الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

وظاهر المحدث الكاشاني الميل إلى حمل هذه الأخبار الأخيرة على التقية بقرينة الخبر الأخير ، وعدة المخيرة فيه ، مع أنه لا تخيير عندنا ، وهو وإن كان لا يخلو من قرب إلا أن الاشكال باق في المقام ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة ، فلعله كما دلت عليه هذه الأخبار ، والله العالم.

المقصد الثاني في المبارأة

وأصلها المفارقة ، وهي هنا عبارة عن الطلاق بعوض مع كراهة كل من الزوجين الآخر ، ولها أحكام تخصها ، وأحكام تشارك الخلع فيها ، وأنا أذكر أولا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بها ثم أردفها إن شاء الله بما يتعلق بها من الأبحاث في المقام.

الأول : ما رواه ثقة الإسلام (١) في الموثق عن سماعة قال : «سألته عن المبارأة كيف هي؟ فقال : تكون للمرأة شي‌ء على زوجها من صداق أو من غيره ويكون قد أعطاها بعضه فيكره كلا منهما صاحبه ، فتقول المرأة لزوجها ما أخذت منك فهو لي وما بقي عليك فهو لك ، وأبارئك ، فيقول الرجل لها : فإن رجعت في شي‌ء مما تركت فأنا أحق ببضعك». ورواه الشيخ في التهذيب عن سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام وأبي الحسن عليه‌السلام مثله.

الثاني : عن محمد بن مسلم (٢) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة قالت لزوجها : لك كذا وكذا وخل سبيلي ، فقال. هذه المبارأة».

الثالث : عن أبي بصير (٣) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المبارأة تقول

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٢ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠١ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٠ ب ٨ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٢ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٤ ب ٤ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٤٣ ح ٥ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٠ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٠ ب ٨ ح ٤.

٦٢١

المرأة لزوجها : لك ما عليك واتركني أو تجعل له من قبلها شيئا فيتركها ، إلا أنه يقول : فإن ارتجعت في شي‌ء فأنا أملك ، ولا يحل لزوجها أن يأخذ منها إلا المهر فما دونه».

الرابع : عن عبد الله بن سنان (١) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المبارأة تقول لزوجها : لك ما عليك وبارئني فيتركها ، قال : قلت : فيقول لها : إن ارتجعت في شي‌ء فأنا أملك ببضعك؟ قال : نعم».

الخامس : ما رواه في من لا يحضره الفقيه (٢) في الصحيح عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المبارأة أن تقول لزوجها : لك ما عليك واتركني فيتركها ، إلا أنه يقول : إن ارتجعت في شي‌ء منه فأنا أملك ببضعك». ثم قال في الفقيه «وروي أنه لا ينبغي له أن يأخذ منها أكثر من مهرها ، بل يأخذ منها دون مهرها».

السادس : وما رواه في الكافي والتهذيب (٣) عن أبي الصباح الكناني قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن بارأت امرأة زوجها فهي واحدة وهو خاطب من الخطاب».

السابع ، ما رواه في التهذيب (٤) عن إسماعيل الجعفي عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «المبارأة تطليقة بائن وليس فيها رجعة».

الثامن : عن زرارة ومحمد بن مسلم (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المبارأة تطليقة بائن وليس في شي‌ء من ذلك رجعة».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٣ ح ٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠١ ب ٨ ح ٥.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٣٦ ح ١ و ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٠ ب ٨ ح ١ و ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٤٢ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠١ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠١ ب ٩ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ١٠٢ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠١ ب ٩ ح ٢.

(٥) التهذيب ج ٨ ص ١٠٢ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٨ ب ٦ ح ٦.

٦٢٢

التاسع : عن زرارة ومحمد بن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «لا مباراة إلا على طهر من غير جماع بشهود».

العاشر : عن حمران (٢) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يحدث يقول : المبارأة تبين من ساعتها من غير طلاق ولا ميراث بينهما ، لأن العصمة منهما قد بانت ساعة كان ذلك منها ومن الزوج».

الحادي عشر : عن جميل بن دراج (٣) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المبارأة تكون من غير أن يتبعها الطلاق».

الثاني عشر : ما رواه في الكافي (٤) عن زرارة في الصحيح أن الحسن عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «المبارأة يؤخذ منها دون الصداق والمختلعة يؤخذ منها ما شاءت أو ما تراضيا عليه من صداق أو أكثر ، وإنما صارت المبارأة يؤخذ منها دون الصداق ، والمختلعة يؤخذ منها ما شاء ، لأن المختلعة تعتدي في الكلام وتتكلم بما لا يحل لها».

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع :

الأول : لا خلاف في أن المبارأة مشروطة بكراهة كل من الزوجين الآخر ، وهذا الشرط مقطوع به في كلامهم ، وعليه يدل الخبر الأول ، وكذا ظاهر الآية ـ أعني قوله عزوجل «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ» (٥) ـ فإن مورد الآية الخلع والمبارأة ، وقد أسند خوف

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ١٠٢ ح ٢٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٨ ب ٦ ح ٧.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٠٢ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠١ ب ٩ ح ٣ وفيهما «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يتحدث قال :».

(٣) التهذيب ج ٨ ص ١٠٢ ح ٢٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠١ ب ٩ ح ٤.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٤٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠١ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٣ ب ٤ ح ١.

(٥) سورة البقرة ـ آية ٢٢٩.

