الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

وما رواه الشيخ (١) عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «لا يكون الخلع حتى تقول : لا أطبع لك أمرا ولا أبر لك قسما ولا أقيم لك حدا فخذ مني وطلقني فإذا قالت ذلك فقد حل له أن يخلعها بما تراضيا به من قليل أو كثير ، ولا يكون ذلك إلا عند سلطان ، فإذا فعلت ذلك فهي أملك بنفسها من غير أن يسمى طلاقا».

وعن سليمان بن خالد (٢) في الصحيح قال : «قلت : أرأيت إن هو طلقها بعد ما خلعها ، أيجوز عليها؟ قال : قال : ولم يطلقها وقد كفاه الخلع؟ ولو كان الأمر إلينا لم نجز طلاقها».

وعن محمد بن إسماعيل بن بزيع (٣) في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن المرأة تباري زوجها أو تختلع منه بشهادة شاهدين على طهر من غير جماع هل تبين منه بذلك؟ أو هي امرأته ما لم يتبعها بالطلاق؟ فقال : تبين منه ، وإن شاءت أن يرد إليها ما أخذ منها وتكون امرأته فعلت ، فقلت : إنه قد روي أنه لا تبين منه حتى يتبعها بطلاق ، قال : ليس ذلك إذا خلعا ، فقلت : تبين منه؟ قال : نعم».

وما رواه في الكافي (٤) عن محمد بن إسماعيل بن بزيع في الصحيح قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن المرأة تباري زوجها أو تختلع منه بشاهدين على طهر من غير جماع ، هل تبين منه؟ فقال : أما إذا كان على ما ذكرت فنعم ، قال : قلت : قد روي لنا أنها من لا تبين منه يتبعها بالطلاق ، قال : فليس تلك إذا خلعا فقلت : تبين منه؟ قال : نعم».

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٩٨ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٣ ب ٣ ح ١٠ وص ٤٩٥ ب ٤ ح ٥ وفيهما «تراضيا عليه».

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٩٩ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٢ ب ٣ ح ٨ وفيهما «قال يطلقها» و «لم نجز طلاقا».

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٩٨ ح ١١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٢ ب ٣ ح ٩ وفيهما اختلاف يسير.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٤٣ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٢ ب ٣ ح ٩ وفيهما اختلاف يسير.

٥٦١

وأما ما يدل على القول الأول فمنها ما رواه في الكافي (١) عن موسى بن بكر عن العبد الصالح عليه‌السلام قال : «قال علي عليه‌السلام : المختلعة يتبعها بالطلاق ما دامت في العدة».

قيل (٢) المراد بالعدة هنا عدة الطهر ، أي لو حاضت بعد الخلع قبل الطلاق لم يجز بل ينتظر الطهر.

وما رواه الشيخ في التهذيب (٣) عن موسى بن بكر عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام قال : «المختلعة يتبعها الطلاق ما دامت في عدتها».

هذا ما حضرني من أخبار المسألة المذكورة.

قال ثقة الإسلام في الكافي (٤) : حميد بن زياد عن الحسن بن محمد بن سماعة عن جعفر بن سماعة أن جميلا شهد بعض أصحابنا وقد أراد أن يخلع ابنته من بعض أصحابنا ، فقال جميل : ما تقول؟ رضيت بهذا الذي أخذت وتركتها؟ فقال : نعم ، فقال لهم جميل : قوموا ، فقالوا : يا أبا علي ليس تريد يتبعها بالطلاق؟ فقال : لا ، قال : وكان جعفر بن سماعة يقول : يتبعها الطلاق ما دامت في العدة ، ويحتج برواية موسى بن بكر عن العبد الصالح. نقل الرواية كما قدمناه.

وقال الشيخ في التهذيبين (٥) : الذي أعتمده في هذا الباب وافتي به أن المختلعة لا بد فيها من أن تتبع بالطلاق ، وهو مذهب جعفر بن سماعة والحسن بن سماعة وعلي

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤١ ذيل ح ٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٠ ب ٣ ح ١ وفيهما «يتبعها الطلاق».

(٢) القائل هو صاحب الوسائل ـ رحمه‌الله.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٩٧ ح ٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٢ ب ٣ ح ٥ وفيه «ما دامت في عدة».

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٤١ ح ٩ وفيه اختلاف يسير.

(٥) التهذيب ج ٨ ص ٩٧.

٥٦٢

ابن رباط وابن حذيفة من المتقدمين ، ومذهب علي بن الحسين من المتأخرين (١) ـ إلى أن قال : ـ واستدل من ذهب إليه من أصحابنا المتقدمين بقول أبي عبد الله عليه‌السلام : لو كان الأمر إلينا لم نجز إلا طلاق السنة.

واستدل الحسن بن سماعة وغيره بأن قالوا : أنه قد تقرر أنه لا يقع الطلاق بشرط ، والخلع من شرطه ، وأن يقول الرجل : إن رجعت فيما بذلت فأنا أملك ببضعك ، وهذا شرط ، فينبغي أن لا يقع به فرقة.

واستدل أيضا ابن سماعة بما رواه عن الحسن بن أيوب عن ابن بكير عن عبيد بن زرارة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ما سمعت مني يشبه قول الناس فيه التقية ، وما سمعت منى لا يشبه قول الناس فلا تقية فيه».

ثم حمل ما خالف ذلك مما يدل على أنه لا يحتاج إلى أن يتبع بطلاق على التقية لموافقتها لمذاهب العامة.

