هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج

هدى الطالب إلى شرح المكاسب - ج ١

المؤلف:

السيّد محمّد جعفر الجزائري المروّج


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٤

.................................................................................................

__________________

انتقال الحق الى من هو عليه ، وليس انتقاله إلى الأجنبي موردا للبحث حتى يورد على المصنف بالأخصية. نعم عدم جواز جعل الحق عوضا لغير من عليه الحق وإن كان صحيحا ، لكنه لا بمناط اتحاد من له الحق وهو من عليه ، بل بمناط عدم قابلية الحق للنقل والتمليك إلى الغير.

وأما الإشكال الثاني ـ وهو تعلق حقّي الخيار والشفعة بالعقد لا بمن هو عليه ـ ففيه : أن مثل حقي الشفعة والخيار وإن لم يكن كحق القصاص في تعلّقه بشخصين ، فطرف الحق هو العقد كما صرّح به المصنف في الخيارات ، لا السلطنة على استرداد العين ، إلّا أنّ السلطنة على فسخ عقد الغير سلطنة عليه حقيقة ، لاستلزام الاستيلاء على حلّ العقد ـ وهو الالتزامان المرتبطان ـ للسلطنة على الملتزم والعاقد ، ومعه يعود محذور اتّحاد المسلّط والمسلّط عليه عند نقل مثل حق الخيار الى من هو عليه. وكذا الحال في حق الشفعة ، فإنّ السلطنة على عقد الشريك مع المشتري سلطنة على المشتري حقيقة وبلا عناية ، فتأمّل.

وأما الإشكال الثالث ـ وهو توقف ملك الكلي على من يملك عليه ـ فيمكن أن يقال : إنّ توقف الملك في الكليات الذمية على مغايرة المالك للمملوك عليه وإن كان صحيحا ، لكن الظاهر أنّ مقصود المصنف من نفي الحاجة الى المملوك عليه في المقام هو ملاحظة واقع الأمر بعد انتقال الدين إلى المديون ، لا قبله ، والمتوقف على المملوك عليه هو الدين كما إذا تعهّد البائع بالكلي سلفا أو حالا لغيره ، فالمالك هو المشتري والمملوك هو الحنطة مثلا ، والمملوك عليه هو البائع ، وهذا مسلّم. لكن إذا باع المشتري ما يملكه في ذمة البائع من نفس البائع لا من الأجنبي لا تتوقف مالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما ـ ثم سقوطه ـ على طرف آخر.

وبهذا يسلم كلام المصنف عن الاشكال ، ولا مجال لتنظيره ببيع الحق ممن هو عليه في استلزامه الاستحالة. إلا أن يناقش في أصل تصوير مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه بالملكية الاعتبارية.

ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني قدس‌سره ـ مضافا إلى إشكال الأخصية المتقدّم في كلام صاحب العروة ـ من وجهين :

أحدهما : أنّ مورد الكلام هو عدم صحة جعل الحق عوضا في البيع ، فلا يناسبه التعليل

١٠١

.................................................................................................

__________________

بقوله : «لأن البيع تمليك الغير» لعدم دلالته على لزوم النقل من طرف الثمن أيضا ، كما لا يناسبه النقض ببيع الدين أصلا ، لعدم كونه بصدد بيان عدم وقوعه عوضا ، إذ المفروض كون الدين مبيعا لا ثمنا.

وثانيهما : أنّ الحق ليس بنفسه سلطنة ، بل هي من آثاره ، كما تكون لازمة للملك أيضا ، فلو امتنع اتّحاد طرفي الحق لاستحالة اجتماع المتقابلين لزم في بيع الدين ممّن هو عليه أحد محذورين ، إمّا اتّحاد المسلّط والمسلّط عليه لو حصلت السلطنة للمديون بصيرورته مالكا لما في ذمته ، وإمّا تفكيك الملكية عن السلطنة التي هي أثرها لو قيل بأنّ الحاصل في بيع الدين من المديون هو مجرد الملكية والسقوط ، لا السلطنة على نفسه حتى يترتب عليه اجتماع المتقابلين المحال (١).

أقول : أمّا الإشكال الأوّل فالظاهر عدم وروده على المتن بناء على مبناه من أنّ إنشاء التمليك في البيع يكون من الطرفين ، وإن كان من طرف المشتري ضمنيّا كما صرّح به المصنف في الجواب عن النقض الرابع على تعريف البيع بإنشاء تمليك عين بمال. وعليه يكون تعليل عدم وقوع الحق ـ غير القابل للنقل ـ عوضا في البيع بقوله : «لأنّ البيع تمليك الغير» في محله ، لعدم تمكن المشتري من تمليك الثمن ـ وهو الحق ـ للبائع ، لفرض عدم قابليته للنقل ، فلا يتحقق مفهوم المبادلة المأخوذة في تعريف المصباح.

وأمّا نقض عدم وقوع الحق ثمنا ببيع الدين ممن هو عليه فالمقصود منه النقض بالأولوية ، لأنّ كل من اكتفى بالإسقاط في ناحية المعوّض الذي هو المبيع الملحوظ فيه الأصالة فقد اكتفى بالإسقاط في طرف العوض ـ الذي هو مورد البحث ـ بطريق أولى ، فتأمل.

مضافا إلى : أنّ مقصوده منع تنظير صاحب الجواهر سقوط الحق ببيع الدين.

وأما الإشكال الثاني فالظاهر. وروده على المتن ، فإنّ الملك الاعتباري ـ بأيّ معنى فسّر ـ

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ص ٤.

١٠٢

.................................................................................................

__________________

موضوع للسلطنة كما يقتضيه مثل ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «الناس مسلّطون على أموالهم» فلو امتنع قيام طرفي السلطنة الفعلية ـ في الحق ـ بواحد من جهة استحالة اجتماع المتقابلين لزم امتناعه في الملك أيضا ، كما أنّه لو أمكن تصوير قيامه بشخص واحد ـ كما سيأتي في كلام المحقق الأصفهاني ـ جرى ذلك في الملك أيضا.

والحاصل : أن الحق والملك بوزان واحد إمكانا وامتناعا.

ومنه يظهر أن المناقشة فيه «بأنّ الحق سلطنة اعتبارية هي من الأحكام الوضعية كاعتبار الملكية ، وجواز التصرف تكليفا ووضعا يعبّر عنه بعنوان السلطنة ، لا أنه هناك سلطنة اعتبارية حتى يكون في كل ملك اعتبار الملكية واعتبار السلطنة» (١) غير ظاهرة ، لكون المجعول نفس السلطنة في مورد الملّاك بالنسبة إلى أموالهم ، ولو كانت عنوانا مشيرا إلى مشروعية التصرفات تكليفا ووضعا كانت حكما مشتركا بين الملك والحق ، إذ لا يراد من كون الحق سلطنة إلّا جواز تصرّف ذي الحق في حقه.

