الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

ويشهد شاهدين عدلين ، فيكون طلاق الوالي طلاق الزوج ، وتعتد أربعة أشهر وعشرا ثم تتزوج إن شاءت».

وما رواه في الكافي (١) عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في امرأة غاب عنها زوجها أربع سنين ولم ينفق عليها ، ولم تدر أحي هو أم ميت ، أيجبر وليه على أن يطلقها؟ قال : نعم ، وإن لم يكن له ولي طلقها السلطان ، قلت : فإن قال الولي : أنا أنفق عليها ، قال : فلا يجبر على طلاقها ، قال : قلت : أرأيت إن قالت : أنا أريد ما تريد النساء ولا أصبر ولا أقعد كما أنا؟ قال : ليس لها ولا كرامة إذا أنفق عليها».

وما رواه في الكافي والتهذيب (٢) في الموثق عن سماعة قال : «سألته عن المفقود ، قال : إن علمت أنه في أرض فهي تنتظر له أبدا حتى يأتيها موته أو يأتيها طلاقه ، وإن لم تعلم أين هو من الأرض كلها ولم يأتها منه كتاب ولا خبر فإنها تأتي الإمام فيأمرها أن تنتظر أربع سنين فيطلب في الأرض ، فإن لم يوجد له أثر حتى تمضي الأربع سنين أمرها أن تعتد أربعة أشهر وعشرا ، ثم تحل للرجال ، فإن قدم زوجها بعد ما تنقضي عدتها ، فليس له عليها رجعة ، وإن قدم وهي في عدتها أربعة أشهر وعشرا فهو أملك برجعتها».

وما رواه الشيخ في التهذيب (٣) عن السكوني عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام «أن عليا عليه‌السلام قال في المفقود : لا تتزوج امرأته حتى يبلغها موته أو طلاق أو لحوق بأهل الشرك».

هذا ما وقفت عليه من أخبار المسألة ، إذا عرفت ذلك فاعلم أن تحقيق

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٨ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٠ ب ٢٣ ح ٥ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٨ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٧٩ ح ١٣١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٩٠ ب ٤٤ ح ٢ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٧٨ ح ١٢٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٠ ب ٢٣ ح ٣.

٤٨١

الكلام في المقام يتوقف على بسطه في مسائل :

الأولى : اختلف الأصحاب لاختلاف هذه الأخبار في أنه بعد الطلب أربع سنين ولم يعرف له خبر فهل يكفي أمر الحاكم لها بالاعتداد عدة الوفاة؟ أم لا بد من الطلاق أولا من الولي أو الحاكم مع عدمه؟ وعلى تقدير الثاني ، فهل العدة عدة الطلاق أو عدة الوفاة؟ أقوال :

فذهب الشيخان إلى الأول ، وبه قال ابن البراج وابن إدريس ، وهو الذي صرح به العلامة في القواعد والإرشاد والمحقق في كتابيه ، وعلى هذا القول تدل موثقة سماعة.

وقيل بالثاني وأن العدة عدة الوفاة ، وهو مذهب الصدوق في المقنع وابن حمزة.

قال في المقنع : إذا امتنع الولي أن يطلق أجبره الوالي على أن يطلقها ، فيصير طلاق الولي طلاق الزوج ، فإن لم يكن له ولي طلقها السلطان ، واعتدت أربعة أشهر وعشرة أيام. ونحوه كلام ابن حمزة (١) واختاره العلامة في المختلف.

ويدل على طلاق الولي أكثر الأخبار المذكورة وعلى طلاق الوالي رواية أبي الصباح والمرسلة المنقولة عن الفقيه ، وعلى كون العدة في هذه الصورة عدة الوفاة المرسلة المذكورة.

وقيل : بأن العدة في هذه الصورة إنما هي عدة الطلاق ، وهو ظاهر أكثر الأخبار المذكورة ، وإليه يميل كلام السيد السند في شرح النافع وقبله جده ـ رحمة الله عليه ـ في المسالك.

ويظهر من هذه الأخبار أن العدة عدة الطلاق ، إلا أن القائلين بالطلاق صرحوا بأن العدة عدة الوفاة ، ولا يخلو من إشكال ، ورواية سماعة الدالة عليها

__________________

(١) حيث قال : وان لم تجد له خبر موت ولا حياة أمر الحاكم بعد انقضاء أربع سنين ولي الغائب بتطليقها ، فان لم يكن له ولى طلقها الحاكم ، فان طلقها اعتدت منه عدة الوفاة ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٨٢

موقوفة ضعيفة السند ، انتهى.

وقال ابن الجنيد : وإن لم يأت خبره بعد أربع سنين وكان له ولي أحضره السلطان وأمره بالنفقة عليها من مال المفقود أو من مال وليه ، فإن أنفق وإلا أمر السلطان بأن يطلق ، فإن طلقها وقع طلاقه موقع طلاق زوجها ، وإن لم يطلق أمرها والي المسلمين أن تعتد ، فإذا خرجت من العدة حلت للأزواج.

وظاهر هذه العبارة أنه مع تعذر الطلاق من الولي فإن الوالي يأمرها بالاعتداد من غير طلاق ، وإن العدة حينئذ عدة الوفاة ، وأما في صورة طلاق الولي فإنها مجملة بالنسبة إلى العدة ، وحينئذ يكون هذا قولا رابعا في المسألة. (١)

وأنت خبير بأن القول الأول وإن دلت عليه موثقة سماعة إلا أنها معارضة بما هو أكثر عددا وأصح سندا مما يدل على الطلاق من الولي ثم مع تعذره من الحاكم الشرعي ، والجمع بين أخبار المسألة فيما ذكرناه لا يخلو من الاشكال.

قال بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين (٢) يمكن الجمع بين الأخبار بتخير الإمام أو الحاكم بين أمرها بعدة الوفاة بدون طلاق وبين أمر الولي بالطلاق فتعتد عدة الطلاق ، أو حمل أخبار الطلاق على ما إذا كان له ولي ، وأخبار عدة الوفاة مع عدمه ، انتهى.