قال السيد السند ـ قدس‌سره ـ في شرح النافع بعد أن نقل عن الشيخ العمل برواية موسى بن بكر المتقدمة ، وأنه أجاب عن الأخبار المتقدمة بالحمل على التقية لأنها موافقة لمذهب العامة ما لفظه : وهذا الحمل إنما يتم مع تعارض الروايات وتكافئها من حيث السند ، والأمر هنا ليس كذلك ، فإن الأخبار المتقدمة مع صحتها وسلامة أسانيدها مستفيضة جدا ، وما احتج به الشيخ رواية واحدة ورواها موسى بن بكر ، وهو واقفي غير موثق ، فكيف يعمل بروايته ويتركها الأخبار الصحيحة الدالة على خلافه؟

__________________

(١) وقال بعد قوله من المتأخرين : وأما الباقون من فقهاء أصحابنا المتقدمين فلست أعرف لهم فتيا في العمل به ، ولم ينقل عنهم أكثر من الروايات التي ذكرناها وأمثالها ، ويجوز أن يكونوا رووها على الوجه الذي نذكر فيما بعد ، وان كان فتياهم وعملهم على ما قلناه ، انتهى (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٩٨ ح ٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٢ ب ٣ ح ٧ وفيه «ما سمعته منى».

٥٦٣

ما هذا إلا عجب من الشيخ (١) ، ومع ذلك فهذه الرواية متروكة الظاهر لتضمنها أن المختلعة يتبعها بالطلاق ما دامت في العدة ، والشيخ لا يقول بذلك ، بل يعتبر وقوع الطلاق بعد تلك الصيغة بغير فصل ، فما تدل عليه الرواية لا يقول به ، وما يقول به لا تدل عليه الرواية ، انتهى.

أقول : أما ما اعترض به من الوجه الأول فهو غير موجه كما أسلفنا لك تحقيقه في غير موضع مما تقدم من الشيخ وأمثاله من المتقدمين الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم ، وأن جميع الأخبار المروية في الأصول المعتمدة كلها صحيحة إلا ما استثني مما نبهوا عليه ، وصحة الأخبار عندهم ليست بالأسانيد كما عليه اصطلاح المتأخرين ، وإنما هو بالمتون ، وما دلت عليه الأخبار بموافقته للكتاب والسنة وروايته في الأصول المعتمدة ونحو ذلك ، ولا ريب أنه على هذا التقدير من الحكم بصحة جميع هذه الروايات ، فإنه مع اختلافها يجب الجمع بينها ، ومن القواعد المقررة عن أصحاب العصمة عليهم‌السلام وإن ألغوها وضربوا عنها صحفا في جميع المواضع عرض الأخبار عند الاختلاف على مذهب العامة ، والأخذ بخلافه ، وقد استفاضت بذلك الأخبار ، ويؤكدها الحديث المنقول هنا في كلام الشيخ ، وهو خبر عبيد ابن زرارة ، وتلك الأخبار الكثيرة الموافقة لمذهب العامة ، وحينئذ فيجب حملها على التقية ، عملا بالقاعدة المذكورة ، وكثرتها وصحة أسانيدها لا ينافي حملها على التقية إن لم يؤكد.

وبالجملة فإن كلام هذا الفاضل إنما يتمشى ويتم بناء على هذا الاصطلاح المحدث الذي بنوا عليه ، وأما على مذهب المتقدمين فلا ، كما هو ظاهر لكل ناظر ، وبذلك يظهر لك أن تعجبه من الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ مقلوب عليه.

نعم ما ذكره من الوجه الثاني متجه ، إلا أن الظاهر من كلام صاحب

__________________

(١) أقول : وأعجب من ذلك ما يوجب ذلك وهل هو الا رد لاخبارهم عليهم‌السلام المستفيضة بذلك ، نعوذ بالله من زلات الاقدام وهفوات الأقلام. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٦٤

الكافي ونقله ذلك أيضا عن جعفر بن سماعة أن الطلاق الذي يوجبونه بعد الخلع لا يشترطون فيه ما ذكره الشيخ وأتباعه من إلحاقه بالصيغة ، بل يكتفي بوقوعه في العدة أي وقت كان ، وهذا إشكال آخر في المسألة أيضا ، وظاهر كلام الشيخين المتقدمين أن هذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأخبار كان موجودا بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، وأن بعضهم مثل جميل كان يقول بعدم وجوبه. والاكتفاء بمجرد صيغة الخلع ، وتلك الجماعة الذين ذكرهم الشيخ يقولون بوجوب ذلك.

وبالجملة فالظاهر أنه إن ثبت أن مذهب العامة الاقتصار على صيغة الخلع كما ادعاه الشيخ وابن سماعة فحمل تلك الأخبار على التقية غير بعيد ، إلا أن الظاهر من صحيحة سليمان بن خالد (١) المتقدمة إنما هو العكس ، فإنه عليه‌السلام بعد أن أفتى بالاكتفاء بمجرد الخلع وأنه لا ضرورة إلى الأتباع بالطلاق قال «ولو كان الأمر إلينا لم نجز طلاقها». فإنه ظاهر كما ترى في أن الاتباع بالطلاق إنما أجازوه تقية ، ولو كان الأمر رجع إليهم لم يجيزوا الطلاق هنا ، بل اكتفوا بالخلع ، وكيف كان فالمسألة عندي لا تخلو من شوب الاشكال ، وللتوقف فيها مجال ، والله العالم بحقيقة الحال.

ثم إنه لا يخفى أن ما اشتملت عليه حديث جميل المتقدمة نقله عن الكافي من الاكتفاء في وقوع الخلع بالسؤال من الزوج بقوله «رضيت بهذا الذي أخذت وتركتها؟ فقال : نعم» أظهر ظاهر في دفع ما ذكره أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ في هذا المقام من الشروط في الصيغة ، ووجوب سؤال المرأة أولا الخلع أو قبولها بعده ، ونحو ذلك ، وأن دائرة الأمر في هذا العقد وغيره أوسع من ذلك مضافا إلى إطلاق الأخبار الواردة في المسألة حيث لا إشعار في شي‌ء منها بما

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٩٩ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٢ ب ٣ ح ٨.

٥٦٥

ذكروه. (١)

وبذلك يظهر لك ما في قولهم إن حقيقة الخلع هو قول الزوج ذلك مع سؤال المرأة أو قبولها ، لأن السبب لا يتم إلا بهما فيكون مركبا منهما.

