الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

تنبيهات

الأول : لا خلاف في أن ما عدا من حرم بالنسب أو الرضاع أو المصاهرة من المحرمات الغير المؤبدة فإنه لا يقع بهن ظهار ، وقد تقدم في عبارة الشيخ في المبسوط ما يدل على أنه لا خلاف فيه.

وقال في المسالك : أما من لا يحرم مؤبدا كأخت الزوجة وبنت غير المدخول بها مما يحرم جمعا خاصة فحكمهما حكم الأجنبية في جميع الأحكام لأن تحريمهما يزول بفراق الام والأخت كما يحرم جميع نساء العالم على المتزوج أربعا ، ويحل له كل واحدة ممن ليست محرمة بغير ذلك على وجه التخيير بفراق واحدة من الأربع ، والأولى بعدم الوقوع تشبيها بعمة الزوجة وخالتها ، لأن تحريمهما ليس مؤبدا عينا ولا جمعا مطلقا بل على وجه مخصوص كما لا يخفى ، انتهى.

وأنت خبير بأن ظاهر كلامهم يدور في صحة المظاهرة وعدمها على كون المشبه بها مؤبدة التحريم وعدمه ، فإن كان تحريمها مؤبدا صح أن يشبه بها في الظهار ، ويكون ظهارا صحيحا ، وإلا فلا.

وفيه أن هنا جملة من الأفراد التي تحريمها مؤبدا كما تقدم في كتاب النكاح مثل المطلقة تسعا ، وأم من لاط به وبنته وأخته ، ومن زنى بها وهي ذات بعل أو في عدة رجعية ، ونحو ذلك مما تقدم. فإن التحريم في الجميع مؤبد وهي خارج عن الأفراد الثلاثة المتقدمة ، مع أن الظاهر أنه لا يقع الظهار بالتشبيه بإحداهن اتفاقا.

وبالجملة فإني لا أعرف للتقييد بالتأبيد هنا وجها وجيها ، بل ينبغي أن يجعل الحكم منوطا بكل من خرج عن الأفراد الثلاثة سواء كان تحريمه مؤبدا أم لا ، فإنه لا يقع الظهار به.

الثاني : ظاهر الأصحاب أنه لا ريب في تحريم التشبيه بالجدة لأب كانت أو

٦٤١

أم على تقدير القول بوقوع الظهار بالتشبيه بالمحرمات النسبية ، وإنما الكلام على تقدير الاختصاص بالأم فهل يتعدى إلى الجدة مطلقا؟ وجهان :

(أحدهما) نعم ، لصدق الام عليها في قوله «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ» (١) فإن المراد بالأمهات من ولدته بلا واسطة أو بواسطة وإن علت والأصل في الاستعمال الحقيقة ، ويؤيده أنهن يشاركن الأم في سقوط القصاص ووجوب النفقة.

(وثانيهما) لا ، لجواز سلبها عنها فيقال : ليست أمي بل أم أبي أو أم أمي ، ولقوله عزوجل «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ» (٢) وهي مفيدة للحصر.

وأنت خبير بما في الثاني من القصور لضعف مستنده المذكور.

أما أول دليله فإنه إن أراد بقوله «ليست أمي» إن أراد على الإطلاق منعنا السلب ، وهو أول المسألة ، فالاستدلال به مصادرة محضة ، وإن أراد به يعني بلا واسطة بل هي أمي بالواسطة فلا ضير فيه.

وأما ثاني دليله فلصدق ولادتها له بولادة أحد أبويه ، والمراد ولدتا بواسطة أو غير واسطة ، مع أن الحصر في ظاهر الآية إنما هو إضافي بالنسبة إلى المظاهر من امرأته بكونها كأمه في التحريم عليه فلا تعلق لها بما نحن فيه ، وبذلك يظهر لك قوة الوجه الأول من الوجهين المذكورين.

الثالث : لا خلاف في أنه يشترط في صحة الظهار وترتب أحكامه عليه سماع الشاهدين لنطق المظاهر وأن يكون ظاهرها في طهر لم يقربها فيه.

ومن الأخبار الدالة على ما قلناه ما تقدم في صحيحة زرارة (٣) من قوله عليه‌السلام «يقول الرجل لامرأته وهي طاهر في غير جماع : أنت علي حرام مثل ظهر أمي ، وهو يريد بذلك الظهار».

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٢٣.

(٢) سورة المجادلة ـ آية ٣.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٥٣ ذيل ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٩ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٠ ح ٣ وما في المصادر زيادة «أو أختي» ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٩ ب ٢ ح ٢.

٦٤٢

وما رواه في الكافي (١) في الحسن عن حمران في حديث قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب ، ولا يكون ظهار إلا في طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين».

وما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن ابن فضال عمن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يكون الظهار إلا على مثل موضع الطلاق».

ورواه الصدوق (٣) بإسناده عن ابن فضال وعن حمزة بن حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام ، في حديث قال : «لا يكون ظهار الا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين».

ورواه الصدوق (٤) بإسناده عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد عن حمزة بن حمران مثله.

وما دل عليه ظاهر هذين الخبرين من الاكتفاء بإسلام الشاهدين يجب حمله على التقية لما دلت عليه الآية وجملة من الأخبار الصحيحة من اشتراط العدالة التي هي أمر زائد على الإسلام ، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام بما لا يحوم حوله نقض ولا إبرام في بحث صلاة الجمعة من الجلد الثاني من كتاب الصلاة. (٥)

الرابع : لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في أنه لا ينعقد الظهار

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥٢ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠ ح ٨ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٥ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٩ ب ٢ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٥٤ ح ٥ ، التهذيب ج ٨ ص ١٣ ح ١٩ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٠ ح ٢ رواه مرسلا وفيه «الا على موضع الطلاق» ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٩ ب ٢ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٥٣ ذيل ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٥ ذيل ح ٢٠ مع اختلاف يسير ، التهذيب ج ٨ ص ١٠ ذيل ح ٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٠ ب ٢ ح ٤ وما في المصادر «عن حمران» وليس فيها «ابن فضال».