أقول : ينافي الحمل الثاني ما دلت عليه رواية أبي الصباح الكناني ومرسلة الفقيه لدلالتهما على أنه مع عدم الولي يطلقها الولي أو السلطان ، لا أنها تعتد عدة

__________________

(١) لان القول الأول انما هو أمر الحاكم بالاعتداد من أول الأمر ، والقول الثاني انما هو طلاق الولي أولا ، ومع تعذره فطلاق الحاكم ثم الاعتداد ، وهذا القول تضمن أنه مع تعذر طلاق الولي فإنه يأمر الحاكم بالاعتداد من غير طلاق ، ومغايرته لهما ظاهرة.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) هو شيخنا المجلسي المولى محمد باقر ـ قدس‌سره ـ في حواشيه على كتب الاخبار.

(منه ـ رحمة الله ـ).

٤٨٣

الوفاة كما ذكره.

ويمكن أن يقال ـ والله سبحانه وقائل هذه الأخبار أعلم بحقيقة الحال ـ : إن المستفاد من هذه الأخبار بعد ضم مطلقها إلى مقيدها ومجملها إلى مبينها أنه يطلقها الولي ، ومع عدمه فالحاكم ، وتعتد عدة الوفاة.

وتوضيحه أن غاية ما تدل عليه موثقة سماعة أنه بعد تحقق انقطاع خبره يأتي الإمام فيأمرها بالاعتداد عدة الوفاة ، وهي بالنسبة إلى الطلاق وعدمه مطلقة ، فيجب حملها على ما دلت عليه موثقة سماعة من عدة الوفاة. (١) وسند ما ذكرنا مرسلة الصدوق حيث تضمنت عدة الوفاة بعد الطلاق من الولي أو الوالي ، ولا ينافي ذلك جواز المراجعة في العدة لو قدم وهي في العدة ، لأن هذه العدة عدة طلاق من جهة ، وعدة وفاة من جهة.

وأما رواية السكوني ـ فضعفها ومعارضتها بما ذكرناه من أخبار المسألة بمنع القول بها ، مؤيدا ذلك بعمل الطائفة على خلاف ما دلت عليه ـ فهي مردودة إلى قائلها عليه‌السلام ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة ، وحملها على التقية غير بعيد.

الثانية : ظاهر كلام الأصحاب الاتفاق على أنه لا يقع الطلاق أو الأمر بالاعتداد إلا بعد الفحص عنه ، بأن ترفع أمرها إلى الحاكم فيؤجلها أربع سنين من حين رفع أمرها إليه ، ويفحص عنه في تلك الأربع سنين ، فإن لم يعرف خبره أمر الولي بالطلاق أو أمرها بالاعتداد.

__________________

(١) ولا منافاة بين الطلاق والاعتداد بعدة الوفاة في هذا المقام لقيام احتمال الموت فالواجب طلاقها ، والعدة من الطلاق تندرج تحت عدة الوفاة ، فيكون الاحتياط في الاعتداد بعدة الوفاة.

قال في المختلف بعد ذكر موثقة سماعة : ولا حجة فيها ، فإن الأمر بالاعتداد لا ينافي الطلاق ، وعدة الوفاة جعلت احتياطا للظن بالموت ولا منافاة حينئذ ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٨٤

قال في القواعد «ولو لم ترفع خبرها إلى الحاكم فلا عدة حتى يضرب لها المدة ثم تعتد ولو صبرت مائة سنة ، وابتداء المدة من رفع القصة إلى الحاكم وثبوت الحال عنده لا من وقت انقطاع الخبر» وفي انطباق الأخبار على ما ذكروه إشكال فإن المفهوم منها بعد ضم بعضها إلى بعض أن الأربع سنين المضروبة أعم من أن يكون من حين الفقد وانقطاع الخبر ، أو رفع الأمر إلى الحاكم ، وأن الفحص أعم من أن يكون في الأربع أو قبلها أو بعدها من الولي أو الوالي أو غيرهما.

أما صحيحة الحلبي أو حسنته فإنها دلت على أنه «إذا مضى له أربع سنين بعث الوالي أو يكتب» وهي ظاهرة في كون الأربع من حين الفقد ، وأنه لم يقع الفحص في الأربع ، وإنما وقع بعدها ، وهي بحسب ظاهرها لا تنطبق على كلامهم ، وطريق الجمع بينها وبين ما بعدها من الأخبار أن يكون مبدأ الأربع من حين الفقد ، إلا أنه لما لم يقع الفحص فيها وجب أن يكون بعدها.

وأما صحيحة بريد فإنها ظاهرة فيما ذكروه وكذا موثقة سماعة ، فإنهما قد تضمنتا رفع الأمر الحاكم ، وأنه يأمرها بالتربص أربع سنين ثم يطلب فيها ، وأن مبدأ الأربع هو الرفع إلى الحاكم ، إلا أن باب الاحتمال غير مغلق.

وأما رواية أبي الصباح الكناني فإنها ظاهرة فيما دلت عليه صحيحة الحلبي من أن الأربع مبدؤها من حين الفقد ، وأن الرفع إلى الحاكم إنما وقع بعد الأربع ، وهي خالية من ذكر الفحص عنه ، فيجب تقييدها بذلك حسبما تضمنته صحيحة الحلبي بأن يفحص عنه بعد الأربع أو في أثنائها ، ثم مع عدم معرفة خبره يجبر الولي على أن يطلقها ثم السلطان مع عدمه.

والظاهر أن الوجه في الجمع بين هذه الأخبار هو أنه إن لم ترفع أمرها إلى الحاكم إلا بعد مضي الأربع من حين الفقد فإنه يفحص عنه حتى يعلم أمره وأنه مع ظهور فقده وعدم العلم بحياته يجري عليه الحكم المذكور من غير تقييد بمدة ، وإن رفعت أمرها من أول الأمر قبل مضي الأربع من حين الفقد

٤٨٥

أو في أثنائها فإنه يجب عليها التربص مدة الأربع أو تمامها والفحص في تلك المدة ثم إجراء الحكم المذكور.

