هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

ينافي ما ذكروه من القاعدة المسلّمة بينهم ، وهي أنّ‌ لكل ذي حق إسقاط‍‌ حقه.

ولا يندفع هذا التنافي إلاّ بإخراج ما لا يسقط‍‌ بالإسقاط‍‌ ـ كحق الأبوّة والولاية وحقّ‌ السلام ، على ما حكاه الفقيه المامقاني قدّس سرّه عن بعض المشايخ (١) ، وحق الرجوع في الطلاق الرجعي ، وغير ذلك ـ عن حريم الحق موضوعا ، وإدراجه في الحكم.

نعم من لم يلتزم بتلك القاعدة كالمحقق الأصفهاني صحّ‌ له تقسيم الحقوق الى ما لا يسقط‍‌ بالإسقاط‍‌ وإلى ما يسقط‍‌ به ، كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

إن قلت : إنّ‌ تقسيم الحقوق الى ما يسقط‍‌ بالإسقاط‍‌ وما لا يسقط‍‌ به لا ينافي تسلّم قاعدة «لكل ذي حق إسقاط‍‌ حقه» لكونها من العمومات القابلة للتخصيص ، فتخصّص بالحقوق غير القابلة للإسقاط‍‌ ، فكأنّه قيل : كل حق قابل للإسقاط‍‌ إلاّ حق الأبوة وحقّ‌ السلام ، وغير ذلك.

قلت أوّلا : منع كون ما لا يسقط‍‌ بالإسقاط‍‌ حقّا ، لإباء الروايات الدالة على الحقوق عن حملها على الحق المصطلح وهو السلطنة وتفويض الأمر والأولوية ، بل هي أحكام إلزامية أو ترخيصية أو وضعية سمّيت بالحق ، فلا تندرج في قاعدة «ان لكل ذي حق إسقاطه حقه» حتى يلتزم بالتخصيص لأجل دلالة الروايات على عدم سقوطها بالإسقاط‍‌ ، بل الشك في انطباق الحق المصطلح عليها كاف في عدم جريان التخصيص في القاعدة ، لوضوح كون التخصيص إخراجا حكميا متوقفا على مصداقية الفرد الخارج بالتخصيص للعام ، وحينئذ يدور الأمر بين التخصيص والتخصص ، ويتعيّن تقديم الثاني. وعليه فلو شك في صدق الحق على ما لا يقبل الإسقاط‍‌ كان مقتضى عكس القاعدة خروجه عنه موضوعا لا حكما.

وثانيا : أنه لو سلّم شمول الحق لما لا يقبل الإسقاط‍‌ قلنا : إنّ‌ قاعدة «سلطنة كل ذي حق على إسقاط‍‌ حقه» من العمومات الآبية عن التخصيص ، لظهوره في علّية عنوان الحق للسلطنة على إسقاطه ، نظير قبح الظلم ، وأنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و«أنه لا يطاع اللّه من حيث يعصى» الى غير ذلك من العمومات الآبية عن التخصيص ، خصوصا بملاحظة ما اشتمل عليه من تقديم ما حقّه التأخير ، فإنّ‌ تقديم الخبر على المبتدأ يوجب خصوصية في الكلام

__________________

(١) غاية الآمال ، ص ١٧١.

١٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

ويورث تأكيدا في ثبوت المحمول للموضوع.

وثالثا : انّ‌ البناء على كون «ما لا يقبل الإسقاط‍‌» حقّا يستلزم تخصيص الأكثر المستهجن ، ولا مناص منه إلاّ باختصاص الحق بالمجعول الذي جاز لمن ثبت له بعض أنحاء التصرفات ، وأقلّها الإسقاط‍‌.

فتلخّص : أنّ‌ ما لا يقبل الإسقاط‍‌ ليس حقّا ، بل هو حكم ، فحقّ‌ الأبوّة والسلام والحضانة والولاية ونحوها ممّا لا يقبل الإسقاط‍‌ غير مندرجة في الحق المصطلح حتى يصح تقسيم الحق الى ما يقبل الإسقاط‍‌ وما لا يقبله.

والمنافاة المذكورة ـ وهي إدراج ما لا يقبل الإسقاط‍‌ في الحق ، مع تسليم قاعدة «ان لكل ذي حق إسقاط‍‌ حقه» ـ باقية على حالها ، ولا يمكن دفعها عمّن التزم بها ، ثم قسّم الحقوق إلى ما لا يقبل الإسقاط‍‌ وإلى ما يقبله ، فلاحظ‍‌ وتدبّر.

ومنه يظهر غموض ما صنعه جمع منهم الشهيد والمصنف قدّس سرّهما من التزامهما بهذه القاعدة مع تقسيم الحق المقابل للحكم الى ما يقبل الإسقاط‍‌ وما لا يقبله.

أمّا الشهيد قدّس سرّه فقد جعل الفارق بين حق اللّه وحق العبد قابلية الثاني للإسقاط‍‌ دون الأوّل ، حيث قال في قواعده : «والضابط‍‌ فيه : أنّ‌ كلّ‌ ما للعبد إسقاطه فهو حقّ‌ للعبد ، وما لا فلا ، كتحريم الربا والغرر .. إلخ» (١). إذ ظاهر المقابلة والتمثيل لحكم اللّه تعالى بحرمة الربا أنّ‌ ما لا يسقط‍‌ بالإسقاط‍‌ لا يكون من حقوق العبد ، بل من حقوقه تعالى المعبّر عنها بالحكم ، ومقتضاه الالتزام بقابلية مطلق الحقوق للإسقاط‍‌ ، لكونها راجعة الى العبد وزمامها بيده. مع أنّه قدّس سرّه قسّم الحق ـ المقابل للحكم ـ من حيث القابلية للإسقاط‍‌ وعدمها الى قسمين. والمنافاة كما ترى.

وأما المصنف قدّس سرّه فقد تقدم منه في المتن تقسيم الحقوق الى ما لا يقبل المعاوضة بالمال ، وما لا يقبل النقل ، وما ينتقل قهرا وينقل بالصلح ، والقسم الأوّل هو ما لا يقبل الإسقاط‍‌ ، على ما استفاده محقّقوا المحشّين ، بشهادة تمثيله بحق الولاية والحضانة. وهذا التقسيم مناف لتصريحه ـ في مسقطات خيار المجلس ـ بسقوط‍‌ الحق بالإسقاط‍‌ ، للقاعدة المتقدمة ، قال : «و

__________________

(١) القواعد والفوائد ، ج ٢ ، ص ٤٣ ، القاعدة : ١٦١.

١٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

من المسقطات : إسقاط‍‌ هذا الخيار بعد العقد .. الى أن قال : ويدل عليه بعد الإجماع فحوى ما سيجيء من النص .. مضافا الى القاعدة المسلّمة من أنّ‌ لكل ذي حقّ‌ إسقاط‍‌ حقه» (١).

والتهافت واضح ، إذ لو كان قوام الحق بقبوله للإسقاط‍‌ وكونه أدنى مراتبه لم يبق مجال لإدراج ما لا يقبل الإسقاط‍‌ في الحقوق ، ثم البحث عن وقوعها عوضا في البيع وعدمه.