والحاصل : أنّ السلطنة أثر مشترك بين الملك والحق ، وهي إمّا اعتبار وضعي ، وإمّا عنوان جامع بين أنحاء التصرفات ، فلا وجه للتفكيك بين الملك والحق بجعل السلطنة في الملك نفس الجواز تكليفا ووضعا ، وفي الحق اعتبار السلطنة.

هذا بناء على الاقتصار على ما في المتن من كون الملك نسبة اعتبارية منتزعة من جواز التصرف ونحوه من الأحكام التكليفية كما هو مبناه المصرّح به في باب الاستصحاب وغيره من انتزاع الأحكام الوضعية من التكليفيات ، وليست مستقلة بالجعل ، كما أنّ الملكية ليست عنده كالطهارة والنجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع ـ على ما نسبه السيد إليه. فعلى كلّ تكون السلطنة على التقليب والتقلب من آثار الملك وأحكامه.

وأمّا بناء على ما أفاده المصنف قدس‌سره في رسالة قاعدة «من ملك» من التصريح بكون الملكية سلطنة فعلية ، فالإشكال آكد ، لمساوقة اعتبار الملكية لاعتبار السلطنة على المملوك ،

__________________

(١) حاشية المكاسب للمحقق الأصفهاني ، ج ١ ، ص ١٣.

١٠٣

.................................................................................................

__________________

ولذا تكون سلطنة الصبي والمحجور على ماله شأنية لا فعلية ، وحينئذ يكون محذور استحالة قيام طرفي الملك بواحد ـ كما في مالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما ـ محذور اجتماع المسلّط والمسلّط عليه في واحد.

وعلى كلّ حال فالسلطنة ملحوظة في الملك سواء أكان حقيقته إضافة اعتبارية أثرها السلطنة ، أم كانت نفس السلطنة الاعتبارية ، هذا.

والحاصل : أنّ إشكال المحقق الخراساني وارد على المتن ولا دافع له.

هذا مضافا الى ما في تفسير مثل حق الخيار بالسلطنة الفعلية من إشكال آخر ، وهو : أنه لا خلاف في كونه موروثا ، فلو ورثه الصبي كان كسائر ما يرثه مما له سلطنة اقتضائية عليه لا فعلية ، وسلطنة وليّه الفعلية لا ربط لها به. ودعوى انتزاع سلطنته من جواز تصرف الولي ممنوعة ، إذ لا معنى لقيام الأمر الانتزاعي بالصبي ونحوه من القصّر ، وقيام منشأ الانتزاع بمن له الولاية.

ومنها : ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره من وجهين :

أحدهما ـ بتوضيح منّا ـ : أنّ منشأ استحالة انتقال الحق إلى من هو عليه تضايف عنواني السلطان والمسلّط عليه ، والمتضايفان متقابلان لا يجتمعان في واحد. لكنه ممنوع ، لعدم اقتضاء مطلق التضايف للتقابل ، بل إنّما هو شأن قسم خاص منه ، وهو المتضايفان المتغايران وجودا كالعلة والمعلول والتقدم والتأخر ، وأمّا العالمية والمعلومية والمحبية والمحبوبية فيقومان بوجود واحد بلا ريب.

وحقيقة السلطنة ـ كالملكية الحقيقية ـ تكاد أن تكون من القسم الثاني ، إذ ليست حقيقة السلطنة إلّا كون الشخص قاهرا على شخص ، وكون الغير طوع إرادته في حركاته وسكناته ، ومن المعلوم أنّ أولى الأشخاص بهذا المعنى هو الإنسان بنفسه ، فإنّه لا يتحرّك إلّا بإرادة نفسه ، فهو مسلّط على نفسه حقيقة. ولا محذور في ذلك بعد كون مرتبة من النفس قاهرة على مرتبة اخرى منها ، كما هو المشاهد في أصحاب الرياضات والمجاهدين بالجهاد الأكبر لأجل قهر

١٠٤

.................................................................................................

__________________

النفس وجعل زمامها بأيديهم وطوع إرادتهم.

وعليه فالسلطنة الحقيقية ـ فضلا عن الاعتبارية ـ لا تتوقف على تعدد الطرف حتى يلزم المحال من اجتماعهما في شخص واحد.

ودعوى توقف السلطنة على تعدد الوجود ـ وامتناع قيامها بواحد ـ لأنّ خصوصية الاستعلاء المقتضية لكون السلطان فوقا على المسلّط عليه موجبة لمغايرتهما وجودا ، لاستحالة كون الشخص فوق نفسه ، فيتجه كلام الماتن من عدم معقولية قيام طرفي الحق بواحد (ممنوعة) بأنّ السلطنة هي القهر والاستيلاء ، ولا تتوقف بحسب طبعها على تعدد الوجود ، وإن كانت كذلك في بعض الموارد كما في السلطان ورعيّته ، ولكن لا تتوقف عليه في مثل كون النفس بمرتبة مريديتها قاهرة على مرتبة انفعالها وإطاعتها.

ثانيهما : أنّ محذور الاستحالة ـ على فرض ثبوته ـ إنّما هو في السلطنة الحقيقية ، لا الاعتبارية التابعة للأثر المصحّح للاعتبار ، فكما يعقل مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه ، وأثرها السقوط ، فكذا في السلطنة الاعتبارية. وكما أنّ اعتبار هذا المعنى لغو في السلطنة بدون أثر السقوط كذلك في الملكية.

وعليه لا مانع من أن يعتبر الشارع من عليه الخيار مسلّطا ومسلّطا عليه ، إذ الكلام في السلطنة الاعتبارية. وامتناع اجتماع طرفي السلطنة الحقيقية في واحد لا يقتضي امتناعه في أمثال المقام ، لكون التضايف والتقابل من خصوصيات دار الوجود لا المفاهيم الاعتبارية.

نعم يشكل أصل اعتبار الملكية في بيع الدين كي يترتب عليه السقوط من جهة أنّ سقوط ملكية ما في الذمة إن كان لعدم أثر لاعتبار كون الإنسان مالكا لما في ذمته فلا يبقى ، ففيه : أنّ الحدوث كالبقاء في الامتناع والإمكان. وإن كان السقوط بنفسه أثر الملكية ففيه : أنه لا يعقل أن يكون الشي‌ء علّة لعدم نفسه.