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٣٤٥ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٠ ب ٤ ح ٢ وفيهما «عن حمران».

(٥) الحدائق ج ١٠ ص ١٢.

٦٤٣

بقول الزوج كظهر أبي وأخي وعمي ، وقد ذكر الأصحاب ذلك هنا تنبيها على خلاف بعض العامة ، حيث حكم بوقوع الظهار بالتشبيه بمحارم الرجال.

وفيه (أولا) أنه لا دليل عليه وأصالة الإباحة ثابتة حتى يقوم دليل على خلافها.

(وثانيا) أن الرجل ليس محل الاستمتاع ولا في معرض الاستحلال ، وهكذا لو قالت الزوجة أنت علي كظهر أبي أو أمي فإنه لا يفيد التحريم إجماعا ، لأن الظهار كالطلاق مختص بالرجال.

وعلى ذلك يدل أيضا ما رواه ثقة الإسلام والصدوق في كتابيهما (١) عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا قالت المرأة زوجي علي حرام كظهر أبي فلا كفارة عليها».

الخامس : اختلف الأصحاب في تعليق الظهار على الشرط كأن يقول إن دخلت الدار أو فعلت كذا فأنت علي كظهر أمي مريدا به التعليق ، فهل يقع الظهار متى وجد الشرط أم لا؟ قولان.

اختار أولهما الشيخ في النهاية والخلاف والمبسوط والصدوق في المقنع وبه قال ابن حمزة والعلامة والمحقق في النافع ، ونقله في المسالك عن أكثر المتأخرين قال : إنه الأقوى ، وكذا اختاره سبطه في شرح النافع.

واختار ثانيهما المرتضى ـ رحمة الله عليه ـ في الانتصار والشيخ المفيد ـ رحمه‌الله ـ وابن البراج في كتابيه الكامل والمهذب وسلار وأبو الصلاح وابن زهرة ، وهو ظاهر ابن الجنيد ، وبه صرح ابن إدريس فقال : وهو الأظهر بين أصحابنا الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأنه لا خلاف بينهم أن حكمه حكم الطلاق ، ولا خلاف بينهم أن الطلاق لا يقع إذا كان مشروطا ، وهو اختيار السيد المرتضى وشيخنا

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥٩ ح ٢٧ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٦ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٣٤ ب ٢١ ح ١.

٦٤٤

المفيد وعليه جملة أصحابنا وهو اختيار المحقق في الشرائع وظاهره أنه قول الأكثر وأن القول الآخر نادر ، مع أنه في النافع وهو متأخر عن الشرائع جعل القول بالصحة مع الشرط أشهر الروايتين.

والأصل في الخلاف اختلاف أخبار المسألة المذكورة ، فالواجب ذكر ما وصل إلينا من أخبارها ثم الكلام فيها بما رزق الله تعالى فهمه منها ببركة أهل الذكر عليهم‌السلام.

ومنها ما رواه ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب (١) عن عبد الرحمن ابن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الظهار ضربان أحدهما فيه الكفارة قبل المواقعة ، والآخر بعدها ، فالذي يكفر قبل المواقعة الذي يقول أنت علي كظهر أمي ولا يقول : إن فعلت بك كذا وكذا. والذي يكفر بعد المواقعة هو الذي يقول : أنت علي كظهر أمي إن قربتك».

وما رواه الشيخ عن عبد الرحمن بن الحجاج (٢) «قال الظهار على ضربين في أحدهما الكفارة إذا قال أنت علي كظهر أمي ولا يقول أنت علي كظهر أمي إن قربتك».

وعن حريز (٣) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الظهار ظهاران فأحدهما أن يقول أنت علي كظهر أمي ثم سكت ، فكذلك الذي يكفر قبل أن يواقع ، فإذا قال أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا ففعل فعليه الكفارة حين يحنث».

وهذه الروايات ظاهرة الدلالة على القول الأول ، ويؤيدها عموم الآيات الدالة على وقوع الظهار المتناولة لموضع النزاع ، وعموم (٤) «المؤمنين عند شروطهم».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٦٠ ح ٣٢ ، التهذيب ج ٨ ص ١٢ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٢٩ ب ١٦ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٣ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٣١ ب ١٦ ح ٨.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ١٢ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٣٠ ب ١٦ ح ٧ وليس فيه «قبل أن يواقع» مع اختلاف يسير فيهما.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٤٠٤ ح ٨ و ٩.

٦٤٥

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب (١) عن القاسم بن محمد الزيات قال : «قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : إني ظاهرت من امرأتي ، فقال : كيف قلت؟ قال : قلت : أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا وكذا ، فقال : لا شي‌ء عليك فلا تعد».

وما رواه في الكافي (٢) في الموثق عن ابن بكير عن رجل من أصحابنا قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إني قلت لامرأتي أنت علي كظهر أمي إن خرجت من باب الحجرة فخرجت ، فقال : ليس عليك شي‌ء ، قلت : إني قوي على أن اكفره؟ فقال : ليس عليك شي‌ء ، إني قوي على أن أكفر رقبة ورقبتين ، قال : ليس عليك شي‌ء قويت أو لم تقو».

والتقريب فيهما أن «شيئا» في الخبرين نكرة في سياق النفي فتفيد العموم.