إلاّ أن يعوّل في دفع هذا التنافي على تصريح السيد قدّس سرّه بأنّ‌ جملة ممّا عدّ من الحقوق ليست منها حقيقة ، بل هي أحكام ، إذ ليس المجعول فيها سلطنة لذي الحق ولا ملكا له (٢).

فبناء على هذا التوجيه لا مانع من تقسيم ما يسمّى بالحق إلى أقسام ستة ، ومنها ما لا يسقط‍‌ بالإسقاط‍‌ ، ضرورة كون المقسم ما يستعمل فيه كلمة الحق ، لا ماهيّته التي فسّرها السيد كالمصنف قدّس سرّهما بالسلطنة.

هذا كلّه بناء على كون قاعدة «لكل ذي حق إسقاط‍‌ حقه» حجة شرعا ، فلو نوقش فيها سندا أو دلالة كان الحكم بعدم قابلية بعض الحقوق للإسقاط‍‌ منوطا بإحراز عليّة العنوان ، ودوران الحق مداره ، دون ما كان مقتضيا له كما سيأتي.

وقد ناقش المحقق الأصفهاني قدّس سرّه فيها تارة بمنعها سندا ، لعدم ورودها في آية ولا رواية ، ولا هي معقد إجماع حتى يؤخذ بعمومها أو إطلاقها ، وعليه فالحق ينقسم حقيقة الى ما يقبل الإسقاط‍‌ وإلى ما لا يقبله (٣). وأخرى دلالة ، بناء على استفادتها من فحوى قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «الناس مسلّطون على أموالهم» لاقتضائه سلطنة الناس على حقوقهم بالأولوية القطعية.

ومحصل المناقشة : منع الفحوى ، وذلك لأنّ‌ مفاد الحديث سلطنة الملاّك على أموالهم لا على ملكيّاتهم حتى تثبت لهم السلطنة على حقوقهم بالأولوية ، بيانه : أن الملكية تنحل إلى أمرين ، أحدهما الإضافة المعبّر عنها بالملكية ، وثانيهما المضاف وهو المملوك ، وكذلك الحق ينحل إلى الإضافة وإلى طرفها من عين أو عقد أو فعل تعلّق به الاعتبار الحقّي. والسلطنة على

__________________

(١) المكاسب المطبوعة مع حاشية العلامة الشهيدي ، ص ٢٢١.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٥٦.

(٣) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١٣ ، رسالة الحق.

١٤٣

.................................................................................................

______________________________________________________

المملوك إنّما تقتضي إخراجه عن طرفية الإضافة ، فتنقطع نفس الإضافة بالتبع ، فإذا أبرأ الدائن حقّه أو أعرض المالك عن العين المملوكة كان معناه إخراج المال عن طرفية إضافته ، فتزول ملكيته ، لامتناع بقائها بدون طرف ، وهذا هو مقتضى السلطنة على المملوك بالتصرف فيه ، وعدم سلطنة المالك على نفس الملكية.

ولكن هذا المعنى لا يجري في الحق ، ضرورة أنّ‌ ما يقصد إسقاطه هو نفس الحق لا متعلقة من المال والعين والفعل ، ومن المعلوم أن سلطنة ذي الحق على إزالة نفس الإضافة ـ المعبّر عنها بالحق ـ أجنبية عن مفاد الحديث الدال على سلطنة الناس على أموالهم ـ لا على ملكياتهم ـ حتى يبقى مجال للتمسك بالفحوى. (١)

لكن يمكن أن يقال : أمّا الخدشة في مستند قاعدة «لكل ذي حق إسقاط‍‌ حقه» فيجاب عنها بأن هذا المضمون وإن لم يرد في آية ولا رواية ولا معقد إجماع معتبر ، إلاّ أنّها من القواعد العقلائية المرتكزة عندهم ، ويكفي في إمضاء الشارع لها عدم ردعه عنها ، بل يمكن استفادة إمضائها ممّا ورد في سقوط‍‌ خيار الحيوان بالتصرف فيه من قوله عليه السّلام : «فذلك رضا منه» بتقريب : أن المناط‍‌ في سقوط‍‌ الخيار هو رضا المشتري بالبيع سواء أظهره بالتصرف أو بإسقاط‍‌ حقّه. ويتعدّى من حقّ‌ الخيار إلى الحقوق الأخر التي استفيد من أدلّتها جعل التفويض والأولوية لشخص بحيث يكون لرضاه دخل في زوال سلطنته على المتعلّق. ولا مانع من الالتزام بشمول القاعدة للحق المصطلح.

ويؤيّد ارتكازية القاعدة ـ بل يدل عليها ـ اعتماد الأصحاب عليها وإرسالها إرسال المسلّمات ، كما يظهر من تعبير العلاّمة قدّس سرّه في التذكرة وغيرها من قوله في سقوط‍‌ خيار المجلس بالإسقاط‍‌ : «ولأنّه حقه أسقطه فسقط‍‌ كالدين» (٢) ونحوه في حق الشفعة وغيرها ، فراجع.

وعليه فدعوى كون القاعدة من الارتكازيات العقلائية غير المستحدثة كارتكازهم

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ٢ ، ص ٢٦.

(٢) تذكرة الفقهاء ، ج ١ ، ص ٥٢٢ ، وكذلك لاحظ‍‌ ص ٥١٧ وص ٦٠٤.

١٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

على العمل بظواهر الألفاظ‍‌ وبخبر الثقة قريبة جدا ، مضافا الى انتفاء الرادع أو ما يصلح للرادعية.

نعم لا ريب في أن موضوع سلطنة ذي الحق على إسقاط‍‌ حقه ليس خصوص الحقّ‌ المصطلح المقابل للملك والحكم ، بل يعمّ‌ الذميات كالديون ، وهو الذي يعبّر عنه الفقهاء بالإبراء في قبال الإسقاط‍‌ الذي خصّصوا إطلاقه بمثل حق الشفعة والخيار والقصاص.

وأمّا الخدشة في الفحوى التي ادّعاها المصنف في خيار المجلس ، فيمكن التخلص عنها أوّلا : بإمكان كون القاعدة بنفسها مورد التسالم ، لا كونها من شؤون سلطنة الناس على أملاكهم حتى تتجه المناقشة بالفرق بين إبراء الملك وإسقاط‍‌ الحق.

وثانيا : بأنّ‌ إسقاط‍‌ الملك والحق من واد واحد ، وذلك لأنّ‌ إسقاط‍‌ الحق إمّا أن يراد به إخراج المتعلق عن طرفية الإضافة الحقيّة ، كما التزم به المحقق الأصفهاني في رسالة الحق ، حيث قال ـ بعد نفي كون الإسقاط‍‌ مطلقا بمعنى العفو ـ ما لفظه : «ثم إنّ‌ الإسقاط‍‌ هل هو بمعنى رفع الإضافة أو إخراج الشخص أو الطرف عن الطرفية للإضافة ، ربما يترجّح الثاني ..» (١).

وعليه لا يبقى فرق بين إبراء الملك وإسقاط‍‌ الحق ، لاشتراكهما في إخراج المضاف عن طرفية الإضافة ، وتزول الإضافة حينئذ بتبع زوال الطرف ، فلو كان مفاد قاعدة السلطنة سلطنة المالك على التصرف في مملوكه بإخراجه عن طرفية علقته كانت سلطنة ذي الحق على إسقاط‍‌ حقه أيضا بمعنى إخراج المتعلق عن طرفية إضافة الحقّية ، لا بمعنى إعدام نفس الإضافة ابتداء حتى يختلف الملك عن الحق.