الثالثة : قال في المسالك : لو تعذر البحث من الحاكم إما لعدمه أو لقصور يده تعين عليها الصبر إلى أن يحكم بموته شرعا أو يظهر حاله بوجه من الوجوه لأصالة بقاء الزوجية ، وعليه يحمل ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه».

وعن علي عليه‌السلام (٢) «أنه قال : هذه امرأة ابتليت فلتصبر». ومن العامة من أوجب ذلك مطلقا عملا بهاتين الروايتين.

أقول : لا يخفى ما فيه من الاشكال والداء العضال والضرر المنفي بالآية والرواية الواردتين في أمثال هذا المجال ، وبهما استدلوا في غير حكم من الأحكام ، وخصصوا بهما ما كان ثمة من دليل مطلق وعام ، ولا ريب أن كلامه ـ رحمة الله عليه ـ هذا مبني على ظاهر ما اتفقت عليه كلمتهم من توقف الطلاق أو الاعتداد على رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي ، كما سمعت من عبارة العلامة في القواعد من أنه لو مضت مائة سنة ولم ترفع أمرها إلى الحاكم فلا طلاق ولا عدة بل تبقى على حكم الزوجية وأن الفحص ضمن الأربع سنين لا بد أن يكون من الحاكم ، وفي الحكم بتعينه من الأخبار المذكورة نظر لما عرفت آنفا من أن بعضها وإن دل على الرفع إلى الحاكم إلا أن البعض الآخر خال من ذلك ، وأن الفحص المأمور به لا يتعين كونه من الحاكم بل يكفي لو كان من الولي أو غيره.

ويؤيد ما فهمناه من هذه الأخبار ما صرح به المحدث الكاشاني في الوافي حيث قال ـ بعد نقل أخبار المسألة المذكورة حسبما نقلناه ـ وإن أردت أن يتضح لك ما تضمنته هذه الأخبار بحيث تتلاءم وتتطابق فاستمع لما يتلى عليك ، فنقول وبالله التوفيق : إذا فقد الرجل بحيث لم يوجد له خبر أصلا ، فإن مضى عليه من حين

__________________

(١ و ٢) سنن البيهقي ج ٧ ص ٤٤٥ مع اختلاف يسير.

٤٨٦

فقد خبره أربع سنين ولم يوجد من أنفق على امرأته بعد ذلك ولم تصبر هي على ذلك اجبر وليه على طلاقها بعد تحقق الفحص عنه ، سواء وقع الفحص قبل مضي الأربع أو بعده ، وسواء وقع من الولي أو الوالي أو غيرهما ، وعدتها عدة الوفاة. إلى آخر كلامه ـ رحمة الله عليه.

وهو كما ترى ظاهر في ترتب الحكم على حصول هذه الأمور من الحاكم أو غيره ، ومحصله أنه مع مضي أربع سنين من حين الفقد وحصول الفحص من كل من كان قبل مضي الأربع أو بعده ، فإنه بعد مضي المدة المذكورة يجب على الولي طلاقها أو الحاكم ، وإن لم ترفع أمرها إلى الحاكم بالكلية.

وبالجملة فإنه لا ظهور في هذه الأخبار على توقف الطلاق على رفع الأمر إلى الحاكم ، وأن مبدأ الأربع التي يجب عليها التربص فيها من مبدأ الرفع ، وأن الفحص إنما هو من الحاكم ، كما هو ظاهر كلامهم ، بل الذي يظهر منها إنما هو وجوب التربص أربع سنين ، رفعت أمرها إليه قبل الأربع أم لم ترفع ، وأن مبدأ الأربع من حين الفقد ، ولا ينافيه قوله في صحيح بريد «أجلها أربع سنين» وكذا موثقة سماعة لإمكان حملهما على أن ذلك كان مبدأ الفقد ، أو أن المراد تمام الأربع لو علم الفقد سابقا قبل الرفع ، جمعا بينهما وبين صحيحة الحلبي الظاهرة في أن مبدأ الأربع من حين الفقد ، وكذا رواية أبي الصباح ، وأنه يجب الفحص عنه من كل من كان في الأربع أو بعدها ، فإنه بعد تحقق الفقد يجب على الولي أو الوالي مع عدم الولي طلاقها ، وذكر الرفع في صحيحة بريد وموثقة سماعة إنما خرج مخرج التمثيل لا الحصر ، وأصل الحكم إنما يدور ويبنى على مضي الأربع سنين مع حصول الفحص كيف كان.

هذا ما أدى إليه الفهم القاصر من هذه الأخبار ، وإن كان الاحتياط فيما صاروا إليه ، ومتى ثبت أن الحكم لا اختصاص له بالحاكم كما ذكرناه ، فلا إشكال في أنه مع فقده أو قصور يده فإنه لا ينتفي الحكم المذكور ، بل يجب على عدول

٤٨٧

المؤمنين القائمين مقامه في تولي بعض الأمور الحسبية القيام بذلك ، وتخرج الآيات والأخبار الدالة على نفي الضرر والحرج والضيق في هذا الدين شاهدا على ذلك.

وكيف كان فإن ما ذكرناه إن لم يكن أرجح فلا أقل أن يكون مساويا لما ذكروه في الاحتمال من الأخبار.

وأما الخبران اللذان ذكرهما فالظاهر أنهما من أخبار العامة لعدم وجودهما في أخبارنا ، وبهما يظهر قرب ما احتملناه في رواية السكوني من حملها على التقية مضافا إلى نقل القول عنهم.

الرابعة : قال في المسالك أيضا : لا فرق في المفقود بين من أنفق فقده في جوف البلد أو في السفر وفي القتال ، وما إذا انكسرت سفينة ولم يعلم حاله ، لشمول النص لذلك كله وحصول المعنى ، ولا يكفي دلالة القرائن على موته بدون البحث ، إلا أن تنضم إليها أخبار من يتاخم قوله العلم بوفاته ، فيحكم بها حينئذ من غير أن تتربص به المدة المذكورة ، ولا فرق حينئذ بين أن يحكم الحاكم بموته وعدمه ، بل إذا ثبت ذلك عندها جاز لها التزويج ولم يجز لغيرها أن يتزوجها إلا أن يثبت عنده ذلك أيضا ، ولو حكم الحاكم بها كفي في حق الزوج بغير إشكال.

