الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

عدتها من حين بلوغ الخبر ، ويمكن القول بمساواتها للحرة هنا نظرا إلى إطلاق كثير من الأخبار اعتداد المتوفى عنها زوجها من حين بلوغ الخبر الشامل لها والتعليل في الأحكام الشرعية ضبطا للقواعد الكلية لا يعتبر فيه وجوده في جميع أفرادها الجزئية كحكمة العدة وغيرها من الأحكام ، وقد نبهنا على هذا البحث غير مرة. انتهى وهو جيد ، وقد تقدم منا في هذا الكتاب ما يساعده ويؤيده.

إذا تقرر ذلك فاعلم أن في المسألة أقوالا زائدة على ما ذكرناه منها قول ابن الجنيد (١) بالتسوية بينهما في الاعتداد من حين الموت والطلاق إن علمت الوقت وإلا حين يبلغها فيهما.

ويدل على هذا القول ما رواه الشيخ (٢) في الصحيح عن عبيد الله الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : امرأة بلغها نعي زوجها بعد سنة أو نحو ذلك ، قال : فقال : إن كانت حبلى فأجلها أن تضع حملها ، وإن كانت ليست بحبلى فقد مضت عدتها البينة إذا قامت لها أنه مات في يوم كذا وكذا ، وإن لم تكن لها بينة فلتعتد من يوم سمعت».

وعن الحسن بن زياد (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المطلقة يطلقها زوجها ولا تعلم إلا بعد سنة ، والمتوفى عنها زوجها ولا تعلم بموته إلا بعد سنة ، قال : إن جاء

__________________

(١) قال على ما نقله عنه في المختلف : والتي يطلقها زوجها أو يموت وهو غائب عنها ان علمت الوقت ، والا حين بلغها ، فان كان قد خرج وقت العدة عنها فلا عدة عليها ان كان مسيرة ما بين البلاد ما كان يمكن علمها بذلك قبل الوقت الذي علمت ، وان كانت المسافة لا تحتمل أن تعلم الحال في الوقت الذي علمت به اعتدت من يوم يبلغها طلاق ووفاة زوجها وهي معه في البلد ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٦٤ ح ١٧٠ وفيه «عن عبد الله عن الحلبي» ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٨ ب ٢٨ ح ١٠ وفيه «عبيد الله عن الحلبي».

(٣) التهذيب ج ٨ ص ١٦٤ ح ١٦٩ وفيه «الحسين بن زياد» ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٨ ب ٢٨ ح ٩ وفيهما «ان جاء شاهدان عدلان».

٥٤١

شاهدان عدل فلا تعتدان ، وإلا تعتدان».

وهذان الخبران حملهما الشيخ في التهذيبين على الشذوذ لمخالفة سائر الأخبار فلم يجوز العدول عنها إليهما ، ثم احتمل وهم الراوي واشتباهه المطلقة بالمتوفى عنها زوجها.

أقول : أما الشذوذ فنعم ، لما عرفت من استفاضة الأخبار بخلافها ، وأما الحمل على وهم الراوي بأن يكون سمع ذلك في المطلقة ثم اشتبه عليه وظن المتوفى عنها زوجها فبعيد غاية البعد ، فإنه عليه‌السلام قد جمع بينهما معا في الحكم وصرح بكل واحدة منهما على حالها.

وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك (١) ـ نظرا إلى ورود صحيحة الحلبي دالة على هذا القول ، وهو أمثاله من أرباب هذا الاصطلاح يدورون مدار ذلك ـ جمع بين الأخبار بحمل الأخبار السابقة على الاستحباب كما هي قاعدتهم المتعارفة في هذه الأبواب.

وقد عرفت ما فيه (٢) مما قدمناه في غير موضع من هذا الكتاب ، والأظهر عندي حمل هذين الخبرين على التقية ، فإن المحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي نقل في الوسائل أن القول بما دل عليه مذهب جميع العامة.

__________________

(١) قال في المسالك ـ بعد ذكر جملة من الأخبار الدالة على هذه الأقوال الثلاثة ـ ما صورته : واختلاف هذه الاخبار المعتبرة الاسناد يؤذن بجواز العمل بكل منها ، وذلك فيما يقتضي التحديد على وجه الاستحباب والاحتياط. انتهى ، وفيه ما عرفت في الأصل ، وأن الأظهر حمل الأخبار المخالفة على التقية وان كانت هذه القاعدة عندهم مهجورة كما أشرنا في غير موضع مما تقدم في الكتاب. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) وهو أن الاستحباب حكم شرعي يتوقف على الدليل الواضح كالوجوب والتحريم واختلاف الاخبار ليس من أدلة ذلك ، وأيضا أن الحمل على الاستحباب مع ظهور الاخبار في الوجوب مجاز لا يصار اليه الا بالقرينة ، واختلاف الاخبار ليس من قرائن المجاز ، هذا مع إمكان الحمل على وجوه أخر من تقية ونحوها. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٤٢

ونحو هذين الخبرين ما رواه الشيخ في التهذيب (١) عن وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام «أن عليا عليه‌السلام سئل عن المتوفى عنها زوجها إذا بلغها ذلك وقد انقضت عدتها ، فالحداد يجب عليها؟ فقال علي عليه‌السلام : إذا لم يبلغها حتى تنقضي عدتها فقد ذهب ذلك كله وتنكح من أحبت».