٦٢٣

عدم إقامة الحدود الذي هو كناية عن الكراهة إلى كل منهما في حق الآخر.

وهذا من جملة المواضع التي يفارق فيها المبارأة الخلع ، حيث إنه يشترط هنا الكراهة من الطرفين وفي الخلع من طرف المرأة خاصة.

الثاني : المشهور بل ادعي عليه الإجماع كما صرح به المحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه وجوب اتباع المبارأة بلفظ الطلاق ، وأنه لا يعتد بها بدونه ، مع أن المحقق في النافع وهو متأخر عن الشرائع نسب القول بذلك إلى الأكثر ، وفيه إيذان بعدم تحقق الإجماع المدعى ، وأنه لا دليل على ذلك إلا مجرد الشهرة.

والشيخ ـ رحمة الله عليه ـ قال في التهذيب بعد أن أورد الروايات الدالة على عدم الاتباع بالطلاق ومنها الخبر العاشر والحادي عشر قال : قال محمد بن الحسن : الذي أعمل عليه في المبارأة ما قدمنا ذكره في المختلعة ، وهو أنه لا يقع بها فرقة ما لم يتبعها بطلاق ، وهو مذهب جميع أصحابنا المحققين من تقدم منهم ومن تأخر ، وليس ذلك منافيا لهذا الخبر الذي ذكرناه ـ وعنى به رواية جميل ـ لأن قوله «المبارأة تكون من غير أن يتبعها بالطلاق». لا يفيد أنه تقع الفرقة بينهما بذلك ـ إلى أن قال : ـ ولو كان صريحا بالفرقة لكنا نحمله على ضرب من التقية كما قدمنا في باب الخلع.

وقال في الاستبصار : وهذه الأخبار أوردناها على ما رويت ، وليس العمل على ظاهرها لأن المبارأة ليس يقع بها فرقة من غير طلاق ، وإنما تؤثر في ضرب من الطلاق في أن يقع بائنا لا يملك معه الرجعة ، وهو مذهب جميع فقهاء أصحابنا المتقدمين منهم والمتأخرين لا نعلم خلافا بينهم في ذلك ، والوجه فيها أن نحملها على التقية لأنها موافقة لمذهب العامة ، ولسنا نعمل به ، انتهى.

ويشكل أولا بعدم الدليل على ما ذكره من الأخبار المذكورة ، وهي أخبار المسألة كملا ، بل هي في خلافه ما بين صريح الدلالة وظاهرها ، فمن الأول الخبر العاشر والحادي عشر ، ومن الثاني الخبر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس ،

٦٢٤

فإنما اشتملت عليه من أنها تقول كذا ، ويقول الزوج كذا هو صيغة المبارأة التي يترتب عليها حكمها مع استكمال باقي الشرائط من الطهارة والاشهاد ، وكونها في طهر لم يقربها فيه وهم ـ رضوان الله عليهم ـ قد صرحوا بأن صيغة المبارأة بأن يقول : بارأتك على كذا فأنت طالق.

وقال السيد السند في شرح النافع ـ بعد نقل هذه الصيغة في كلام المصنف ـ ما لفظه : الكلام في صيغة المبارأة كما في الخلع من افتقارها إلى اللفظ الدال عليه من قبل الزوج ، والاستدعاء أو القبول من جهة المرأة.

مع أن ظاهر هذه الأخبار كما ترى أن هذه صيغة المبارأة التي يترتب عليها أحكامها ، لأن هذا الأخبار قد تضمنت أن المبارأة التي تترتب عليها الأحكام عبارة عن هذا القول منها ومنه ، وليس في شي‌ء منها تعرض للفظ الطلاق ولا لاستدعاء المرأة أو قبولها ، كما ذكره السيد السند وغيره ، وعلى هذا النحو باقي أخبار المسألة من قولهم عليهم‌السلام «المبارأة تطليقة بائن ليس فيها رجعة» ونحو ذلك فإنه قد رتب الحكم فيها على المبارأة الصادقة لما ذكرناه من الأقوال التي اشتملت عليها تلك الأخبار ونحوها.

وبالجملة فإنه لا يشم لهذا الطلاق رائحة من أخبار المسألة فضلا عن الدلالة عليه ، بل هي في عدمه أظهر من أن ينكر.

وثانيا ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك من أن المبارأة لا يستعملها العامة ، ولا يعتبرون فيها ما يعتبره أصحابنا بل يجعلونها من جملة كنايات الخلع أو الطلاق ، وحينئذ فكيف يتم حمل ما ورد من أحكامها على التقية ، وأنت قد عرفت فيما تقدم من أخبار الخلع أن بعضها دال على الاتباع بالطلاق كما يدعونه ، إلا أن الأكثر الأصح منها على العدم ، وأما في هذا الباب فلا دلالة في شي‌ء من أخباره كما عرفت على ما ذكروه.

وبالجملة فإنه لم يبق في معارضة هذه إلا ما يدعونه من الإجماع وقد عرفت

٦٢٥

ما فيه من الجدال والنزاع ، ويظهر من شيخنا الشهيد الثاني المناقشة في هذا الإجماع (١) وعدم تسليمه في أمثال هذه المقامات وهو كذلك ، وهذا الموضع أيضا أحد مظاهر الفرق بين الخلع والمبارأة بالنظر إلى أنه في الخلع قد وقع الخلاف في وجوب الاتباع بالطلاق وعدمه ، وفي المبارأة قد وقع الإجماع على وجوب الاتباع ، وكل من قال في الخلع بالعدم أوجبه في المبارأة ، وفيه ما عرفت مما أوضحنا تحقيقه.