أقول : في فهم ما ذكره من الإطلاق في الفقد وشموله لهذه الأفراد المعدودة من النصوص نظر ، فإن ظاهر الأخبار المتقدمة تخصيص الحكم بالسفر إلى قطر من الأقطار ، أو مطلقا من غير معلومية أرض مخصوصة ، وأنه يكتب أو يرسل في الفحص عنه إلى ذلك القطر أو في الجوانب الأربعة أو بعضها مما يعلم أو يظن السفر إليه ، وأما الفقد في البلد أو في معركة القتال أو السفينة التي انكسرت في البحر فلا يكاد يشم له رائحة من هذه الأخبار ، بل ربما كانت ظاهرة في خلافه ، إذ لا يتحقق الفحص في شي‌ء من هذه المواضع المعدودة ، وأيضا فإنه بالنسبة إلى هذه الأفراد المعدودة فلتدل القرائن الموجبة للعلم العادي على الموت ، بخلاف مجرد السفر إلى بلد وفقد خبره ، والفرق بين الأمرين ظاهرين غاية الظهور لمن

٤٨٨

أعطى التأمل حقه في هذه السطور. (١)

ومن هنا كان بعض مشايخنا المحققين من متأخري المتأخرين يحكم بخروج هذه الأفراد عن حكم المفقود المذكور في هذه الأخبار.

قال ـ رحمه‌الله ـ ونعم ما قال : إن من حصل العلم العادي بعدم حياته فإنه يجوز نكاح زوجته وإن لم ترفع أمرها إلى الحاكم ، ومثله يأتي أيضا في قسمة الميراث ، لأن المفقود في مثل البحر مع كثرة المترددين من السواحل المحيطة بموضع الغرق يحصل العلم من مجاري العادة بهلاكهم كما هو واضح ، وهو أقوى من العلم بالشاهدين. وكذا المفقود في المفاوز (٢) في شدة الحر والبرد مع إحاطة الأودان بالأطراف ولم يخبر عنه منها مع كثرة المترددين. وكذا المفقود في المعارك العظام لا يحتاج فيه إلى التأجيل أربع سنوات ليفحص فيها عن حاله في الأطراف لأن ذلك إنما هو في المفقود لا كذلك ، وأما هنا فيكفي في مثله حصول المترددين في الأطراف التي يظن بجاري العادة أنه لو كان حيا لكان فيها وأتى بخبره المترددون ، وحيث لم يأت له خبره علم هلاكه ، انتهى.

وإلى هذا أيضا كان الآخند المولى محمد جعفر الأصفهاني المشهور بالكرباسي صاحب الحواشي على الكفاية وهو من فضلائنا المعاصرين ، وقد زوج جملة من النساء اللاتي فقدت أزواجهن في معركة قتال الأفغان مع عسكر شاه سلطان

__________________

(١) أقول : قد اتفق في زماننا من القضايا ما تحقيق هذا المقام ويكشف عنه نقاب الاشكال كما وقع في طريق الهند في غرق مراكب فارس ، فان هذه منذ أربعين سنة أو خمسين قد مضت الى يومنا هذا ولا يظهر لأحد منهم أثر بالكلية. وفي طريق مكة في نهب الحجاج وقد مضت لذلك ما يقرب من خمسين سنة أو أزيد ولم يظهر لأحد منهم أثر. وفي واقعة البحرين وفتح الخوارج لها قد فقد يوم أخذ قلعة البحرين جمع من أهل البلاد وقد مضت خمسون سنة ولم يظهر لأحد منهم أثر بالمرة ، وهو أظهر ظاهر في قتلهم أو موتهم كما لا يخفى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) المفازة : واحدة المفاوز ، وسميت بذلك لأنها مهلكة. (لسان العرب).

٤٨٩

حسين في مفازة قرب كرمان.

وبالجملة فإن مورد الأخبار المتقدمة السفر ، وأن الفقد حصل فيه فيرسل إلى الفحص عنه في تلك الجهة أو الجهات ، وما ذكره ليس كذلك ، والاشتراك في مجرد الفقد لا يوجب الإلحاق فإنه قياس محض ، وأيضا فإن الفحص المأمور به في الأخبار لا يتحقق في هذه الأفراد ، فإذا كان الفقد في مفازة كطريق الحج مثلا إذا قطع على قفل الحاج جملة من المتغلبين وقتلوهم وأخذوا أموالهم فإلى من يرسل وممن يفحص ، وهكذا في معركة القتال.

وبذلك يظهر لك ما في دعواه شمول النص لهذه الأفراد فإنه كيف تكون شاملة لها وموردها الفقد في السفر إلى البلدان المعمورة بالناس لتمكن الفحص منهم والسؤال وتحقيق الأحوال. نعم الجميع مشتركون في المعنى وهو الفقد وعدم العلم بالحياة والموت ، ولكن مجرد ذلك لا يكفي في ترتب الأحكام المذكورة.

الخامسة : قال في المسالك أيضا : الحكم مختص بالزوجة فلا يتعدى إلى ميراثه ولا عتق أم ولده ، وقوفا فيما خالف الأصل على مورده ، فيتوقف ميراثه وما يترتب على موته من عتق أم الولد والمدبر والوصية وغيرها إلى أن يمضي مدة لا يعيش مثله إليها عادة ، وسيأتي البحث فيه ، والفرق بين الزوجة وغيرها مع ما اشتهر من أن الفروج مبنية على الاحتياط وراء النص الدال على الاختصاص دفع الضرر الحاصل على المرأة بالصبر دون غيرها من الوارث ونحوهم ، وأن للمرأة الخروج من النكاح بالجب والعنة لفوات الاستمتاع ، وبالإعسار بالنفقة على قول لفوات المال ، فلأن يخرج هنا ـ وقد اجتمع الضرران ـ أولى ، ويدل على عدم الحكم بموته أنها لو صبرت بقيت الزوجية ، فزوالها على تقدير عدمه لدفع الضرر خاصة فيقيد بمورده ، انتهى.