ومما يؤكد القول المشهور ورود التعليل بالحداد ، وأنه واجب عليها كما تقدم ، وأنه إنما كانت عدتها من يوم بلوغ الخبر لذلك والخبر المعلل باصطلاحهم مقدم في العمل به ، فالقول بسقوط الحداد الثابت إجماعا بين كافة أهل العلم نصا وفتوى بهذه الأخبار الثلاثة مع المعارضة بما تقدم مما هو أكثر عددا وأصح سندا مشكل غاية الإشكال مع تأيد تلك الأخبار بالاحتياط الذي هو أحد المرجحات الشرعية في مقام تعارض الأخبار ، كما دلت عليه مرفوعة زرارة.

ومنها ما ذهب إليه الشيخ في التهذيب ، وهو أن المتوفى عنها تعتد من يوم وفاة الزوج وإن كانت قريبة كيوم أو يومين أو ثلاثة ، وإلا فمن يوم بلغها الخبر.

واستدل عليه بما رواه في الصحيح عن منصور (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول في المرأة يموت زوجها أو يطلقها وهو غائب ، قال : إن كانت مسيرة أيام فمن يوم يموت زوجها تعتد ، وإن كان من بعد فمن يوم يأتيها الخبر لأنها لا بد أن تحد له».

والأظهر عندي ارتكاب التأويل في هذا الخبر وإن بعد بحمل مسيرة الأيام على الأيام القليلة التي يمكن فيها وصول الخبر عاجلا ، وتصير حينئذ في حكم التي في البلد المعتدة من يوم الوفاة. لأنه لا فرق بينهما إلا تأخر وصول الخبر فيما دلت عليه الرواية يوما أو يومين عن يوم الوفاة ، وهذا في حكم الوفاة في البلد كما

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٦٩ ح ٨٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٧ ب ٢٨ ح ٧.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٦٥ ح ١٧١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٩ ب ٢٨ ح ١٢.

٥٤٣

لو كانت البلد متسعة جدا مشتملة على محلات عديدة بحيث يمكن تأخر وصول الخبر من محلة إلى أخرى يوما أو يومين ، أو رستاق فيه قرى عديدة كذلك ، وحينئذ فيجتمع هذا الخبر مع الأخبار المتقدمة ولا يصير بينه وبينها كثير تناف.

ومنها ما ذهب إليه الشيخ أبو الصلاح (١) وهو أنها تعتد من حين بلوغ الخبر مطلقا محتجا بأن العدة من عبادات النساء ، وافتقار العدة إلى نية تتعلق بابتدائها ، وضعفه أظهر من أن يخفى على ناظر ، فإن فيه طرحا للأخبار المتقدمة في المطلقة مع ما هي عليه من الكثرة والصحة والصراحة مع ما في تعليله العليل ، لمنع كون العدة من العبادات المتوقفة على النية بل من العبادات مطلقا.

تنبيهات

الأول : ظاهر الأخبار المتعلقة بعدة الوفاة وأنها تعتد من يوم يبلغها الخبر أو يوم يأتيها الخبر ، ونحو ذلك من هذه العبارات أنه لا فرق في جواز الاعتداد لها بين كون المخبر ثقة يفيد قوله ظن الموت أم لا ، صغيرا كان أو كبيرا ، ذكرا كان أو أنثى ، كل ذلك للإطلاق ، إلا أنها وإن اعتدت وحدت بمجرد ذلك لكن لا يجوز لها التزويج إلا بعد الثبوت الشرعي بالبينة أو الشياع وإن طالت المدة المتوسطة ، وأما خبر الطلاق فلا بد أن يكون ثابتا معلوما كونه في أي وقت كما أشارت إليها الأخبار المتقدمة.

ومنها قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي أو حسنته (٢) «إن قامت لها بينة عدل

__________________

(١) قال على ما نقله في المختلف : إذا طلق الغائب أو مات فعليها أن تعتد لكل منهما من يوم يبلغها الطلاق والوفاة لكون العدة من عبادات النساء ، وافتقار العبادة إلى نية تتعلق بابتدائها ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الكافي ج ٦ ص ١١٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٤ ب ٢٦ ح ٢.

٥٤٤

أنها طلقت في يوم معلوم وتيقنت فلتعتد من يوم طلقت». وفي صحيحة البزنطي المنقولة من كتاب قرب الاسناد (١) «إذا قامت البينة أنه طلقها منذ كذا وكذا. ونحوها صحيحته الأخرى المنقولة من الكافي (٢) وما أطلق من الأخبار يحمل على هذه الأخبار المفصلة المبينة.

ثم إنه متى ثبت عندها خبر الطلاق ووقته فإن كان قد مضى من الزمان ما تنقضي به العدة فقد انقضت عدتها ولتتزوج إن شاءت وإلا انتظرت تمام المدة.

الثاني : لو بادرت فتزوجت بعد أن اعتدت بذلك الخبر الغير الثابت شرعا فإن التزويج يقع باطلا بحسب الظاهر ، لأنا وإن جوزنا لها الاعتداد بمجرد ذلك الخبر إلا أنه لا يجوز لها التزويج إلا بعد الثبوت الشرعي ، والحال أنه لم يثبت.

نعم لو ظهر أن التزويج كان قد وقع بعد الموت والخروج من العدة كان صحيحا لمطابقة ما وقع ظاهرا للواقع ، وإن أثم بالمبادرة إلى ذلك قبل الثبوت الشرعي لو كان عالما بتحريم الفعل في تلك الحال.

وبذلك صرح شيخنا الشهيد الثاني في المسالك (٣) ثم قال : ولو فرض دخول الزوج الثاني قبل العلم بالحال والحكم بالتحريم ظاهرا ثم انكشف وقوعه بعد الموت والطلاق وتمام العدة لم تحرم عليه بذلك ، وإن كان قد سبق الحكم به ظاهرا لتبين فساد السبب المقتضي للتحريم ، انتهى وهو جيد.