قالوا : ويمكن أن يكون سؤالها شرطا في صحته ، فإن فيه أن غاية ما يفهم من أخبار المسألة أنه لا بد من تحقق ذلك من المرأة ، وأما أنه يجب حال الصيغة وقول الزوج خلعتك على كذا مقدما أو مؤخرا بحيث تكون الصيغة الموجبة للخلع مركبة منهما أو أنه شرط في الصحة فلا دليل عليه بوجه كما أسلفنا ذكره في الموضع الأول.

الثالث : أنه على تقدير الاجتزاء بلفظ الخلع من غير اتباع له بالطلاق هل يكون ذلك فسخا أو طلاقا؟ المرتضى ـ رحمة الله عليه ـ والأكثر على الثاني ، والشيخ على الأول.

والأظهر ما ذهب إليه الأكثر للنصوص الصريحة فيه كقوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي (٢) المتقدمة «وخلعها طلاقها». وقول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي أو.

__________________

(١) بل الظاهر منها انما هو حصول ذلك مجردا من مثل هذا الكلام ، مثل صحيحة الحلبي أو حسنته عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «المختلعة لا يحل خلعها حتى تقول لزوجها : والله لا أبر لك قسما ولا أطيع لك أمرا ـ الى أن قال : ـ فإذا قالت المرأة ذلك حل له ما أخذ منها ، فكانت هذه على تطليقتين باقيتين ، وكان الخلع تطليقة ، وقد يكون الكلام من عندها». وظاهرها أنه بمجرد هذا القول الموجب للكراهة وبذل ما اتفق عليه يحل ذلك له ، ويحصل الخلع بمجرد ذلك من غير صيغة في البين أزيد مما وقع ، وعلى هذا النهج ما في أمثال هذه الرواية من روايات المسألة كما لا يخفى على المتأمل فيها ، ولا ينافي ذلك قوله في صدر الرواية «المختلعة لا يحل خلعها حتى تقول. إلخ» إذ لا اشعار فيه بالصيغة الخاصة ، بل المراد منه الحكم انما هو أن المرأة التي تريد فراقها بائنا وهي المسماة شرعا بالمختلعة لا يحل فراقها على هذا النحو المخصوص الا بعد القول المذكور.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الوسائل ج ١٥ ص ٤٩١ ب ٣ ح ٤.

٥٦٦

حسنته (١) «فإذا قالت المرأة ذلك لزوجها حل له ما أخذ منها ، وكانت عنده على تطليقتين باقيتين ، وكان الخلع تطليقة». وقوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم أو حسنته (٢) «فإذا فعلت ذلك من غير أن يعلمها حل له ما أخذ منها وكانت تطليقة بغير طلاق يتبعها ، وكانت بائنا بذلك» الخبر.

وفي خبر أبي الصباح الكناني (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «إذا خلع الرجل امرأته فهي واحدة بائن ، وهو خاطب من الخطاب».

وفي رواية أبي بصير (٤) عنه عليه‌السلام «فإذا قالت المرأة لزوجها ذلك حل خلعها وحل لزوجها ما أخذ منها ، وكانت عنده على تطليقتين باقيتين ، وكان الخلع تطليقة». إلى غير ذلك من الأخبار ، وهي كما ترى صريحة في المراد عارية عن وصمة الإيراد.

احتج في المختلف للشيخ وأتباعه بأنها فرقة عريت عن صريح الطلاق ونيته فكانت فسخا كسائر الفسوخ ، ثم أجاب عنه بأن لا استبعاد في مساواته للطلاق ، وقد دل الحديث عليه فيجب المصير إليه ، انتهى.

وبالجملة فإنه لا ريب في ضعف القول المذكور بعد ما عرفت من تكاثر الأخبار بالقول الآخر ، ويتفرع على القولين عد الخلع في الطلقات المحرمة وعدمه ، فعلى القول بأنه فسخ لا يعد منها أو يجوز تجديد النكاح والخلع من غير حصر ولا احتياج إلى محلل في الثلاث ، وعلى القول بأنه طلاق تترتب عليه أحكام الطلاق ، وهذا هو المستفاد من الأخبار المتقدمة الدالة على كونها عنده بعد الخلع على تطليقتين باقيتين ، وأن الخلع تطليقة.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٣٩ ح ١ وفيه اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩١ ب ٣ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٠ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩١ ب ٣ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٤٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٨٨ ب ١ ح ٦ وفيهما اختلاف يسير.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٤١ ح ٥ ، التهذيب ج ٨ ص ٩٦ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٨٩ ب ١ ح ٧.

٥٦٧

الرابع : اعلم أنه قد تكرر في كلام الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ ذكر طلاق الفدية والطلاق بعوض ، وأنه تقع به البينونة كما تقع بالخلع ، ولم أقف في الأخبار على أثر لهذا الفرد ، والموجود فيها إنما هو الخلع والمبارأة.

إلا أن ظاهر الأصحاب من غير خلاف يعرف إلا من شيخنا الشهيد الثاني أنه هذا الفرد الذي ذكروه لا يخرج عن الخلع أو المبارأة ، فهو أمر كلي شامل لكل منهما ، فهو أعم من كل منهما ، وليس بخارج عنهما ، بل هو منحصر فيهما لا وجود له في مادة غيرهما لاشتراطه بالكراهة المشترطة فيهما ، فإن كانت من الزوجة خاصة فهو خلع ، وإن كانت منهما معا فهو مباراة ، ولما كان أعم من كل منهما فهو لا ينصرف إلى واحد منهما إلا بالنية والقصد واجتماع شرائط ذلك المقصود ، فحيث يطلق فإن قصد به الخلع واجتمعت شرائطه وقع خلعا ، وإن قصد به المبارأة واجتمعت شرائطها وقع مباراة ، ومع الإطلاق يقع البينونة به ويجوز انصرافه إلى ما اجتمع شرائطه منهما ، ولو انتفت شروط كل منهما كما لو انتفت الكراهة بالكلية فهل يقع باطلا من أصله أو صحيحا رجعيا؟ قولان ، يأتي الكلام فيهما إن شاء الله تعالى.