أقول : لا يخفى مقتضى الأصل واستصحاب حكم الزوجية وأصالة الحياة بعد

٤٩٠

ثبوتها هو توقف جميع هذه الأمور من خروج الزوجة عن الزوجية وقسمة الميراث وانعتاق أم الولد ونحو ذلك مما ذكره على العلم بالموت ، إلا أنه قد قام الدليل كما عرفت من الروايات المتقدمة على خروج الزوجة من هذا الأصل بمجرد فقد الزوج ، وإن لم يتحقق موته حسب ما عرفت من الكلام في ذلك.

وكما خرجت الزوجة بالأخبار المذكورة خرج الميراث أيضا بموثقة سماعة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المفقود يحبس ماله على الورثة قدر ما يطلب في الأرض أربع سنين ، فإن لم يقدر عليه قسم ماله بين الورثة».

وموثقة إسحاق بن عمار (٢) قال : «قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : المفقود يتربص بماله أربع سنين ثم يقسم».

وهذه الرواية وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى طلبه مدة الأربع ، إلا أنه يجب حمل إطلاقها على ما تضمنه الخبر الأول من الطلب تلك المدة ، وإلى هذا القول مال جملة من الأصحاب منهم الصدوق والمرتضى وأبو الصلاح.

واستوجهه في المسالك أيضا ، إلا أنه اختار فيه القول المشهور ، وهو أنه ينتظر به مدة لا يعيش إليها عادة ، مع أنه لا دليل عليه إلا ما ذكرنا من الأصل الذي يجب الخروج عنه بالدليل ، وهو هنا موجود كما عرفت ، وتؤيده أخبار الزوجة المذكورة لأنه متى جاز ذلك في الزوجة ـ مع أن عصمة الفروج أشد وأهم في نظر الشارع ـ فليجز في قسمة المال بطريق أولى. وأما ما ذكره في الفرق بين الزوجة والمال فإن فيه :

(أولا) أن النص كما دل على حكم الزوجة فخرجت به عن حريم الأصل المذكور كذلك المال قد خرج بالموثقتين المذكورتين ، إلا أن له أن يقول برد الموثقتين المذكورتين لضعفهما عنده ، وعده الموثق في قسم الضعيف وترجيح الأصل

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٥٥ ح ٩ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٨٥ ب ٦ ح ٩.

(٢) الكافي ج ٧ ص ١٥٤ ح ٥ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٨٣ ب ٦ ح ٥.

٤٩١

عليهما ، بناء على تصلبه في هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من الصلاح ، وهو عندنا غير مسموع كما لا يخفى على من له إلى الإنصاف أدنى رجوع.

(وثانيا) أنه كما تكون الحكمة في الاعتداد بعد المدة دفع الضرر من الزوجة فيجوز أن تكون الحكمة أيضا في قسمة الميراث دفع الضرر عن الوارث بعين ما قاله في إعسار الزوج بالنفقة ، وإن كان أحد الضررين وأشد ، أشدية الضرر عليها دون الوارث مقابل بمطلوبية العصمة في الفروج للشارع زيادة على الأموال.

وبالجملة فالأصل في ذلك هو النص ، وهذه التوجيهات تصلح لأن تكون بيانا لوجه الحكمة فيه ، لا عللا مؤسسة للحكم ، وحيث كان النص فيما تدعيه موجودا صح البناء عليه ، ويبقى ما عدا مورد النص في هذين الموضعين على حكم حريم الأصل كما ذكروه.

السادسة : قال في المسالك : لو أنفق عليها الولي أو الحاكم من ماله ثم تبين تقدم موته على الإنفاق فلا ضمان عليها ولا على المنفق للأمر به شرعا ، ولأنها محبوسة لأجله ، وقد كانت زوجته ظاهرا والحكم مبني على الظاهر.

وقال سبطه في شرح النافع : بل نقل ذلك عنه هذا كلامه ـ رحمة الله عليه ـ وهو مشكل لظهور أن هذا التصرف وقع في مال الغير بغير إذنه فينبغي أن يترتب على التصرف الضمان ، وإن لم يأثم بذلك كما لو تصرف الوكيل بعد موت الموكل ولما يعلم بموته ، والمسألة قوية الاشكال وإن كان المصير إلى ما ذكره ـ رحمة الله عليه ـ غير بعيد ، والله أعلم.

أقول : الظاهر ـ والله أعلم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه ـ ضعف ما ذكره من الإشكال.

أما (أولا) فلأن الأحكام الشرعية لا تناط بالواقع ونفس الأمر للزوم الحرج والشارع إنما كلف بالظاهر ظهر خلافه أم لم يظهر ، وإذا كان الإنفاق مأمورا به شرعا وواجبا بحسب ظاهر الشرع فكيف يترتب عليه الضمان بعد ظهور

٤٩٢

خلافه ، ومن المعلوم أن امتثال الأمر الواجب بحسب ظاهر الشرع لا يتعقبه إثم ولا غرم ، وإلا للزم من ذلك أنه يوجب عليه الإنفاق ثم يوجب عليه الضمان وهو لا يصدر عن الحكيم جل شأنه.

وأما (ثانيا) فإن ما اعتضد به من تصرف الوكيل بعد موت الموكل ولما يعلم موته وأنه يضمن في هذه الحال ، فإنهم وإن ذكروا ذلك إلا أنهم لم يستندوا فيه إلى دليل صريح ولا نص صحيح ، وإنما استندوا فيه إلى ما يتعاطونه من الأدلة الاعتبارية كما لا يخفى على من راجع كلامهم ، فلا يفيد التعلق به مزيد فائدة ، إلا أنه قد أطلعنا على بعض النصوص الدالة عليه كما تقدم في كتاب الوكالة ، وعلى تقديره فالحمل عليه قياس لا يوافق أصول المذهب ، وبالجملة فالظاهر هو ما ذكره جده ـ رحمة الله عليه.