الثالث : اختلف الأصحاب فيما يؤخذ من فدية المبارأة بعد الاتفاق على أنه لا يجوز له الزيادة على ما أعطاها ، فالمشهور أنه يجوز له المهر فما دونه.

وذهب جمع من الأصحاب إلى أنه لا يؤخذ إلا دون ما دفع إليهما ، ونقله في المختلف عن الشيخ علي بن بابويه في الرسالة ، قال : قال الشيخ علي بن بابويه في رسالته في المبارأة : وله أن يأخذ منها دون الصداق الذي أعطاها ، وليس له أن يأخذ الكل.

وممن صرح بجواز أخذ المهر كملا الشيخ المفيد وابن إدريس ، وهو المشهور بين المتأخرين.

وقال الصدوق في المقنع : ولا ينبغي له أن يأخذ منها أكثر من مهرها بل يأخذ منها دون مهرها. وهو الظاهر من كلام الشيخ في النهاية وابن أبي عقيل وابن حمزة ، وهذا القول إنما تعرض فيه للأكثر والأقل خاصة ، وأما جميع ما أعطاه من غير زيادة ولا نقصان فهو مجمل فيه.

والذي يدل على القول المشهور الخبر الثالث ، وهو صحيح صريح في ذلك ، وما ذكره السيد السند في شرح النافع ـ من أنه ضعيف لاشتراك أبي بصير ـ مردود

__________________

(١) حيث قال ـ بعد نقله عن المصنف في النافع والعلامة في كتبه دعوى الإجماع وأنه في المختصر نسبه الى قول مشهور ـ ما صورته : وهو المناسب لتحقيق المصنف فإنه لا يعتد بالإجماع بمثل هذه الشهرة كما نبه عليه في المعتبر ونهى عن الاغترار بذلك انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٦٢٦

بأن الراوي عن أبي بصير هنا عبد الله بن مسكان وهو من قرائن ليث المرادي الثقة الجليل.

ويدل على ما ذهب اليه الشيخ علي بن بابويه الخبر الثاني عشر وهو صحيح أو كالصحيح ، لأن حسنه إنما هو بإبراهيم بن هاشم ، وما قدح به في الخبر المذكور في المسالك ـ من أنه مقطوع ـ مردود بأنه وإن كان كذلك في التهذيب ومنه نقل ، إلا أنه في الكافي كما نقلناه متصل لا قطع فيه.

ومن هنا يظهر لك أن ما رجحه في المسالك من العمل بصحيحة أبي بصير بناء على رد هذه الرواية بالقطع ليس في محله ، وما رجحه سبطه من العمل بهذه الرواية بناء على نقله لها من الكافي ، وهي حسنة عنده كالصحيح بناء على طعنه في صحيحة أبي بصير باشتراك الراوي ليس في محله أيضا ، لما ذكرناه من القرينة على أنه ليث المرادي الثقة الجليل ، ولهذا وصفها في المسالك بالصحة ، وبذلك يظهر لك تصادم الخبرين المذكورين مع صحتهما معا في البين ، وأنه لا وجه لترجيح أحدهما على الآخر من حيث السند.

ويمكن الجمع بينهما بحمل رواية الأقل من المهر على الأفضل ، وإن جاز له أخذ الجميع ، وهذا الموضع أحد مظاهر الفرق بين الخلع والمبارأة كالموضع الأول.

الرابع : قال المحقق في الشرائع ـ بعد ذكر الصيغة وأنها عبارة عن أن يقول بارأتك على كذا فأنت طالق ـ : ولو اقتصر على قوله أنت طالق بكذا صح ، وكان مباراة ، إذ هي عبارة عن الطلاق بعوض مع منافرة بين الزوجين.

أقول : قد عرفت مما قدمنا في كتاب الخلع أن الفرقة الحاصلة بالخلع أو المبارأة لا تنحصر في لفظ الخلع أو المبارأة ، بل كلما أفاد هذا المعنى من الألفاظ متى استكمل باقي الشروط فإنه يترتب عليه حكم تلك الفرقة الخاصة ، ومن ذلك قوله أنت طالق بكذا فإن استكمل شرائط الخلع كان خلعا ، وإن استكمل شرائط المبارأة كان مباراة.

وبالجملة فإن الطلاق بعوض وإن لم يرد بخصوصه في الأخبار إلا أنه

٦٢٧

لا يخرج عن أحدهما حسبما قدمنا تحقيقه في الموضع الرابع من المقام الأول في صيغة الخلع.

وما ذكره في المسالك هنا بناء على ما ذهب إليه من وجوده في مادة غيرهما حيث قال : ولو قيل بصحته مطلقا حيث لا يقصد به أحدهما كان وجها لعموم الأدلة قد قدمنا ما فيه مما يكشف عن بطلان باطنه وخافية.

الخامس : الظاهر أنه لا خلاف في أن جميع ما ذكر من الشروط المعتبرة في صحة الطلاق فإنها تعتبر في المبارأة أيضا ، وكذا ما يترتب على الخلع من البينونة بعد استكمال الشرائط فإنها تترتب على المبارأة كذلك ، وكذا ما تقدم من أنه ليس للزوج الرجوع إلا أن ترجع هي في البذل.