ولم نقف على خلاف لما ذكرناه في كلام الأصحاب إلا لشيخنا المتقدم ذكره ، فإنه ذهب إلى أن الطلاق بعوض ـ وهو طلاق الفدية ـ خارج عن الخلع والمبارأة لاشتراطهما بالكراهة وعدم اشتراطه بها ، فعنده تحصل البينونة وإن لم يكن ثمة كراهة. ولم يسبق إليه غيره سابق ولا لحقه فيه لاحق من أصحابنا ـ رضوان الله عليهم ـ وادعى دلالة الأخبار عليه ، مع أنها في الدلالة على خلافه أوضح ، ويأتي على قوله المذكور أن الطلاق بعوض من غير كراهة بالكلية تقع به البينونة وقد صرح بما ذكرناه عنه في غير موضع من شرحه المسالك.

وفي شرح اللمعة قال ـ قدس‌سره ـ في شرح قول المصنف في الشرائع «ويقع الطلاق من الفدية بائنا وإن انفرد عن لفظة الخلع» ما صورته : إذا وقع

٥٦٨

الطلاق مع الفدية به سواء كان بلفظ الخلع وقلنا إنه طلاق أن أتبع به أو بلفظ الطلاق وجعله بعوض فإنه يقع بائنا لا رجعيا للنصوص الدالة عليه ، وقد تقدم بعضها ـ إلى أن قال : ـ واعلم أنه مع اشتراك الخلع والطلاق بعوض في هذا الحكم يفترقان بأن الخلع مختص بحال كراهة الزوجة له خاصة كما انفردت المبارأة بكون الكراهة منهما ، واشتراط كون العوض بقدر ما وصل إليها ، بخلاف الطلاق بالعوض فإنه لا يشترط فيه شي‌ء من ذلك ، وقال أيضا في شرح قول المصنف في الشرائع «فلو خالعها والأخلاق ملتئمة لم يصح الخلع ولا يملك الفدية به. ولو طلقها والحال هذه بعوض لم يملك العوض وصح الطلاق وله الرجعة» ما لفظه : أما بطلان الخلع فلما تقدم من اشتراط صحته بكراهتها له ، فبدون الكراهة يقع باطلا لفقد شرطه. وأما الطلاق بعوض فمقتضى كلام المصنف والجماعة كونه كذلك لاشتراكهما في المعنى ـ إلى أن قال : ـ وهذا إن كان إجماعا فهو الحجة ، وإلا فلا يخلو من إشكال ، لأن النصوص إنما دلت على توقف الخلع على الكراهة ، فظاهر حال الطلاق بعوض أنه مغاير له وإن شاركه في بعض الأحكام ، انتهى.

وقال في مبحث المبارأة في شرح قول المصنف «ولو اقتصر على قوله أنت طالق بكذا صح وكان مباراة ، إذ هي عبارة عن الطلاق بعوض مع منافاة بين الزوجين» فقال ـ قدس‌سره ـ بعد كلام في المقام : وظاهر كلامهم انحصاره يعني الطلاق بعوض فيهما يعني الخلع والمبارأة ، واعتبار مراعاة الحال فيه ، وعندي فيه نظر ، وقد تقدم الكلام على مثله في الخلع ، ولو قيل بصحته مطلقا حيث لا يقصد به أحدهما كان وجها لعموم الأدلة على جواز الطلاق مطلقا وعدم وجود ما ينافي ذلك في خصوص البائن ، انتهى.

وقال في الروضة : ولو أتى بالطلاق مع العوض فقال أنت طالق على كذا مع سؤالها أو قبولها بعده كذلك أغنى عن لفظ الخلع وأفاد فائدته ولم يفتقر إلى ما يفتقر إليه الخلع من كراهتها له خاصة ، لأنه طلاق بعوض لا خلع ، انتهى.

٥٦٩

أقول ـ وبالله تعالى التفهم لنيل كل مقصود ومأمول ـ : إن ما ذكره ـ قدس‌سره ـ في هذا المقام منظور فيه من وجوه :

الأول : قوله عزوجل «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ». (١)

والتقريب في الآية المذكورة أنها صريحة الدلالة واضحة المقالة في عدم حل أخذه الفدية من المرأة إلا مع خوف عدم إقامة حدود الله سبحانه ، بأن يظهر لزوجها ما يدل على البغض والكراهة والنفرة منه ، وأنه إن لم يطلقها ارتكبت في حقه تلك الأفعال المحرمة كما سيأتي ذكرها في الأخبار الآتية إن شاء الله تعالى ، وقضية ذلك أنه لا يجوز للزوج أخذ الفدية في الطلاق بعوض كالخلع إلا مع الكراهة ، ومع عدمها فلا يحل شي‌ء من ذلك ، ولا يقع الطلاق بائنا كما سيأتي التصريح به في النصوص أيضا.

ولو قيل بأن الآية مفسرة في الأخبار بالخلع وأنه السبب في نزولها فلا تتناول الطلاق بعوض.

قلنا : قد عرفت فيما تقدم أن الرواية الدالة على سبب النزول إنما هي من طريق العامة ، فلا تقوم حجة ، ومع تسليم ورودها من طرقنا لا تدل على الاختصاص إذ العبرة بعموم اللفظ ، وإن كان الخلع أحد من أفرادها ، ولا ريب في دخول المبارأة تحت الآية المذكورة ، بل ظهور الآية فيها أقوى لما تضمنه من إسناد عدم إقامة الحدود إليهما معا ، وذلك إنما هو من شروط المبارأة ، ومن ثم حملها المحقق الأردبيلي في آيات الأحكام على المبارأة خاصة ، وهو وإن كان له وجه إلا أن كلام جملة المفسرين وتؤيده الأخبار على العدم.