وإمّا أن يراد به إعدام نفس الإضافة وقطع العلقة ابتداء كما لعلّه يستفاد من كلماتهم ، إلاّ أنّه لا يوجب وهنا في الاستدلال ، لإمكان كون الإبراء في باب الكليات المملوكة في الذمم متعلقا بنفس الملكية لا إخراجا للطرف.

ولا يبعد دلالة حديث السلطنة على أنّ‌ كلّ‌ ما يعدّ من شؤون الملك عرفا كان متعلق سلطان المالك؛حتى قطع نفس الإضافة ، وسيأتي في أدلة مملكية المعاطاة الكلام في مفاد

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ١١.

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

قاعدة السلطنة إن شاء اللّه تعالى.

وقد تحصل : أنّه لا مانع من التشبث بقاعدة «لكل ذي حق إسقاط‍‌ حقه» والحكم بعدم حقّية ما لا يقبل الإسقاط‍‌ ، فيختص الحق بما كان المجعول سلطنة أو أولوية أو نحو اختصاص يوجب كون زمامه بيده ، والمعوّل في ذلك كله أدلة الحقوق ، وذلك نظير حق القصاص وحق الخيار والشفعة ، وحق التحجير. وحق الاسترقاق على رقبة العبد الجاني ونحوها.

أمّا حق القصاص فلأنّ‌ المجعول هو سلطنة وليّ‌ الدم على القاتل ظلما ، سواء أكان حق القصاص نفس هذه السلطنة أم كانت من آثاره وأحكامه.

وأمّا حق الخيار فلأن المستفاد من الأخبار جعل المختارية وتفويض أمر العقد فسخا وإمضاء إليه ، فالخيار هو التفويض في ترجيح أحد الأمرين.

وأمّا حق الشفعة فالمستفاد من رواية الغنوي (١) أولوية الشريك بالحصة المبتاعة وأحقيته بها ، واستيلاؤه على انتزاعها من يد المشتري ببذل مثل الثمن إليه.

وأمّا حق التحجير فالمستفاد من دليله اعتبار أولويته من غيره بتملك الأرض بالإحياء وإن لم تكن ملكا مصطلحا له قبل الإحياء.

وأما حق الجناية فالمجعول هو تفويض أمر قتل الجاني واسترقاقه إلى وليّ‌ الدم. (٢)

ثم إنّه لو لم تتم القاعدة المذكورة التي هي كالقرينة الحافّة بأدلة الحقوق ، أو قلنا بكون الحقوق اعتبارات متفاوتة لكل منها أثر مخصوص كما اختاره المحقق الأصفهاني قدّس سرّه فتنقسم الى ما يسقط‍‌ بالإسقاط‍‌ وما لا يسقط‍‌ به. والضابط‍‌ المذكور في كلام بعض الأعلام كالسّيد صاحب البلغة قدّس سرّه هو : أن ما كان العنوان الموجب للحق علّة تامة له استحال إسقاطه ونقله ، لاستحالة تخلف المعلول عن علّته التامة. وإن كان مقتضيا له ، فإمّا أن يقترن بمانع عن النقل والإسقاط‍‌ كما إذا تقوم الموضوع بعنوان خاصّ‌ ، أو تقيّد مورد الحق ومتعلقة بقيد يوجب

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣١٦ ، الباب ٢ من كتاب الشفعة ، الحديث : ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ٧٣ ، الباب ٤١ من أبواب قصاص النفس.

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

تضيق دائرته لم يقبل النقل والانتقال ، وإمّا أن لا يقترن بمانع فيقبل الإسقاط‍‌ والنقل ، هذا (١).

وهذا الضابط‍‌ الثبوتي وإن كان متينا في نفسه ، لكنه لا يجدي في مقام الإثبات لو لم يستظهر من نفس دليل الحق العلية والاقتضاء. إذ لا معيّن لكون الموجب لولاية الحاكم مثلا علة تامة ، ولحق الخيار والشفعة مقتضيا ، مع اقتضاء أصالة الموضوعية في العناوين المأخوذة في الخطابات دخلها بأنفسها في الأحكام المترتبة عليها وعدم انفكاكها عنها. وحملها على المشيرية إلى أمر آخر هو موضوع الحكم واقعا خلاف الأصل لا يصار إليه بلا قرينة ، ومن المعلوم استحالة تخلف الحكم عن موضوعه.

ولأجله تصدّى المحقق الأصفهاني قدّس سرّه لاستظهار ضابط‍‌ إثباتي ينتفع به لو شكّ‌ في قابلية المجعول للإسقاط‍‌ أو النقل ، ومحصله : بعد إنكار اقتضاء طبع الحق لقابلية الإسقاط‍‌ : أن المرجع في ذلك دليل الحق ومناسبة الحكم والموضوع والحكمة الباعثة على الجعل والتشريع ، فإن روعي في مقام الجعل مصلحة ذي الحق كالإرفاق به اقتضت مناسبة الحكم والموضوع جواز إسقاطه. وإن روعي فيه غبطة الغير ومصلحته لم يجز إسقاطه ، بل يقوم بذي الحق ، خاصة. هذا بحسب الكبرى.

وأمّا في مقام التطبيق على أنحاء الحقوق فسيأتي التعرض لبعض كلامه قدّس سرّه في ذلك ان شاء اللّه تعالى.

وحيث إنّك عرفت اقتضاء طبع الحق لقبول الإسقاط‍‌ كان الأولى إخراج ما لا يقبله عن التقسيم ، لكن لا بأس بذكره تبعا للقوم ، أو بناء على عدم تقوم الحق بالملكية والسلطنة ، بل هي اعتبارات وضعية مختلفة ذاتا وأثرا ، والمرجع في ذلك دليل كل واحد من الحقوق والقرائن المكتنفة به ، فنقول وبه نستعين وبوليّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وعجّل فرجه الشريف نستجير :

القسم الأوّل : ما لا يقبل الإسقاط‍‌ والنقل الاختياري والانتقال القهري.

وعدّ منها حق الأبوة والنظارة والولاية والوصاية والحضانة ، والضابط‍‌ فيه ما روعي فيه مصلحة غير من له الحق ، فمثل حق ولاية الحاكم غير قابل للسقوط‍‌ والنقل. أمّا عدم قبوله

__________________

(١) بلغة الفقيه ، ص ٥ ، الطبعة الحجرية.

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

للسقوط‍‌ فلأنّ‌ الملحوظ‍‌ في مقام الجعل مصلحة المولّى عليه ، وكذا في حق الوصاية المجعول لأجل القيام بشؤون الموصى.

وأمّا تقوم الحق بنفس العنوان المأخوذ في الدليل وعدم قبوله للنقل إلى الغير فلأنّ‌ موضوع الولاية الشرعية هو الفقيه الجامع للشرائط‍‌. فلا معنى لنقله إلاّ لمثله ، ولكنه لا يعقل نقله إلى حاكم آخر ، لفرض كونه بنفسه مشمولا لأدلة الولاية العامة ، فلا معنى لتفويضها إليه من قبل حاكم آخر.

