود خارجي متصرم الوجود كالزمان ، وهو من مقولة الكيف المسموع ، ووجود كلّ لفظ منوط بسبب تكويني كتحريك اللسان نحو مقاطع الحروف ، ولا يصير لفظ من مبادئ وجود لفظ آخر كما لا يخفى.

الثالث : أنّ حقيقة البيع ـ بناء على توقف إيجادها على اللفظ ـ لا تخلو من أحد وجوه أربعة ، أشار المصنف إلى ثلاثة منها :

أحدها : أن يكون البيع أمرا معنويا اعتباريا يقصده المتبايعان ، ولا دخل للفظ في ماهيته أصلا ، سوى أنه يوجد به في مقام الإنشاء ، وقد أشار الماتن إلى هذا الاحتمال بقوله : «من مقولة المعنى».

ثانيها : أن يكون من مقولة اللفظ ، يعني : أن الإيجاب والقبول اللفظيين هما تمام ماهية البيع ، ووجوده في موطن الاعتبار أجنبي عن حقيقته التي هي نفس العقد اللفظي. وقد أشار إلى هذا بقوله : «دون اللفظ مجرّدا».

ثالثها : أن يكون هو العقد اللفظي ، لكن بشرط قصد ذلك الأمر الاعتباري. ويفترق عن سابقه بأنّ قصد المبادلة الاعتبارية غير مؤثّرة في تحقق البيع على الاحتمال الثاني ، ومؤثّر على الاحتمال الثالث ، لأنّ مقتضى الاشتراط انتفاء المشروط بعدم شرطه.

رابعها : عكس الثالث ، بأن يكون البيع هو الأمر المعنوي الاعتباري ، لكن لا مطلقا

١٨٥

من مقولة المعنى (١) ـ دون اللفظ مجرّدا ، أو بشرط قصد المعنى ، وإلّا (٢) لم يعقل إنشاؤه

______________________________________________________

ـ كما كان في الاحتمال الأوّل ـ بل بشرط أن يتأدّى باللفظ ، فإن أنشئ التمليك والتبديل باللفظ كان بيعا ، وإلّا فلا بيع. وهذا الاحتمال لم يتعرض له المصنف.

ومما ذكرناه يظهر وجه بطلان تعريف البيع بالإيجاب والقبول الدالين على الانتقال ، ضرورة كونه كسائر المعاملات ـ من الإجارة والهبة والوصية والوقف ـ من الأمور الاعتبارية المنشئة تارة باللفظ واخرى بالتعاطي ، وثالثة بالإشارة ، ورابعة بالمنابذة ، وخامسة بالكتابة ، ونحوها. ولا دخل للفظ في حقيقتها شطرا وشرطا ، إذ لو كان اللفظ مؤثّرا فيها لزم استحالة إنشائها ، لما عرفت من استحالة إنشاء لفظ بلفظ آخر ، وإنّما القابل للإنشاء هو الأمر المعنوي الذي موطنه وعاء الاعتبار ، ولا يصلح للوجود الخارجي أصلا.

وعلى هذا فإن كان البيع نفس الانتقال ـ كما عرّفه به الشيخ والعلّامة ـ أمكن إنشاؤه باللفظ كإنشائه بالفعل بناء على مملكية المعاطاة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وإن كان البيع نفس الإيجاب والقبول استحال إنشاؤه ، لأنّ اللفظ موجود مقولي خارجي ، ويمتنع إنشاؤه بلفظ آخر أي بإيجاب وقبول. ولا مناص من هذا المحذور إلّا إنكار تعريف البيع بالعقد. هذا.

(١) هذا هو الوجه الأوّل ـ والمتعيّن ـ ممّا يحتمل في حقيقة البيع ، والمراد بمقولة المعنى هو الأمر الاعتباري الموجود في موطن الاعتبار ، الذي هو وعاء وجود الأحكام العقلائية والشرعية ، من التكليفية والوضعية. ولو فرض دخل اللفظ فيها فإنّما هو في مقام الإنشاء والإيجاد ، وإلّا فنفس البيع بما أنّه «مبادلة اعتبارية بين المالين» أجنبي عن اللفظ والفعل وغيرهما من آلات الإنشاء وأسبابه.

(٢) أي : وإن لم يكن البيع من مقولة المعنى ـ بل كان من مقولة اللّفظ مجرّدا عن المعنى أو مشروطا بقصد معناه ـ لزم استحالة إنشاء البيع ، لما عرفت من أنّ الإنشاء لا يتعلّق إلّا بالأمور الاعتبارية التي لا وجود لها إلّا في صقع الاعتبار كالأحكام الشرعية. ولا يتعلق الإنشاء باللفظ ، لأنّه موجود حقيقي مغاير للموجود الاعتباري سنخا ، ويتوقف وجود اللفظ خارجا

١٨٦

باللفظ (*) ـ

______________________________________________________

على مباد خاصة ، ولا يصلح لفظ لأن يصير من مبادي وجود لفظ آخر.

ولا فرق في استحالة إنشاء البيع ـ لو كان هو العقد ـ بين كون اللفظ تمام حقيقته أو بعضها. مضافا الى استلزامه نفي بيعية المعاطاة ، لخلوّها عن الإيجاب والقبول اللفظيين ، مع أنّها بيع عندهم ولو كانت فاسدة عند بعضهم.