وبالجملة فالنظر في الآية إلى عموم اللفظ ، والاستدلال إنما وقع من هذه

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٢٩.

٥٧٠

الجهة وهي مما لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه ، والتخصيص يحتاج إلى دليل وليس فليس.

الثاني : الأخبار الدالة على أنه لا يحل للزوج أن يأخذ من الزوجة شيئا إلا أن تتعدى عليه بذلك الكلام القبيح الدال على كراهتها له ، وأنها لا تبين منه إلا إذا كان أخذ الفدية على هذا الوجه.

ومنها صحيحة محمد بن مسلم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا قالت المرأة لزوجها جملة «لا أطيع لك أمرا» مفسرة أو غير مفسرة حل له ما أخذ منها ، وليس له عليها رجعة». دلت الرواية بمفهوم الشرط الذي هو حجة عند المحققين ، وعليه دلت الأخبار على أنه مع عدم القول المذكور الدال على الكراهة لا يحل له أخذ شي‌ء منها ، وله الرجعة عليها ، وهو المطلوب.

الثالث : عدم الدليل على ما ذكره ، وهو دليل العدم كما تقرر في كلامهم لأن الأصل في الطلاق أن يكون رجعيا إلا ما قام الدليل فيه على البينونة به ، ولا دليل هنا على ثبوت البينونة بهذا الطلاق المجرد عن الكراهة وإن بذلت له مالا بل إما أن يقع باطلا من أصله كما هو أحد القولين أو رجعيا كما هو القول الآخر ، والأخبار الدالة على البينونة في هذا المقام منحصرة في الخلع والمبارأة ولم يصرح في شي‌ء منها بطلاق الفدية ولا طلاق العوض الذي هو محل البحث كما توهمه من دلالة الأخبار على هذا الفرد ، فإنه لا وجود لهذه التسمية في الأخبار بالكلية.

نعم لما كان المعتبر في الخلع والمبارأة بعد اجتماع شرائط كل منهما ما يدل من الألفاظ على المعنى الذي يدل عليه أحد ذينك اللفظين من غير اختصاص بهما جوزنا لفظ الطلاق في كل منهما ، فكما يقع الخلع بقوله خلعتك على كذا كذلك بقوله طلقتك على كذا ، وهكذا في المبارأة ، وقد مر إلى ذلك الإشارة بما

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤١ ح ٦ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣٩ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ٩٧ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٨٧ ب ١ ح ١.

٥٧١

قدمناه من أن طلاق الفدية أعم من كل منهما لا أنه فرد برأسه خارج عنهما كما توهمه ـ قدس‌سره.

الرابع : عبارات الأصحاب في هذا الباب ، فإنها متفقة النظام واضحة الانسجام على تخصيص البينونة (١) وحل الفدية بالكراهة ، وأنه مع عدمها فلا تحل الفدية ولا تبين منه.

ومنها عبارة المحقق في الشرائع المتقدمة قريبا ، ونحوها عبارة العلامة في القواعد حيث قال : ولو خالعها والأخلاق ملتئمة لم يصح الخلع ولم يملك الفدية ولو طلقها حينئذ بعوض لم يملكه ، ووقع رجعيا. ونحوه في التحرير والإرشاد والتلخيص.

وقال في كتاب نهج الحق وكشف الصدق : ذهبت الإمامية إلى أنه إذا كانت الأخلاق ملتئمة بين الزوجين والحال عامرة ، فبذلت له شيئا على طلاقها لم يحل له أخذه ، وخالف أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وقد خالفوا قول الله تعالى «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ» وقد قال تعالى «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» انتهى.

وقد صرح ابن إدريس في تفسيره المنتخب من تفسير الشيخ ـ طاب ثراهما ـ بعدم جواز أخذ الفدية بدون خوف عدم إقامة الحدود مطلقا.

وقال في كتاب الحاوي : واعلم أن المدار في جواز الفراق بالفدية على كراهة الزوجة منفردة أو مجامعة ، فإن انفردت بها جازت الزيادة على المهر ، وصح ـ على قول ـ تجرد صيغة الخلع عن الطلاق ، وسمي خلعا وإن يتلفظ به ،

__________________

(١) بمعنى أن الطلاق من حيث هو لا يوجب البينونة إلا بانضمام أمر من خارج ، والا فإنه متى طلق فله الرجوع ما لم تخرج من العدة لأنها تلك المدة باقية على حكم الزوجية ، وهذه قاعدة مسلمة متفق عليها نصا وفتوى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٧٢

وإن كانت من الزوجين لم يجز الزيادة وتعينت صيغة المبارأة ، وسمي مباراة وإن لم يتلفظ بها أو طلق بزائد على المهر وقعت البينونة ولم تلزم الزيادة ، فإن انفرد بها الزوج أو كانت الأخلاق ملتئمة حرمت الفدية وكان الطلاق رجعيا ، انتهى.

وقال الشيخ جمال الدين الشيخ أحمد بن عبد الله بن المتوج البحراني ـ عطر الله مرقده (١) ـ في كتاب آيات أحكام القرآن : وأما الطلاق بفدية وهو أن تقول الزوجة للزوج : طلقني على كذا ، فيقول هو على الفور : فلانة على كذا طالق ، وهذا إن وقع في حال الكراهة منها فلفظة لفظ طلاق الفدية ومعناه خلع يحل له أخذ ما بذلته من غير حد ، وإن وقع في حال يكون الكراهة منهما فلفظة لفظ طلاق الفدية معناه المبارأة ، فلا يحل له أن يتجاوز في الفدية قدر ما وصل إليها ، انتهى. وهذه العبارة كما ترى صريحة فيما قدمناه من أن طلاق الفدية لا تخرج عن الخلع والمبارأة بل هو أعم من كل منهما ، ولا وجود له في غيرهما.