والظاهر ورود هذين الإشكالين على المتن من عدم معقولية اتّحاد طرفي السلطنة.

ودعوى أجنبية بيع الحق ممن هو عليه عن سلطنة مرتبة النفس على مرتبة اخرى ، لأن

١٠٥

.................................................................................................

__________________

مقتضى سلطنته على العقد تمكّنه من حلّه وإقراره ، ومقتضى كونه ممّن عليه الحق عدم نفوذ تصرف فيه ، ولا معنى لاعتبار قبض اليد وبسطها معا ، (غير مسموعة) بما تقدم في بيان المحقق الأصفهاني قدس‌سره من دوران الأمور الاعتبارية مدار الأثر المصحّح ، وحيث التزم شيخنا الأعظم بمالكية المديون لما في ذمة نفسه آنا ما فليكن الأمر كذلك في انتقال الحق إلى من هو عليه.

ومنها : ما أفاده العلامة الشيخ البلاغي قدس‌سره من منع تصوير مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه آنا ما ، وذلك لأنّ المقصود بها هنا هي الملكية الاعتبارية التي يكون المرجع في سعة دائرة اعتبارها وضيقها العقلاء ، ومن المعلوم أنّ الذمّة بنفسها ليست وعاء تميّز حصة من الكلّي للأغراض والأحكام من دون سائر حصصه ، وإنّما يكون منشأ اعتبار مملوكية ما في الذمة التزام صاحب الذمة به ، واستحقاق الغير لأدائه. وهذا المعنى غير محقّق في مالكية الإنسان لما في ذمة نفسه ، إذ لا يستحقه الغير ، ولا التزام بأدائه له. وعليه فلا منشأ لانتزاع ملك الدين عند العقلاء ، ولا لما يترتب عليه من السقوط (١).

وهذا الاشكال لا يخلو من وجه ، ولأجله يتفصّى عنه في مسألة بيع الدين تارة بالالتزام بالإبراء بالعوض دون التمليك ، وكفاية هذا المقدار في صدق مفهوم البيع. واخرى بأنّ الملكية الحاصلة في بيع الدين هي الذاتية لا الاعتبارية ، فالإنسان كما يملك نفسه وأعماله ومنافعه كذلك يملك ما في ذمة نفسه حقيقة لا اعتبارا. وثالثة بالتهاتر ، وسيأتي تحقيق الكلام عند تعرض المصنف للنقض الثاني على تعريف البيع إن شاء الله تعالى ، فانتظر.

لكن تنزيل قول الماتن هنا : «لا مانع من كونه تمليكا فيسقط» على الملكية الذاتية ـ كما في تقرير بعض الأعاظم قدس‌سره (٢) ـ لا يخلو من نظر ، لأنّ شيخنا الأعظم قدس‌سره جعل الفارق بين الملك والحق كون الأوّل نسبة والثاني سلطنة فعلية ، وهذه المقابلة تقتضي إرادة الإضافة

__________________

(١) التعليقة على المكاسب ، ص ٤.

(٢) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٣٩.

١٠٦

وأمّا (١) الحقوق القابلة

______________________________________________________

القسم الثالث : الحقوق القابلة للانتقال

(١) هذا بيان حكم القسم الثالث من الحقوق من حيث وقوعها ثمنا في البيع وعدمه. وقد أشرنا إلى أنّ المصنف قدس‌سره لم يجزم ببطلان ذلك ، بل تردّد فيه وإن كان مآله إلى عدم جواز جعله عوضا.

ومحصل ما أفاده في الإشكال على وقوعه عوضا هو : أنّ مثل حق التحجير وإن كان قائما بشخص المحجّر كسائر الحقوق القائمة بذويها ، إلّا أنه يجوز نقله الى الغير بصلح ونحوه ويصحّ أخذ المال بإزائه ، فالمحذور المتقدم في القسمين الأوّلين ـ من عدم قابليتهما في حد ذاتيهما للنقل إلى الغير ـ غير جار في هذا القسم. إلّا أنّ المانع من جعله عوضا في البيع هو الخصوصية الملحوظة في مفهوم البيع لغة وعرفا ، وهي وقوع المبادلة بين مالين ، وصدق «المال» على الحقوق غير ظاهر لو لم يكن ظاهر العدم ، وعليه فلا يجوز جعلها عوضا في البيع.

أمّا أخذ «المال» في معنى البيع لغة فلما تقدم في تعريف المصباح له بقوله : «مبادلة مال بمال» فلو لم تحرز مالية العوضين لم تكن المبادلة بينهما بيعا.

وأمّا أخذه في مفهومه عرفا ـ مضافا إلى استكشافه بقول اللغوي ـ فلما يظهر من تعريف الفقهاء للبيع العرفي ، كما تقدّمت جملة منها عند البحث عن اعتبار عينية المبيع ، وقد

__________________

الاعتبارية التي تكون بين الملّاك وأموالهم سواء أكانت فعلية كما في ملك غير المحجور عن التصرف ، أم اقتضائية كما في ملك القصّر ممن لا سلطنة له فعلا على التصرف في ماله.

وعليه فيكون مقصود الشيخ قدس‌سره من مالكية المديون لما في ذمة نفسه هو الملكية الاعتبارية لا الذاتية ، فتوجيه معقولية ملك المديون للدين «بأنه من شؤون سلطنة النفس على ذمته وعمله ذاتا لا اعتبارا» لعلّه من التوجيه الذي لا يرضى به صاحبه.

وأما أصل تصوير مالكية الشخص لما في ذمة نفسه فسيأتي في نقوض تعريف المصنف للبيع إن شاء الله تعالى.

١٠٧

للانتقال (١) ـ كحقّ التحجير (٢) ونحوه (٣) ـ فهي وإن قبلت

______________________________________________________

عرفت أيضا أن الموضوع للأدلة المتكفلة لأحكامه هو ما يصدق عليه البيع عرفا ، إذ لا حقيقة شرعية ولا متشرعية له.

ويدلّ على اعتبار مالية العوضين أيضا ما أفاده الفقهاء (قدّست أسرارهم) في موضعين : أحدهما : في شرائط العوضين من البيع ، وثانيهما : في شرائط الأجرة في كتاب الإجارة.

وعليه فلا يجوز جعل هذا القسم من الحقوق أيضا عوضا في البيع.

ثم إنّ المصنف قدس‌سره لم يتعرّض لوجه جواز جعل هذا القسم ثمنا ، ولعلّه لكون «المال» المأخوذ في تعريف البيع وسائر العقود المعاوضية عبارة عن مطلق ما يتنافس عليه العقلاء وإن لم يكن عينا ولا منفعة ، ومن المعلوم كون الحقّ مما يبذلون شيئا بإزاء نقله وإسقاطه وإراحة أنفسهم عنه ، كم يبذلونه بإزاء ما اشتغلت ذممهم به من أموال الناس عينا ومعنى.