__________________

(*) مضافا إلى ما فيه من : أن هذا التعريف ليس حدّا للبيع الذي هو فعل البائع فقط كما هو واضح.

وإلى : عدم شموله للبيع المعاطاتي ، لظهور الدلالة في الإيجاب والقبول اللفظيين ، فتأمّل.

وإلى : عدم اعتبار الانتقال في مفهوم البيع ، لصدقه على بيع الوقف وسهم سبيل الله من الزكاة إذا كان العوضان منهما ، فإنّه لا انتقال فيهما أصلا ، مع صدق مفهوم البيع عرفا على بيعهما ، لوجود مفهوم المعاوضة فيه ، هذا.

وإلى : صدقه على جميع العقود المعاوضية ، بل والمجانية كالهبة ، لأنّ جميعها تشتمل على الإيجاب والقبول الدالين على الانتقال.

وعلى كلّ حال : المراد بالمعنى هنا ما ذكرناه من كون البيع أمرا اعتباريا ، لأنّه تبديل اعتباري بين مالين. لا ما في حاشية السيد قدس‌سره من أن بعض معاصريه قال : «المراد بالمعنى هو النقل القلبي ، وهو راجع الى الكلام النفسي المزيّف في محله ، فلا بدّ أن يكون البيع من مقولة اللفظ. كما انّ هذا القائل التزم لدفع محذور الالتزام بالكلام النفسي بأن الطلب أيضا عبارة عن نفس القول ، إذ لو كان غير اللفظ يلزم الالتزام بالكلام النفسي» (١). هذا.

فإنّه لا وجه للالتزام المزبور ، لوضوح أنّ النقل القلبي ـ وهو الالتزام النفساني به من دون إيجاده بما يكون آلة للإنشاء ـ ليس بيعا عرفيا قطعا ، لعدم كون مجرّد النقل القلبي كافيا في

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٥٨ ، ٥٩

١٨٧

عدل (١) (*) جامع المقاصد إلى تعريفه «بنقل العين بالصيغة المخصوصة».

______________________________________________________

(١) جواب «وحيث إن البيع» وتوجيه عدول المحقق الكركي قدس‌سره عن تعريف البيع «بالإيجاب والقبول» الى تعريف آخر ، قال في جامع المقاصد ـ بعد أن حكى عن المختلف تعريفه تبعا لابن حمزة بالعقد ، وتوجيه فخر المحققين والشهيد له ـ ما لفظه : «وفيه نظر ، فإنّ المفهوم من ـ بعت ـ ليس هو عقد البيع قطعا ، وإنّما المفهوم منه هو المفهوم من ـ ملّكت ـ فانّ كليهما إيجاب للبيع. ولو كان المفهوم من ـ بعت ـ هو عقد البيع لما صحّ الإيجاب بملّكت. ولأنّ البيع هو المقصود بالعقد لا نفسه .. الى أن قال : والأقرب : أن البيع هو نقل الملك من مالك الى آخر بصيغة مخصوصة لا انتقاله ، فإنّ ذلك أثره إن كان صحيحا. وأيضا فإنّ البيع فعل ، فكيف يكون انتقالا؟» (١).

ولمّا كان البيع نفس النقل الاعتباري الذي هو من مقولة المعنى كان سليما عن محذور استحالة إنشاء اللفظ باللفظ.

__________________

البيع الناقل عندهم للأموال.

وبالجملة : فجعل البيع من المعنى وإرادة الكلام النفسي منه في غير محله. ومراد المصنف من المعنى هو ما ذكرناه من الأمر الاعتباري في قبال الوجود الخارجي الحقيقي كالأفعال الخارجية من التكلّم والضرب والأكل والشرب ونحوها.

(*) ظاهر هذا الكلام ـ لو لم يكن صريحه ـ أنّ وجه عدول المحقق الثاني قدس‌سره عن تعريف البيع «بالإيجاب والقبول الدالين على الانتقال» هو كون البيع من مقولة المعنى لا من مقولة اللفظ. مع أنّ وجه عدوله عنه ليس ما أفاده المصنف قدس‌سره من كون البيع من مقولة المعنى ، بل لما ذكره من وجهين :

أحدهما : أنّ المفهوم من لفظ «بعت» ليس هو العقد قطعا ، لعدم سريان هذا المعنى في جميع تصاريفه ، فإنّ لفظ البائع ليس معناه العاقد للإيجاب والقبول ، وكذا سائر مشتقاته ، بل معناه إيجاب البيع فقط كإيجاب التمليك.

__________________

(١) جامع المقاصد ، ج ٤ ، ص ٥٥

١٨٨

ويرد عليه (١) ـ مع أنّ

______________________________________________________

(١) أي : على تعريف جامع المقاصد للبيع ، وقد أورد المصنف عليه بوجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّه يعتبر في باب الحدود والتعريفات ـ ترادف الحد للمحدود كترادف «الحيوان الناطق» للإنسان ، ولذا يصح إطلاق أحدهما مكان الآخر. ولم تراع هذه الضابطة في تعريف المحقق الثاني للبيع بالنقل ، وذلك لعدم ترادفهما ، إذ لا يصح استعمال النقل موضع البيع ، فلا يقال : «نقلت الدار» مثلا بدل «بعت الدار» ومن المعلوم أن عدم صحة هذا الاستعمال يكشف عن عدم الترادف.