وما رواه في الكافي والتهذيب (٣) عن ابن فضال عمن أخبره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يكون الظهار إلا على مثل موضع الطلاق».

والتقريب فيه أن الطلاق لا يقع معلقا على الشرط ، وحينئذ فيجب أن يكون الظهار كذلك ، لأنه كالطلاق بمقتضى الخبر المذكور.

وأجاب في المسالك ومثله سبطه في شرح النافع وقبلهما العلامة في المختلف عن الروايات بضعف السند ، فلا تنهض حجة في مقابلة تلك الأخبار الصحاح ، والأخير لا يدل على محل النزاع ، إذ الظاهر أنه إنما يريد بموضع الطلاق الشرائط المعتبرة فيه من الشاهدين وطهارتها من الحيض وانتقالها إلى غير طهر المواقعة ، ونحو ذلك.

أقول : ما ذكره ـ قدس‌سره ـ من عدم ظهور الخبر الثالث في الدلالة لاحتماله لما ذكره جيد ، وعليه يدل ما قدمناه من الأخبار في التنبيه الثالث.

وأما الجواب عن الأخبار بضعف السند فهو جيد على تقدير العمل بهذا

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٦ ص ١٥٨ و ١٥٤ ح ٢٤ و ٤ و ٥ ، التهذيب ج ٨ ص ١٣ ح ١٧ و ١٨ و ١٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٣٠ و ٥٢٩ و ٥٣٢ ب ١٦ ح ٤ و ٣ و ١٣.

٦٤٦

الاصطلاح المحدث ، وأما من لا يعمل به فلا بد له مع العمل بها من تأويلها بما تجتمع به مع الأخبار الأخر ، والشيخ ـ رحمه‌الله ـ في التهذيب بعد أن طعن في الخبرين الأولين بضعف الاسناد بتأولهما بتأويلات بعيدة.

وما رواه الشيخ (١) عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال : «سأل صفوان بن يحيى عبد الرحمن بن الحجاج وأنا حاضر عن الظهار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا قال الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي لزمه الظهار ، قال لها دخلت أو لم تدخلي خرجت أو لم تخرجي أو لم يقل شيئا فقد لزمه الظهار».

أقول : الظاهر أن المراد من الخبر هي أن الظهار لازم بهذه الصيغة ، علقه على شي‌ء من الدخول أو عدمه أو الخروج أو عدمه أو لم يعلق ، وحينئذ فيكون من أدلة القول الثاني.

وبالجملة فإنه على تقدير العمل بجملة هذه الأخبار كما هو المختار فإن المسألة محل إشكال وإعضال ، لعدم حضور وجه وجيه يجتمع عليه في هذا المجال هذا مع إمكان أن يقال إنهم قد صرحوا ـ كما سيأتي ذكره بعد تمام الكلام في هذه المسألة ـ بأن الظهار لا يصح مع قصد الحلف به وإن جعل يمينا كما هو عند العامة ، وهو في الصورة يشارك التعليق على الشرط الذي هو محل البحث ، وإنما يفارقه بالنية والقصد ، فإذا قال أنت علي كظهر أمي إن كلمت فلانا وإن تركت الصلاة فإن قصد به الزجر عن الفعل أو البعث عليه فهو يمين ، وإن قصد به مجرد التعليق كان ظهارا ، والأخبار وكذا كلام الأصحاب قد منعت من الحلف بالظهار لأن الحلف لا يكون إلا بالله عزوجل ، والمخالفون على صحته وصحة الحلف به.

وعلى هذا فمن المحتمل قريبا حمل صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج وصحيحة

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ١٤ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٣١ ب ١٦ ح ١٢ وفيه «عن عبد الرحمن بن أبى نجران عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : سمعت أبا عبد الله».

٦٤٧

حريز على التقية ، بمعنى أن هذا الفرد المعلق على الشرط فيهما إنما هو من قبيل اليمين ، وقد قصد به الزجر أو البعث على الفعل لا مجرد التعليق ، وإن الحكم بصحته ووجوب الكفارة به في الخبرين المذكورين إنما هو على جهة التقية لأن العامة يحكمون بصحة الحلف به ، ويوجبون الكفارة بالحنث به ، وبذلك يتعاظم الإشكال في هذا المجال.

وإلى ما ذكرنا يميل كلام المحدث الكاشاني ـ رحمة الله عليه ـ في الوافي حيث استوجه حمل هذه الأخبار على التقية كما ذكرنا.

وروى في الكافي (١) عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي عن معاوية بن حكيم عن صفوان عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : إذا حلف الرجل بالظهار فحنث فعلية الكفارة قبل أن يواقع ، فإن كان منه الظهار في غير يمين فإنما عليه الكفارة بعد ما يوافق».

قال في الكافي بعد نقل هذا الخبر : قال معاوية : وليس يصح هذا على جهة النظر والأثر في غير هذا الأثر أن يكون الظهار لأن أصحابنا رووا أن الايمان لا يكون إلا بالله ، وكذلك نزل بها القرآن ، انتهى.

وقال في الوافي بعد نقل هذا الكلام عن الكافي : أقول : هذا هو الحق وقد مر الاخبار في ذلك ، فالخبر محمول على تقدير صحته على التقية لموافقته لمذاهب العامة ، انتهى.

أقول : وأكثر أخبار هذا الباب غير خال من الاشكال لما فيه من الاحتمال ، وعسى أن نشير إلى جملة منها إن شاء الله تعالى بعد تمام الكلام في هذا المطلب.

بقي هنا شي‌ء ينبغي التنبيه عليه ، وهو أن المحقق في الشرائع قال : ولا يقع إلا منجزا فلو علقه بانقضاء الشهر ودخول الجملة لم يقع على القول الأظهر وقيل : إنه يقع وهو نادر.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٦٠ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٤ ب ٦ ح ٦.