ومرجع ذلك إلى الاكتفاء في الصحة بمطابقة الواقع (٤) وإن كان في ظاهر

__________________

(١) قرب الاسناد ص ١٥٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٥ ب ٢٦ ح ٧.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١١١ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٤ ب ٢٦ ح ٤.

(٣) قال ـ قدس‌سره ـ : لو بادرت فنكحت قبل ثبوته وقع العقد باطلا ظاهرا. ثم ان تبين بعد ذلك بموته قبل العقد وتمام العدة قبله ظهر صحته في نفس الأمر ولم يفتقر الى تجديده ، ولا فرق مع ظهور وقوعه بعد العدة بين كونه عالما بتحريم العقد قبله وعدمه وان أثم في الأول ، ولو فرض. الى آخر ما في الأصل. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٤) وقد تقدم أن من القائلين بالصحة في هذه المسألة المحقق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك ـ قدس‌سرهما ـ وهو الحق في المسألة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٤٥

الأمر على خلاف المشروع ، وهو على خلاف ما بنوا عليه في غير موضع من الأحكام حيث إن من جملة ما خرجوا فيه عن هذه القاعدة صلاة الجاهل بالأحكام الشرعية فحكموا فيمن صلى لا عن اجتهاد ولا تقليد ببطلان صلاته وإن طابقت المشروع واقعا ، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في غير موضع من الكتب المتقدمة.

الثالث : قد دلت صحيحة الحلبي أو حسنته وهي أول الروايات المتقدمة على التفصيل بين ما إذا قامت البينة على طلاقها في يوم معلوم فإنها تعتد من ذلك اليوم. وإن لم تحفظ في أي يوم ولا أي شهر فلتعتد من يوم بلوغ الخبر.

وظاهرها أن الاعتداد ببلوغ الخبر في مقام يجهل وقت الطلاق على تقدير الجهل به بكل وجه بحيث يحتمل وقوعه قبل الخبر بغير فصل ، والاعتداد من يوم الطلاق إنما هو في صورة العلم بذلك اليوم الذي وقع فيه الطلاق ، مع أن هنا فردا آخر خارج عن هذين الفردين ، وهو ما لو فرض العلم بتقدم الطلاق مدة كما لو كان الزوج في بلاد بعيدة يتوقف بلوغ الخبر على قطع المسافة بينها وبينه فإنه يحكم بتقدمه في أقل زمان يمكن مجي‌ء الخبر فيه ، ويختلف باختلاف مسافات البعد وسرعة حركة المخبر وبطئها ، وحينئذ فكل وقت يعلم تقدم الطلاق عليه يحسب من العدة وإن كان ذلك قبل بلوغ الخبر فتضيف بعد بلوغ الخبر إلى ما تقدم ما تتم به العدة.

وبالجملة فإن من كان زوجها بعيدا عنها بمسافة يعلم تقدم الطلاق عن بعض الأيام والشهور وإن جهلت يوم وقوعه وشهره فإنها تعتد بما تقدم مما علم تأخره عن الطلاق ، وتضيف إليه بعد بلوغ الخبر ما يكمل به العدة ، والرواية محمولة على عدم العلم بذلك بالكلية ، فلا منافاة بين ما ذكرنا وبين ما دلت عليه الرواية المذكورة.

المسألة الخامسة : قالوا : إذا طلقها طلاقا رجعيا ثم راجعها انقضت العدة بالرجعة وعادت إلى النكاح الأول المجامع للدخول ، وصارت كأنها لم تطلق بالنسبة إلى كونها الآن منكوحة ومدخولا بها ، وإن بقي للطلاق السابق أثر ما من

٥٤٦

حيث عده في الطلقات الثلاث المحرمة ، فإذا طلقها بعد هذه الرجعة قبل المسيس لزمها استئناف العدة لأنها بالرجعة عادت إلى النكاح الذي مسها فيه ، فالطلاق الثاني طلاق في نكاح وجد فيه المسيس سواء ، كان الثاني بائنا أم رجعيا لاشتراكهما المقتضي للعدة ، وهو كونه طلاقا عن نكاح وجد فيه الوطء ، وفي معنى الطلاق البائن الخلع.

وفي هذا الأخير قول للشيخ في المبسوط بعدم العدة للخلع بناء على أن الطلاق بطل إيجابه العدة بالرجعة ، ولم يمسها في النكاح المستحدث ، والحل المستحدث وهو ما بعد الرجعة ، فأشبه ما إذا أبانها ثم جدد نكاحها وطلقها.

ورد بأن الرجعة إنما أبطلت العدة المسببة عن الطلاق بسبب عود الفراش السابق ، وهو مقتض لصيرورتها مدخولا بها ، وخلع المدخول بها يوجب العدة ، ولم يتجدد نكاح آخر لم يمسها فيه ، وإنما عاد النكاح الممسوس فيه ، بخلاف ما إذا أبانها ثم جدد نكاحها لارتفاع حكم النكاح الأول بالبينونة ، والنكاح بعده غير الأول ، وإذا طلقها بعده فقد وقع بغير مدخول بها في ذلك النكاح.

هذا كله إذا كان الطلاق الأول رجعيا ، أما لو كان بائنا كما إذا خالع زوجته المدخول بها ثم تزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فإنه لا يلزمها منه العدة لأن العقد الثاني لم يعد الفراش الأول ، وإنما أحدث فراشا آخر ، والعدة الأولى بطلت بالفراش المتجدد ولم يحصل فيه دخول ، فإذا طلقها حينئذ فقد صدق أنها مطلقة عن نكاح غير مدخول بها فيه ، فيدخل تحت عموم قوله تعالى «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها». (١)

وقيل : يلزم العدة ، وهو منقول عن القاضي ابن البراج في المهذب محتجا بأنها لم تكمل العدة الاولى وقد انقطعت بالفراش الثاني فتجب العود إليها بعد الطلاق. قالوا : وضعفه واضح مما بيناه. هذا خلاصة ما ذكروه في هذا المقام ،

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ آية ٤٩.