ومما يدل على البينونة بذلك الخبر السابع والثامن والعاشر ، وعلى الاشتراط بشروط الطلاق قول زرارة في الخبر الثامن وقوله عليه‌السلام في الخبر التاسع ، وعلى رجوعه برجوعها الاشتراط المذكور في جملة منها.

بقي أن ظاهر هذه الأخبار إنما هو الرجوع في شي‌ء مما أعطاها ، وهو ظاهر في الترتب على الرجوع في البعض ، وقد تقدم الكلام فيه ، وبينا أن الظاهر حمل «من» هنا على البيانية لا التبعيضية ، ولم أقف على من تعرض للكلام في ذلك إلا شيخنا في المسالك ، فقال هنا ـ زيادة على ما تقدم في الخلع ـ : وفي هذه الأخبار التي ذكرناها سابقا في المبارأة ما يدل على جواز رجوعه في الطلاق متى رجعت في شي‌ء من البذل وإن لم يكن جميعه ، وقد تقدم ما فيه في الخلع ، انتهى.

أقول : مقتضى الوقوف على ظاهره هذه الأخبار المتفقة على هذه العبارات هو تخصيص الرجوع برجوعها في البعض خاصة ، إذ ليس سواها في الباب ، ولا قائل به ، بل ظاهرهم التخصيص بالجميع ، ولا مخرج عن هذا الإشكال إلا بما ذكرنا من حمل «من» على البيانية ، والظاهر أنه هو الذي فهمه الأصحاب ـ رحمة الله عليهم ـ من هذه العبارة ، والله العالم بحقائق أحكامه.

٦٢٨

كتاب الظهار

قال في كتاب المصباح المنير (١) : ظاهر من امرأته ظهارا مثل قاتل قتالا ، وتظهر : إذا قال لها : أنت علي كظهر أمي ، إنما خص ذلك بالظهر لأن الظهر من الدابة موضع الركوب ، والمرأة مركوبة وقت الغشيان ، فركوب الام مستعار من ركوب الدابة ، ثم شبه ركوب الزوجة بركوب الام الذي هو ممتنع ، وهو استعارة لطيفة ، فكأنه قال : ركوبك للنكاح حرام علي ، وكان الظهار طلاقا في الجاهلية ، فنهوا عن الطلاق بلفظ الجاهلية وأوجب عليهم الكفارة تغليظا في النهي ، انتهى.

وفي المسالك أيضا : إنه كان طلاقا في الجاهلية كالإيلاء ، فغير الشرع حكمه إلى تحريمها لذلك ولزوم الكفارة بالعود كما سيأتي ، انتهى.

وقيل في تعريفه : إنه تشبيه الزوج المكلف زوجته ولو مطلقة رجعية في العدة بظهر امه ، وقيل وبمحرمة نسبا أو رضاعا على ما سيأتي ذكره من الخلاف ، ولا خلاف بين العلماء في تحريمه.

والأصل في قوله عزوجل «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» (٢) وقد

__________________

(١) المصباح المنير ص ٥٣٠.

(٢) سورة المجادلة ـ آية ٣.

٦٢٩

دلت الآية على أنه منكر وزور ، ولا ريب في تحريم كل منهما ، ونقل في الشرائع قولا بأنه محرم ، ولكن يعفي عن فاعله يعني في الآخرة ، فلا يعاقب عليه استنادا إلى قوله تعالى في آخر الآية «وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».

قال في المسالك : وهذا القول ذكره بعض المفسرين ولم يثبت عن الأصحاب ثم تنظر فيه بأنه لا يلزم من وصفه تعالى بالعفو والغفران فعليتهما بهذا النوع من المعصية ، وذكره بعده لا يدل عليه. نعم لا يخلو من باعث على الرجاء والطمع في عفو الله تعالى ، إلا أنه لا يلزم منه وقوعه به بالفعل ، ونظائره في القرآن كثيرة مثل قوله تعالى «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً» (١) مع أنه لم يقل أحد بوجوب عفوه عن هذا الذنب المذكور قبله ـ إلى أن قال : ـ والحق أنه كغيره من الذنوب أمر عقابها راجع إلى مشية الله تعالى ، انتهى.

والسبب في نزول هذه الآية ما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (٢) بسنده المذكور فيه عن حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن امرأة من المسلمات أتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن فلانا زوجي وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته ، لم ير مني مكروها ، أشكوه إليك ، قال : فيم تشكونيه؟ قالت : إنه قال : أنت علي حرام كظهر أمي ، وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضي فيه بينك وبين زوجك ، وأنا أكره أن أكون من المتكلفين ، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عزوجل وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانصرفت ، قال : فسمع الله تبارك وتعالى

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ آية ٥.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ٣٥٣ ط النجف الأشرف وفيه اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٦ ب ١ ح ٢ لحد قوله «هذا حد الظهار» مع اختلاف يسير وأما بقية الحديث فمذكور في ص ٥٠٩ ب ٢ ح ١.

٦٣٠

مجادلتها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زوجها وما شكت إليه ، وأنزل الله عزوجل في ذلك قرآنا «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما ـ إلى قوله ـ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» قال : فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المرأة ، فأتته فقال لها : جيئني بزوجك ، فأتت به ، فقال له : أقلت لامرأتك هذه أنت على حرام كظهر أمي؟ فقال : قد قلت لها ذلك ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أنزل الله فيك وفي امرأتك قرآنا وقرأ : «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» فضم إليك امرأتك ، فإنك قد قلت منكرا من القول وزورا ، وقد عفا الله عنك وغفر لك ولا تعد ، قال : فانصرف الرجل وهو نادم على ما قال لامرأته.