وكذا خصوصية تعيين الوصي من بين الأشخاص ـ في نظر الموصى ـ مانعة عن نقل الحق إلى غيره إلاّ مع إيصاء الموصى بذلك.

وهكذا حق الحضانة المجعول للأم لأجل مصلحة الطفل وتربيته ، وظاهر مكاتبة أيوب بن نوح «المرأة أحقّ‌ بالولد إلى أن يبلغ سبع سنين ، إلاّ أن تشاء المرأة» (١) وإن كان جواز رفع اليد عن حقّها إن شاءت. لكن لا أظن الالتزام بمضمونة ، فنفس حكمة الجعل تقتضي عدم قبوله للإسقاط‍‌.

القسم الثاني : ما يقبل السقوط‍‌ دون النقل والانتقال ، كحق الغيبة والشتم والإهانة ، بناء على كونها من الحقوق التي لا ترتفع بالتوبة فقط‍‌ ، بل لا بد من إرضاء صاحبها وإبرائه. أمّا كونها من الحقوق فلأنّها ظلم وإيذاء ، ولا ريب في قبحه عقلا ، وشرعا ، للنصوص الدالة على «أن من حق المؤمن على المؤمن أن لا يغتابه» (٢) و«أنّ‌ حرمة عرض المسلم كحرمة دمه وماله» (٣) ونحوهما ، فلاحظ‍‌.

وأمّا توقف ارتفاعها على إبراء ذي الحق فللمستفيضة المعتضدة بالأصل الدالة على «أنّ‌ الغيبة لا تغفر حتى يغفرها صاحبها» (٤) وللنبوي : «من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٩٢ ، الباب ٨١ من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث : ٦.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٥٤٣ ، الباب ١٢٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث : ٤.

(٣) المصدر ، ص ٦١٠ ، الباب ١٥٨ من أبواب العشرة.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٢٩٨ ، الباب ١٥٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث : ٩.

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

مال فليستحللها من قبل أن يأتي يوم ليس هناك درهم ، ولا دينار ، فيؤخذ من حسناته ، فان لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فيتزايد على سيئاته» (١). والنبوي الآخر : «من اغتاب مسلما أو مسلمة لم يقبل اللّه صلاته ولا صيامه أربعين يوما وليلة ، إلاّ أنّ‌ يغفر له صاحبه» (٢). الى غير ذلك من الروايات والأدعية الدالة على كونها من الحقوق التي يتوقف ارتفاعها على إبراء ذي الحق ، وعدم كفاية التوبة. والتفصيل موكول الى محله.

القسم الثالث : ما يقبل الإسقاط‍‌ والنقل الى آخر ينطبق عليه العنوان أيضا ولا ينتقل بالموت ، كحق القسم في الزوجات ، أما جواز إسقاطه فلأنّه مقتضى كونه حقّا للزوجة ، فإذا طابت نفسها بعدم استيفائه كان لها ذلك. وأمّا عدم الانتقال بالإرث فلأنّه حق للزوجة ما دامت حيّة وكانت في حبالة زوجها ، فإذا ماتت لم يكن لها شيء حتى ينتقل الى الوارث.

وأمّا جواز نقله إلى زوجة أخرى فلعلّه مما لا خلاف فيه ، إنّما الكلام في جواز أخذ العوض بإزائه وعدمه ، قال العلاّمة في قواعده : «ولو وهبت ليلتها من ضرّتها فللزوج الامتناع ، فان قبل فليس للموهوبة الامتناع ولا لغيرها ، وليس له المبيت عند غير الموهوبة أو الواهبة .. الى أن قال : ولو عاوضها عن ليلتها بشيء لم يصح المعاوضة ، لأنّ‌ المعوّض كون الرجل عندها ، وهو لا يقابله عوض ، فتردّ ما أخذته ، ويقضى ، لأنّه لم يسلم لها العوض» (٣).

وعلّل الشهيد الثاني في الروضة فتوى الشهيد ـ في اللمعة «ولا يصحّ‌ الاعتياض عن القسم بشيء من المال» ـ بما لفظه : «لأنّ‌ المعوّض كون الرجل عندها ، وهو لا يقابل بالعوض ، لأنّه ليس بعين ولا منفعة. كذا ذكره الشيخ قدّس سرّه وتبعه عليه الجماعة. وفي التحرير نسب القول إليه ساكتا عليه ، مشعرا بتوقفه فيه أو تمريضه. وله وجه ، لأنّ‌ المعاوضة غير منحصرة فيما ذكر ، ولقد كان ينبغي جواز الصلح عليه كما يجوز الصلح على حق الشفعة والتحجير ونحوهما من الحقوق. وحيث لا تجوز المعاوضة فيجب عليها ردّ العوض إن كانت قبضته ، ويجب عليه

__________________

(١) كشف الريبة ، ص ١١٠.

(٢) مستدرك الوسائل ، ج ٩ ، ص ١٢٢ ، الباب ١٣٢ من أبواب أحكام العشرة ، الحديث : ٣٤.

(٣) قواعد الأحكام ، ص ١٦٤.

١٤٩

.................................................................................................

______________________________________________________

القضاء لها إن كانت ليلتها قد فاتت ، لأنه لم يسلم لها العوض» (١).

وقال في كشف اللثام ـ في ذيل تعليل القواعد المتقدم آنفا ـ ما لفظه : «وفيه تردد ، لمنع الحصر ، ولأنّ‌ علي بن جعفر عليه السّلام سأل أخاه عليه السّلام ، عن رجل له امرأتان ، فقالت إحداهما : ليلي ويومي لك يوما أو شهرا أو ما كان ، أيجوز ذلك‌؟قال : إذا طابت نفسها واشترى ذلك منها فلا بأس» (٢).

وهذا ممّا تقتضيه القاعدة في الحقوق التي جعل فيها السلطنة لذي الحق أو الأولوية بالشيء ، فيجوز له إسقاطه ونقله الى الغير بعد إحراز قابليته له عرفا ، سواء أكان مع العوض أم بدونه. نعم لو استفيد من الدليل تقوّم الحق بعنوان لا ينطبق على غير ذي الحق أو المماثل له تعيّن تخصيص جواز النقل بما إذا كان المنتقل إليه مماثلا لمن له الحق كالضرّة في حق القسم ، لصدق عنوان الزوجة على كل واحدة من الضرّات.

وعليه فما في بعض الكلمات «من تجويز نقل هذا الحق إلى الأجنبي ليكون له الإسقاط‍‌ أو النقل وإن لم يتمكّن من استيفاء الحق بنفسه للمنع الشرعي» لا يخلو من غموض ، لكون الأثر المطلوب من المعاوضة إباحة التصرف فيما انتقل الى كلّ‌ من المتعاملين ، ومن المعلوم أنّ‌ مضاجعة الزوجة مع الأجنبي ممّا يأباه العقلاء فضلا عن الشرع ، فعدم قابلية خصوص حق القسم للنقل الى الغير عرفا يكون من باب قصور المقتضي لا للمانع الشرعي.

وبالجملة : لولا النّص الخاص وهو رواية علي بن جعفر الدال على جواز نقل حق القسم اختيارا لكان ذلك مقتضى القاعدة في كل مجعول أحرز كونه حقّا لا حكما.