٥٤٧

وهو ينحل إلى مسائل ثلاث :

الاولى : ما إذا طلقها طلاقا رجعيا ثم راجعها ثم طلقها قبل الدخول ، وقد عرفت مما ذكروه أنه بالرجعة قد رجع النكاح الأول ، فالطلاق الثاني الواقع بعد الرجعة إنما وقع لزوجة مدخول بها فيجب العدة البتة ، إلا أنه لا يخلو من شوب الاشكال من حيث إن ما ذكروه غير منصوص وإنما هو تعليل اعتباري.

وقد عرفت ما في بناء الأحكام على هذه التعليلات الاعتبارية ، فإنه من الجائز أن يكون الطلاق الأول قد رفع حكم النكاح ، فقوله «إنها بعد الرجعة كأنها لم تطلق ، وأنها الآن منكوحة مدخولا بها» ممنوع لأن الطلاق قطع حكم النكاح الأول ومنع من استيجابه ، وإن ثبت كونها زوجة بعد الرجعة إلا أنه ليس ثبوت الزوجية من جميع الجهات ليترتب عليها ما ذكروه.

وبالجملة فالمانع مستظهر حتى يقوم الدليل الشرعي على ما ذكروه وليس فليس. واستئناف العدة بعد الطلاق الثاني لا يستلزم ما ذكروه ، بل يجوز أن يكون مستنده أنه حيث إن الطلاق الثاني لما كان بغير مدخول بها فلا عدة عليها منه ، وعدة الطلاق الأول إنما انقطعت بالنسبة إلى الزوج كما يأتي مثله في المسألة الثالثة.

وأما بالنسبة إلى غيره فلا فيجب حينئذ بعد الطلاق الثاني استئناف عدة الطلاق الأول إذا أرادت التزويج بغير الزوج ، لا بد لنفي ما ذكرناه من دليل.

الثانية : إذا كان الثاني بائنا ، وهذا هو الذي خالف فيه الشيخ فقال بسقوط العدة كما تقدم من ذكر دليله وما أورد عليه ، وفيه ما في سابقته من البحث المذكور فإن المسألتين من باب واحد.

الثالثة : ما إذا كان الطلاق الأول بائنا من خلع ونحوه ، وهذا هو محل الخلاف مع القاضي ابن البراج.

٥٤٨

قال الشيخ في الخلاف على ما نقله في المختلف : إذا تزوج امرأة ثم خلعها ثم تزوجها وطلقها قبل الدخول بها لا عدة عليها. وقال ابن البراج في المهذب : فإن خالعها ثم تزوجها ثم طلقها استأنف أيضا العدة ولم يجز لها أن تبني على ما تقدم ـ ثم قال في المختلف : ـ والوجه ما قاله الشيخ في الخلاف. انتهى ، وعليه جملة من وقفنا على كلامه من الأصحاب ، ولم ينقل فيه الخلاف إلا عن القاضي المذكور.

والظاهر أن ما ذكروه من الفرق بين المسألتين الأولتين وبين الثالثة إنما ألجأهم إليه الحكم في الثالثة بسقوط العدة في الطلاق الثاني استنادا إلى ما ذكروه من ظاهر الآية ، وعلى هذا بنوا الحيلة في إسقاط العدة في هذه الصورة فجوزوا لغير الزوج أن يعقد عليها بعد هذا الطلاق الأخير لكونها مطلقة غير مدخول بها ، وقد تقدم الكلام معهم في هذه المسألة في الإلحاق المذكور بعد الفصل الثاني في الرجعة من المقصد الثالث في جملة من الأحكام ، وإلى ما اخترناه في هذه المسألة من من استئناف العدة كما ذكره القاضي مال جملة من متأخري المتأخرين قد تقدم ذكرهم في الموضع المشار إليه.

وعلى ما ذكرناه يتجه أن يقال : إن سقوط العدة الأولى بتزويجها في العدة وهو المشار إليه بالفراش المتجدد إنما تثبت بالنسبة إلى الزوج لحل ذلك له خاصة حيث إنه لا يجب الاستبراء من مائه الذي هو العلة في وجوب العدة ، وأما غيره فإنه لا يجوز له العقد عليها في هذه الحال مع العلم إجماعا نصا وفتوى لكونها في العدة وحينئذ فإذا طلقها بعد هذا العقد فإنه لا عدة عليها من هذا الطلاق الثاني بلا إشكال لدلالة الآية المذكورة المعتضدة بالأخبار على عدم وجوب العدة على المطلقة الغير المدخول بها ، ونحن أنما نوجب عليها العدة من الخلع الأول الذي قد تقدم فإن عدته إنما سقطت سابقا بالنسبة إلى الزوج خاصة كما عرفت.

وحينئذ فقولهم «فقد صدق أنها مطلقة عن نكاح غير مدخول بها فيه» مغالطة

٥٤٩

ظاهرة ، فإن هذا الصدق المدعى إنما يتم بالنسبة إلى الطلاق الثاني ، وهو ليس محل البحث ، وإنما محله الخلع الذي تقدم ، فإن الأدلة الدالة على وجوب العدة منه دالة بإطلاقها على هذا الفرد الذي هو محل البحث ، غاية الأمر أنه قام الدليل على سقوطها بالنسبة إلى الزوج خاصة ، فهو باق تحت إطلاق الأدلة المشار إليها ، وتخرج رواية ابن أبي عمير المتقدمة في الموضع المشار إليه شاهدا على ما ذكرناه.