وكره الله عزوجل ذلك للمؤمنين بعد وأنزل الله «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» يعني ما قال الرجل الأول لامرأته أنت علي حرام كظهر أمي ، قال : فمن قالها بعد ما عفا الله وغفر للرجل الأول ، فإن عليه «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا» يعني مجامعتها «ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» قال : فجعل عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا ، ثم قال «ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ» قال : هذا حد الظهار. وقال حمران (١) قال أبو جعفر عليه‌السلام : ولا يكون ظهار في يمين ، ولا في إضرار ، ولا في غضب ، ولا يكون ظهار إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين مسلمين».

ورواه ثقة الإسلام في الكافي (٢) في الحسن عن حمران عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله.

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٩ ب ٢ ح ١ وفيه اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٥٢ ح ١ وفيه اختلاف يسير.

٦٣١

وأنت خبير بأن المفهوم من هذا الخبر أن ذكر العفو والمغفرة في آخر هذه الآية إنما هو بالنسبة إلى ذلك الرجل الأول الذي كان هو السبب في نزول الآية لا بالنسبة إلى كل من ظاهر ، فإن هذا الرجل المشار إليه كان جاهلا بتحريم ذلك ، ومن ثم عفا الله عنه ، وأما من علم بعد ذلك فإنه لا يدخل تحت الآية ، بل تجب عليه الكفارة عقوبة لما ارتكبه من ذلك الفعل المحرم كما صرح به عليه‌السلام ، في الخبر المذكور.

وبما ذكرناه من التفصيل يظهر لك ما في كلام شيخنا المتقدم ذكره من الإجمال ، وأن الفاعل لذلك مطلقا تحت المشية ، فإنه لا معنى له ، إذ الأول كما عرفت معفو عنه لجهله ، والثاني حيث كان عالما بتحريم ما ارتكبه فإنه يجب عليه الكفارة عقوبة لما ارتكبه ، فلا معنى لقياس هذا الفرد على غيره من الذنوب الداخلة تحت المشية ، بل الحكم فيه بمقتضى الخبر المذكور هو ما عرفت.

وروى الصدوق في من لا يحضره الفقيه (١) بطريقه إلى ابن أبي عمير عن أبان وغيره عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «كان رجل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له أوس ابن الصامت ، وكانت تحته امرأة يقال لها خولة بنت المنذر ، فقال لها ذات يوم : أنت علي كظهر أمي ، ثم ندم وقال لها : أيتها المرأة ما أظنك إلا وقد حرمت علي فجاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن زوجي قال لي : أنت علي كظهر أمي ، وكان هذا القول فيما مضى يحرم المرأة على زوجها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أظنك إلا وقد حرمت ، فرفعت المرأة يدها إلى السماء فقالت : أشكو إلى الله فراق زوجي ، فأنزل الله عزوجل يا محمد «قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها» الآيتين ، ثم أنزل الله عزوجل الكفارة في ذلك فقال «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ» الآيتين.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٤٠ ح ٤ وفيه اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٦ ب ١ ح ١.

٦٣٢

أقول : يمكن حمل إجمال الخبر الأول على هذا الخبر المذكور فيه اسم الرجل والمرأة فتكون القصة واحدة ، وإن فصلت أحكامها في الرواية الاولى وأجملت في الثانية ، وإلا فيشكل الجمع بينهما لو تعددت القصة.

وروى المرتضى علي بن الحسين في رسالة المحكم والمتشابه (١) نقلا من تفسير النعماني بإسناده إلى علي عليه‌السلام قال : «وأما المظاهرة في كتاب الله عزوجل فإن العرب كانت إذا ظاهر رجل منهم من امرأته حرمت عليه إلى آخر الأبد ، فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان بالمدينة رجل من الأنصار يقال له أوس بن الصامت ، وكان أول رجل ظاهر في الإسلام فجرى بينه وبين امرأته كلام ، فقال لها : أنت علي كظهر أمي ، ثم إنه ندم على ما كان منه ، فقال : ويحك إنا كنا في الجاهلية تحرم علينا الأزواج في مثل هذا قبل الإسلام ، فلو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألته عن ذلك ، فجاءت المرأة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته ، فقال : ما أظنك إلا وقد حرمت عليه إلى آخر الأبد ، فجزعت وبكت ، وقالت : أشكو إلى الله فراق زوجي ، فأنزل الله عزوجل «قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ـ إلى قوله ـ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ» الآية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قولي لأوس زوجك يعتق نسمة فقالت : وأنى له نسمة ، والله ما له خادم غيري ، قال : فيصوم شهرين متتابعين ، قالت : إنه شيخ كبير لا يقدر على الصيام ، قال : فمريه فليتصدق على ستين مسكينا فقالت : وأنى له الصدقة ، فوالله ما بين لابتيها أحوج منا ، قال : فقولي له : فليمض إلى أم المنذر فليأخذ منها شطر وسق تمر فليتصدق على ستين مسكينا» الحديث.