وعليه فلا فرق في جواز النقل الاختياري بين المجّاني والمعاوضي. فعدم القابلية ينشأ من قيام الحق بشخص خاص كالوصي والناظر والمتولي للموقوفة ، حيث إنّ‌ للموصى عناية بشخص الوصي ، والواقف يجعل التولية لشخص خاص من حيث إنه خاص ، لا من حيث إنّه إنسان أو عالم مثلا حتى يكون قابلا للنقل الى الغير.

__________________

(١) الروضة البهيّة ، ج ٥ ، ص ٤٢٤ ، ٤٢٣.

(٢) كشف اللثام ، ج ١ ، ص ٦٣ و ٦٤.

١٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

لكن تقوّم الحق بصاحبه لا بدّ أن يستفاد من نفس الدليل بماله من الخصوصيات المكتنفة به ، أو من دليل خارجي ، فمع الشك يرجع الى عموم قاعدة سلطنة ذوي الحقوق في حقوقهم.

القسم الرابع : ما يقبل السقوط‍‌ والنقل ـ مجانا ومع العوض ـ والانتقال كحق التحجير ، بل حق الخيار والشفعة ونحوهما.

أمّا حق التحجير فلأنّ‌ ما اعتبره الشارع فيه هو كونه أولى بالأرض المحجّرة بتملكها بالإحياء ، وعدم جواز مزاحمة الغير له ، فللمحجّر إسقاط‍‌ أولويته بمعنى إخراج الأرض عن طرفية الإضافة الخاصة المعبّر عنها بالأولوية ، ويرتفع المانع حينئذ عن تملك الغير بإحيائها وعمارتها. كما أنّ‌ له نقل أولويته إلى الغير مجانا أو مع العوض ، وكذا تنتقل الى الوارث ، فيقوم مقام مورّثه في أولويته بالأرض.

وأمّا حق الشفعة والخيار فقد حكم المحقق الأصفهاني قدّس سرّه بجواز الإسقاط‍‌ والانتقال ، ومنع من نقلهما. أمّا جواز الإسقاط‍‌ في باب الخيار فلأنّ‌ مصلحة الإرفاق بالبائع أو بالمشتري أو بهما معا أوجب اعتبار السلطنة لهم على فسخ البيع وإمضائه رعاية لذي الحق ، لا لمن عليه الحق كما كان في حق الولاية والحضانة ، ومن المعلوم أنّ‌ لصاحب الحق إسقاط‍‌ حقه.

وكذا في حق الشفعة ، فإنّ‌ حكمة الجعل ـ وهي عدم تضرر الشريك ببيع حصة شريكه ممنّ‌ لا يلائمه أحيانا ـ أوجبت جعل حق انتزاع الحصة من المشتري ببذل مثل الثمن إليه ، فلذي الحق إسقاط‍‌ حقه كما إذا لم يكن تضرّر في البين ، أو تحمّل الضرر.

وأمّا الانتقال بالإرث فلأنّه مقتضى قيام الوارث مقام مورّثه فيما كان له من مال وحق كما يدل عليه ما ورد من «أن كل ما تركه الميت من مال أو حق فلوارثه».

وأمّا عدم جواز النقل فلأنّ‌ حق الخيار ثبت لعنوان البيّع والمغبون وصاحب الحيوان ومن له الشرط‍‌ ونحوه من العناوين ، وهذا العنوان كما يحتمل كونه معرّفا كذلك يحتمل كونه مقوّما ، والمجدي في جواز النقل إحراز المعرفية ، ومع عدمه يقتصر على نفس العنوان المأخوذ في أدلة جعل الخيار.

وأمّا حق الشفعة فلأنّ‌ حكمة التشريع هي عدم تضرر الشريك ، دون غيره ، فلا معنى

١٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

لنقله إلى الأجنبي أو إلى الشريك. أمّا الأجنبي فلعدم تضرره. وأمّا المشتري فلأنّه قد تملك الشّقص بشرائها من أحد الشريكين فلا معنى لتملكه له مرة أخرى بانتقال الحق إليه (١) ، هذا.

أقول : لا ريب في أنّ‌ القرائن المكتنفة بالكلام توجب ظهورا ثانويا في توسعة موضوع الحكم تارة وتضييقه اخرى ، إن كانت تلك القرائن بمثابة يصح للمتكلم الاعتماد عليها في إفادة مراده الجدّي ، وإلاّ فالمتّبع بحسب الأصل العقلائي المتسالم عليه هو الظهور الأوّلي ما لم تقم على خلافه حجة أقوى كما في موارد حمل الظاهر على النص أو الأظهر.

وعلى هذا فحكمة تشريع حق الشفعة وإن كانت سدّ باب تضرر الشريك أحيانا ، إلاّ أن النسبة بين موارد مشروعية هذا الحق والضرر عموم من وجه ، فقد يجتمعان ، وقد يتضرر ولا شفعة كما في زيادة الشركاء على اثنين ، وكما في الشركة في غير الأرضين والدور على ما تضمنته عدة من النصوص (٢). وقد يثبت الشفعة مع انتفاء الضرر كلّية ، بل ربما كان المشتري أنفع للشريك من شريكه السابق.

وعليه فلا سبيل لجعل التضرر قرينة على عدم قابلية الحق للنقل الى الغير. خصوصا بناء على ميل هذا المحقق في قاعدة لا ضرر إلى مختار الفقيه شيخ الشريعة قدّس سرّه من : أنّ‌ قضاء النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالشفعة لم يكن مذيّلا بلا ضرر ، وإن وردا مجتمعين في رواية عقبة بن خالد عن الصادق عليه السّلام : «قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار» (٣). لكنه من الجمع في الرواية لا من الجمع في المروي حتى يكون ملاك الجعل المنّة على الشريك بنفي الضرر عنه خاصة.

كما أنّ‌ حكمهم بثبوت حق الشفعة مطلقا حتى مع عدم التضرر بشركته مع المشتري ـ بل مع الانتفاع به ـ كاشف عن عدم دوران الحق مدار التضرر أصلا. وعليه فليس من ثبت له الحق إلاّ عنوان الشريك ، وكما يحتمل كون العنوان معرّفا فكذا يحتمل كونه مقوّما ، ومعه لم

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ص ١٢.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٧ ، ص ٣٢٠ و ٣٢٢ ، الباب ٧ و ٨ من أبواب الشفعة.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣١٩ ، الباب ٥ من كتاب الشفعة ، الحديث : ١.

١٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

يكن الحكم بانتقال الحق إلى الوارث بذلك الوضوح. فلو فرض كون الضرر حكمة الجعل كان كتعليل وجوب الاعتداد على الزوجة بمنع اختلاط‍‌ المياه ، والمناسبة تقتضي تضيق موضوع الحكم بمن يتمشّى فيه احتمال الاختلاط‍‌ ، مع أنّهم تسالموا على وجوب العدة على الزوجة مطلقا ولو مع القطع بانتفاء الاختلاط‍‌. وهذا كاشف عن عدم كون حكمة التشريع موجبة للتوسعة والتضييق في جميع الموارد.