وقال الشهيد في شرح اللمعة : ولا يصلح إلا مع كراهتها ، ولو لم تكره بطل البذل ووقع الطلاق رجعيا ، انتهى.

وبالجملة فإن كل من تعرض للمسألة فإنه لم يذكره إلا على هذا الوجه الذي ذكرناه.

الخامس : اتفاق الأصحاب ظاهرا على أن الطلاق بعوض تتعلق به أحكام الخلع ، وقد اعترف ـ قدس‌سره ـ بذلك فيما قدمناه من عبارته المذكورة في مبحث المبارأة من قوله «وظاهر كلامهم انحصاره يعني الطلاق بعوض فيهما يعني الخلع والمبارأة ، واعتبار مراعاة الحال فيه».

وحينئذ فإما أن يكون لدليل أو نص يدل على مساواة الطلاق بعوض الخلع في جميع أحكامه ولكونه فردا من أفراده مندرجا إعداده ، فيكون خلعا بعينه ،

__________________

(١) وكان هذا الشيخ ـ قدس‌سره ـ من أفاضل تلامذة فخر المحققين ابن العلامة ، وقبره الان موجود في جزيرة البحرين. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٧٣

والأول منتف ، فإنا بعد التتبع التام للأخبار لم نقف فيها على الطلاق بعوض وطلاق الفدية والتسمية بهذا الاسم بالكلية فضلا عن الدلالة على أن حكمه حكم الخلع أو أنه أمر خارج عنه مشارك له ، وإنما وقعت هذه التسمية في كلام الأصحاب خاصة ، وحينئذ فيتعين الثاني ، ووقوع هذه التسمية من الأصحاب وقعت تفريعا على أنه لا يتعين في الخلع الاقتصار على هذه المادة ، بل كلما أفاد مفادها من لفظ الطلاق وغيره يقع الخلع به بعد استجماع شرائطه كما تقدم تحقيقه.

السادس : تصريح جملة من الأصحاب بعد طلاق الفدية من الخلع كالشيخ في المبسوط ، حيث قسم الخلع إلى واقع بصريح الطلاق وإلى واقع بغيره ، وجعل الأول طلاقا وخلعا ، وجعل الخلاف في الثاني هل هو طلاق أم فسخ؟ قال : وأما إذا كان الخلع بصريح الطلاق كان طلاقا بلا خلاف.

وقال العلامة في الإرشاد : والصيغة وهي : خلعتك على كذا وأنت أو فلانة مختلعة على كذا وأنت طالق على كذا ، ونحوه في القواعد والتحرير.

وقال سبطه السيد السند في شرح النافع : إن الطلاق بعوض من أقسام الخلع كما صرح به المتقدمون والمتأخرون من الأصحاب ـ ثم قال ولنعم ما قال : ـ وما ذكره جدي في الروضة والمسالك من أن الطلاق بعوض لا يعتبر فيه كراهة الزوجة بخلاف الخلع ـ غير جيد لأنه مخالف لمقتضى الأدلة وفتوى الأصحاب ، فإنا لا نعلم له في ذلك موافقا ، انتهى.

السابع : ما ذكره في المسالك في شرح قول المصنف «ويقع الطلاق مع الفدية بائنا. إلخ» من قوله «فإنه يقع بائنا لا رجعيا للنصوص الدالة عليه». فإن فيه أنه إن أراد بالنصوص هي نصوص الخلع كما يشير إليه قوله «وقد تقدم بعضها» فهو جيد ، ولا دلالة فيه على ما يدعيه ، فإن دخول الطلاق بالفدية تحت الخلع وإجزاء أحكام الخلع عليه مع استجماع شرائطه إنما هو لكونه خلعا لا لكونه طلاقا بالفدية ، فإنا لا نشترط في الخلع الإتيان بهذه الصيغة بخصوصها بل كلما

٥٧٤

جرى مجراها ، ومن جملته لفظ الطلاق.

وإن أراد بالنصوص المذكورة ما صرح به في بحث المبارأة من قوله «لعموم الأدلة على جواز الطلاق مطلقا» فهو محل بحث ونظر ، إذ لا يخفى على الحاذق اللبيب والموفق المصيب أن غاية ما تدل عليه أخبار الطلاق هو جوازه وصحته في الجملة.

وأما أنه كالخلع والمبارأة في كونه بائنا ويملك الزوج فيه الفدية فلا دلالة لها بوجه إن لم تكن بالدلالة على خلافه أنسب وإلى ما ذكرناه أقرب ، لأن الطلاق من حيث هو لا يقتضي البينونة بمجرده ، بل مقتضاه هو جواز الرجوع ما لم تخرج من العدة ، لامتداد حكم الزوجية وبقائه إلى ذلك الوقت ، والبينونة ونحوها إنما عرض له بأسباب زائدة على مجرد الطلاق.

وبالجملة فإن كلامه ـ قدس‌سره ـ في هذا المقام من أفحش الأوهام ، والعجب من جملة ممن عاصرناهم من علماء العراق حيث اعترفوا بما ذكره ـ قدس‌سره ـ في هذه المسألة فجروا على منواله وحكموا بصحة أقواله ، وطلقوا النساء وأبانوهن من أزواجهن ، وحللوا الفدية من غير كراهة في البين ، والله الهادي لمن يشاء.

بقي الكلام في أنه لو خلا ـ الطلاق بعوض ـ عن الكراهة ، فعلى المشهور من عدم حصول البينونة به كما ادعاه شيخنا المتقدم ذكره ، فهل يكون صحيحا رجعيا أو باطلا من أصله؟ قولان ، الظاهر أن المشهور الأول ، وبه صرح جملة ممن قدمنا كلامه كالمحقق والعلامة في جملة من كتبه ، والشيخ منتجب الدين في كتاب الحاوي.