وبعبارة أخرى : يكون أخذ «المال» في تعريف البيع منزّلا على الغالب من البيوع المتعارفة بين الناس ، ومثالا لكل ما للشخص سلطنة عليه ، وهذا المعنى العام صادق على الحقوق أيضا ، لأنّها أموال عرفا.

(١) قد يراد بالانتقال ما يعم النقل الاختياري بالبيع والشراء ، والقهري بالإرث ، وقد يراد به ما يخصّ النقل القهري ، كما يختص النقل بالاختياري ومقصود المصنف قدس‌سره من الانتقال هو الأوّل ، لقوله بعده : «قبلت النقل وقوبلت بالمال في الصلح».

هذا بيان المراد ، ولكن الانصاف مقابلة الانتقال للنقل ، لاختصاصه بالناقل القهري كاختصاص النقل بالاختياري.

(٢) فيجوز للمحجّر نقل حقّه إلى الغير ، ويصير المنقل إليه ـ كالأصيل ـ أولى من غيره في تملك الأرض بالإحياء ، ولا يجوز للأجنبي مزاحمته فيه.

(٣) كحق الرهانة والقصاص والشرط كما قيل (١).

__________________

(١) حاشية السيد الطباطبائي على المكاسب ، ص ٥٦.

١٠٨

النقل (١) وقوبلت بالمال في الصلح (٢) ، إلّا (٣) أنّ في جواز وقوعها (٤) عوضا للبيع إشكالا ، من (٥) أخذ المال في عوضي المبايعة لغة (٦) وعرفا (٧) ، مع (٨) ظهور كلمات الفقهاء عند التعرض

______________________________________________________

(١) يعني : فلا يرد الإشكال على هذا القسم بما أورد على القسمين المتقدمين من قوله : «لأن البيع تمليك الغير» إذ المفروض قابلية قيام القسم الثالث ـ من الحقوق ـ بالغير ، فالإشكال في عوضيه هذا القسم من الحقوق لا بد أن يكون من ناحية الشك في صدق «المال» عليه.

(٢) قال في الجواهر ـ في مسألة جواز الصلح على عين بعين أو بمنفعة ، وبالعكس ـ ما لفظه : «للعمومات المقتضية لذلك ، ولغيره من الصلح عن الحق إسقاطا أو نقلا ، كحق الخيار وحق التحجير وحق الشفعة ، بل الظاهر أنّها ـ أي عمومات الصلح ـ تقتضي صحة الصلح عن كل حق حتى يعلم عدم جواز إسقاطه أو نقله شرعا» (١).

(٣) هذا استدراك على قوله : «وان قبلت النقل وقوبلت بالمال في الصلح» ومحصّله : التفرقة بين باب البيع والصلح ، للاغتفار فيه بما لا يغتفر في البيع ، فجواز الصلح عن الحقوق لا يقتضي جواز وقوعها عوضا في البيع.

(٤) أي : وقوع الحقوق القابلة للانتقال.

(٥) هذا وجه عدم الجواز ، وقد تقدم توضيحه بقولنا : «ومحصل ما أفاده في الإشكال على وقوعها عوضا في البيع .. إلخ».

ووجه الإشكال أمران ، أحدهما : دخل مالية العوضين في مفهوم البيع العرفي واللغوي ، وثانيهما : ظهور كلمات الفقهاء في ذلك في موضعين.

(٦) فإنّ ظهور تعريف المصباح للبيع ـ بالمبادلة بين مالين ـ في اعتبار المجانسة بين العوضين في الماليّة ممّا لا ينكر.

(٧) لتسالمهم على دخل ماليّة العوضين في مفهوم البيع عرفا.

(٨) هذا هو المنشأ الثاني للإشكال في وقوع الحقوق عوضا في البيع ، وهو الاستشهاد بكلمات الفقهاء في موضعين.

__________________

(١) جواهر الكلام ، ج ٢٦ ، ص ٢٣٠.

١٠٩

لشروط العوضين (١) ، ولما (٢) يصحّ أن يكون اجرة في الإجارة في (٣) حصر الثمن في المال.

______________________________________________________

(١) هذا هو الموضع الأوّل من كلمات الفقهاء ، وهو بحث شرائط العوضين في البيع.

(٢) عطف على «لشروط» أي : عند التعرض لما يصحّ اجرة في باب الإجارة ، وهو الموضع الثاني من كلمات الفقهاء.

(٣) متعلق ب «ظهور كلمات الفقهاء» أي : أنّ الكلمات ظاهرة في انحصار ثمن البيع واجرة الإجارة في المال ، وهو مشكوك الصدق على الحقوق القابلة للانتقال.

وقد تحصّل : أن المصنف قدس‌سره فصّل في جعل الحقوق عوضا في البيع بين صور نقتصر على ذكر مهماتها :

الاولى : إن لا يكون الحق قابلا للمعاوضة ـ بمعنى عدم كونه ممّا يقبل الإسقاط والنقل الاختياري والانتقال القهري ، إذ المعاوضة لا بدّ وأن تكون بإزاء النقل أو الإسقاط ـ كولاية الأب والجدّ والحاكم على ما قيل. وحكم هذه الصورة أنه لا يصح جعله عوضا في البيع ، لكون البيع من النواقل المعاوضية.

والظاهر أنّ هذه الصورة خارجة عن مورد النزاع بين المصنف وبين صاحب الجواهر قدس‌سرهما القائل بجواز جعل الحقوق عوضا في البيع ، كما لا يخفى وجهه.

الثانية : أن يكون الحق قابلا للإسقاط دون النقل كحق الشفعة ، فجعله عوضا عن المبيع قد يكون بنحو النقل إلى من عليه الحق ، كأن يقول البائع : «بعتك هذا الكتاب بحقّ الشفعة الذي لك عليّ». أو إلى غير من عليه الحق ، كأن يقول البائع : «بعتك هذا الكتاب بحقّ الشفعة الذي لك على زيد على أن ينتقل الحق إليّ». وقد يكون بنحو الإسقاط.

فإن كان بنحو النقل لم يصح جعله عوضا في البيع مطلقا ـ سواء أكان البائع من عليه الحق أم غيره ـ إذ المفروض عدم قبوله للنقل ، والبيع من النواقل ، فجعله عوضا بنحو النقل مساوق لكون البيع بلا ثمن ، فلا بد أن تكون هذه الصورة أيضا خارجة عن مورد كلام الجواهر بجواز جعل الحق عوضا في البيع.