السابعة : لا خلاف ولا إشكال في أنه لو قدم الزوج وقد خرجت من العدة وتزوجت فإنه لا سبيل له عليها ، ولو جاء وهي في العدة كان أملك بها ، وإنما الخلاف فيما لو جاء وقد خرجت من العدة ولم تتزوج فالأكثر على أنه كالأول ، وبه قال الصدوق في المقنع وابن إدريس وابن حمزة وابن الجنيد والشيخ في المبسوط.

ونقل في المختلف عن الشيخين أنه إن جاء وهي في العدة أو قد قضتها ولم تتزوج كان أملك بها من غير نكاح يستأنفه ، بل بالعقد الأول. وتبعهما ابن البراج وهذا القول للشيخ في الخلاف والنهاية.

ونقل في شرح النافع وقبله جده في المسالك عن الشيخ أنه ادعى أن بهذا القول رواية ، وبذلك صرح المحقق في النافع فقال : فيه روايتان أشهرهما أنه لا سبيل له عليها ، وهذه الرواية لم نقف عليها ، وقد اعترف في المسالك وسبطه في شرح النافع أيضا بذلك ، بل نقل في المسالك عن جماعة ممن سبقه أنهم اعترفوا بذلك ، ونقل عن فخر المحققين أنه قوى هذا القول أيضا.

وللعلامة في المختلف قول ثالث ، تفصل بأن العدة إن كانت من طلاق الولي

٤٩٣

فلا سبيل للزوج عليها ، وإن كانت بأمر الحاكم لها بالاعتداد من غير طلاق كان أملك بها.

أقول : والظاهر هو القول المشهور ، وعليه تدل الأخبار المتقدمة لقوله عليه‌السلام في صحيحة بريد (١) «فإن انقضت العدة قبل أن يجي‌ء أو يراجع فقد حلت للأزواج ، ولا سبيل له عليها». وقوله عليه‌السلام في موثقة سماعة (٢) «فإن قدم زوجها بعد ما تنقضي عدتها فليس له عليها رجعة».

وأما ما فصله العلامة في المختلف ففيه أن موثقة سماعة المشتملة على أمر الإمام لها بالاعتداد أربعة أشهر وعشرا قد تضمنت أنه متى قدم بعد انقضاء العدة فليس له عليها رجعة ، وكيف يدعي أنه إذا كانت العدة بأمر الحاكم كان أملك بها؟ ما هي إلا غفلة واضحة.

الثامنة : الظاهر من صحيحة بريد وموثقة سماعة هو أنه لو جاء وهي في العدة فإنه لا يعود حكم الزوجية إلا بالرجعة في الطلاق لقوله عليه‌السلام في الاولى «وإن جاء زوجها من قبل أن تنقضي عدتها فبدا له أن يراجعها فهي امرأته ، وهي عنده على تطليقتين» وفي الثانية «وإن قدم هي في عدتها أربعة أشهر وعشرا فهو أملك برجعتها» وهو مؤكد للحكم بصحة الطلاق.

والذي يظهر من عبارات الأصحاب هو عود الزوجية قهرا بمجيئه لقول المحقق في كتابيه «فإن جاء في العدة فهو أملك بها» وربما كان التفاتهم إلى أنه بمجيئه في العدة تبين بطلان الطلاق والاعتداد لظهور حياته ، فلم يصادف ذلك محلا.

وفيه أن الأحكام الشرعية إنما تبتني على الظاهر ، ظهر خلافه أم لم يظهر

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٩ ب ٢٣ ح ١ وفيهما «ولا سبيل للأول عليها».

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٨ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٩٠ ب ٤٤ ح ٢.

٤٩٤

كما تقدمت الإشارة إليه ، والشارع قد أمر بالطلاق والتزويج بعد الخروج من العدة بناء على حكمه بالوفاة ، وظهور حياته لا ينقض ما حكم به أولا.

نعم عباراتهم المذكورة ليست نصا فيما ذكرناه بل يحتمل حملها على ما يدل عليه الخبران المذكوران.

التاسعة : قالوا : لو نكحت بعد العدة ثم بان موت الزوج كان العقد الثاني صحيحا ولا عدة سواء كان موته قبل العدة أو معها أو بعدها ، لأن عقد الأول سقط اعتباره في نظر الشارع فلا حكم لموته كما لا حكم لحياته ، والوجه فيما قالوه إن حكم الشارع لها بالاعتداد والبينونة قاطع للنكاح السابق ، ألا ترى أنه لو ظهرت حياته وجاء وهي في العدة توقف عود الزوجية على الرجوع في الطلاق كما عرفت.

وأما بعد انقضاء العدة وإن لم تتزوج فإنه لا رجوع له عليها بالمرة ، وحينئذ فما حكم به من انقطاع الحكم السابق بالبينونة لا فرق فيه بين ظهور موت الزوج أو حياته ، ولا بين تبين موته قبل العدة أو بعدها.

وللشافعية قول ببطلان العدة لو ظهر موته فيها أو بعدها قبل التزويج ، بناء على أنه لو ظهر حينئذ كان أحق ، لأن الحكم بالعدة والبينونة كان مبنيا على الظاهر ومستند حكم الحاكم الاجتهاد ، وقد تبين خطأه. فعليها تجديد عدة الوفاة بعد بلوغها الخبر لغيرها ، بل يحتمل وجوب العدة ثانيا وإن نكحت لما ذكر ، وسقوط حق الأول منها لو حضر وقد تزوجت لا ينفي الاعتداد منه لو مات.

وضعفه ظاهر مما قدمناه في سابق هذه المسألة ، مؤيدا بأصالة العدم حتى يقوم دليل شرعي على ما ذكروه ، وثبوته بهذه التخريجات العليلة ممنوع ، فإنها لا تصلح عندنا لتأسيس الأحكام كما عرفته في غير مقام.