فالمهم في الحكم بجواز الإسقاط‍‌ والنقل والانتقال ملاحظة دليل الحق ، كرواية الغنوي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بعد سؤاله عن مورد الشفعة ، فقال عليه السّلام : «الشفعة في البيوع إذا كان شريكا فهو أحق بها بالثمن» (١) وورد هذا التعبير في بعض الأخبار ، كما دلّ‌ على هذا الحق في بعض النصوص كلمة اللام الذي قد يدّعى ظهوره في الملك ، فلاحظ‍‌ روايات الباب. ومن المعلوم أنّ‌ تفويض الأمر إلى الشريك وكونه أولى بحصة شريكه التي باعها ظاهر عرفا في قابلية إسقاطه ونقله وانتقاله.

وأمّا في حق الخيار فالحكمة وإن كانت هي الإرفاق بذي الخيار ، إلاّ أنّ‌ إلغاء خصوصية العناوين المأخوذة في الأدلة «كالبيّع ، والمشتري ، وصاحب الحيوان» ونحوها ـ حتى يترتب عليه قابلية إسقاطها وانتقالها دون نقلها ـ لا يخلو من تأمل.

فالأولى استظهار القابلية من لسان الدليل المتكفل للسلطنة على ترجيح أحد الطرفين من الفسخ والإمضاء ، كقوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «البيّعان بالخيار حتى يفترقا ، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام» (٢) وكتعليل سقوط‍‌ خيار الحيوان إن أحدث المشتري في الحيوان حدثا قبل انقضاء الثلاثة بما روي عن الصادق عليه السّلام : «فذلك رضى منه ، فلا شرط‍‌» (٣). فإنّ‌ ظهوره العرفي في كون المجعول حقّا ممّا لا ينكر.

وعلى هذا فلا يبعد جواز نقل حق الخيار إلى الغير كجواز إسقاطه ، فيكون للمنتقل إليه

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٣١٦ ، الباب ٢ من كتاب الشفعة ، الحديث : ١.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٣٤٥ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الحديث : ١.

(٣) المصدر ، ص ٣٥١ ، الباب ٤ من أبواب الخيار ، الحديث : ٤.

١٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

السلطنة على أمر العقد فسخا وإمضاء ، أو على الاسترداد. فجواز نقل الخيار إلى الأجنبي كجواز جعله له ابتداء في ضمن العقد. نعم لا بد من ترتب غرض عقلائي عليه ، وإلاّ فالعوضان يعودان الى مالكيهما لا إلى من انتقل الحق إليه. ولذا قد يشكل نقل حق الشفعة إلى الأجنبي. إلاّ أن يراد منه التوكيل في إعمال الحق ، كما إذا لم يتمكن الشفيع ـ لجهة من الجهات ـ من ضمّ‌ الحصة إلى ملكه.

والحاصل : أنّ‌ مجرد أخذ عنوان خاصّ‌ في دليل الخيار والشفعة لا يمنع عن قبول النقل الى الغير ، إلاّ بإحراز كون العنوان مقوّما ، فهما نظير الحبوة المخصوصة بالولد الأكبر من بين الورثة ، ولكن لا مانع من سلطنته على نقلها الى غيره ببيع أو هبة أو صلح.

وأمّا حقّ‌ الرهانة فهو حق متعلق بالعين المرهونة لاستيفاء الدين منها. وحيث إنّ‌ غير الدائن لا حقّ‌ له فيها فقد يشك في جواز نقله ، إلاّ أن يكون من باب التوكيل في الإنقاذ واستيفاء الدين منها. نعم لا مانع من انتقاله بالموت ، فيكون الوارث قائما مقام الدائن في جعل العين وثيقة لدينه المستقرّ في ذمة المديون.

هذا بعض الكلام في أقسام الحقوق بلحاظ‍‌ ما يستفاد من أدلتها من قبولها للسقوط‍‌ والنقل والانتقال.

المقام الثالث : في حكم الشك في كيفية الجعل ، فتارة يكون الشك في أنّ‌ المجعول حكم ـ بمعناه الأخص المقابل للحق ـ أو حق ، وأخرى في قابلية الحق للسقوط‍‌ ، وثالثة في قابلية نقله وانتقاله.

أ ـ حكم الشك في أن المجعول حق أو حكم

أمّا الأوّل : فإن كان لدليله عموم أو إطلاق أخذ به ، ومقتضاه إحراز إطلاق المجعول وعدم سقوطه بالإسقاط‍‌ ، ويندرج في الحكم المصطلح المقابل للحق ، ولا بأس بالتعرض لبعض ما عدّ مثالا للمسألة.

فمنه : ما إذا شكّ‌ في أنّ‌ جواز أكل المارّة من الشجرة الممرور بها حق يسقط‍‌ بالإسقاط‍‌ أو حكم يبقى بعد إسقاط‍‌ المارّ.

١٥٤

.................................................................................................

______________________________________________________

وإن كان دليله مجملا ، فإن كان في المورد عام فوق كان هو المرجع ، كحرمة أكل أموال الناس بالباطل ، والقدر المتيقن من دليل التقييد أو التخصيص هو المارّ الآكل للثمرة ، فيبقى غيره مندرجا في عموم حرمة الأكل ، ونتيجته عدم بقاء الجواز بعد إسقاطه. ولو منع من مرجعية الآية الشريفة هنا أمكن الرجوع الى عموم النهي عن التصرف في مال الغير بدون إذنه ورضاه ، لأنه من الشك في التقييد الزائد على جواز التصرف ـ للمارّ ـ في ملك غيره.

وإن لم يكن في المورد عام فوق كان المرجع استصحاب بقاء المجعول ، ونتيجته بقاء الحق بعد إسقاطه ، بناء على حجية الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

ومنه : ما إذا شكّ‌ في بقاء سلطنة ولي الدم على القاتل عند إسقاط‍‌ حقه من القصاص ، فمقتضى إطلاق قوله تعالى : (وَمَنْ‌ قُتِلَ‌ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ‌ سُلْطٰاناً) (١) بقاء الجواز بعد إسقاطه ، لإطلاق السلطنة المجعولة لحالتي الإسقاط‍‌ وعدمه.

ولو نوقش في إطلاق الآية كان المرجع استصحاب بقاء المجعول بناء على جريانه في الشبهات الحكمية ، فيترتب عليه جواز الاقتصاص بعده.

وأمّا ما أفاده السيد المحقق الخويي قدّس سرّه «من مرجعية عموم الآيات والروايات الدالة على حرمة قتل النفس المحترمة ، كقوله تعالى : (وَمَنْ‌ يَقْتُلْ‌ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ‌ جَهَنَّمُ‌ خٰالِداً فِيهٰا) (٢) وقوله عزّ من قائل وَ (لاٰ تَقْتُلُوا النَّفْسَ‌ الَّتِي حَرَّمَ‌ اللّٰهُ‌ إِلاّٰ بِالْحَقِّ‌) (٣) ، وكالروايات المتضافرة المروية في أبواب قصاص النفس (٤). وبها يثبت عدم جواز الاقتصاص بعد إسقاطه» (٥) فلا يخلو من تأمل ، فإنّ‌ العام وإن كان حجة في غير القدر المتيقن من التخصيص بالمجمل ، كما إذا تردد الفاسق بين مرتكب خصوص الكبائر ومطلق المعصية ، فإنّ‌ عموم «أكرم العلماء» يعيّن حكم مرتكب الصغيرة ، فيجب إكرامه ، ويكون الخارج عن

__________________

(١) الإسراء ، الآية : ٣٣.