ويدل عليه تصريح العلامة في التذكرة بعدم وقوع البيع بلفظ «نقلت» لكونه من الألفاظ الكنائيّة ، مع أنّ المعتبر في صيغ العقود الصراحة أو الظهور الوضعي ، ولا تقع بالألفاظ الكنائية.

وعليه فلا وجه لتفسير البيع بالنقل أصلا ، بل لا بد من تعريفه بمثل التمليك ممّا يرادف البيع كما سيأتي تعريفه في المتن ب «إنشاء تمليك عين بعوض».

الثاني : أنّ تقييد البيع بكونه «نقلا بالصيغة» يوجب خروج البيع المعاطاتي عن التعريف ، لوقوع النقل بالفعل لا بالقول ، مع أنّ «المعاطاة بيع» جزما ، خصوصا عند المحقق الثاني الذي حمل مذهب المشهور ـ من إفادتها الإباحة ـ على الملك الجائز ، على ما سيأتي تفصيله في المعاطاة إن شاء الله تعالى ، ومعه يختلّ أخذ «الصيغة» في التعريف ، بل ينبغي جعل البيع مطلق نقل العين سواء أكان باللفظ أم بالتعاطي.

__________________

ثانيهما : أن البيع ليس نفس العقد ، بل ما يترتب عليه ، وبعبارة أخرى : العقد سبب للبيع لا نفسه ، ولا يصحّ تعريف المسبب بالسبب ، لعدم الاتحاد بينهما كما لا يخفى.

مضافا إلى : ما عرفت من التأمل في ظهور تعريف المشهور ـ بالإيجاب والقبول الدالّين على الانتقال ـ في إرادة الإيجاب والقبول اللفظيين ، لوضوح أن الدلالة لا تختص باللفظ ، فإنّ الأفعال تدلّ أيضا على الإيجاب والقبول.

١٨٩

النقل (١) ليس مرادفا للبيع (*) ،

______________________________________________________

ثم إنّ هذا الإشكال نبّه عليه في الجواهر أيضا بقوله : «مضافا الى منافاته ما عنده من كون المعاطاة بيعا ، مدّعيا الاتفاق عليه» (١).

الثالث : أنّ المحذور المتقدم في تعريف البيع «بالإيجاب والقبول الدالّين على الانتقال» ـ من استحالة الإنشاء حينئذ لعدم قابلية العقد للإنشاء ـ يرد على تعريف المحقق الثاني قدس‌سره أيضا ، لوضوح أنّ القابل للإنشاء بصيغة مخصوصة مثل «بعت وملّكت» هو نفس النقل الاعتباري ، لا النقل المقيّد بكونه بصيغة مخصوصة ، لكون الصيغة لفظا ، وهو مما لا يقبل الإنشاء ، وإنّما القابل له هو الأمور الاعتبارية التي توجد في صقع الاعتبار بواسطة ألفاظ خاصة ، وقد مرّ توضيحه. ولو اقتصر المحقّق الكركي قدس‌سره على قوله : «نقل الملك من مالك إلى آخر» ولم يعقّبه «بالصيغة المخصوصة» كان سليما عن هذا المحذور.

(١) هذا أوّل وجوه المناقشة في تعريف جامع المقاصد ، وحاصله : عدم ترادف البيع والنقل ، مع لزوم رعاية الترادف في التعريف ، بل النقل من لوازم المبادلة الاعتبارية ، كما أنّ كثرة الرماد وهزال الفصيل من لوازم جود زيد مثلا.

__________________

(*) يمكن دفعه بأن المعتبر في الحدّ هو كون مجموعه ـ من الجنس والفصل أو غيرهما من القيود ـ مرادفا للمحدود كالحيوان الناطق في تعريف الإنسان ، دون كل ما يذكر في تعريفه من الألفاظ ، فإنّ الحيوان ليس مرادفا للإنسان مع صحة التعريف به. وعليه فالنقل الذي هو بمنزلة الجنس للبيع ـ على ما قيل ـ لا مانع من تعريف البيع به مع عدم كونه مرادفا له.

وكيف كان فصحة إيقاع الصيغة بلفظ معرّف للبيع منوطة بالصراحة وعدم الكناية ، فإن قلنا بأنّ المدار في الصراحة صراحة نفس اللفظ دون ما ينضمّ إليه ، فإيقاع الصيغة بلفظ «نقلت» غير صحيح ، وإلّا فلا مانع منه كما لا يخفى.

ويمكن دفع الإشكال الثاني ـ وهو كون المعاطاة عند المحقق الثاني بيعا مع خلوّها عن الصيغة ـ بأنّه في مقام تحديد البيع الذي يقتضي اللزوم بطبعه ، وليست المعاطاة كذلك ، فتأمّل.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٥

١٩٠

ولذا (١) صرّح في التذكرة بأنّ إيجاب البيع لا يقع بلفظ «نقلت» وجعله (٢) من الكنايات. وأنّ (٣) المعاطاة عنده بيع مع خلوّها عن الصيغة ـ : أن (٤) النقل بالصيغة أيضا (٥) لا يعقل إنشاؤه بالصيغة (*).

______________________________________________________

(١) أي : ولأجل عدم الترادف ، ومقصوده تثبيت الإشكال على المحقق الثاني بالاستشهاد بكلام العلّامة. ولكن لم أظفر بما نسبه إليه بعد الفحص ، وإنّما قال في التذكرة : «ويشترط في الصيغة أمور .. الرابع : التصريح ، فلا يقع بالكناية مع النيّة ، مثل : أدخلته في ملكك ، أو : جعلته لك ، أو : خذه منّي ، أو : سلّطتك عليه بكذا. عملا بأصالة بقاء الملك ، ولأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب به ..» (١). ولا بد من مزيد التتبّع.