المسألة السادسة : قد صرحوا : بأن الشبهة في الوطء إن وقعت من الطرفين فالولد يلحق بهما وعليها العدة ولها مهر المثل إذا كانت حرة ، وإن اختصت بأحدهما لحق به النسب ووجبت العدة عليها سواء كانت هي المختصة بالشبهة أو هو مراعاة لحق الوطء الصحيح من طرف المشتبه عليه ، ويختص الحد بالعالم منهما ، ثم إن كانت هي العالمة فلا مهر لها ، وإلا ثبت ، ولو كانت الموطوءة أمة وكانا معا جاهلين لحق به الولد وعليه قيمته لمولاها يوم يسقط حيا لأنه عوض منفعتها الفائتة بالحمل وعقر الأمة ، وإن كانت عالمة دونه فكذلك ، إلا أن في ثبوت المهر لمولاها هنا خلافا من حيث إنها بغي ولا مهر لبغي وكونه لمولاها (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، وإن كان هو العالم دونها فعليه الحد والولد رق لمولاها ، وعليه القصر ، وحيث يثبت لها المهر فهل هو المثل لأنه عوض البضع شرعا حيث لا مقدر؟ أم هو عشر قيمتها إن كانت بكرا ونصفه إن كانت ثيبا؟ قولان ، والمنصوص منهما صحيحا هو الثاني.

أقول : وهذه الأحكام قد مرت متفرقة في الأبحاث المتقدمة ، وتقدمت النصوص المتعلقة بها ، ولكنهم ذكروها هنا إجمالا من حيث مناسبة المقام وتتميما لما ذكر هنا من الأحكام.

ثم إنهم قالوا أيضا : إنه إذا طلقها بائنا ثم وطأها للشبهة فهل تتداخل العدتان لأنهما لواحد ، وتؤيده الروايات الدالة على التداخل مع التعدد ، فمع

٥٥٠

الاتحاد بطريق أولى؟ أم لا تتداخل بل تأتي بكل منهما على الكمال لأنهما حقان مختلفان؟ قولان ، والثاني منهما للشيخ وابن إدريس ، والأول هو المشهور.

أقول : قد عرفت مما قدمناه (١) قريبا أن الأظهر هو الاتحاد مع التعدد وأن ما دل على التعدد من الأخبار إنما خرج مخرج التقية. وحينئذ فالقول بذلك مع كونهما لواحد أظهر ظاهر.

والمراد من التداخل هو أنه يدخل الأقل منهما تحت الأكثر ، فلو كانت بالأقراء أو الأشهر استأنفت العدة من حين الوطء ، فيدخل باقي العدة الأولى تحت الثانية ، وعلى تقدير كون الأولى رجعية يجوز له الرجعة في تلك البقية لا بعدها لأن تلك البقية من عدته ، وما بعدها من عدة الشبهة ، وقد خرجت من عدته فلا رجوع له عليه وقد خرجت من عدته.

قالوا : ويجوز تجديد النكاح في تلك البقية وبعدها إذا لم يكن عدد الطلاق مستوفى ، يعني استيفاء الطلقات المحرمة بأن حصلت ، فإنه لا يجوز العقد إما مطلقا أو إلا بمحلل.

ولو اجتمعت العدتان من شخصين وكانت إحداهما عدة طلاق والأخرى عدة وطء الشبهة سواء كان المتقدم عدة الطلاق أو وطء الشبهة فلا تداخل على المشهور وأما على ما اخترناه فيتداخلان.

ثم إنه على المشهور إن لم يكن هناك حمل أكملت عدة الطلاق بالأقراء أو الأشهر إن كانت هي المتقدمة لتقدمها وقوتها ثم اعتدت للثاني بعد الفراغ منها. وإن حصل هنا حمل ، فإن كان من الأول فكالأول ، وإن كان من الثاني قدمت عدته لأنها لا تقبل التأخير وأكملت عدة الأول بعد الوضع ، فإن كانت بالأقراء اعتبرت النفاس حيضا وأكملتها بعدها إن بقي منها شي‌ء ، ولا فرق في ذلك بين العدة الرجعية والبائنة إلا أن الرجعية يجوز للزوج الرجوع فيها سواء تقدمت أم تأخرت لأن

__________________

(١) قد تقدم ذلك في المسألة الثالثة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٥١

ذلك من مقتضاها شرعا ، ثم إن كانت متقدمة على عدة الشبهة فرجع فيها اعتدت عدة الشبهة بعد الرجوع ، ولا يجوز له الوطء إلى أن تنقضي العدة الثانية ، وإن كان المتقدم هو عدة الشبهة كما إذا ظهر منه حمل فللزوج الرجوع في بقية عدته بعد الوضع دون زمان الحمل لأنها حينئذ غير معتدة منه.

وربما قيل بجواز الرجوع في زمن الحمل أيضا لأنها لم تخرج بعد من العدة الرجعية ، لكن لا يجوز الوطء إلى أن تخرج عدة الشبهة ، والأصح الأول ولو كانت عدة الطلاق بائنة ، فالكلام في جواز تزويجها في العدة كالقول في جواز الرجوع ، كذا أفاده شيخنا في المسالك سلك الله تعالى به أفضل المسالك ، والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه ونوابه العالمون بمعالم حلاله وحرامه.