(٢) النساء ، الآية : ٩٣.

(٣) الأنعام ، الآية : ١٥١.

(٤) راجع وسائل الشيعة ، ج ١٩ ، ص ١٠ الى ٢٠ الباب ١ و ٢ وغيرهما من أبواب قصاص النفس.

(٥) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٤٨ و ٤٩.

١٥٥

.................................................................................................

______________________________________________________

حكم العام خصوص مقترف الكبيرة.

إلاّ أنّ‌ تطبيقه على مثل حق القصاص بعد الإسقاط‍‌ لا يخلو من شيء ، وذلك لأنّ‌ الآيات والروايات الناهية عن سفك الدماء محفوفة بقرينة قطعية من أوّل الأمر مانعة عن انعقاد الإطلاق فيها لمن يقتل قصاصا ، فإنّه من مرتكزات العقلاء ومن أحكام الشرائع السابقة ، خصوصا بملاحظة مثل قوله تعالى وَجَزٰاءُ سَيِّئَةٍ‌ سَيِّئَةٌ‌ مِثْلُهٰا (١) وقوله تعالى فَمَنِ‌ اعْتَدىٰ‌ عَلَيْكُمْ‌ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ‌ بِمِثْلِ‌ مَا اعْتَدىٰ‌ عَلَيْكُمْ‌ (٢) وما دلّ‌ على حرمة الإسراف في القتل ، والكلّ‌ شاهد على أنّ‌ حرمة قتل المؤمن والوعيد بخلود القاتل في النار غير ناظر إلى حكم وليّ‌ الدم الذي يأخذ بحق قصاصه. وليس القتل بسبب حقّ‌ كالقصاص مندرجا في عموم النهي عن قتل المؤمن حتى يرجع إليه لو شك في بقاء السلطنة على القاتل بعد الإسقاط‍‌.

وبعبارة أخرى : ارتكازية حق القصاص عند العقلاء ـ بقرينة وروده في الشرائع السابقة وإباء سياق ما دلّ‌ على حرمة قتل المؤمن متعمدا عن التخصيص ، وكون تضيق المحمول من أقوى القرائن على تضيق الموضوع وتقيّده بغير القتل القصاصي ـ تقتضي خروج القتل قصاصا عن عموم النهي موضوعا ، وليس مندرجا فيه حتى يرجع إليه في الشك في التقيّد الزائد ، والمستفاد منها أنّ‌ القتل قد يكون بحقّ‌ كما في الأخذ بالقصاص ، وقد لا يكون بحقّ‌ وهو الذي توعد عليه بالخلود في النار. وأنّهما متقابلان لا يندرج أحدهما في الآخر.

ومنه : ما إذا شكّ‌ في بقاء حقي الخيار والشفعة بعد الإسقاط‍‌ كبقاء الجواز الحكمي في رجوع الواهب عن هبته ، وارتفاعهما لكونهما من الحقوق التي يكون زمامها بيد ذي الحق ، وقد أفاد قدّس سرّه أنّه لا إطلاق في دليل ثبوتهما لذي الخيار والشفيع ، بل المرجع الاستصحاب بناء على حجيته في الشبهات الحكمية ، وعلى تقدير عدم حجيته فيها فالعمومات الدالة على حرمة أكل مال الناس من دون رضاه محكّمة (٣).

__________________

(١) الشورى ، الآية : ٤٠.

(٢) البقرة ، الآية : ١٩٤.

(٣) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٤٩.

١٥٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أقول : أمّا إنكار إطلاق دليل حقي الخيار والشفعة فغير ظاهر ، فإنّه كما يتمسك بإطلاق ما روي عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «من سبق الى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» (١) و يلتزم ببقاء أولويته بما سبق إليه من المكان سواء أسقط‍‌ حقّه أم لم يسقطه ، كما اعترف قدّس سرّه به ، فكذا لا مانع من الأخذ بإطلاق قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» سواء أسقط‍‌ أحدهما أو كلاهما حقّه أم لم يسقطه. وكذا قوله عليه السّلام في حق الشفعة : «فهو أحق به» مع وضوح كون الإسقاط‍‌ في كلا المقامين من الحالات المتبادلة المندرجة في الدليل.

وأمّا الحكم بمرجعية الاستصحاب أوّلا ثم عموم حرمة أكل مال الغير بالباطل فلا يخلو من غموض ، إذ مع فرض وجود العموم الذي هو حجة في ما عدا القدر المتيقن من دليل المخصّص ـ أعني به الأخذ بحقّي الخيار والشفعة وعدم إسقاطهما ـ لا يبقى مجال للرجوع الى الأصل العملي ، وبيانه : أنّ‌ لدليل حرمة الأكل عموما أفراديا وإطلاقا أزمانيا وأحواليا ، فلا يجوز للبائع التصرف في ما انتقل عنه إلى المشتري ، ولا للشريك التصرف في حصة المشتري التي اشتراها من شريكه. وإجمال المخصّص ـ وهو دليل تشريع الخيار والشفعة ـ يقضي بالأخذ بالقدر المتيقن منه وهو إعمال ذي الخيار والشفيع حقّهما ، وانتزاع ما كان بيد من عليه الخيار والمشتري. وأمّا إذا أسقطا حقّهما وأرادا الأخذ به بعده كان عموم حرمة الأكل حاكما بعدم الجواز.

هذا ما تقتضيه الصناعة ، لكنه مجرد فرض ، إذ لا وجه للشك في أنّ‌ المجعول في مورد القصاص والخيار والشفعة هو السلطنة والأولوية المعبّر عنهما بالحق المقابل للجواز الحكمي ، ومن المعلوم كون أدنى مراتبه قابلية سقوطه بإسقاط‍‌ من له الحق. هذا كله في حكم الشك في السقوط‍‌ والبقاء ، ومرجعه الى الشك في كون المجعول حقّا مصطلحا أو حكما.

ب ـ حكم الشك في قابلية الحق للإسقاط‍‌

وأمّا الثاني : وهو الشك في قابلية الحق للسقوط‍‌ بعد إحراز عدم كونه حكما مصطلحا

__________________

(١) مستدرك الوسائل ، ج ١٧ ، ص ١١٢ ، الباب ١ من أبواب إحياء الموات ، الحديث : ٤.

١٥٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فإن قلنا باقتضاء قاعدة «لكل ذي حق إسقاط‍‌ حقه» عدم حقّية ما لا يقبله فهو ، وإلاّ فإن أمكن رفع الشك بالرجوع إلى دليل الحق ولو بمعونة القرائن المكتنفة به واستفادة قيام الحق بشخص ذي الحق كالوصي والمتولي للموقوفة والناظر عليها ، أو قيامه بعنوان خاص كالفقيه ، أو روعي فيه مصلحة الغير كما في حق الحضانة ، فالظاهر عدم قابليته للسقوط‍‌ ، لظهور العنوان في دوران الحق مداره.

وإن لم يمكن استفادة شيء من ذلك كان مقتضى جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية بقاءه وعدم سقوطه.