أقول : هذا الخبر لا يخلو من الإشكال ، فإن ما تضمنه من وجوب الكفارة يرده ظاهر الآية بالتقريب الذي قدمنا ذكره ، وما صرح به في الخبر الأول من العفو والمغفرة عن الأول ، وأن الكفارة إنما على من علم بالتحريم بعد هذه القصة ثم ظاهر لقوله عليه‌السلام «فمن قالها بعد ما عفا الله وغفر للرجل الأول فإن عليه تحرير

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٥٠٨ ب ١ ح ٤ وفيه «تسأليه» بدل «فسألته».

٦٣٣

رقبة ـ إلى أن قال : ـ فجعل عقوبة من ظاهر بعد النهى هذا» الحديث ، وأيضا فإن الظاهر أن الظهار هنا لم يستجمع شرائط الظهار الموجبة للتكفير ، سيما الشاهدين فإنه لم يتقرر بعد ، وإنما تقرر ورتبت عليه الأحكام بعد هذه القضية.

إذا تقرر ذلك فاعلم أن البحث في هذا الكتاب يقع في الصيغة والمظاهر والمظاهرة ، وما يترتب على ذلك من الأحكام ، فها هنا مطالب أربعة :

الأول في الصيغة :

لا خلاف ولا إشكال في انعقاد الظهار بقوله أنت علي كظهر أمي ، قيل وفي معنى علي غيرها من الألفاظ كمني وعندي ولدي ومعي ، وكذا يقوم مقام أنت ما شابهها من الألفاظ الدالة على تميزها من غيرها كهذه أو فلانة.

ولو قال : أنت كظهر أمي بحذف حرف الصلة فالأكثر على أنه ظهار ، واستشكله العلامة في التحرير ، ووجهه في المسالك بأنه مع ترك حرف الصلة يحتمل أنه أراد كونها محرمة على غيره حرمة ظهر امه عليه.

وفيه أن الاحتمال لا ينافي الظهور ، والظاهر المتبادر من هذا اللفظ إنما هو إرادة التحريم على نفسه الذي به يصدق الظهار ، والعمل إنما هو على الظاهر في جميع الموارد.

بقي هنا مواضع وقع الخلاف فيها : ما لو شبهها بظهر غير الام من المحارم نسبا أو رضاعا.

فقيل بأنه لا يقع ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف وابن إدريس في السرائر ، محتجا عليه بأن الظهار حكم شرعي ، وقد ثبت وقوعه إذا علق بالظهر وأضيف إلى الأم ، ولم يثبت ذلك في باقي الأرحام ولا المحرمات.

واستدل له بعض الأصحاب بما رواه الشيخ (١) في الصحيح عن سيف التمار

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥٧ ح ١٨ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١١ ب ٤ ح ٣.

٦٣٤

قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يقول لامرأته أنت علي كظهر أختي أو عمتي أو خالتي؟ قال : فقال : إنما ذكر الله الأمهات ، وأن هذا الحرام».

ورد ذلك جملة من المتأخرين منهم السيد السند في شرح النافع وقبله جده في المسالك ومن تأخر عنهما بأن الرواية غير دالة على ذلك بل هي بالدلالة على نقيضه أشبه ، فإن الظاهر من قوله «وأن هذا الحرام» في هذه الرواية إنه ظهار محرم وإن لم يكن ذكره الله في كتابه.

أقول : ومن المحتمل قريبا إن لم يكن هو الأقرب أن الإشارة في الخبر إنما توجهت إلى الذي ذكره في كتابه لا إلى الأخت وما بعدها ، ويؤيده أنه الأقرب والمعنى أن الذي ذكره في كتابه ورتب عليه الظهار إنما هو الام وهو الحرام الذي أشار إليه عزوجل بقوله «وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» لا الأخت ونحوها ، هذا هو الظاهر من الخبر ، وعليه بني الاستدلال. وأما ما ذكروه فإنه وإن احتمل إلا أن الظاهر بعده ، وعلى هذا يكون الخبر دليلا للقول المذكور لا يعتريه فتور ولا قصور ، إلا أنه معارض بغيره كما ستقف عليه.

وقيل بأنه يقع بالتشبيه بالمحرمات النسبية المؤيد تحريمهن ، وهو قول ابن البراج.

قال في المهذب : فإن شبهها بامرأة محرمة عليه على التأييد غير الأمهات كالبنات وبنات الأولاد والأخوات وبناتهن والعمات والخالات ، فعندنا أنهن يجرين مجرى الأمهات ، وأما النساء المحرمات عليه بالرضاع والمصاهرة فالظاهر أنه لا يكون بهن مظاهر ، انتهى.

ويدل على هذا القول صريحا ما رواه الشيخ (١) في الصحيح عن زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الظهار فقال : هو من كل ذي محرم أم أو أخت

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥٣ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٩ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٤٠ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١١ ب ٤ ح ١.

٦٣٥

أو عمة أو خالة ، ولا يكون الظهار في يمين ، قلت : وكيف يكون؟ قال : يقول الرجل لامرأته وهي طاهر في غير جماع أنت علي حرام مثل ظهر أمي أو أختي ، وهو يريد بذلك الظهار».

وما رواه في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن عن جميل بن دراج قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يقول لامرأته أنت علي كظهر عمته أو خالته ، قال : هو الظهار».

وعن يونس عن بعض رجاله (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في حديث يأتي ذكره قريبا قال : «وكذلك إذا هو قال : كبعض المحارم فقد لزمته الكفارة».