(٢) يعني : جعل العلّامة في التذكرة ـ النقل ـ كناية عن البيع الذي هو تمليك العين بعوض.

(٣) معطوف على «أنّ النقل» واشارة إلى المناقشة الثانية في تعريف جامع المقاصد ، ومحصّلها : النقض بالمعاطاة التي هي بيع مجرّد عن الصيغة.

(٤) مرفوع محلّا على أنّه فاعل لقوله : «ويرد عليه» وكأنّ هذا الاشكال هو الأصل في الإيراد على تعريف جامع المقاصد ، وهو ـ كما عرفت ـ محذور مشترك بين تعريف ابن حمزة بالعقد وتعريف المحقق الكركي ، ومحصّله : أنّ دخل اللفظ في حقيقة البيع يوجب استحالة إنشائه ، لفرض كون بعض المنشأ لفظا ، والإنشاء لفظا آخر ، وكل لفظ بما أنّه عرض متأصّل ـ ومن مقولة الكيف المسموع ـ يستحيل أن يتسبّب وجوده من لفظ آخر.

(٥) يعني : كما لا يعقل إنشاء «الإيجاب والقبول الدالّين على الانتقال» بصيغة مثل «بعت».

__________________

(*) ويمكن أن يقال : إنّ هذا الاشكال إنّما يرد على تعريف جامع المقاصد إذا كان قوله : «بالصيغة المخصوصة» قيدا. وأمّا إذا لوحظ مشيرا إلى نفس النقل فلا يرد ذلك أصلا ، إذ لا يعتبر

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٤٦٢

١٩١

ولا يندفع هذا (١) بأنّ المراد

______________________________________________________

(١) أي : ولا يندفع الاشكال الثالث ـ وهو امتناع إنشاء اللفظ بلفظ آخر ـ ومحصّل وجه اندفاع الاشكال : أنّ مقصود المحقق الكركي قدس‌سره من تعريف البيع بأنه «نقل الملك بالصيغة المخصوصة» بيان كون البيع نقلا اعتباريا لا خارجيا ، توضيحه : أنّ نقل الملك قد يكون خارجيا ، كما إذا بدّل الكتاب بدينار بجعل كل منهما في مكان الآخر ، وقد يكون اعتباريا ، وهو المبادلة بينهما في إضافة الملكية ، بأن يصير المبيع ملكا للمشتري بدلا عن ديناره ، والثمن ملكا للبائع كذلك. وحيث إن البيع مبادلة اعتبارية بين المالين أراد المحقق الثاني تعريفه بالنقل الاعتباري ، ولا دخل للفظ في حقيقته حتى يتّجه عليه المحذور ، وإنّما أتى بقوله : «بالصيغة المخصوصة» لمجرّد الإشارة إلى أنّ البيع نقل اعتباري ينشأ بالصيغة تارة وبالمعاطاة أخرى. وليس قوله : «بالصيغة» قيدا لحقيقة البيع ودخيلا في ماهيته حتى يستحيل إنشاؤه.

وبعبارة أخرى : البيع نفس النقل الاعتباري ، لا المقيّد بكونه مدلول الصيغة ، فجعله مدلول الصيغة للإشارة الى ذلك الفرد من النقل الذي هو بيع ، ومن المعلوم خروج العناوين المشيرة عن المشار إليها ، إذ العنوان المشير ليس إلّا حاكيا عن ذات المشار إليه ومرآة لها.

__________________

مساواة العنوان المشير مع العنوان المشار اليه ، هذا.

لكن الإنصاف أنّه خلاف الظاهر جدّا ، فلا يرتكب في الحدود.

إلّا أن يدّعى : إنّ التزام المحقق الثاني بكون المعاطاة بيعا قرينة على إرادة المشيرية من الصيغة.

لكن يرد عليه حينئذ الإشكال الأوّل ، وهو : أنّه إذا كان البيع نفس النقل من دون دخل الصيغة فيه لزم عدم الترادف ، مع أنّه لا بد من الترادف.

إلا أن يقال : إنّ النقل بمنزلة الجنس للبيع ، والترادف بين الحد والمحدود معتبر بين الحدّ بتمامه من الجنس والفصل أو ما هو بمنزلتهما وبين المحدود ، فإشكال الترادف غير وارد.

١٩٢

من البيع (١) نفس النقل الذي هو مدلول الصيغة (٢) ، فجعله (٣) مدلول الصيغة إشارة إلى تعيين ذلك الفرد من النقل (٤) ، لا أنّه (٥) مأخوذ في مفهومه حتى يكون مدلول «بعت» نقلت بالصيغة (٦). لأنّه (٧) إن أريد بالصيغة خصوص «بعت» لزوم الدور ،

______________________________________________________

(١) أي : البيع الذي أريد تعريفه بقوله : «نقل الملك بصيغة مخصوصة» هو نفس النقل والتبادل الاعتباريين.

(٢) أي : مدلول صيغة «بعت أو ملّكت».

(٣) أي : فجعل البيع مدلول صيغة «بعت» إشارة إلى النقل الاعتباري ، لا قيدا في التعريف.