وإن كان بنحو الإسقاط ، فتارة يكون البائع من عليه الحق كأن يقول البائع : «بعتك

١١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

هذا الكتاب بأن يسقط ما لك من حقّ الشفعة عليّ». واخرى يكون أجنبيّا ، كأن يقول البائع لصاحب الحق : «بعتك هذا الكتاب بأن يسقط ما لك على زيد من حقّ الشفعة».

فإن كان البائع من عليه الحق ففساد البيع فيه مبنيّ على كون البيع هو النقل من الطرفين ، كما هو مقتضى تعليل المصنف قدس‌سره لذلك بقوله : «لأن البيع تمليك الغير». وأمّا بناء على عدم اعتبار النقل من الطرفين في البيع وكفاية مطلق انتفاع المتبايعين بالعوضين ـ أو انتفاع أحدهما بأحد العوضين ـ في تحقق البيع ولو بنحو الإسقاط وتخليص نفسه عن حق الغير ، حيث إنّه انتفاع عقلائي مرغوب فيه عندهم ، فلا مانع من صحته.

وحيث إنّ المصنف اعتبر في البيع النقل من الطرفين التزم بالفساد ، وصاحب الجواهر لمّا لم يعتبر النقل من الطرفين ـ واكتفى في تحقق البيع بمطلق الانتفاع بالعوضين ، أو أحدهما وإن لم يكن بنحو الانتقال ـ حكم بالصحة ، هذا.

وإن كان البائع أجنبيّا عمّن عليه الحق ، ففساده مبنيّ على اعتبار أحد أمرين في صحة البيع ، إمّا النقل من الطرفين كما هو مذهب المصنف قدس‌سره ، وإمّا الانتفاع بالعوضين ولو بغير النقل كما هو مذهب الجواهر. وكلاهما مفقود فيما إذا كان البائع أجنبيّا عمّن عليه الحق ، ضرورة عدم نقل المشتري شيئا إلى البائع ، إذ المفروض كون العوض إسقاط الحق لا نقله ، ومن المعلوم أن البائع الأجنبي عمّن عليه الحق لا ينتفع بإسقاطه ، فالبائع لا ينتقل إليه الحق ، ولا ينتفع أيضا بإذهابه ، فلا يصح البيع.

وعليه ينبغي إخراج هذه الصورة أيضا عن مورد نزاع صاحب الجواهر والمصنف ، لاقتضاء مذهب كل منهما بطلانه ، لفقدان شرط صحته من النقل من الطرفين ، أو الانتفاع بالعوضين ولو بغير الانتقال فيما إذا كان البائع غير من عليه الحق ، هذا.

الثالثة : أن يكون الحق قابلا للنقل ومقابلته بالمال في الصلح ، لأجل قابليته لكلّ من النقل والإسقاط ، كحق التحجير ، فإن جعل عوضا عن المبيع على وجه الإسقاط ، جرى فيه ما تقدم من بطلان البيع على مذاق المصنف ، لفقدان النقل من الطرفين المعتبر في البيع

١١١

.................................................................................................

______________________________________________________

سواء أكان البائع من عليه الحق أم غيره. وصحته على مذاق صاحب الجواهر القائل بكفاية انتفاع كل من المتبايعين بالعوضين ولو بغير الانتقال إن كان البائع من عليه الحق. وبطلانه إن كان البائع أجنبيّا ، إذ لا ينتفع البائع بشي‌ء من أنحاء الانتفاعات بإسقاط الحق عمّن هو عليه.

وإن جعل الحقّ عوضا عن المبيع على وجه النقل ـ سواء أكان البائع من عليه الحق أم أجنبيّا ـ فقد استشكل فيه المصنف قدس‌سره بعدم وضوح صدق المال على الحق ، مع لزوم اعتبار مالية كلا العوضين في البيع ، فمقتضى أصالة الفساد في العقود فساد البيع.

ولو كان البائع أجنبيا ففي صحة البيع إشكال آخر ، وهو عدم انتفاع البائع بعوض المبيع بنحو من الأنحاء. إلّا أن يكون في انتقال حق التحجير الى الغير ـ بهذا البيع ـ غرض عقلائي ، فلا مانع من صحته حينئذ.

فاتضح من جميع ما ذكرناه : أنّ المصنف قدس‌سره يمنع جعل الحقوق بأسرها عوضا عن المبيع ، للإشكال في صدق المال على الحقوق ، ولكون البيع من النواقل ، والأوّل جار في جميع الحقوق ، والثاني في خصوص الحقوق غير القابلة للنقل ، فلاحظ وتأمّل.

١١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

نظرة في الحقوق ، أقسامها وأحكامها

قد يعدّ الحق عند جمع من الأعاظم نوعا من الملك أو مرتبة منه ، فينبغي البحث أوّلا في تعريف الملك ، ثم في ماهية الحق وأقسامه وأحكامه ، فيقع الكلام في موضعين :

الموضع الأوّل : في الملك

اختلفت كلماتهم في تعريف الملكية الاعتبارية المنشئة في المعاملات على أقوال.

منها : ما اختاره المصنف قدّس سرّه في المتن من أنّها نسبة بين المالك والمملوك. وينبغي أن تكون منتزعة من الحكم التكليفي كجواز التصرف ، بناء على ما حقّقه في الأصول من عدم تأصل الأحكام الوضعية في الجعل.

ومنها : ما اختاره في رسالة «من ملك» في من يصح منه الإقرار بالملك من : أنها سلطنة فعلية كما تقتضيه اللغة ، واحترز بها عن إقرار الصبي بما يملكه ، إذ ليست سلطنته إلاّ بالاقتضاء ، فراجع (١).

ومنها : أنها سلطنة ، ولعلّ‌ المراد بها ما يعمّ‌ الفعلية والشأنية ، اختاره جمع ، منهم السيد قدّس سرّه ، حيث قال تارة في تفسير الحق : «سواء جعلناه إضافة ونسبة بين الطرفين ، أم سلطنة كما في الملك» واخرى في تعريف الملكية : «ويمكن أن يقال : إن الملكية هي نفس السلطنة الخاصة لا العلقة الملزومة لها» (٢).

__________________

(١) رسالة «من ملك» المطبوعة مع عدة رسائل فقهية اخرى ، ص ١٨٤.

(٢) حاشية المكاسب ، ص ٥٧(آخر الصفحة)وص ٥٨.

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ومنها : أنّها مرتبة من مقولة الجدة ، كما في تقرير بحث شيخ مشايخنا المحقق النائيني قدّس سرّه من : «أن الملكية في باب الأموال عبارة عن مرتبة من مقولة الجدة ، أي : اعتبار كون شيء لشيء آخر» (١).