٦٤٨

وأنت خبير بأن المشهور في كلام الأصحاب ، وهو الذي دلت عليه الأخبار أن محل الخلاف في هذا الموضع إنما هو التعليق على الشرط دون الصفة ، وظاهر عبارته هنا أن محل الخلاف التعليق على الصفة ، فإن ما ذكره من المثالين إنما هو من باب الصفة ، وهو الأمر الذي لا بد من وقوعه عادة من غير احتمال تقدم ولا تأخر كالمثالين المذكورين ، وأما الشرط فهو عبارة عما يجوز وقوعه عند التعليق وعدمه كقولك إن دخلت الدار وإن فعلت كذا وكذا لنفسه أو المخاطب.

ويمكن أن يقال إن الحكم من أصله مترتب على التعليق سواء كان المعلق عليه صفة أو شرطا ، وأن الظاهر من الأخبار صحة وبطلانا إنما هو بالنسبة إلى التعليق ، وأنه هل يشترط كونه منجزا لا يعلق على شي‌ء بالكلية أم لا؟ ويؤيده أن هذا القسم فيما علق عليه من هذين الفردين المعبر عن أحدهما بالشرط وعن الآخر بالصفة إنما هو أمر اصطلاحي من كلام الأصحاب لا أثر له في النصوص.

وربما قيل : إن الخلاف مختص بالشرط عملا بمدلول الأحاديث المذكورة في المسألة ، فإن متعلقها الشرط فتبقى الصفة على أصل المنع.

وفيه أن ما ذكر في الأخبار من ذكر الشرط إنما خرج مخرج التمثيل للتعليق فلا يقتضي الحصر فيه ، والظاهر منها أن مرجع الخلاف إلى التخيير وعدمه.

وإلى ما ذكرنا يميل كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك إلا أن المسألة بعد لا تخلو من شوب الاشكال.

السادس : قد صرح الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ من غير خلاف يعرف بأنه لا يقع الظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب ولا في سكر. وتفصيل هذا الإجماع بما يتضح به الحال.

أما بالنسبة إلى كونه لا يقع يمينا فالمراد أنه لا يجعل جزاء على فعل أو ترك لقصد البعث على الفعل أو الزجر عن الترك ، ولو علق لا بقصد شي‌ء من هذين

٦٤٩

الأمرين ، فهو محل البحث الذي تقدم الكلام فيه صحة وبطلانا وليس من اليمين في شي‌ء ، والفارق بين الأمرين هو القصد كما عرفت.

ويدل على عدم صحة قصد اليمين به أولا : ما دل من الآيات والروايات على عدم الحلف إلا بالله عزوجل.

وثانيا : ما رواه في الكافي (١) في الحسن أو الموثق عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا طلاق إلا ما أريد به الطلاق ، ولا ظهار إلا ما أريد به الظهار».

وحاصله أنه لا يكون الطلاق طلاقا ولا الظهار ظهارا يترتب على كل منهما أحكامه إلا بالإرادة ، والقصد إلى الغرض من كل منهما ، وهو الفرقة الخاصة ، فلو أراد بالظهار ما تقدم من الزجر أو البعث فقال إن كان كذا أو إن فعلت كذا فامرأته طالق أو كانت كظهر امه عليه فإنه لا يكون طلاقا ولا ظهارا.

وفي معنى هذه الرواية موثقة عمار (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الظهار الواجب ، قال : الذي يريد به الرجل الظهار بعينه». والمراد بالوجوب هنا المعنى اللغوي أي الثابت الذي يترتب عليه أحكامه. وقوله «بعينه» احترازا عما ذكرناه من إرادة معنى آخر غير مجرد المفارقة ، وقد تقدم نحو هذا اللفظ في آخر صحيحة زرارة (٣) المتقدمة في صدر هذا المطلب وحسنة حمران (٤) المتقدمة في التنبيه

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥٣ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٩ ح ٢ وفيه «عن ابن بكير عن زرارة» ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٠ ب ٣ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٥٨ ح ٢٦ ، التهذيب ج ٨ ص ١١ ح ٩ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٥ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٠ ب ٣ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٥٣ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٩ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٠ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١١ ب ٤ ح ١.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٥٣ ذيل ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠ ح ٨ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٥ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٦ ب ٧ ح ٢.

٦٥٠

الثالث وفيهما «لا يكون ظهار في يمين ولا في إضرار ولا في غضب».

وروى في الكافي (١) في الصحيح عن صفوان عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يصلي الصلاة أو يتوضأ ، فيشك فيها بعد ذلك ، فيقول : إن أعدت الصلاة أو أعدت الوضوء فامرأته عليه كظهر امه ، ويحلف على ذلك بالطلاق ، فقال : هذا من خطوات الشيطان ، ليس عليه شي‌ء».

وهذا الخبر مفسر للخبر الأول ، فإن الطلاق والظهار في هذا الخبر لم يقصد معناهما الحقيقي المتبادر منهما ، فلذا جعله عليه‌السلام لغوا من القول ، والعامة يجعلونه حلفا صحيحا يترتب عليه أثره. (٢)

وأما بالنسبة إلى الإضرار فلما تقدم في حسنة حمران (٣) ، ونقل عن فخر المحققين أنه حكى قولا بوقوع الظهار بالإضرار ، لعموم الآية.

قال في شرح النافع : وهو جيد لو لم يعمل بهذه الرواية ، وكذا بالنسبة إلى الغضب.

ويدل على عدم الظهار في حال الغضب زيادة على حسنة حمران المذكورة

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥٥ ح ٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٣ ب ٦ ح ٤.