العاشرة : ظاهر أكثر الأصحاب أنه لا نفقة على الغائب في زمان العدة ولو حضر قبل انقضائها. وتردد فيه المحقق في الشرائع ، وعلل القول بعدم النفقة

٤٩٥

بأن العدة عدة وفاة وهي لا تستتبع النفقة ، وربما علل بالنظر إلى حكم الحاكم بالفرقة.

ورد بأن حكمه بالفرقة لا يوجب سقوط النفقة ، لأن حكمه بها يحصل بالطلاق الرجعي مع بقائها.

أقول : الظاهر أن هذا التعليل إنما خرج بناء على ما هو المشهور في كلامهم من أمر الحاكم بالاعتداد أربعة أشهر وعشرا ، وأنها عدة وفاة ، لا أن الحكم فيها طلاق الولي أو الوالي كما هو أحد القولين في تلك المسألة ، وحينئذ فيرجع هذا التعليل إلى التعليل الأول.

ووجه التردد المذكور ما ذكروا من أنها في حكم الزوجة ما دامت في العدة ، فتجب لها النفقة لو حضر قبل انقضائها ، فلو لا أنها زوجته لما صح له ذلك إلا بعقد جديد ، وخصوصا على القول بأن الولي يطلقها ، لأن الظاهر أن الطلاق رجعي لما ظهر من الروايات أنه يراجعها إذا حضر ، والطلاق الرجعي لا يسقط النفقة.

أقول : يمكن أن يقال بأن القول بسقوط النفقة كما عليه الأكثر مبني على ما هو المشهور من أن الحكم في المفقود هو أمر الحاكم امرأته بالاعتداد عدة الوفاة ، وحينئذ فيكون حكمها حكم الزوجة المتوفى عنها زوجها ، ليس لها نفقة ، ودعوى أنها في حكم الزوجية على إطلاقه ممنوع ، والحكم بجواز رجوع الزوج لها لو جاء وهي في العدة مستثنى بالنص ، لأن التحقيق كما تقدمت الإشارة إليه أن هذه العدة عدة وفاة من جهة وعدة طلاق من جهة ، وإن قلنا بالقول الآخر وهو أن الحكم فيها طلاق الولي أو الوالي فإن العدة كما قدمنا ذكره أربعة أشهر وعشرا ، لا عدة طلاق كما ذكروه ، فإنه هو الذي تجتمع عليه الأخبار.

وبالجملة فإن المسألة وإن كانت لا تخلو من الاشكال لخلوها من النص القاطع لمادة القيل والقال ، إلا أن الأنسب بما قدمنا تحقيقه هو ما عليه الأكثر من سقوط النفقة.

٤٩٦

الحادية عشر : لا إشكال ولا خلاف في أنه لو مات أحد الزوجين بعد العدة والتزويج بزوج آخر فإنه لا توارث بينهما لانقطاع العصمة بينهما ، وما دلت عليه الأخبار المتقدمة من أنه لو حضر وقد تزوجت فلا سبيل له عليها ، ومثله ما لو وقع الموت بعد العدة وقبل التزويج على الأشهر الأظهر ، لما عرفت آنفا من أنه كالأول في انقطاع السبيل والعصمة بينهما.

وأما على القول الآخر من أنه لو حضر بعد انقضاء العدة كان أملك بها فقد عرفت ضعفه لعدم دليل يدل عليه ، والرواية التي ادعى ووردها بذلك لم نقف عليها.

وإنما الاشكال والخلاف فيما لو مات أحدهما وهي في العدة ، ففي ثبوت التوارث قولان : (أحدهما) العدة لأن العدة عدة وفاة وهي تقتضي نفي الإرث.

(وثانيهما) ثبوته ، واختاره المحقق في الشرائع ، وجعله في المسالك هو الأقوى ، قال : لبقاء حكم الزوجية بما قد علم ، ولأن العدة في حكم الرجعية ـ كما عرفت ، وهي لا تقطع التوارث بين الزوجين ، وجعلها عدة وفاة ـ مبني على الظاهر وعلى وجه الاحتياط وإلا لم تجامع الطلاق ، فإذا تبين خلاف الظاهر رجع حكم الطلاق الرجعي والزوجية من رأس.

أقول : والمسألة كسابقتها لا تخلو من الإشكال أيضا لعدم النص ، وإلا أن الأوفق بما قدمنا تحقيقه هو القول بالعدم ، قوله «لبقاء حكم الزوجية وأن العدة في حكم العدة الرجعية التي لا تقطع التوارث» ممنوع ، لأن المستفاد من كونها عدة وفاة ترتب أحكام عدة الوفاة عليها من عدم النفقة في العدة وعدم التوارث فيها.

نعم خرج من ذلك جواز الرجوع لو جاء قبل الخروج من العدة بالنص ، فبقي ما عداه من أحكام عدة الوفاة ، ولا ينافي ذلك مجامعتها للطلاق ، لأن الطلاق هنا إنما وقع احتياطا لاحتمال الحياة.

وبالجملة فإن ما ذكرناه إن لم يكن هو الأقرب في المسألة فلا أقل أن يكون مساويا لما ذكروه من الاحتمال.

٤٩٧

الثانية عشر : إذا تزوجت بعد العدة وهي أربعة أشهر وعشر والفحص وهو أربع سنين وأتت بولد يمكن إلحاقه بالثاني الحق به على الأشهر الأظهر ، فلو حضر الزوج الأول وادعاه لم يلتفت إلى دعواه لأن الولد لا يبقى في الرحم هذه المدة المذكورة ليمكن إلحاقه به ، ولو ادعى أنه قدم عليها في خلال هذه المدة وجامعها ، وكان ما يدعيه ممكنا.

قال الشيخ : إنه يقرع بينهما ، لأنها صارت فراشا لهما معا ، وإن كان فراش الأول قد زال ، كما لو طلقها وتزوجت ثم أتت بولد يمكن إلحاقه فإنه يقرع بينهما. كما اختاره في تلك المسألة حسبما تقدم نقله ثمة ، والمشهور أنه للثاني خاصة لأنها فراش له الآن حقيقة ، والولد له وفراش الأول قد زال ، ومثله الكلام في المسألة التي نظر بها كما تقدم ذكره.