ج ـ حكم الشك في قابلية الحق للانتقال

وأمّا الثالث : وهو الشك في انتقال الحق قهرا بموت وارتداد فنقول : إن أمكن استفادة الحكم من الدليل والخصوصيات المكتنفة به فهو ، وإلاّ يجري الاستصحاب فيه ، ويحكم بعدم سقوطه بالموت ، الذي هو من قبيل الشك في رافعية الموجود ، وهو مورد تسالمهم على حجية الاستصحاب. فلو شك في انتقال حق الخيار والشفعة والتحجير الى الوارث لم يكن مانع من الالتزام بانتقاله.

ومناقشة المصنف قدّس سرّه في هذا الاستصحاب بما أفاده في أحكام الخيار بقوله : «والتمسك في ذلك ـ أي في قابلية حق الخيار للانتقال ـ باستصحاب بقاء الحق ، وعدم انقطاعه بموت ذي الحق أشكل ، لعدم إحراز الموضوع ، لأنّ‌ الحق لا يتقوّم إلاّ بالمستحق» غير ظاهرة ، لاعترافه قدّس سرّه بأن هذا القسم من الحقوق سلطنة ، وهي كالملك قابلة للانتقال القهري ، والشك إنّما هو في رافعية الموت لها ، كالشك في إطفاء الريح الخفيفة للسراج مع استعداد نورها للبقاء لوجود الوقود. فيندرج هذا الحق ببركة الاستصحاب في «ما تركه الميت».

والإشكال في جريانه بعدم إحراز الموضوع ـ لتقوم الحق بالمستحق ـ ممنوع بالنقض بأملاكه ، لتقوّمها بالمالك ، مع أنّه لا ريب في انتقالها الى الوارث.

وحلّه : أن سبب الانتقال الى الوارث بقاء الملك أو الحق إلى زهوق روح المورّث ، والأوّل محرز بالاستصحاب ، والثاني بالوجدان.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بل لا يبعد الاستغناء عن الاستصحاب في المقام بناء على كون الحق سلطنة فعلية ، أو إضافة اعتبارية أخرى أثرها السلطنة ، فإنّه كالملك مشمول لإطلاق الموصول في قولهم عليهم السّلام : «ما تركه الميت فهو لوارثه» بناء على أن مفاده عدم إيجاب الموت سقوط‍‌ ما كان للميت من المال أو الحق عن إضافة الملكية ، بل تنتقل هذه الإضافة إلى الوارث. وإن كانت الدقة تقتضي حدوث إضافة أخرى للوارث مماثلة لإضافة المورّث ، لاستحالة بقاء شخص الإضافة مع تبدل طرفها.

والحاصل : أنّ‌ مدلول الرواية عقدان سلبي وإيجابي ، فالأوّل عدم سقوط‍‌ الملكية بالموت ، والثاني انتقال الإضافة إلى الوارث على النحو الّذي كان للمورّث.

لا يقال : إن مقتضى أصالة عدم الانتقال إلى الوارث ذهاب الحق بالموت ، فلا يصدق عليه «ما تركه الميت» حتى ينتقل الى الوارث.

فإنه يقال : إنّ‌ الشك في الانتقال مسبّب عن بقاء الحق بعد الموت وارتفاعه به ، فإذا جرى الأصل في السبب وأحرز به بقاؤه وعدم سقوطه بالموت اندرج في «ما تركه الميت» وانتقل الى الوارث.

نعم الشك في البقاء إلى ما بعد الموت ناش عن الشك في القابلية ، إذ لو كان الحق مجعولا بنحو يتقوّم بمن له الحق خاصة كان ارتفاعه بموت صاحبه مسلّما ، ولا موضوع لعنوان «ما تركه الميت» حتى ينتقل الى الوارث.

لكن لا يجري الأصل في نفس القابلية ، لعدم العلم بها سابقا ، فيجري الأصل ـ لا محالة ـ في مسبّبه ، وهو البقاء إلى ما بعد الموت الملازم لانتقاله إلى الوارث ، لصدق «ما تركه الميت» عليه.

وهذا نظير عدم جريان الاستصحاب في قابلية الحيوان للتذكية وعدمها ، وجريانه في عدم التذكية ، فإذا تحقّق كلّ‌ ما له دخل في التذكية من فري الأوداج بشرائطه ، وتمحّض الشك في حلية الحيوان في قابليته للتذكية جرى الأصل في المسبب ، ويحكم بعدم التذكية.

هذا كله في تقريب التمسك باستصحاب شخص الحق ، والحكم ببقائه بعد الموت.

ويمكن أن يقرّر بنحو يندرج في القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي ، بتقريب : أنّ‌

١٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الحق ـ المشكوك انتقاله بالموت ـ إن كان متقوّما بصاحبه كان ساقطا بموته ، وإلاّ فهو باق ، وهذا نظير الشك في كون الحيوان الداخل في الدار موجودا بفرد قصير العمر وطويله.

وبعبارة أخرى : مناط‍‌ القسم الثاني ـ وهو كون الشبهة موضوعية ـ موجود في المقام ، حيث إن الحقوق على نوعين ، فمنها ما يتقوّم بمن له الحق ويرتفع بموته قطعا كحق القسم والاستمتاع ، ومنها ما لا يتقوم به كحق التحجير ، فلو شكّ‌ في مثل حق الخيار أمكن إبقاؤه تعبدا بالاستصحاب ، فيندرج في موضوع تشريع الإرث.

وتوهّم كونه من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، ببيان : «أنّه يعلم بارتفاع الفرد الأوّل من المستحقّ‌ ـ بالموت ـ ويشك في قيام الثاني مقامه. نظير العلم بخروج زيد من الدار والشك في دخول عمر وفيها مقارنا لخروج زيد عنها» فاسد ، بأن هذا الشك ناش عن كيفية جعل الحق وتشريعه ، فيجري الاستصحاب في نفس المجعول الشرعي الجامع بين الخصوصيتين ، ويحكم ببقائه إلى ما بعد الموت ببركة الأصل ، ويندرج في الموصول في «ما تركه الميت».

ولكن ما ذكرناه ـ من استصحاب كلي الحق إلى ما بعد الموت بنحو القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي ـ مخدوش بأنّ‌ جريانه منوط‍‌ بموضوعية نفس الكلي للأثر الشرعي ، كاستصحاب كلّي الحدث لمن توضأ بعد البلل المشتبه ، فإنّه لا مانع من جريانه لإثبات حرمة مسّ‌ الكتاب العزيز ، بناء على موضوعية كلّي الحدث لحرمة المسّ‌ على ما استفيد من قوله تعالى (لاٰ يَمَسُّهُ‌ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) وعدم كونه مشيرا إلى خصوصيتي الحدث الأكبر والأصغر ، إذ عليه لا أثر لكلي الحدث حتى يستصحب ، والتفصيل في محله.

وعليه يقال في المقام : إنّ‌ المنتقل إلى الوارث ليس كلّي الحق الثابت للمورّث ، بل خصوص الحق غير المتقوم بمستحقه ، والاستصحاب قاصر عن إثبات هذه الخصوصية إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت. فاستصحاب الحق ـ الجامع بين فرديه ـ لا يجري ، لعدم كونه موضوعا للأثر المقصود وهو الانتقال الى الوارث ، وإنّما موضوع الأثر هو الحق المتخصص بعدم كونه متقوّما بمن له الحق ، واستصحاب الجامع لا يثبت هذه الخصوصية. فلا يجري ، لعدم أثر له. وحينئذ فلا محيص عن استصحاب عدم الانتقال.

١٦٠