(٢) أقول : ومن الاخبار الدالة على بطلان اليمين بالطلاق والظهار خلافا للعامة ما رواه عبد الله ابن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن محمد بن الحسين عن محمد بن سنان قال : «كتب معي عطية المدائني الى أبى الحسن الأول عليه‌السلام يسأله قال : قلت : امرأتي طالق على السنة ان أعدت الصلاة ، فأعدت الصلاة ، ثم قلت : امرأتي طالق على الكتاب والسنة ان أعدت الصلاة ، فأعدت ، ثم قلت : امرأتي طالق على الكتاب والسنة ان أعدت الصلاة ، فأعدت ، فلما رأيت استخفافي بذلك ، قلت : امرأتي على كظهر أمي إن أعدت الصلاة ، فأعدت ، ثم قلت : امرأتي على كظهر أمي إن أعدت الصلاة ، فأعدت ، ثم قلت : امرأتي على كظهر أمي إن أعدت الصلاة ، فأعدت ، وقد اعتزلت أهلي منذ سنين ، قال : فقال أبو الحسن عليه‌السلام : الأهل أهله ولا شي‌ء عليه ، انما هذا وشبهه من خطوات الشيطان». (منه ـ قدس‌سره ـ). قرب الاسناد ص ١٢٥ وفيه اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٤ ب ٦ ح ٧.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ١١ ح ٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٦ ب ٧ ح ٢.

٦٥١

أيضا ما رواه في الكافي (١) عن أحمد بن محمد بن أبي نصر في الصحيح عن الرضا عليه‌السلام قال : «الظهار لا يقع على الغضب».

وإطلاق الخبرين المذكورين شامل لمطلق الغضب ، ارتفع معه القصد أو لم يرتفع.

وأما بالنسبة إلى السكر فالأمر فيه أظهر ، فإن السكران لا شعور له.

وينبغي أن يضاف إلى هذه الأفراد ما لو أراد أن يرضي بذلك امرأته ، والوجه فيه ظاهر لعدم القصد إلى الظهار بالمعنى المراد به ، ولما رواه في التهذيب (٢) عن حمزة بن حمران قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي ، يريد أن يرضي بذلك امرأته؟ قال : يأتيها ليس عليه شي‌ء».

ورواه في الفقيه (٣) عن ابن بكير عن حمران مثله ، وفي آخره «ليس عليها ولا عليه شي‌ء».

ومن الأخبار الدالة على عدم صحته مع قصد الحلف أيضا ما رواه في الكافي والتهذيب (٤) في الموثق عن ابن بكير قال : «تزوج حمزة بن حمران ابنة بكير فلما أراد أن يدخل بها قال له النساء : لسنا ندخلها عليك حتى تحلف لنا ولسنا نرضى أن تحلف لنا بالعتق لأنك لا تراه شيئا ، ولكن احلف لنا بالظهار وظاهر من أمهات أولادك وجواريك فظاهر منهن ، ثم ذكر ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال : ليس عليك شي‌ء ، ارجع إليهن».

وهذا الحلف كان على عدم طلاقها كما يفصح به خبر آخر في معناه ، وفيه

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥٨ ح ٢٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٥ ب ٧ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٥ ب ٦ ح ٩.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٣٤٥ ح ١٥.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٥٤ ح ٧ ، التهذيب ج ٨ ص ١١ ح ١١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٣ ب ٦ ح ٣ وما في الكافي والوسائل «عن عبد الله بن المغيرة».

٦٥٢

أنهم قالوا له «أنت مطلاق فنخاف أن تطلقها فلا ندخلها عليك حتى تقول إن أمهات أولادك عليك كظهر أمك أن طلقتها» الحديث.

السابع : لو قيد الظهار بمدة معينة كيوم أو شهر كأن يقول أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو سنة ، أو إلى شهر أو إلى سنة ، فقد اختلف الأصحاب في ذلك على أقوال :

(أحدها) أنه لا يكون ظهارا ، اختاره الشيخ في المبسوط حيث قال : إذا ظاهر من زوجته مدة مثل أن يقول أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو سنة لم يكن ظهارا ، وتبعه ابن البراج وابن إدريس.

(وثانيها) أنه يقع ، وهو اختيار ابن الجنيد ، وإليه يميل كلام المحقق في الشرائع.

(وثالثها) التفصيل ، فإن زادت المدة عن مدة التربص على تقدير المرافعة وقع ، وإلا فلا ، وإليه يميل كلام شيخنا في المسالك ، قال : لأن الظهار يلزمه التربص مدة ثلاثة أشهر من حين الترافع ، وعدم الطلاق ، وهو يدل بالاقتضاء على أن مدته تزيد عن ذلك ، وإلا لانتفى اللازم الدال على انتفاء الملزوم ، وإلى هذا التفصيل ذهب في المختلف ولا بأس به ، والرواية الصحيحة لا تنافيه وإن كان القول بالجواز مطلقا لا يخلو من قوة ، انتهى.

ونقل العلامة في المختلف ومثله شيخنا في المسالك الاستدلال للشيخ فيما ذهب إليه من عدم صحة الظهار بصحيحة سعيد الأعرج (١) عن موسى بن جعفر عليه‌السلام «في رجل ظاهر من امرأته يوما ، قال : ليس عليه شي‌ء». (٢).

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ١٤ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٣١ ب ١٦ ح ١٠.