(٤) أي : النقل الاعتباري في قبال النقل الخارجي ، ومن المعلوم أنّ النقل في وعاء الاعتبار ينشأ باللفظ وشبهه ، ولكن ليس اللفظ جزءا من مفهومه ولا دخيلا في حقيقته ، وعليه فتعريف المحقق الكركي قدس‌سره سليم عن الاشكال الثالث.

(٥) أي : لا أنّ كون البيع مدلولا للصيغة مأخوذ في ماهية البيع حتى يستحيل إنشاؤه باللفظ من جهة امتناع إنشاء لفظ بلفظ آخر.

(٦) بل مدلول «بعت» : هو «نقلت» فالصيغة غير مأخوذة في حقيقة البيع ، بل هي آلة لإنشائه.

(٧) تعليل لقوله : «ولا يندفع هذا» ومقصوده تثبيت الإشكال الثالث وعدم إمكان التفصّي عنه بما أفيد من جعل الصيغة المخصوصة عنوانا مشيرا لا قيدا في مفهوم البيع.

توضيح عدم اندفاع الاشكال بذلك هو : أنّه يلزم من إرادة ما ذكر أحد محذورين على سبيل منع الخلوّ ، إذ لو كان مراد المحقق الثاني قدس‌سره من «الصيغة المخصوصة» خصوص صيغة «بعت» لزم الدور ، لوقوع المعرّف في المعرّف ، مع توقف معرفة المحدود ـ أعني به البيع ـ على الحدّ ، والمفروض أخذ «بعت» في الحدّ ، وكلّما توقف معرفة الحد ـ كلّا أو بعضا ـ على المحدود لزم الدور ، فكأنه قيل «البيع هو نقل الملك بالبيع».

وهذا الشق من الاشكال قد نبّه عليه صاحب الجواهر قدس‌سره بقوله ـ في الإيراد على تعريف

١٩٣

لأنّ المقصود (١) معرفة مادة (٢) «بعت» (*)

______________________________________________________

ابن حمزة والعلّامة ، وهذا التعريف ـ : «والأوّل منهما .. مشتمل على الدور ، لذكر المبيع فيه ، بل لعلّ الثاني كذلك أيضا ، ضرورة إرادة صيغة البيع من الصيغة فيه ، وإلّا انتقض بغيره» (١). ثم دفعه بما سيأتي نقله في التعليقة إن شاء الله تعالى.

وإن كان مراد المحقق الثاني قدس‌سره من «الصيغة المخصوصة» ـ في مقام إنشاء النقل الاعتباري ـ صيغة «نقلت وملّكت» فكأنّه قيل : «البيع نقل الملك بصيغة نقلت أو ملّكت» قلنا : إنّ إشكال الدور وإن لم يتجه حينئذ ، لكن فيه محذور آخر ، وهو لزوم الاقتصار في مقام الإنشاء على لفظ النقل والتمليك والتبديل مثلا ، وعدم صحة إنشائه بلفظ «بعت» أصلا. مع كون صيغة «بعت» أصرح صيغ البيع ، لأنّ جواز الإنشاء بلفظي النقل والتمليك مورد بحث بينهم كما ستقف عليه في ألفاظ العقود إن شاء الله تعالى ، ومعه كيف يقتصر على هذين اللفظين ويترك الإنشاء بمادة البيع مع صراحتها في إرادة تمليك العين بعوض؟

فالنتيجة : أنّه بعد بطلان كلا شقّي الترديد يبقى الاشكال الثالث ـ أعني به : استحالة إنشاء اللفظ باللفظ ـ على حاله ، ولا يصلح جعل الصيغة عنوانا مشيرا للتخلّص عنه ، هذا.

(١) هذا تقريب الدور ، لأنّ المقصود معرفة «البيع» الذي هو مادة صيغة «بعت» فكيف يؤخذ المعرّف في المعرّف؟

(٢) التي يكون معناها ساريا في جميع التصاريف والمشتقّات التي منها صيغة «بعت».

__________________

(*) قيل في دفع الدور كما في حاشية السيد قدس‌سره : «بأن المراد من ـ بعت ـ لفظه ، فهو في قوة قولنا : ان البيع هو النقل بلفظ بعت ، ولا يلزم العلم بمعنى ـ بعت ـ حتى يلزم الدور. وعلى فرضه يكفيه العلم إجمالا» (٢) وقريب منه ما في حاشية العلامة المامقاني قدس‌سره (٣).

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٥

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٥٩

(٣) غاية الآمال ، ص ١٧٤

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ولعلّه مقتبس مما أفاده صاحب الجواهر قدس‌سره بقوله : «اللهم إلّا أن يدفع الدور بأن الموقوف معرفة البيع بالرسم أو الوجه الأتمّ ، والموقوف عليه معرفته بالوجه الظاهر المعلوم لكل أحد» (١).

وحاصل وجه دفع الدور : أن المحدود هو معنى البيع ، والمأخوذ في الحد ـ أعني به : بعت ـ هو نفس اللفظ ، فالموقوف هو المعنى ، والموقوف عليه هو اللفظ ، وهما متغايران ، ألا ترى أنّه لو قيل : «البيع نقل العين بلفظ : بعت» لم يلزم الدور ، لأنّ الدال على النقل هو اللفظ ، لا المعنى.