ومنها : أنّها إضافة ، كما ربما يظهر من المحقق الخراساني في باب الأحكام الوضعية ، حيث قال : «ان الملك يقال بالاشتراك على ذلك ـ أي الجدة المقولية ـ وعلى اختصاص شيء بشيء خاص» (٢).

ومنها : أنّها برزخ بين الاعتبارات الذهنية الصرفة وهي الوجودات الادّعائية كأنياب الأغوال العارية عن الحقيقة ، الزائلة بالغفلة وذهول النفس ، وبين الإضافات المقولية والنسب الخارجية ، كما في تقرير شيخنا المحقق العراقي قدّس سرّه (٣).

ومنها : أنّها تساوق الاحتواء والوجدان تقريبا ، كما مال إليه المحقق الأصفهاني قدّس سرّه (٤).

ومنها : أنّها إحاطة وسلطنة ، كما في تقرير السيد الخويي قدّس سرّه (٥).

ومنها : غير ذلك مما يقف عليه المتتبع.

والظاهر أنّ‌ التعاريف المذكورة تقريبية ، لوحظ‍‌ في كلّ‌ منها حيثية من حيثيات الملك وأثر من آثاره. ولعلّ‌ الأقرب ـ بالنظر إلى ورود هذه المادة في الاستعمالات الفصيحة هو الوجدان ، فإنه المنسبق منه الى الذهن سواء في الملك الحقيقي والاعتباري الذي هو مورد البحث ، فقد تكرّر في الذكر الحكيم التعبير بعدم الوجدان فيمن لا يستطيع الهدي ، وفي الكفارة المرتّبة ، قال عزّ من قائل (فَمَنْ‌ لَمْ‌ يَجِدْ فَصِيٰامُ‌ ثَلاٰثَةِ‌ أَيّٰامٍ‌ فِي الْحَجِّ‌) (٦). و (فَمَنْ‌ لَمْ

__________________

(١) المكاسب والبيع ، ج ١ ، ص ٨٤.

(٢) كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ٣٠٧ ، المطبوعة مع حواشي العلامة المشكيني.

(٣) نهاية الأفكار ، ج ٤ ، ص ١٠٢.

(٤) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٧.

(٥) مصباح الفقاهة ، ج ٢ ، ص ٤٤.

(٦) البقرة ، الآية : ١٩٦.

١١٤

.................................................................................................

______________________________________________________

يَجِدْ فَصِيٰامُ‌ شَهْرَيْنِ‌ مُتَتٰابِعَيْنِ‌ تَوْبَةً‌ مِنَ‌ اللّٰهِ)(١). و (فَمَنْ‌ لَمْ‌ يَجِدْ فَصِيٰامُ‌ ثَلاٰثَةِ‌ أَيّٰامٍ‌ ذٰلِكَ‌ كَفّٰارَةُ‌ أَيْمٰانِكُمْ) (٢).

وروي عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : «ليّ‌ الواجد بالدين يحلّ‌ عرضه وعقوبته» (٣) والمقصود به المماطلة بالدين مع القدرة على أدائه. وورد في النصوص المفسّرة للاستطاعة المالية التعبير بالواجد وأهل الجدة. كما أريد بها الغنى واليسار فيمن يجب عليه زكاة الفطرة ، وقد تقدم جملة منها (٤).

وعرّفه اللغويون بالاحتواء ، وهو إحراز الشيء بحيث يتمكن المالك من التصرف في ملكه ، ففي اللسان نقلا عن ابن سيدة : «الملك والملك والملك : احتواء الشيء ، والقدرة على الاستبداد به» (٥) ونحوه في القاموس وغيره. والاحتواء وإن لم يكن بنفسه منسبقا إلى الذهن ، لكن تقييد المفهوم «بالقدرة على الاستبداد به في التصرف» يجعله بمعنى الوجدان تقريبا. ويدلّ‌ على أخذ خصوصية في الملك بها تكون أضيق مفهوما من الوجدان ، وهي كون المالك متبوعا ومن ذوي الإرادة والعقل ، فلا يقال للدار الواجدة للبيوت : «أنها مالكة لبيوت خمسة» وإنّما يقتصر على التعبير عنها بالوجدان.

ولا فرق في دخل هذه الحيثية في مفهوم الملك بين مطابقاته التكوينية والاعتبارية ، كما سيظهر.

كما أنّه لا بدّ من تنزيل كلام اللغوي على الغالب ، لظهوره في دوران صدق الملك مدار سلطنة المالك فعلا على التصرف في مملوكه ، وعدم كفاية السلطنة الشأنية فيه ، ومن المعلوم أنّ‌ لازم هذه صحة سلب الملك عن القاصر المحجور عن التصرف في ماله ، مع أنّه لا ريب في صدق الملك عليه حقيقة عرفا وشرعا. أمّا عرفا فلأنّ‌ المحاكم العرفية المانعة عن تصرف

__________________

(١) النساء ، الآية : ٩٢.

(٢) المائدة ، الآية : ٥.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٩٠ ، الباب ٨ من أبواب الدين والقرض ، الحديث : ٤.

(٤) راجع الصفحة : ٧٣.

(٥) لسان العرب ، ج ١٠ ، ص ٤٩٢.

١١٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الأطفال في أموالهم قبل بلوغ الثامنة عشر من العمر تلتزم بمالكيتهم لما يرثونه من الأموال وأمّا شرعا فلوضوح حكمه بمالكية الصبي ـ بل الجنين ـ لحصته من تركة مورّثه.

والمستفاد مما ذكرناه : كفاية السلطنة الاقتضائية في الملك وإن كانت السلطنة الفعلية للولي ، وبطلان تعريفه بها.

بل قد يقال : بأجنبية مفهوم الملك عن السلطنة حتى الشأنية ، إذ الملك يتعدى بنفسه ، والسلطنة تتعدى بحرف الاستعلاء ، فلا ترادف بين مفهوميهما. وعليه فالملك الاعتباري أمر آخر ، ومن أحكامه ـ عرفا وشرعا ـ السلطنة على أنحاء التصرفات.