(٢) وقال الفاضل الخراساني في الكفاية ـ بعد نقل صحيحة سعيد الأعرج المذكورة كما في المسالك والمختلف ـ ما لفظه : هكذا نقل الحديث في المسالك ، والذي رأيته في التهذيب «فوقى» بدل «يوما» وهو ظاهر في أنه لم يقف الا على هذه النسخة خاصة ، وبالجملة فإنه يشكل الاعتماد على الخبر المذكور لما ذكرنا. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٦٥٣

والمحدث الكاشاني في الوافي نقل هذه الرواية هكذا «ظاهر من امرأته فوقى ـ عوض قوله «يوما» ـ قال : ليس عليه شي‌ء» ثم قال : بيان : أي لم يقاربها ثم قال : وفي بعض النسخ «يوما» مكان «فوفى» ، وإنما لم يجب عليه شي‌ء لأن الظهار بمجرده لا يوجب شيئا ، ثم إن فاء كفر أو طلق خلص ، وإن صبر «يوما» على النسخة الثانية فلا شي‌ء عليه ، انتهى.

واختلاف النسخ في ذلك مؤذن بوهن الاعتماد على الخبر في الاستدلال سيما أن ظاهره في الوافي الاعتماد على نسخة «فوفى» حيث إنها هي التي نقلها في متن الخبر ، والثانية وهي نسخة «يوما» إنما ذكرها في البيان مسندا لها إلى بعض النسخ المشعر بقلة ذلك البعض ، وظاهر الشيخين المذكورين حيث استدلا بالخبر بهذا النحو الذي ذكراه ، ولم يشيرا إلى نسخة اخرى بالكلية هو الاعتماد عليه.

وأما ما نقل عن ابن الجنيد من القول بوقوع الظهار بهذا القول فاحتجوا له بعموم الآية وأنه منكر من القول وزور كالظهار المطلق.

واستدل له في المسالك بما روي عن سملة بن صخر الصحابي (١) وأنه كان قد ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان ثم وطأها في المدة ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتحرير رقبة ، ثم إنه ـ قدس‌سره ـ بعد ذكر صورة الرواية تفصيلا قال : وجملة الرواية عن سلمة بن صخر قال : «كنت امرء قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان خوفا من أن أصيب في ليلتي شيئا فاتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ولا أقدر على أن أنزل ، فبينما هي تخدمني من الليل إذ انكشف لي منها شي‌ء فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت لهم انطلقوا معي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبروه بخبري ، فقالوا : والله ما نفعل ، نتخوف أن ينزل فينا قرآن ، ويقول فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقالة يبقي علينا عارها ، لكن اذهب أنت واصنع ما بدا

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٨٢ ونقل ملخصا.

٦٥٤

لك ، فخرجت حتى أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته بخبري فقال : أنت بذاك؟ فقلت : أنا بذلك ، فقال : أنت بذاك؟ فقلت : أنا بذلك ، فقال : أنت بذاك؟ فقلت : نعم ، ها أنا ذا فامض في حكم الله عزوجل فأنا صابر له ، فقال : أعتق رقبة ، فضربت صفحة عنقي بيدي وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال : فصم شهرين متتابعين ، فقال : فقلت : يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم ، قال : قال : فتصدق ، قال : قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وما لنا عشاء ، قال : اذهب إلى صاحب صدقة بني رزين قل له ، فليدفعها إليك فأطعم عنك وسقا من تمر ، فادفعه إلى ستين مسكينا ، ثم استعن سائره عليك وعلى عيالك ، قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السعة والبركة ، وقد أمرني بصدقتكم فادفعوها إلي ، قال : فدفعوها إلى».

وفي رواية اخرى «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا فقال : تطعمه ستين مسكينا لكل مسكين مد». وإنما أتينا على الرواية مع طولها لما تشتمل عليه من الفوائد والنكت ، انتهى.

أقول : والتحقيق أن المسألة لا تخلو من شوب الاشكال الموجب للبقاء في قالب الاحتمال.

وأما ما استدل به للقول الأول من الصحيحة المذكورة فإن فيه زيادة على ما عرفت من اختلاف النسخ الموجب لخروج الخبر عن موضع الاستدلال بناء على تلك النسخة الأخرى أن الخبر المذكور على تقدير النسخة التي ذكروها غير صريح الدلالة ولا واضحها فيما ادعى منه ، لاحتمال أن يقال : إن المراد بيان أن الظهار بمجرده لا يوجب شيئا ، وإنما تجب الكفارة بإرادة العود قبل انقضاء المدة ولما كانت مدة اليوم قصيرة ، فإذا صبر حتى يمضي فليس عليه شي‌ء ، وحينئذ فقوله «ليس عليه شي‌ء» لا يستلزم أنه ليس ظهارا كما هو المدعى ، بل هو أعم من ذلك كما عرفت ، ومتى قام الاحتمال بذلك بطل الاستدلال ، هذا بناء على

٦٥٥

النسخة التي أوردوها ، وإلا فالخبر لا تعلق له بما نحن فيه بناء على النسخة الأخرى ، وترجيح إحدى النسختين على الأخرى يحتاج إلى مرجح ، وهذه علة أخرى.

وأما ما استدل به لابن الجنيد من إطلاق الآية ففيه أنك قد عرفت في غير مقام مما تقدم أن الإطلاق إنما يحمل على الأفراد الشائعة المتكررة ، فإنها هي التي ينصرف إليها الإطلاق دون الفروض النادرة التي ربما لا تقع بالكلية ، وإنما تفرض فرضا ، ولا ريب أن التقييد بمدة في الظهار شاذ نادر ، وكونه محرما ومنكرا من القول وزورا لا يستلزم كونه ظهارا تترتب عليه أحكام الظهار فإن كثيرا من الأقوال محرمة ومنهي عنها أشد النهي ، مع أنها لا يقع بها ظهار وإن اشتملت على لفظ الظهر.