أقول : لا مجال لشي‌ء من إشكال الدور ، ولزوم الاقتصار على النقل والتمليك حتى تصل النوبة إلى دفعهما ، وذلك لأنّ «الصيغة المخصوصة» بناء على صحة وجه الاندفاع ـ أعني به مشيرية قوله : بالصيغة المخصوصة ـ خارجة عن الحد رأسا ، لأنّ معنى المشيرية هو خروج العنوان المشير عن الحد ، وعدم دخله فيه أصلا. ومع فرض خروجه عن حيّز الحد لا معنى لإيراد أحد الإشكالين من الدور أو لزوم الاقتصار على النقل والتمليك على التعريف المزبور ، بداهة أنّ القيود المأخوذة في الحدود دخيلة في نفس المفهوم ، بخلاف العناوين المشيرة ، فإنّها خارجة عن الحد ، وحاكية عن المفهوم المبيّن حدوده.

وبعبارة أخرى : دخل الحدود في المحدودات ثبوتي ، ودخل العناوين المشيرة في المحدودات إثباتي ، لأنّها واسطة في العلم والإثبات.

وعلى هذا فلا موضوع لإشكال المصنف قدس‌سره ـ على جعل «الصيغة المخصوصة» مرآة ـ بما ذكره من الدور ، أو لزوم الاقتصار في التعريف على مجرد التمليك والنقل ، وإسقاط الصيغة المخصوصة ، وذلك لأن موضوع الاشكال هو ما يؤخذ في الحد ، والمفروض خلافه ، إذ لا دخل للعنوان المشير في الحد أصلا.

نعم يرد على المشيرية : أنّها خلاف الأصل في القيود ، سيّما الواقعة في الحدود ، إذ المقصود بها بيان حدود المفهوم ، والحمل على المشيرية إلغاء للقيد حقيقة ، كالحمل على

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٥

١٩٥

وإن أريد بها (١) ما يشمل (٢) «ملّكت» وجب (٣) الاقتصار على مجرّد التمليك والنقل.

______________________________________________________

(١) أي : بالصيغة المخصوصة ، وهذا هو الشق الثاني مما أجاب به المصنّف قدس‌سره عن اندفاع الاشكال الثالث. وقد عرفت توضيحه آنفا بقولنا : «وإن كان مراد المحقق الثاني قدس‌سره من الصيغة المخصوصة في مقام .. إلخ».

(٢) لا تخلو العبارة عن قصور في التأدية ، لأنّ المقصود بهذا الشق هو إرادة ما عدا صيغة «بعت» من قول المحقق الثاني : «بصيغة مخصوصة» فالبيع هو نقل الملك بصيغة «نقلت أو ملّكت» حتى يندفع محذور الدور ، إذ لو أريد من الصيغة ما هو أعم من «بعت وملّكت» لم يندفع المحذور ، فحقّ العبارة بقرينة قوله : «وجب الاقتصار» أن تكون هكذا : «وإن أريد بها ما عدا لفظ بعت وجب الاقتصار ..».

(٣) وجه وجوب الاقتصار هو عدم قابلية لفظ «بعت» لإنشاء البيع به.

__________________

التوضيحية التي هي كإلغاء القيد وجعله كالعدم.

وعلى هذا فقول المحقق الثاني : «بالصيغة المخصوصة» ظاهر في القيديّة للمفهوم ، فيرد عليه ما أورد به على تعريف المشهور : من عدم تعقل إنشاء اللفظ في وعاء الاعتبار ، لكونه من الموجودات الحقيقية غير القابلة للوجود الاعتباري كما لا يخفى.

ثم إنّه إن أغمضنا عن مقتضى المشيرية ـ من عدم دخل العنوان المشير في مفهوم المحدود ـ لا يلزم الدور أيضا ، لأنّ النقل بالصيغة ـ أعني بها : بعت ـ يوجب معرفة معنى «بعت» وهو النقل ، لأنّ لفظ «بعت» إن لم يكن معناه : «نقلت» فلا وجه لجعله آلة للنقل ، فمعنى البيع المصدري إذا كان هو النقل فلا محالة يكون معنى «بعت» وسائر مشتقاته أيضا هو النقل.

وكيف كان فيرد على تعريف المحقق الثاني أوّلا : أنه لا يدل على اعتبار العوض في البيع.

وثانيا : عدم صدقه على بيع الزكاة والوقف إذا كان كل واحد من العوضين منهما ، إذ لا نقل فيه ، مع صدق البيع العرفي عليه.

١٩٦

فالأولى (١) تعريفه (٢) بأنّه

______________________________________________________

المختار في تعريف البيع

(١) هذه الأولوية تعيينيّة كالأولوية في استحقاق أولى الأرحام للإرث ، وليس المراد مجرّد تفضيل هذا التعريف على ما سبق من التعاريف ، فإنّها لمّا لم تكن خالية عن الخلل ولا وافية بتعريف البيع لم تكن مشاركة للتعريف الآتي حتى يكون هذا التعريف راجحا عليها ، بل المتعيّن تعريف البيع بإنشاء التمليك ، ولا وجه لتعريفه بما تقدّم من الانتقال والعقد ونحوهما.

(٢) أي : تعريف البيع ، وهذا مأخوذ ـ مع بعض التصرف ـ من العلامة الطباطبائي قدس‌سره حيث قال في محكي المصابيح : «ان الأخصر والأسدّ تعريفه بأنّه إنشاء تمليك العين بعوض على وجه التراضي» (١).