وبالجملة : فالملك العقلائي والشرعي هو الوجدان كما مال إليه المحقق الأصفهاني قدّس سرّه. وليكن المراد به اعتبار الواجدية ، لوضوح كون الملك مفهوما عاما له مطابقات حقيقية وجعلية. والمقصود بالبحث هنا وإن كان تعريف الملك الاعتباري ، إلاّ أنّه لما كان وجودا ادّعائيا للملك الحقيقي كان المناسب الإشارة إلى مطابقاته ، فنقول : يطلق الملك على معان :

إطلاق الملك على معان أربع

الأوّل : الملكية الحقيقية والإضافة الإشراقية ، حيث يكون المالك قيّوما على مملوكه بحسب ذاته وجميع شؤونه ، وله السلطنة الحقيقية عليه ، والإحاطة التامة به ، كما في ملك الباري جلّت عظمته لما سواه ، قال عزّ من قائل (وَعَنَتِ‌ الْوُجُوهُ‌ لِلْحَيِّ‌ الْقَيُّومِ‌ وَقَدْ خٰابَ‌ مَنْ‌ حَمَلَ‌ ظُلْماً) (١) ، والقيّوم هو القائم الحافظ‍‌ لكل شيء ، والمعطي له ما به قوامه ، وذلك هو المعنى المذكور في قوله تعالى (اَلَّذِي أَعْطىٰ‌ كُلَّ‌ شَيْ‌ءٍ خَلْقَهُ‌ ثُمَّ‌ هَدىٰ) (٢).

ومثّلوا للملك بهذا المعنى في عالم الممكنات بوجدان النفس الناطقة للصور الادراكيّة المرتسمة في صقعها ، حيث إنّ‌ النفس واجدة لها حقيقة ، وهي قيّومها ، بحيث تنمحي عنها

__________________

(١) طه ، الآية : ١١١.

(٢) مفردات ألفاظ‍‌ القرآن الكريم ، ص ٤١٧.

١١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

بالغفلة والذهول. والنفس وإن كانت جوهرا موجودة لنفسها في نفسها ، لكنها قائمة بغيرها ـ أي بارئها وموجدها ـ فلذا كانت الصور قائمة بذلك الغير.

وكيف كان فالملك بمعنى الإضافة الإشراقية مخصوص بالباري جلّ‌ وعلا ، وهو أمر تكويني خارج عن أفق المقولات فضلا عن الاعتبار. ويثبت بالتبع وفي مرتبة تالية لأوليائه من النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلاة والسلام ، لكونهم مجاري فيضه ومجالي نوره ، فلهم السلطنة المعنوية على جميع الموجودات ، وبهذا الاعتبار بهم تتحرّك المتحركات وتسكن السواكن ، قال المحقق الأصفهاني : «فإنّ‌ الممكنات كما أنّها مملوكة له تعالى بإحاطته الوجودية على جميع الموجودات بأفضل أنحاء الإحاطة الحقيقية ، كذلك النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السّلام لكونهم عليهم السّلام من وسائط‍‌ فيض الوجود ، فلهم الجاعلية والإحاطة بذلك الوجه ، بمعنى فاعل ما به الوجود ، لا منه الوجود ، فإنّه مختص بواجب الوجود ، ولا بأس بأن تكون الأملاك وملاّكها مملوكة لهم بهذا الوجه ، كما في قولهم عليهم السّلام : الأرض كلّها لنا ، وإن لم تكن مملوكة لهم بالملك الاعتباري الذي هو موضوع الأحكام الشرعية» (١).

الثاني : الملك الذاتي ، وهو حيثية وجودية هي قيام وجود شيء بشيء بحيث يختص به في التصرف فيه كيف شاء ، ومثّلوا له بمالكية الإنسان لنفسه وأعضائه ومنافعه وأعماله. أما مالكيته لنفسه فلأنّ‌ وجدان كل موجود لنفسه ضروري الثبوت له ، كوجدان كل ماهيّة لنفسها. وأمّا مالكيته لفعله فلأنّ‌ زمامه بيده لصدور عنه بإرادته واختياره ، فهو أملك بفعله من غيره ، لأنّ‌ سلطنته على فعله من شؤون سلطنته على نفسه.

وهذا النحو من الملكية قد يتحقق بين شخصين إذا كان أحدهما طوع إرادة الآخر في حركته وسكونه ، كما حكاه تعالى عن الكليم بالنسبة إلى هارون «على نبينا وآله وعليهما الصلاة والسلام» بقوله لاٰ أَمْلِكُ‌ إِلاّٰ نَفْسِي وَأَخِي إذ لا يراد به الإضافة الاعتبارية بين السيد والعبد ، بل المراد به انقياد هارون له بحيث تكون أفعاله بإرادة أخيه عليهما السّلام. والملكية بهذا المعنى حقيقية لا اعتبارية ولا مقولية ، وتسميتها بالذاتية دون الحقيقية لأجل اختصاص الملك

__________________

(١) حاشية المكاسب ، ج ١ ، ص ٢١٢.

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الحقيقي بالإشراق والإيجاد.

الثالث : الملك المقولي ، أي ما يعدّ في فنّ‌ المعقول من الأعراض النسبية ، المعبّر عنه بالجدة أيضا ، قال في الأسفار : «وممّا عدّ من المقولات : الجدة والملك ، وهو هيئة تحصل بسبب كون جسم في محيط‍‌ بكلّه أو بعضه ، بحيث ينتقل المحيط‍‌ بانتقال المحاط‍‌ ، مثل التسلّح والتقمص والتعمم والتختّم والتنعّل ، وينقسم إلى طبيعي كحال الحيوان بالنسبة إلى إهابه ، وغير طبيعي كالتسلّح والتقمص .. إلخ» (١).

وجعل في شرح الهداية ملكية الباري تعالى من الاختصاص الطبيعي ، ككون القوى للنفس (٢).

وإدراج ملك الباري تعالى في الجدة مجرّد اصطلاح ، لا بمعنى انقسام الملك المقولي الى الطبيعي والاعتباري ، لوضوح أن المبدأ الأعلى «جلّ‌ وعلا» وفعله الإطلاقي المعبّر عنه بالإضافة الإشراقية جلّ‌ أن يندرج تحت المقولات التي هي أجناس الماهيات الإمكانية من الجواهر والأعراض. بل الأمر كذلك في ملك النفس لقواها ، فإنّه حيثية وجودية ، والوجود مطلقا ليس بجوهر ولا عرض إلاّ بالعرض. والتفصيل في محله.

والمقصود : أن بعض الأمثلة المذكورة في مقولة الجدة ـ بمعنى الهيئة التكوينية الحاصلة للجسم بسبب إحاطة جسم آخر به ـ أجنبي عنها ، فمالكية النفس للقوى مثلا مصداق للملكية الحقيقية ، كما أنّ‌ مالكية زيد للفرس اعتباري ، لا ربط‍‌ لها بالموجودات الحقيقية المنحصرة في الجواهر والأعراض. إلاّ أن يراد من مالكية زيد للفرس الهيئة الحاصلة من ركوبه عليه.