وبالثاني صرح السيد السند في شرح النافع وعلله بأن الطلاق الرجعي غير مقصود ولا مدلول عليه باللفظ ، إنما المقصود من لفظ الطلاق البائن ، لأن الكلام إنما يتم بآخره ، والغرض إنما تعلق بذلك الطلاق الخاص ، ولم يتم ، فلا يتجه

٥٧٥

صحة طلاق آخر. وبالجملة فما وقع غير مقصود ، وما قصد غير صحيح ولا واقع والعقود بالقصود. وتبعه في هذا القول جملة ممن تأخر عنه ، منهم صاحب الكفاية وشيخنا الشيخ سليمان البحراني وتلميذه الوالد ـ قدس الله روحهما.

والمسألة عندي موضع توقف وإشكال لعدم النص الذي به يتضح الحال ، وما احتج به السيد المذكور من الدليل ، وتبعه عليه هؤلاء الأجلاء ، فهو وإن كان مما يتسارع إلى الفهم قبوله ، إلا أنك قد عرفت في غير موضع مما تقدم ما في بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العقلية ، ولا سيما وقد ورد في جملة من النصوص ما يهدم هذه القاعدة ، ويزلزل ما يترتب عليها من الفائدة ، فإن السيد ـ قدس‌سره ـ وجده قبله وتبعهما جماعة ممن تأخر عنهما قد صرحوا بأن العقد المشتمل على شرط فاسد باطل من أصله ، وعللوه بهذا التعليل من أن أصل العقد العاري عن الشرط غير مقصود ، والقصد إنما توجه للمجموع ، وهو غير صحيح ، فما كان مقصودا غير صحيح ، وما كان صحيحا غير مقصود ، والعقود بالقصود فيلزم بطلان العقد مع أنا رأينا جملة من النصوص الصحيحة الصريحة قد صرحت بصحة العقد وبطلان الشرط ، فكيف يمكن اتخاذ ما ذكروه قاعدة كلية والحال كما ترى ، والله العالم.

تذنيب

هل يجب في الكراهة المشترطة في صحة الخلع أن تكون ذاتية؟ أم يصح وإن كانت عارضية؟ المفهوم من كلام الأصحاب كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى الثاني ، والمستفاد من كلام من عاصرناه من مشايخنا في بلاد البحرين هو الأول ، وقد حظرناه في غير موضع ، وقد كانوا لا يوقعون الخلع إلا بعد تحقيق الحال ومزيد الفحص والسؤال في ثبوت الكراهة الذاتية وعدم الكراهة العارضية ، والسعي في قطع الأسباب الموجبة لكراهة التي تدعيها المرأة ليعلم كونها ذاتية غير عارضية

٥٧٦

فإذا تحققوا ذلك وعلموا أنه لا يمكن رفعها بوجه من الوجوه أوقعوا الخلع بها ، ومن الظاهر أنهم إنما أخذوا ذلك من مشايخهم وأساتيدهم لحضورهم مجالسهم وحلق درسهم وسماعهم ذلك منهم مدة ملازمتهم لهم وتلمذهم عليهم.

والذي وقفت عليه بعد الفحص والتتبع لكلام الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ خلاف ذلك ، فإن كلامهم ظاهر في كونها أعم من العارضية والذاتية ، ولكنهم لم يصرحوا بذلك في باب وإن أشار إليه بعضهم إشارة ، إلا أنهم أوضحوا ذلك في باب الشقاق بين الزوجين في تحقيق معنى الإكراه على الفدية. وها أنا أسوق لك ما حضرني من عبائرهم وكلامهم في هذا المقام ليظهر لك صحة المناقضة لما نقلناه عن أولئك الأعلام.

قال المحقق ـ رحمه‌الله ـ في كتابه الشرائع : ولو منعها شيئا من حقوقها أو أغارها فبذلت له بدلا لخلعها صح ، وليس ذلك إكراها.

قال شيخنا في المسالك ـ بعد نقل هذه العبارة ـ ما لفظه : المراد بالحق الذي منعها إياه فبذلت له الفدية لأجله الحق الواجب لها من القسمة والنفقة ونحوهما ، وإنما لم يكن ذلك إكراها وإن كان محرما لأنه أمر منفك عن طلب الخلع ولا يستلزمه ، بل قد يجامع إرادة المقام معها ، وإنما الباعث على تركه حقها ضعف دينه وحرصه وميله إلى غيرها ونحو ذلك مما لا يستلزم إرادة فراقها ولا يدل عليه بوجه ، ونبه بقوله «أغارها» أي تزوج عليها ، على أنه لا فرق في ذلك بين ترك الحقوق الواجبة وغيرها ، لأن إغارتها غير محرمة ، وترك شي‌ء من حقوقها الواجبة محرم ، وكلاهما لا يقتضيان الإكراه.

أما غير الحق الواجب كالتزويج عليها وترك بعض المستحبات كالجماع في غير الوقت الواجب والتسوية بينها وبين ضراتها في الإنفاق ونحوه فظاهر ، حتى لو قصد بذلك فراقها لتفتدي لنفسها لم يكن إكراها عليه لأن ذلك أمر سائغ. واقترانه بإرادة فراقها لا يقتضي الإكراه.

٥٧٧

وأما تركه الحق الواجب فلما ذكرناه من أنه بمجرده لا يدل على الإكراه بوجه ، وكذا لو قصد بترك حقها ذلك ولم يظهره لها ، أما لو أظهر لها أن تركه لأجل البذل كان ذلك إكراها ، وأظهر منه ما لو أكرهها على نفس البذل.

وما ذكره المصنف قول الشيخ في المبسوط : ووافقها عليه العلامة في الإرشاد ، وفي التحرير نسب القول إلى الشيخ ساكتا عليه مؤذنا بتردده فيه أو ضعفه ، وفي القواعد قيد حقوقها بالمستحبة ، ومفهومه أنه لو منع الواجبة كان إكراها ـ وهذا القول نقله الشيخ في المبسوط أولا عن بعض العامة ، ثم قال : ـ الذي يقتضيه مذهبنا أنه ليس بإكراه وهو المعتمد. انتهى كلام شيخنا المذكور وهو كما ترى مع كلام المصنف صريح الدلالة في أنه يكفي في صحة الخلع الكراهة الحاصلة من مضارة الزوج بمنع النفقة أو القسمة أو حصول التزويج عليها أو نحو ذلك من موجبات النفور والكراهة العارضة.