وقيل : بإضافة المحرمات الرضاعية إلى المحرمات النسبية ، وهو قول الأكثر على ما ذكره في المسالك ، ومثله سبطه في شرح النافع.

أقول : ممن ذكر هذا القول صريحا الشيخ في المبسوط حيث قال : إذا شبهها بامرأة تحرم لا على التأبيد كالمطلقة ثلاثا أو أخت امرأته أو عمتها أو خالتها لم يكن مظاهرا بلا خلاف وإن شبهها بمحرمة على التأبيد غير الأمهات والجدات كالبنات وبنات الأولاد والأخوات وبناتهن والعمات والخالات ، فروى أصحابنا أنهن يجرين مجرى الأمهات. وأما النساء والمحرمات عليه بالرضاع أو المصاهرة فالذي يقتضيه مذهبنا أن من يحرم عليه بالرضاع حكمه حكم من يحرم بالنسب لقوله عليه‌السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وأما من يحرم عليه عليه بالمصاهرة فينبغي أن لا يكون مظاهرا لأنه لا دليل عليه ، ونحوه ابن حمزة (٣) وابن الجنيد

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥٥ ح ١٠ ، التهذيب ج ٨ ص ٩ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١١ ب ٤ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٦١ ح ٣٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٢ ب ٤ ح ٤.

(٣) قال ابن حمزة : لو شبهها بواحدة من المحرمات نسبا أو رضاعا وقع ، وقال ابن الجنيد : والظهار بكل من حرم الله عليه ووطؤها بالنسب والرضاع واقع ، كقول الرجل أنت على كظهر أمي أو ابنتي أو مرضعتي أو ابنتها ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٦٣٦

فإنهما صرحا بذلك.

وأما باقي الأصحاب ممن نسب إليه هذا القول كالشيخ في النهاية والشيخ المفيد والصدوق فإنما هو من حيث الإطلاق ، ونحوهم غيرهم كابن أبي عقيل وابن البراج في الكامل وسلار وأبي الصلاح وابن زهرة ، ويمكن أن يستدل على هذا القول زيادة على ما ذكره في المبسوط من حديث «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» بإطلاق مرسلة يونس المذكورة ، وكذا إطلاق قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة «هو من كل ذي محرم» ولا ينافيه تخصيص العد بالأم والأخت ومن معهما ، لأن الظاهر أن ذلك إنما خرج مخرج التمثيل لا الحصر ، ولا للزوم الحصر في هذه الأفراد المذكورة في الرواية ، والنص والإجماع على خلافه.

وقيل : بإضافة محرمات المصاهرة ، وهو اختيار العلامة في المختلف ، حيث قال بعد نقل أقوال المسألة : والوجه عندي الوقوع إذا شبهها بالمحرمات على التأبيد ، سواء النسب والرضاع والمصاهرة للاشتراك في العلة. والظاهر أنه أراد بها تأبيد التحريم ، فإنه مشترك بين النسب والرضاع والمصاهرة.

وأورد عليه بأن هذه العلة مستنبطة فلا عبرة بها. نعم يمكن الاستدلال عليه بإطلاق صحيحة زرارة ورواية يونس المذكورتين ، لصدق كل ذي محرم على المحرمات بالمصاهرة ، والتمثيل بذي المحرم النسبي لا يفيد الحصر فيه ، وظاهر السيد السند الميل إلى هذا القول (١) لإطلاق الصحيحة المذكورة وهو غير بعيد ، بل لا يخلو من قرب.

ومنها : أنه هل يقع بغير لفظ الظهر كأن يقول كبطن أمي أو يدها أو رجلها أو شعرها أم لا؟ قولان :

(أولهما) للشيخ ـ رحمه‌الله ـ في الخلاف وجماعة مدعيا عليه في الخلاف إجماع

__________________

(١) واليه يميل كلام جده في المسالك ، حيث قال بعد الاستدلال عليه بصحيحة زرارة بالتقريب المذكور : وفي هذا القول قوة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٦٣٧

الفرقة ، وأنه إذا قال ذلك وفعل ما يجب على المظاهر كان أحوط في استباحة الوطء وإذا لم يفعل كان مفرطا.

و (ثانيهما) للسيد المرتضى ـ رضي‌الله‌عنه ـ في الانتصار مدعيا عليه الإجماع ، وتبعه ابن إدريس وابن زهرة وجمع من الأصحاب وعليه المتأخرون.

والذي وقفت عليه من الأخبار هنا ما رواه في الكافي (١) عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل قال لامرأته أنت علي كظهر أمي أو كيدها أو كبطنها أو كفرجها أو كنفسها أو ككعبها ، أيكون ذلك الظهار؟ وهل يلزمه فيه ما يلزم المظاهر؟ فقال : المظاهر إذا ظاهر من امرأته فقال هي عليه كظهر امه أو كيدها أو كرجلها أو كشعرها أو كشي‌ء منها ينوي بذلك التحريم فقد لزمته الكفارة في كل قليل منها أو كثير ، وكذلك إذا هو قال كبعض ذوات المحارم فقد لزمته الكفارة».

وما رواه الشيخ في التهذيب (٢) عن سدير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : الرجل يقول لامرأته أنت علي كشعر أمي أو ككفها أو كبطنها أو كرجلها ، قال : ما عنى؟ إن أراد أنه الظهار فهو الظهار».

وهذان الخبران كما ترى ظاهران فيما ذهب إليه الشيخ ومن تبعه من وقوع الظهار بهذه الصيغة.