الرابع : الملك الاعتباري وهو وجود ادّعائي تنزيلي للملك الحقيقي أو المقولي. وليس المراد بالاعتبار هنا ما يصطلح عليه في فنّ‌ المعقول من إطلاقه تارة على الاعتبارات الذهنية ، سواء أكان ظرف العروض والاتّصاف الذهن كالكلية والجنسية ، فإنّهما مفهومان

__________________

(١) الأسفار الأربعة ، ج ٤ ، ص ٢٢٣.

(٢) شرح الهداية الأثيرية ، ص ٢٧٤.

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

عارضان لمعروض ذهني ، أم كان ظرف العروض الذهن وظرف الاتصاف الخارج كالوجوب والإمكان ، وهما من المعقولات الثانية في قبال المعقولات الاولى كالإنسان والحجر من المفاهيم الماهوية.

واخرى على الأصالة والاعتبارية في بحث أصالة الوجود أو الماهية ، حيث إنّ‌ مقصودهم بالاعتبارية تحقق الشيء بالعرض في قبال ما يكون تحققه بالذات ، فبناء على أصالة الوجود تنسب الآثار الخارجية إلى الوجود حقيقة وأصالة ، وإلى الماهية بالعرض. وينعكس الأمر بناء على أصالة الماهية واعتبارية الوجود. وعلى كلّ‌ فاعتبارية الوجود أو الماهية تغاير الاعتبارية بالمعنى الأوّل ، فإنّ‌ الماهيات أمور حقيقية ، وليست كالوجوب والإمكان المنتزعين من ذات الممكن والواجب.

بل المراد بالاعتبار هنا هو الفرض والتنزيل ، أي : جعل ما ليس مصداقا حقيقيا لمفهوم مصداقا له ادّعاء وتنزيلا ، ثم استعمال اللفظ‍‌ فيه ، نظير المجاز العقلي والحقيقة الادّعائية في كلام السكّاكي ، ويترتب عليه كون استعمال اللفظ‍‌ في الفرد الادّعائي حقيقة لا بالعناية ، فيقال : إن «الأسد» موضوع للحيوان الشجاع ، إلاّ أنّ‌ له مصداقين أحدهما حقيقي ، والآخر فرضي تنزيلي وهو الرجل الشجاع ، واستعمال اللفظ‍‌ في الفرد الادّعائي أجنبي عن استعماله في غير ما وضع له ، لكونه استعمالا في ما ينطبق عليه المفهوم ، وإن كانت مصداقيته له ادّعائية لأجل ترتيب آثار المصداق الحقيقي الواقعي ـ أو أظهر خواصه ـ على الفرد التنزيلي.

والحاصل : أن الملكية العقلائية تكون من سنخ المعاني الادّعائية التي يعتبرها العقلاء لنظم شؤونهم الاجتماعية اقتصاديا وسياسيا كالزوجية والحرية والرئاسة والحكومة ونحوها ، ويكون وعاء تقرّرها الاعتبار الذي هو برزخ بين الوجودين الذهني والعيني ، ويترتب على وجودها في ذلك الصّقع أحكام وآثار.

وحقيقة الاعتبار توسعة في المفاهيم الحقيقية وإعطاء حكم المعتبر عنه للمعتبر له ، كاعتبار زيد رئيسا على قومه ، فإنّ‌ معناه تنزيله منزلة الرأس من الجسد ، فالملكية الاعتبارية اعتبار للملك الحقيقي أو لمقولة الجدة كما سيظهر ، يعني : أنّه لو وجد في الخارج لكان مصداقا لمقولة الجوهر أو الكيف أو الجدة ، أو الإضافة ، لكنه لا حظّ‍‌ له من الوجود الخارجي حتى

١١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

يكون مصداقا حقيقيا للمقولة.

والاعتبار بهذا المعنى يسري الى سائر المقولات أيضا ، «فالأسد» مثلا مطابقه الحقيقي هو الحيوان المفترس ، الذي هو نوع من الجسم النامي ، الذي هو نوع لمطلق الجسم ، وهو نوع من مقولة الجوهر. ومطابقة الاعتباري هو الرجل الشجاع كزيد ، مع أنّه مباين له حقيقة ، لكونه نوعا آخر من الحيوان. وكذا البياض فإنّه عرض متأصل. ومطابقة الحقيقي نوع من مقولة الكيف المبصر المفرق للبصر ، ويعتبرونه لغير الجسم ، فيقال : «قلبه أبيض» والمقصود منه بيان أمر معنوي.

والفوقية مثلا إضافة حقيقية في مقولة الأين عند كون جسم في أين بالنسبة إلى جسم آخر بينه وبين الأرض. ولكنها تطلق على المجردات تنزيلا وادّعاء ، فيقال : «علم زيد فوق علم عمرو» وهكذا في سائر المقولات. فالعمى مثلا هو عدم البصر في المحلّ‌ القابل له ، مع إطلاقه في الذكر الحكيم على الضلال المقابل للهداية والرّشد.

والغرض من ذكر المعاني الاعتبارية هو النظر في ما ذهب إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ومن تبعه من دعوى انتزاع الملكية من التكليف ، لكونها من الاعتباريات الذهنية التي يمتنع جعلها استقلالا كما سيأتي بيانه.

ثم إنه ينبغي تتميم البحث في الملكية بالتعرض إجمالا لأمور :

الأمر الأوّل : أنّ‌ إطلاق الملك على الموارد الأربعة المتقدمة حقيقي لا عناية فيه أصلا ، ولكنه ليس من إطلاق الكلي المشكّك على جزئياته ، إذ التشكيك صدق طبيعة واحدة على أفرادها بالتفاوت بأوّليّة وشبهها ، وليس مطلق عموم المفهوم من التشكيك ، إذ لا جامع أصيل بين كل ما ينطبق عليه الملك حتى يكون صدقه على بعض أولى من صدقه على غيره ، وذلك لأنّ‌ مطابقات الملك أمور متباينة بالذات لا تندرج تحت طبيعة واحدة ، فمالكية الباري تعالى بإضافته الإشراقية وإحاطته الوجودية في مرحلة فعله بإيجاد الممكنات ، ومن المعلوم أنّ‌ الوجود مطلقا ليس بجوهر ولا عرض إلاّ بالعرض ، فكيف بالوجود المطلق‌؟

والملك بمعنى الجدة عرض نسبي ، وهو وإن كان موجودا خارجا بوجود ناعتي ، إلاّ أنّ‌ الماهيات أمور عدمية وإن لم تكن إعداما.

١٢٠