وظاهره في المسالك أنه لا نزاع ولا خلاف في صحة الخلع في هذا المقام وإنما الإشكال من جهة أن ذلك يستلزم الإكراه على الفدية أم لا؟ والذي اختاره ـ قدس‌سره ـ واعتمده أنه ما لم يظهر أن ترك الحقوق لأجل الفدية فليس ذلك إكراها ، وحينئذ فيصح الخلع كما هو صريح عبارة المصنف.

وقال أيضا في المسالك ـ في باب الخلع عند قول المصنف «ولو أكرهها على الفدية فعل حراما» ـ ما صورته : ولا يتحقق الإكراه بتفسيره في حقوقها الواجبة لها من القسم والنفقة ، فافتدت منه لذلك على الأقوى ، إلا أن يظهر أن ذلك طلبا لبذلها ، فيكون إكراها لصدق تعريفه عليه. ثم أحال ذلك على ما تقدم في باب الشقاق ، وهو ما قدمنا نقله عنه ، وأشار بقوله «على الأقوى» إلى الرد على ما يفهم من ظاهر عبارة القواعد ، وهو الذي نقله الشيخ في المبسوط عن بعض العامة.

وقال في شرح اللمعة في بحث النشوز : وليس له منع بعض حقوقها لتبذل له مالا ليخلعها ، فإن فعل فبذلت أثم وصح قبوله ، ولم يكن إكراها.

٥٧٨

وقال العلامة في التحرير : ولو منعها بعض حقوقها أو أغارها فبذلت له مالا صح وليس إكراها. قاله الشيخ.

وقال في القواعد : ولو منعها شيئا من حقوقها المستحبة أو أغارها فبذلت له مالا للخلع صح ، ولم يكن إكراها ، ومفهومه كما صرح به في المسالك أنه إذا منع الواجبة كان إكراها مبطلا للخلع.

وقال الشيخ أمين الإسلام الطبرسي ـ رحمه‌الله ـ في كتاب مجمع البيان (١) : والخلع بالفدية على ثلاثة أوجه :

(أحدها) أن تكون المرأة عجوزا أو ذميمة فيضار بها الزوج لتفتدي نفسها منه ، فهذا لا يحل له الفداء لقوله تعالى «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» (٢) الآية.

(الثاني) أن يرى الرجل امرأته على فاحشة ، فيضار بها لتفتدي فهذا جائز وهو معنى قوله تعالى «وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ». (٣)

(الثالث) أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، لسوء خلق أو قلة نفقة من غير ظلم أو نحو ذلك فيجوز لهما جميعا الفدية على ما مر تفصيله ، انتهى.

والوجه الأول في كلامه هو الإكراه على الفدية وهو المحرم ، والثاني ما استثني من قاعدة الخلع وهو جواز الإكراه على الفدية ، والثالث هو موضوع المسألة.

وظاهر قوله «أو قلة نفقة من غير ظلم» يعطي أنه لو كان قلة النفقة بقصد الإضرار بها والظلم لها كان الخلع باطلا ، وكان ذلك من قبيل الإكراه على الفدية وهو مطابق لظاهر عبارة القواعد كما عرفت ، وسوء الخلق المانع من إقامة الحدود كما يحتمل أن يكون من المرأة كذلك يحتمل أن يكون من الرجل

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٣٠.

(٢ و ٣) سورة النساء ـ آية ٢٠ و ١٩.

٥٧٩

بقرينة عطف قلة النفقة عليه ، وهو أظهر ، ومعناه أن الكراهة الحاصلة لها لسوء خلق الزوج أو لفقد النفقة أو نحو ذلك.

وقال العلامة في الإرشاد : ولو أغارها أو منعها بعض حقوقها فبذلت مالا للخلع حل وليس بإكراه.

هذا ما حضرني من عبائر الأصحاب في المقام ، وكلها متفقة النظام على صحة الخلع الناشئ عن الكراهة العارضة من غير نقل خلاف ولا توقف من أحد في المسألة وهو مؤذن بالاتفاق على الحكم المذكور ، وكونه مسلما بينهم غير منكور.

وأما الآية الواردة في الخلع وهي قوله «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ» (١) وكذا الأخبار الواردة في الباب ، فغاية ما يستفاد منها أنه لا بد من بلوغ الكراهة إلى حد يخاف فيه عدم إقامة حدود الله تعالى في حقه بأن تسمعه تلك الألفاظ المذكورة في الأخبار ، وهذا لا يترتب على الكراهة الذاتية بخصوصها كما ربما توهمه من خص الكراهة بها بل يجوز ترتبه على الكراهة العارضة لبعض الأسباب أو بالنسبة إلى بعض الأشخاص ، ولا سيما في مقام الإغارة بالتزويج ، فإنه ربما حمل ذلك المرأة على قتل زوجها فضلا عن أن تقصده بأنواع الأذى كما نقل عن كثير من النساء ، على أنه لم يشترط أحد فيما أعلم ممن تقدم أو تأخر البلوغ إلى هذا الحد المستفاد من هذه الأخبار وتوقف الخلع على كلامها بشي‌ء من هذه العبارات كما عرفت من كلامهم الذي أسلفنا نقله عن جماعة منهم.

وبالجملة فحيث كان ظاهر كلمة الأصحاب على الاكتفاء بالكراهة العارضة وظواهر الأخبار لا تنافيه إن لم تكن مؤيدة له لدلالتها بإطلاقها على ذلك ، فالقول بخلاف ذلك قول بغير دليل ، ومشي على غير سبيل.

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٢٩.

٥٨٠