هذا آخر الكلام في كتاب الطلاق

ويتلوه إن شاء الله تعالى الكلام في كتاب الخلع والمبارأة

والحمد لله وحده وصلى الله عليه محمد وآله الطاهرين

٥٥٢

كتاب الخلع والمبارأة

قال في القاموس (١) : الخلع ـ كالمنع ـ : النزع إلا أن في الخلع مهلة ـ إلى أن قال : ـ وبالضم طلاق المرأة ببذل منها أو من غيرها كالمخالعة والتخالع. ونحوه قال الجوهري في الصحاح. (٢)

وقال الفيومي في المصباح المنير (٣) : خلعت النعل وغيره خلعا نزعته ، وخالعت المرأة زوجها مخالعة إذا افتدت منه وطلقها على الفدية ، فخلعها هو خلعا والاسم الخلع بالضم ، وهو استعارة من خلع اللباس لأن كل واحد منهما خالع الآخر ، فإذا فعلا ذلك فكأن كل واحد نزع لباسه عنه.

ومقتضى كلامهم أنه يطلق لغة على المعنى الشرعي.

قال في شرح النافع : والظاهر أن هذا المعنى كان معروفا قبل ورود

__________________

(١) القاموس المحيط ج ٣ ص ١٨.

(٢) الصحاح ج ٣ ص ١٢٠٥.

(٣) المصباح المنير ص ٢٤٣ وفيه «لان كل واحد منهما لباس للآخر».

٥٥٣

الشرع ، ومقتضى كلام الفيومي في المصباح أن الخلع بالمعنى الشرعي مأخوذ من الخلع بالفتح بمعنى النزع من حيث إن كلا منهما لباس للآخر كما أشار إليه الآية «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ» (١) وكأنه بمفارقة أحدهما الآخر على هذه الكيفية نزع لباسه.

والمبارأة بالهمزة وقد تخفف ألفا : المفارقة. قال في القاموس (٢) : بارأه : فارقه ، والمرأة صالحها على الفراق.

وقال الجوهري (٣) : تقول : بارأت شريكي إذا فارقته ، وبارأ الرجل امرأته والمراد هنا إبانتها بعوض مقصود لازم للزوج ، ويفترقان باختصاص الخلع بكراهتها له خاصة ، والمبارأة باشتراكهما في الكراهة وفي أمور أخر يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

قال في المسالك : واعلم أن الفرقة الحاصلة على العوض تارة تكون بلفظ الخلع والمبارأة فيلحقها حكمهما ، وتارة تكون بلفظ الطلاق ، فيكون طلاقا بعوض ليس بخلع ، لكن جرت العادة بالبحث عنه في كتاب الخلع ، لمناسبة له في كونه إبانة بعوض ، لكنه يخالفه في بعض الأحكام ، فإنه طلاق محض يلحقه أحكام الطلاق بأسرها ، ويزيد عليه العوض ، وله أحكام تخصه زيادة على أصل الطلاق سيأتي إن شاء الله تعالى بيانها ، انتهى.

ثم إن الظاهر من كلام جل الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ أن الخلع ليس بواجب ، وظاهر الشيخ في النهاية وجوبه متى قالت تلك الأقوال ، قال في الكتاب المذكور : إنما يجب الخلع إذا قالت المرأة لزوجها : إني لا أطيع لك

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ١٨٧.

(٢) القاموس المحيط ج ١ ص ٨.

(٣) الصحاح ج ١ ص ٣٦.

٥٥٤

أمرا ولا أقيم لك حدا ولا أغتسل لك من جنابة ولأوطئن فراشك من تكرهه إن لم تطلقني ، فمتى سمع منها هذا القول وعلم من حالها عصيانه في شي‌ء من ذلك لم تنطق به وجب عليه خلعها. وتبعه أبو الصلاح وابن البراج في الكامل وابن زهرة.

كذا نقله عنهم في المختلف ـ ثم قال : ـ لنا الأصل براءة الذمة من وجوب الخلع ـ ثم قال : ـ احتج بأن النهي عن المنكر واجب ، وإنما يتم بهذا الخلع فيجب ـ ثم قال : ـ والجواب المنع من المقدمة الثانية ، والظاهر أن مراد الشيخ بذلك شدة الاستحباب.

أقول : بل الظاهر أن مراد الشيخ بالوجوب هنا إنما هو المعنى اللغوي ، أعني الثبوت بمعنى أن ثبوت الخلع ومشروعيته متوقفة على ذلك ، وروايات المسألة على كثرتها إنما تضمنت أنه لا يحل له خلعها حتى تقول ذلك ، بمعنى أنه لا يشرع ولا يثبت إلا بعد هذه الأقوال. وليس في شي‌ء منها ما يدل على الوجوب كما توهموه ، والجميع ظاهر فيما قلناه من الحمل المذكور. وكيف كان فالكلام هنا يقع في مقصدين :

الأول : في الخلع

والأصل فيه الآية الشريفة وهي قوله عزوجل «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ». (١)

وروى شيخنا الشهيد الثاني في المسالك (٢) في سبب نزل هذه الآية أنها نزلت في بنت عبد الله بن ابي ، وكانت زوجة ثابت بن قيس ، وكان يحبها وهي تبغضه ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله لا أنا ولا ثابت ، ولا يجمع رأسي ولا رأسه شي‌ء ، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق ولكن أكره الكفر بعد الإسلام ما أطيعه بغضا ، إني رفعت جانب الخبإ فرأيته أقبل في عدة ، فإذا هو أشدهم سوادا

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٢٩.

(٢) مسالك الافهام ج ٢ ص ٥٨ وقد نقله المصنف بالمعنى. وراجع سنن البيهقي ح ٧ ص ٣١٣.