وأما الرواية التي سجل بها ونقلها بطولها ونوه بشأنها من أنه إنما نقلها بطولها لما اشتملت عليه من الفوائد والنكت فالظاهر أنها عامية ، إذ لا وجود لها في كتب أخبارنا بالمرة ، والعجب منهم في استسلامهم هذه الأخبار العامية في أمثال هذه المقامات ، وردهم للأخبار الإمامية المنقولة في الأصول الصحيحة بمجرد العمل بهذا الاصطلاح المحدث.

وأما القول بالتفصيل كما جنح إليه فهو يتوقف على الدليل ، وليس إلا مجرد هذه التعليلات العقلية التي يتداولونها ، وقد عرفت ما فيه.

وأما ما ادعاه ـ قدس‌سره ـ من أن العلامة ذهب في المختلف إلى هذا التفصيل فهو عجيب ، فإن العلامة إنما ذكره احتمالا مؤذنا بأنه لا قائل به ، حيث إنه بعد أن نقل قولي الشيخ وابن الجنيد ، ونقل دليلهما ، قال : ويحتمل القول بالصحة إن زاد عن مدة التربص ، وإلا فلا ، انتهى. وأين هذه العبارة عما نقله عنه ، بل ظاهره إنما هو التوقف في المسألة كما ذكرناه ، فإنه بعد أن نقل القولين الأولين أردفهما بهذا الاحتمال ولم يرجح شيئا في البين.

الثامن : قد وقع الخلاف هنا في صيغتين (إحداهما) ما لو قال أنت طالق

٦٥٦

كظهر أمي فقال الشيخ في المبسوط : إذا قال أنت طالق كظهر أمي وقصد إيقاع الطلاق بقوله «أنت» والظهار بقوله «كظهر أمي» طلقت بقوله «أنت طالق» ويصير مظاهرا منها بقوله «كظهر أمي» إن كان الطلاق رجعيا ، ويكون تقديره أنت طالق ، وأنت كظهر أمي.

وقال ابن البراج : لا يقع بذلك ظهار ، نوى ذلك أو لم ينو.

قال في المختلف : وهو الأقوى ، لنا إنه لم يأت بالصيغة ، ولا يقع الظهار بمجرد القصد الخالي منها ، وقوله «كظهر أمي» لغو ، لأنه لم يقل أنت مني ولا معي ولا عندي ، فصار كما لو قال ابتداء كظهر أمي.

وقال المحقق في الشرائع بعد أن نقل قول الشيخ : وفيه تردد ، لأن النية لا تستقل بوقوع الظهار ما لم يكن اللفظ الصريح الذي لا احتمال فيه ، والظاهر أنه على هذا المنوال كلام من تأخر عنهما ، وهو الظاهر من القواعد المقررة في هذه الأبواب بين الأصحاب ـ لأنه بناء على ما ذكره الشيخ من قصد إيقاع الطلاق بقوله أنت طالق ، والظهار بقوله كظهر أمي ـ وقوع الطلاق ، لحصول صيغته والقصد إليه ، وأما الظهار فإنه لم تحصل صيغته الشرعية ، إذ لم يبق من الكلام بعد صيغة الطلاق إلا قوله كظهر أمي ، مع أن الاتفاق قائم على أنه بمجرد قول الرجل كظهر أمي لا يكون مظاهرا.

وأما قوله «إنه بتقدير أنت كظهر أمي» بمعنى أنه وإن صرفت كلمة الخطاب السابقة أولا إلى الطلاق ، إلا أنها تعود إلى الظهار أيضا مع النية ويصير كأنه قال أنت طالق ، وأنت كظهر أمي.

ففيه ما عرفت من أن اللفظ بانقطاعه عما تقدمه ليس صريحا في الظهار ، والنية غير كافية عندنا في وقوع ما ليس بصريح ، وإنما يتوجه هذا عند من يعتد بالكنايات اعتمادا على النية ، بل صرح بعض من يعتد بالكنايات هنا برد هذا أيضا بناء على ما عرفت من أنه إذا استعملنا قوله أنت طالق في إيقاع

٦٥٧

الطلاق لم يبق إلا كظهر أمي ، وهو لا يصلح كناية إذ لا خطاب فيه لأحد ، وأيضا فالأصل في هذا التركيب أن تكون الجملة الواقعة بعد النكرة وصفا لها ، فيكون «كظهر أمي» وصفا لقوله «طالق» فالعدول بها عن ظاهر التركيب الذي تقتضيه القواعد من غير موجب خلاف الظاهر. نعم لو عكس فقال : أنت كظهر أمي طالق مع قصدهما معا صح الظهار لوجود صيغته وقصده.

ويبقى الكلام في الطلاق فيجري فيه الوجهان ، والشيخ على أصله هنا أيضا من صحتهما معا بالتقريب الذي ذكره ثمة.

(وثانيهما) ما لو قال أنت علي حرام كظهر أمي ، فقال الشيخ في المبسوط وتبعه ابن البراج : لو قال أنت علي حرام كظهر أمي لم يكن مظاهرا سواء نواه أو لا. وتبعه أيضا المحقق في الشرائع.

ورده العلامة في المختلف والشهيد الثاني في المسالك وغيرهما بأنه مخالف لمذهبه في المسألة السابقة ، وتوضيحه أنهم احتجوا هنا على ما ذهبوا إليه من عدم وقوع الظهار بهذه الصيغة بأن الخطاب بقوله «أنت» انصرف إلى الكلمة الاولى ، وهي قوله «حرام» وتم الكلام بحصول المسند والمسند إليه فيلغو لأن هذه العبارة لا تقتضي الظهار.