ويتلخّص وجه الأولوية في سلامة هذا التعريف من وجوه الخلل والإشكالات الواردة على التعاريف الثلاثة المتقدمة.

وبيانه : أنّه لا يرد على تعريف المصنف قدس‌سره ما أورد به على تعريف المبسوط والتذكرة «بانتقال عين من شخص إلى غيره ..» تارة بأنّ البيع من مقولة الفعل ، والانتقال من مقولة الانفعال. واخرى بأنّ الانتقال من الغايات المترتبة على البيع لا نفسه. وثالثة بانخرام قاعدة لزوم موافقة التصاريف لمبدإ الاشتقاق في المعنى ، بداهة عدم كون معنى «بعت ، أبيع : انتقلت ، أنتقل» وهكذا سائر التصاريف.

وكذا لا يلزم على تعريف المتن ما أورد به على تعريفه «بالعقد الدال على الانتقال» من عدم تعقل إنشاء اللفظ باللفظ.

وكذا ما أورد به على تعريف جامع المقاصد «بنقل الملك بالصيغة المخصوصة» من عدم مرادفة البيع للنقل ، ومن خروج المعاطاة عن التعريف مع كونها بيعا عنده ، ومن عدم تعقل إنشاء النقل ـ المقيّد بالصيغة ـ باللفظ.

هذا مضافا إلى : إسقاط قيد «على وجه التراضي» المذكور في تعريف شيخ الطائفة

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٢ ، ص ٢٠٥ و ٢٠٦ ، واختاره في مفتاح الكرامة ، ج ٤ ، ص ١٤٨ من دون نسبته الى السيد بحر العلوم.

١٩٧

«إنشاء (١) تمليك عين بمال» (*).

______________________________________________________

والسيد بحر العلوم وغيرهما قدس‌سرهم ، لأنّ أخذه في التعريف يوجب خروج بيع المكره عن الحدّ ، مع أنه بيع عندهم إذا لحقه الرضا ، بل بدونه أيضا في بعض الموارد كبيع الحاكم في موارد جواز إكراهه البائع عليه ، فإنّ البيع صحيح مع عدم التراضي.

وإلى : العدول عن «العوض» إلى «مال» من جهة أعمية العوض من المال ، لشموله لجملة من الحقوق كحقّ السلام وحقّ ولاية الأب والجد على الصغير ، وحق الحضانة ، ونحوها مما لا يصدق عليه المال مع صدق العوض عليها ، على ما قيل. وقد تقدم تحقيق الحال في بحث الحقوق ، وأنّ ما يقبل منها الإسقاط فقط ـ أو مع النقل ـ مال عرفا ، فلا مانع من جعله عوضا في البيع.

(١) وجه زيادة لفظ «الإنشاء» في التعريف هو : كون البيع تمليكا إنشائيا لا تمليكا خارجيا أي ممضى شرعا ، أو عقلائيا ، لأنّ ما بيد البائع هو التمليك الإنشائي ، والملكية الشرعية أو العقلائية خارجة عن حيّز قدرته ، فلا معنى لإيجادها بالإنشاء ، فإن كان ما أنشأه واجدا لشرائط البيع الصحيح العرفي والشرعي ترتّبت الملكية على إنشائه ، وإلّا فلا.

__________________

(*) لا بأس بالبحث إجمالا عن حقيقة الإنشاء ، فنقول : نسب إلى المشهور الإيجاد والتسبيب ، بمعنى ترتب عناوين العقود والإيقاعات على الصيغ الإنشائية ترتب المسببات على أسبابها.

لكن أنكر ذلك جمع من الأعيان وذهب كل منهم إلى أن حقيقة الإنشاء أمر آخر ، فاختار شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدس‌سره أن ترتب العناوين المعاملية على الصيغ كترتب ذوات الآلة على آلاتها.

وذهب شيخنا المحقق العراقي قدس‌سره إلى اشتراك الإخبار والإنشاء في الحكاية عن نسبة إيقاعية ، وإنّما يفترقان في المحكي ، ووافقه السيد المحقق الخويي قدس‌سره إلا أنه قال بأنّ الإنشاء اعتبار نفساني وإبرازه بمبرز ، فالبيع مثلا مجموع الأمرين ، لا محض الاعتبار ، ولا الإبراز المجرّد عن الاعتبار.

وأبدى المحقق الأصفهاني قدس‌سره نظرا آخر ، فقال إنّ الإنشاء إيجاد نفس الأمر الاعتباري

١٩٨

.................................................................................................

__________________

بوجود لفظي في قبال وجوده في أفق الاعتبار. هذا.

ويمكن أن يستدلّ للمشهور ـ وهو الإيجادية بمعنى التسبيب ـ بتمهيد أمور :

أحدها : أنّ الإنشاء لغة هو الخلق ، ففي الصحاح : «أنشأه الله : خلقه». وفي المجمع : «أنشأكم ، أي : ابتدأكم وخلقكم .. ، والنشأة الأخرى : الخلق الثاني» (١) ولم يثبت نقله الى معنى آخر ، فالإنشاء هو الإيجاد والخلق ، وليس الإبراز مرادفا له ولا مما يؤدّي معناه ، حيث إنّ الإبراز هو الإظهار. قال في المجمع : «وترى الأرض بارزة أي : ظاهرة» (٢) ومن المعلوم أنّ الإبراز مترتب على الوجود ، لأنّه إظهار ، وهو منوط بوجود شي‌ء قبل الإظهار ، فلا يكون الإبراز إنشاء أي إيجادا.