وجملة من المتأخرين كصاحب المسالك وسبطه ذكروا الرواية الثانية دليلا للشيخ وردوها بضعف السند.

وأنت خبير بأن من لا يعمل بهذا الاصطلاح كالشيخ وأمثاله من المتقدمين وجملة من متأخري المتأخرين فإنه لا مناص له من العمل بالخبرين المذكورين لعدم المعارض في البين ، وغاية ما استدل به لقول السيد المرتضى بأن الأصل

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٦١ ح ٣٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٧ ب ٩ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥١٧ ب ٩ ح ٢.

٦٣٨

الإباحة إلا ما خرج عنها بدليل أو إجماع ، وهو الظهر ، فيبقى الباقي على الأصل ولأن الظهار مشتق من الظهر ، فإذا علق بغيره بطل الاسم المشتق منه ، وهذه التعليلات عند من يعمل بالخبرين المذكورين غير مسموعة ، لأنها مجرد اجتهاد في مقابلة النصوص ، والأصل الذي اعتمدوه يجب الخروج عنه بالنص المذكور.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم في هذا الموضع قد ذكروا صورا عديدة تفريعا على التشبيه ، والنسبة فيه من كونه بين الجملة والجملة أو الأجزاء والأجزاء أو الجملة والأجزاء ، ذلك مما ستقف عليه إن شاء الله تعالى.

الاولى : أن يقع التشبيه بين جملة الزوجة وظهر الام ، وهو أن يقول : أنت علي كظهر أمي ، وهذا هو المتفق عليه إجماعا نصا وفتوى ، وقد تقدم ما الحق به مما هو في معناه من تبديل حرف الصلة وتبديل اللفظ الدال على التعيين.

الثانية : أن يقع بين جملة الزوجة وجزء آخر من الام غير الظهر ، سواء كان مما لا يتم حياتها إلا به كوجهها ورأسها وبطنها أو يتم كيدها ورجلها ، وسواء حلته الحياة أم لا ، وهذه الصورة هي محل البحث المتقدم ، وقد عرفت الخلاف فيه وما يتعلق به من الأخبار.

الثالثة : أن يشبه بالجملة بالجملة بأن يقول أنت علي كأمي ، أو بدنك أو جسمك علي كبدن أمي أو جسمها ، وفي وقوع الظهار به قولان مبنيان على ما سبق ، والشيخ حيث قد حكم فيما سبق بالوقوع حكم به هنا ، قال : لأن صحته مع تشبيهه بتلك الأجزاء تستلزم صحته مع التشبيه بنفسها بطريق أولى لاشتمالها على تلك الأجزاء وزيادة ، ولاشتمال جملتها على ظهرها الذي هو مورد النص ، فيدل عليه تضمنا.

وأجيب عنه بمنع الأصل والأولوية ، فإن الأسباب الشرعية لا تقاس ، ونمنع من دخول الظهر في قوله أنت ، وجاز أن يكون لتخصيصه فائدة باعثة على الحكم ، والأكثر كما ذكره في المسالك على عدم الوقوع بذلك لفوت الشرط وهو التشبيه بالظهر كما قد علم من السابق.

٦٣٩

أقول : ونحن وإن اخترنا مذهب الشيخ ثمة لما عرفت من دلالة الخبرين المذكورين عليه إلا أن حمل هذه الصورة عليه كما ذكره لا يخرج عن ظلمة الالتباس المحتملة للوقوع في القياس.

الرابعة : أن يشبه بعض أجزاء الزوجة بجملة الأم كأن يقول يدك أو رأسك أو رجلك علي كأمي ، وفيه القولان السابقان. فالشيخ قال بصحته لأنه مركب من أمرين صحيحين ، وفيه منع ظاهر مما تقدم.

الخامسة : أن يشبه جزء الزوجة بظهر الأم بأن يقول بذلك وفرجك كظهر أمي ، وصححه الشيخ أيضا بطريق أولى ، والأشهر الأظهر العدم لما عرفت.

السادسة : أن يشبه الجزء بالجزء كأن يقول يدك علي كيد أمي ، وصححه الشيخ مع قصد الظهار ، ودليله مركب مما سبق ، والأشهر الأظهر العدم كما تقدم.

السابعة : أن يقع التشبيه بين الزوجة بصورها الست المذكورة وغير الام من المحارم ، فإن وقع بين الجملة من الزوجة وبين الظهر من تلك المشبه بها فقد عرفت صحته مما تقدم.

وإن وقع بين الجملة من الزوجة والجزء من المحارم غير الظهر فالظاهر بطلانه ، ويظهر من المحقق ادعاء عدم الخلاف في ذلك.

وفي المختلف (١) إن بعض علمائنا قال بوقوعه وآخرون بعدمه ، ونقل الخلاف في ذلك عن ابن إدريس.

وإن وقع بين الجملة والجملة بغير لفظ الظهر فالقولان ، وبالجملة فالظاهر الوقوف على موارد النصوص ، وإن ضعف سندها بهذا الاصطلاح المحدث ، والله العالم.

__________________

(١) قال في المختلف : لو شبهها بإحدى المحرمات غير الام بغير لفظ الظهر كقوله أنت على كيد أختي أو ابنتي قال بعض علمائنا : لا يقع ، وقال آخرون بالوقوع ، ونقلهما ابن إدريس ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٦٤٠