٥٥٥

وأحقرهم قامة وأقبحهم وجها ، فنزلت الآية «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ» الآية ، وكان قد أصدقها حديقة ، فقال ثابت : يا رسول الله تريد الحديقة؟ فقال رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما تقولين؟ قالت : نعم وأزيده ، فقال : لا ، حديقته فقط ، فاختلعت منه. ورواه الطبرسي في كتاب مجمع البيان (١) ملخصا.

والظاهر أن الخبر المذكور من طريق العامة فإني لم أقف عليه في كتب أخبارنا ، وهو مروي في كتبهم بطرق متعددة ومتون مختلفة.

إذا تقرر ذلك فاعلم أن البحث في الخلع وتحقيق الكلام فيه يقع في الصيغة والفدية والشرائط والأحكام ، فهنا مقامات أربعة :

الأول في الصيغة :

والكلام يقع فيها في مواضع : أحدها : لا يخفى أنه حيث كان الخلع من العقود المفيدة لابانة الزوجية بعوض مخصوص فلا بد له من صيغة دالة عليه كغيره من نظائره ، وقد ذكروا أنه يقع ذلك بلفظ «خلعتك وخالعتك على كذا ، وأنت أو فلانة مختلعة على كذا» مع أنه قد تقدم في الطلاق أن بعضهم يمنع من وقوعه بلفظ «أنت مطلقة» معللا بأنه بعيد عن شبه الإنشاء ، وحكموا بانعقاد بعضها بالجملة الاسمية كانعقاد الضمان بقوله «أنا ضامن» والهبة بقوله «هذا لك» قاصدا به الهبة.

قال السيد السند في شرح النافع ـ بعد نقل ذلك عنهم ، ونعم ما قال ـ : وليس في هذه الأحكام أصل يتعين الرجوع إليه ولا مستند صالح يعول عليه.

أقول : وقد تقدمه في هذا الكلام جده ـ قدس‌سره ـ في المسالك حيث قال : واللفظ الصريح فيه قوله «خلعتك وخالعتك على كذا أو أنت أو فلانة مختلعة

__________________

(١) مجمع البيان ج ٢ ص ٣٢٩.

٥٥٦

على كذا».

أما الأولان فواقعان بصيغة الماضي التي هي صريحة في الإنشاء على ما تقرر وتكرر.

وأما الأخيران فلأنهما وإن لم يكونا باللفظ الماضي لكنهما يفيدان الإنشاء بل هما أصرح فيه من الماضي المفتقر في دلالته على الإنشاء إلى النقل إليه.

ولكن مثل هذا لم يلتزمه الأصحاب في جميع العقود اللازمة ، بل أمرهم فيه مضطرب من غير قاعدة يرجع إليها ، ولا دلالة عليه من النصوص توجبها ، وقد تقدم في النكاح والطلاق ما يخالف هذا ، وأنه لا يقع بقوله «أنت مطلقة» ونحوه ، واعتمدوا في التزامه على خبر لا يوجب ذلك الحصر كما بيناه ، ولو جوزوا في جميع الأبواب الألفاظ المفيدة للمطلوب صريحا من غير حصر كان أولى ، انتهى وهو جيد ، وإن خالفه فيما مضى من الأبواب السابقة ، ووافق الجماعة فيما ذهبوا إليه من هذه المواضع التي اعترضها هنا كما يخفى على من راجع الكتاب المذكور.

وبه يظهر قوة ما ذهبنا إليه في كتاب البيع وغيره من الكتب السابقة من عدم الانحصار في لفظ خاص ولا صيغة خاصة ، بل كل ما أفاد المطلوب فإنه كاف في هذا المقام ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يزيده تأييدا ويوضحه تأكيدا ، في حديث جميل من حكاية خلع ذلك الرجل لابنته من زوجها.

وعلى هذا فكما يقع الخلع بالألفاظ المتقدمة كذا يقع بقوله «أنت طالق على كذا».

وقد صرح بذلك جملة من الأصحاب أيضا ، منهم الشيخ في المبسوط حيث قال على ما نقل عنه : فأما إذا كان الخلع بصريح الطلاق كان طلاقا بلا خلاف ومنهم العلامة حيث قال في الإرشاد : الصيغة وهي : خلعتك على كذا أو أنت أو فلانة مختلعة على كذا أو أنت طالق على كذا. ونحوه قال في القواعد والتحرير.

وفيه دلالة على أن الطلاق بعوض من أقسام الخلع تترتب عليه أحكامه ،

٥٥٧

وسيأتي تحقيق المسألة في محلها.

وحيث قد عرفت مما تقدم في صدر الكلام أن الخلع من قبيل المعاوضات فلا بد فيه من القبول من المرأة إن لم يسبق سؤالها ذلك ، ويعتبر تعاقبهما بحيث يكون أحدهما جوابا عن الآخر ، فإن تقدم التماسها بقولها : طلقني بألف مثلا اعتبر كونه جوابا على الفور بحيث لا يتخلله زمان يوجب عدم ارتباط الجواب بالسؤال ، وإن تقدم لفظه فقال : خالعتك على كذا اعتبر قبولها عقيب كلامه كذلك ، ولو قال : خلعتك على كذا ولم يتعقبه قبولها على الفور فقد صرحوا بأن الأظهر بطلان الطلاق ، لأن الطلاق بالعوض لم يقع لانتفاء شرطه ، والطلاق المجرد غير مقصود بل ولا مدلول عليه باللفظ ، لأن الكلام لا يتم إلا بآخره ، كذا أفاده السيد السند ـ قدس‌سره ـ في شرح النافع.

والظاهر أنه على هذا النهج كلام غيره من الأصحاب ، ولم أقف في النصوص على ما يدل عليه ، ولا يهدي بوجه من الوجوه إليه ، وغاية ما يستفاد منها أنه إذا قالت المرأة تلك الأقوال الدالة على البغض والكراهة لزوجها حل له أن يخلعها.