ثانيها : أنّ كل معنى يتصف بالوجود اللفظي حين الاستعمال ، سواء أكان ذلك المعنى موجودا عينيا أم ذهنيا ، وسواء أكان جوهرا أم عرضا. ولكن هذا الوجود اللفظي ليس محل البحث في إيجاد المعنى باللفظ في الإنشاء ، إذ المقصود به وجوده في وعاء الاعتبار ، هذا.

ثالثها : أنّ ترتب الوجود الخارجي وكذا الصفات النفسانية على الألفاظ ترتب المعلول على العلة بمكان من الإمكان ، بل واقع ، كتأثير الكلام العنيف في اصفرار وجه الوجل. وكتأثير ذكر النار ودركاتها وشدة عذابها في حصول الخوف الذي هو من صفات النفس. ومن المعلوم أنّه لا فرق بين الوجود الخارجي والوجود الاعتباري في إمكان عليّة اللفظ لهما ، بل الثاني أهون من الأوّل ، لأنّه اعتبار محض ، بخلاف الوجود الخارجي.

فدعوى إمكان إيجاد المعنى في الجملة في وعاء الاعتبار باللفظ ـ سواء أكان المعنى خارجيا أم اعتباريا وسواء أكان معنى حقيقيّا للفظ أم غيره كالأمثلة المتقدمة من اصفرار وجه الوجل بالكلام العنيف ونحوه ـ غير مجازفة.

رابعها : أنّ المسلّم عدم اتصاف الإنشاء بالصدق والكذب ، وإنّما المتصف بهما هو الإخبار ، وحينئذ فإن قلنا : إنّ الإنشاء هو الإبراز بمعنى إظهار ما في النفس فلا بد من اتّصافه

__________________

(١) مجمع البحرين ، ج ١ ، ص ٤١٥ و ٤١٦

(٢) مجمع البحرين ، ج ٤ ، ص ٦

١٩٩

.................................................................................................

__________________

بالصدق والكذب ، لأنّ إظهار ما في النفس إخبار وحكاية عن الشي‌ء الموجود فيها من صفة أو اعتبار كالوجوب ، فإن كان هذا الإظهار ـ الذي يكون إخبارا وحكاية عن وجود صفة أو اعتبار في النفس ـ مطابقا للواقع ، بأن كان المبرز موجودا في النفس كان الإبراز متصفا بالصدق ، وإلّا فهو موصوف بالكذب.

وإن قلنا : إنّ الإنشاء هو الإيجاد بأن يكون اللفظ موجدا لما لم يكن موجودا قبل الإنشاء لم يتصور الاتصاف بالصدق والكذب ، إذ ليس للنسبة الكلامية خارج تطابقه أو لا تطابقه ، لوضوح أنّه ليس شي‌ء موجودا قبل الإنشاء كي يكون الإنشاء حاكيا عنه ومبرزا له ، حتى ينتزع الصدق عن مطابقة الحاكي للمحكي عنه ، والكذب عن عدم المطابقة له. بل يوجد شي‌ء بنفس هذا اللفظ ، فلا يكون اللفظ مبرزا ومخبرا عن شي‌ء موجود ، بل هو علّة لوجود شي‌ء ، فلا إبراز ولا حكاية أصلا.

خامسها : أنّ الإنشائية والإخبارية من صفات اللفظ ، فيقال : الكلام إمّا خبر وإمّا إنشاء. قال في تهذيب المنطق بعد تقسيم دلالة اللفظ إلى المطابقة والتضمن والالتزام : «والموضوع ـ يعني اللفظ الموضوع ـ إن قصد بجزء منه الدلالة على جزء المعنى فمركّب إمّا تام خبر أو إنشاء .. إلخ» ونحو ذلك ما في سائر الكتب الأدبية.

فلو لم يكن اللفظ موجدا للمعنى في باب الإنشاء ـ بل كان مبرزا للاعتبار الذي اعتبرته النفس ـ لم يصح توصيفه بالإنشاء. كما أنّه إذا لم يكن حاكيا عن النسبة لم يصح توصيفه بالإخبار ، لأنّ هذين الوصفين حينئذ ثابتان للمدلول ، فيكون الوصف باعتبار المتعلق.

إذا عرفت هذه الأمور تعرف أنّ الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى المقصود ـ وإخراجه عن العدم الى الوجود ـ باللفظ إيجادا اعتباريا ، مضافا إلى إيجاده اللفظي الموجود في استعمال كلّ لفظ في معناه. كما أنّ الإخبار عبارة عن حكاية كلام عن مبدء فارغا عن ثبوته أو عدمه. وهذا يلازم نسبة خارجية تطابقها النسبة الكلامية أو تخالفها.

بخلاف الإنشاء ، فإنّ إيجاد النسبة ملازم لعدم نسبة خارجية ، فإنّ وجود النسبة الخارجية شأن الحكاية المقوّمة للإخبار. وبعد اتصاف الكلام بالإخباريّة والإنشائيّة ـ إذا انضمّ إليهما جهة الجدّ بالإنشاء والحكاية ـ يتصف الإنشاء بالموجديّة ، والخبر بالمبرزيّة للواقع ،

٢٠٠