وأما قلة بعد ذلك «كظهر أمي» وأنه وقع خاليا من المسند إليه لفظا ، والنية غير كافية في تقديره ، مع أنه في المسألة السابقة ادعى تقدير المسند إليه فقال : تقديره أنت طالق وأنت كظهر أمي.

وكيف كان فإن وقوع الظهار بهذه الصيغة يدل عليه ما في صحيح زرارة المتقدم (١) عن الباقر عليه‌السلام وفيه لما سأله عن الظهار كيف يكون؟ «قال عليه‌السلام : يقول الرجل لامرأته وهي طاهر في جماع أنت علي حرام كظهر أمي». وهي صريحة

__________________

(١) قد تقدم في صدر هذا المطلب. (منه ـ قدس‌سره ـ). الكافي ج ٦ ص ١٥٣ ح ٣.

٦٥٨

في المطلوب وقوله فيها «حرام» تأكيد لغرضه من الظهار ، فلا ينافيه.

والعجب من الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ في تجويز الظهار بالكنايات ، وما هو أبعد من هذه مع الخلو عن النصوص في الجميع ، ومنعه هذه الصيغة مع ورود النص الصحيح بها. (١)

المطلب الثاني في المظاهر :

لا خلاف في أنه يعتبر في المظاهر ما يعتبر في المطلق من البلوغ وكمال العقل والاختيار والقصد ، وتحقيق هذه الشروط قد مضى في كتاب الطلاق ، فليطلب من هناك ، فلا يصح ظهار الطفل ولا المجنون ولا المكره ولا فاقد القصد ، بسكر كان أو إغماء أو غضب يبلغ به إلى ذلك ، وهو مما لا إشكال ولا خلاف فيه بقي الكلام هنا في مواضع

الأول : أنه هل يصح ظهار الخصي والمجبوب أم لا؟ وتفصيل القول في ذلك أنه إن بقي لهما ما يمكن به الجماع المتحقق بإدخال

__________________

(١) بقي هنا في المسألة صور اخرى : (منها) أن يقول هذا القول ولا ينوي شيئا بالكلية ، والذي صرحوا به أنه يقع الطلاق هنا لإتيانه بلفظه الصريح ، وأما الظهار فإنه لا يقع ، لان قوله «كظهر أمي» لا استقلال له حيث انه قد انقطع عن قوله «أنت».

(منها) أن يقصد بمجموع الكلام الطلاق خاصة ، بجعل قوله «كظهر أمي» تأكيدا لتحريم الطلاق بمعنى أنها طالق طلاقا كظهر امه ، ولا إشكال في أنه يقع الطلاق هنا دون الظهار ، قالوا : ولا خلاف في هذين الفردين.

(ومنها) أن يقصد بالجميع الظهار خاصة ، قالوا : يحصل الطلاق دون الظهار أيضا ، أما الأول فلفظة الصريح فيه ، واللفظ الصريح لا يعقل صرفه الى غيره ، حتى لو قال لزوجته أنت طالق ، ثم قال أردت به طالق من وثاق غيري أو نحو ذلك لم يسمع منه وحكم به عليه. وأما الثاني فلان الطلاق لا ينصرف الى الظهار ، والباقي بعد صيغة الطلاق ليس بصريح في الظهار كما عرفت ، ومع أنه لم ينو به الظهار وانما نواه بالجميع.

(ومنها) أن يقصد بمجموع كلامه الطلاق والظهار معا ، وحكمه أنه يحصل الطلاق دون الظهار أيضا بالتقريب المذكور في سابق هذه الصورة.

(ومنها) أن يقصد الطلاق بقوله أنت طالق ، والظهار بقوله كظهر أمي ، وهذه مسألة الكنايات المذكورة في الأصل وهي محل الخلاف. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٦٥٩

الحشفة أو قدرها من مقطوعها فلا إشكال في صحة ظهارهما لأنهما في حكم الصحيح وإن لم يمكنهما الإيلاج بنى صحة ظهارهما وعدمها.

(أولا) على أن فائدة الظهار هل يختص بالوطء بمعنى تحريم الوطء عليه خاصة ، ويحل له ما سوى ذلك؟ أو يشمل ما عداه من الاستمتاعات ، فيحرم عليه الجميع؟ وسيأتي تحقيق الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى ، فإن قلنا بالثاني صح ظهارهما ، وإلا فلا ، لعدم ظهور فائدته.

(وثانيا) على أنه هل يشترط في صحة الظهار الدخول أولا بالمظاهرة أم لا؟ فإن قلنا بالأول فلا ظهار هنا حيث إنه لم يتحقق منهما الدخول ولم يوجد شرطه فلا وجود له ، وإن قلنا بالثاني صح ظهارهما ، وسيأتي الكلام في المسألة إن شاء الله تعالى.

الثاني : هل يصح الظهار من الكافر أم لا؟ فذهب الشيخ في المبسوط والخلاف إلى الثاني ، ونحوه يظهر من ابن الجنيد أيضا.

قال الشيخ في الكتابين المذكورين : لا يصح الظهار من الكافر ولا التكفير.

وقال ابن الجنيد : وكل مسلم من الأحرار وغيرهم إذا كان بالغا مملكا للفرج ممنوعا من نكاح غيره بملكه إياه إذا ظاهر من زوجته في حال صحة عقله لزمه الكفارة. والقيد بالمسلم في كلام مشعر باختياره لهذا القول ، ومن ثم نسباه إلى ظاهره.

وإلى الأول ذهب ابن إدريس فقال : الذي يقوى في نفسي أن الظهار يصح من الكافر.

وبذلك قال المحقق والعلامة : والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين. واحتجوا عليه بعموم الآية ، وهي قوله عزوجل «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ» وغير ذلك من العمومات.

٦٦٠