نعم في بعضها ما ربما يشير إلى ما ذكره من سؤالها ذلك. وأما وجوب القبول منها بعد تقدم كلامه وقوله : خلعتك على كذا وكون ذلك على الفور وإلا بطل ، فلم أقف فيه على نص.

وما ذكرنا من البغض الذي يشير إلى سؤالها هو ما رواه في الكافي (١) عن محمد بن مسلم في الحسن أو الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المختلعة التي تقول لزوجها : اخلعني وأنا أعطيك ما أخذت منك ، فقال : لا يحل له أن يأخذ منها شيئا حتى تقول : والله لا أبر لك قسما ولا أطيع لك أمرا ولآذنن في بيتك بغير إذنك ولأوطئن فراشك غيرك ، فإذا فعلت ذلك من غير أن يعلمها حل له ما أخذ منها» الحديث.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٠ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٨٨ ب ١ ح ٤ وفيه اختلاف يسير.

٥٥٨

وعن أبي الصباح الكناني (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا خلع الرجل امرأته فهي واحدة بائن وهو خاطب من الخطاب ، ولا يحل له أن يخلعها حتى تكون هي التي تطلب ذلك منه من غير أن يضربها ، وحتى تقول : لا أبر لك قسما ولا أغتسل لك عن جنابة ولأدخلن بيتك من تكره ولأوطئن فراشك ولا أقيم حدود الله فيك ، فإذا كان هذا منها فقد طاب له ما أخذ منها».

والرواية الأولى غير ظاهرة الدلالة ، لأن الظاهر أن الكلام الأول إنما هو من السائل ، وكلام الامام عليه‌السلام خال من ذلك.

نعم الرواية الثالثة ظاهرة في طلبها ذلك منه ، لكن لا دلالة فيها على أزيد من توقف المنع على طلبها ذلك مع قولها لتلك الأقوال القبيحة ، ولا دلالة فيها على وقوع الخلع على أثر هذا القول ، بحيث لا يفصل بينهما بزمان ، بل الظاهر إنما هو خلاف ذلك ، بمعنى أن صحة الخلع متوقف على طلبها ذلك وقولها تلك الأقوال ، وحينئذ فيحل خلعها سواء كان في ذلك المجلس أو غيره وفي ذلك اليوم أو بعده ، هذا ظاهر الخبر المذكور.

وكذا ظاهر الخبر الأول لو فرضنا ذلك الكلام الأول من كلامه عليه‌السلام فإنه يرجع إلى هذا الخبر ، ولم أقف على غيرهما مما يتعلق بهذا الكلام الذي ذكره وظاهر كلامه أنهم بنوا الأمر فيما ذكروه على ما صرحوا به من أن الخلع من قبيل المعاوضات. إلى آخر ما تقدم ، وهو من التعليلات الاعتبارية التي لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية.

الثاني : اختلف الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في صيغة الخلع إذا وقعت بلفظ الخلع من الصيغ المتقدمة ونحوها هل يجب اتباعها بلفظ الطلاق ، أم تكفي وحدها؟ قولان.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٨٨ ب ١ ح ٦ وفيه اختلاف يسير.

٥٥٩

وإلى الثاني ذهب المرتضى ـ رضي‌الله‌عنه ـ في المسائل الناصرية فقال : إن الخلع إذا تجرد عن لفظ الطلاق بانت به المرأة وجرى مجرى الطلاق ، ونحوه قال ابن الجنيد ، حيث صرح بأنه ليس عليه أن يقول : قد طلقتك إذا قال : قد خالعتك. وإلى هذا القول مال العلامة في المختلف والتحرير والشهيد في شرح الإرشاد ، ونقله في المختلف عن ظاهر الشيخ المفيد والصدوق وابن أبي عقيل وسلار وابن حمزة ، واعتمده السيد السند في شرح النافع وقبله جده ، والظاهر أنه المشهور ، وإلى الأول ذهب الشيخ في كتابي الأخبار ، وتبعه ابن البراج في المهذب وابن إدريس ، وهو الظاهر من كلام أبي الصلاح ، واختاره الشهيد في اللمعة.

وظاهر المحقق في كتابيه التوقف في المسألة ، حيث إنه قال في الشرائع وهل تقع مجردة؟ المروي نعم ، وقال الشيخ : لا تقع حتى تتبع بالطلاق. ونحوه في المختصر حيث قال : وهل يقع بمجرده ، قال علم الهدى : نعم ، وقال الشيخ : لا ، حتى يتبع بالطلاق ، انتهى.

وأنت خبير بأن اقتصاره على مجرد نقل القولين كما في المختصر أو نسبة أحدهما إلى الرواية كما في الشرائع ظاهر فيما قلناه.

والأصل في هذا الاختلاف اختلاف الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام في هذا المقام فالواجب أولا نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم الكلام فيها بما وفق الله سبحانه لفهمه منها ببركة أهل الذكر عليهم الصلاة والسلام.

فمن الأخبار الدالة على القول الثاني ما رواه الصدوق (١) في الصحيح عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «عدة المختلعة عدة المطلقة ، وخلعها طلاقها ، وهي تجزي من غير أن يسمى طلاقا». (٢).

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٣٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩١ ب ٣ ح ٤.

(٢) أقول : ما دلت عليه هذه الرواية من اشتراط كون الخلع عند السلطان مذهب ابن الجنيد ، والمشهور بين أصحابنا خلافه ، والرواية المذكورة حملها العلامة ـ رحمه‌الله عليه ـ في المختلف على الاستحباب ، وهو جيد (منه ـ رحمه‌الله ـ).

٥٦٠