المقام السابع : في عدة الإماء والاستبراء ، وقد تقدم في الاستبراء مستوفى في كتاب البيع في فصل بيع الحيوان ، وربما بقي من مسائله ما لم يسبق له ذكر وسيأتي ذكره إن شاء الله في جملة مسائل هذا المقام. إلا أنه يجب التنبيه هنا على أمر ، وإن كان قد سبقت الإشارة إليه في الموضع المذكور ، وهو أن السيد السند ـ رحمة الله عليه ـ قال في كتاب الطلاق من شرح النافع في تعداد من يسقط استبراؤها من الإماء ما صورته : وثالثها أن تكون صغيرة ، وقد ورد بعدم وجوب استبرائها روايات منها ما رواه الشيخ (١) في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في رجل ابتاع جارية لم تطمث قال : إن كانت صغيرة لا يتخوف عليها الحمل فليس عليها عدة وليطأها إن شاء ، وإن كانت قد بلغت ولم تطمث فإن عليها العدة» الحديث.

وفي الحسن عن ابن أبي يعفور (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «قال في الجارية التي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٧٣ ح ٦ ، التهذيب ج ٨ ص ١٧١ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٩٨ ب ٣ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ١٧١ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٩٨ ب ٣ ح ٣.

٤٩٨

لم تطمث ولم تبلغ الحبل إذا اشتراها الرجل ، قال : ليس عليها عدة يقع عليها».

ومقتضى هاتين الروايتين وما في معناهما أنه لا يجب استبراء الصغيرة التي لم تحمل مثلها وإن تجاوز سنها التسع ، ولا يمكن حملها على ما دون التسع ، للتصريح في الروايتين بجواز وطئها من غير استبراء ، ومن نقص سنها عن التسع لا يجوز وطؤها إجماعا.

وبما ذكرنا صرح جدي ـ رحمه‌الله عليه ـ في المسالك ، فإنه قال بعد أن أورد هذه الروايات : وفي هذه الروايات المعتبرة دلالة على أن الأمة التي بلغت التسع ولم تحض لا استبراء عليها ، وليس فيها ما ينافي ذلك ، وهي أيضا موافقة لحكمة الاستبراء ، لأن بنت العشر سنين وما قاربها لا تحمل عادة ، فلا مقتضي لاستبرائها كاليائسة ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن ما ذكره من الحمل المذكور لا يجري في صحيحة الحلبي المذكورة لقوله عليه‌السلام فيها «وإن كانت قد بلغت ولم تطمث» المقابل لقوله «إن كانت صغيرة» وهو ظاهر في أن المراد بالصغيرة من لم تبلغ التسع فكيف يمكن حمل الصغيرة على من بلغت التسع إذا كان لم تحمل مثلها كما ادعاه.

وقد اعترف بذلك جده في المسالك في هذا الموضع الذي نقل بعضه ، وكلام جده وهو الذي نقله إنما هو بالنسبة إلى غير الصحيحة المذكورة كما هو صريح عبارته وإلا فإنه اعترف بعدم قبول الصحيحة المذكورة لهذا الاحتمال. بل هي عنده باقية في زاوية الاشكال. وها أنا أذكر لك صورة كلام جده في المقام وإن طال به زمام الكلام ليتضح لك ما في كلامه ـ رحمه‌الله ـ من الغفلة الظاهرة لجملة الأنام.

قال في كتاب الطلاق ـ في عد من يسقط استبرائهن من الإماء بعد ذكر اليائسة حيث ذكرها المصنف ولم يذكر الصغيرة ـ ما لفظه : وما في معناها الصغيرة التي لم تبلغ المحيض ولم يذكرها معها ، وذكرها في باب البيع ، ويمكن أن

٤٩٩

يكون وجه تركها أن المراد منها عند الإطلاق من سنها دون تسع سنين ومتى كانت كذلك فوطؤها حرام مطلقا ، وغيره لا يحرم في زمن الاستبراء لكنها مذكورة في روايات كثيرة ، وفيها تصريح بجواز وطئها حينئذ بغير استبراء ، فمنها صحيحة الحلبي ـ ثم ساق الرواية كما قدمناه ثم قال : ـ

ولا يمكن تنزيلها على من تجاوز سنها التسع ولم تحض بناء على ما هو الغالب من عدم حيضهن بعد التسع أيضا ليجمع بين جواز وطئها وعدم بلوغها الحيض ، لأن هذا الحمل ينافي قوله «وإن كانت قد بلغت ولم تطمث فإن عليها العدة» لأن بلوغها عند الأصحاب يحصل بالتسع. وفي صحيحة عبد الله بن أبي يعفور ـ ثم ساقها كما تقدم ثم قال : ـ

وقريب منها صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا قعدت عن المحيض أو لم تحض فلا عدة عليها». وفي هذه الروايات المعتبرة دلالة على أن الأمة التي بلغت التسع ولم تحض لا استبراء عليها ، وليس فيها ما ينافي ذلك بخلاف رواية الحلبي ، وهي أيضا موافقة لحكمة الاستبراء. إلى آخر ما تقدم في نقل سبطه المذكور عنه ، وهو صريح كما ترى في أن هذا الاحتمال إنما يجري فيما عدا صحيحة الحلبي ، والعجب أنه نقل العبارة المذكورة وحذف من وسطها قوله «بخلاف رواية الحلبي» ويمكن قد سقط ذلك من نسخة الكتاب الذي نقل عنه هذه العبارة.

وكيف كان فإن ظاهر قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي «وإن كانت بلغت ولم تطمث فإن عليها العدة ظاهر بل صريح في رد الحمل الذي تكلفوه ، لدلالته على أنها بعد التسع مع عدم الطمث ، فإنه يجب عليها الاستبراء المعبر عنه بالعدة ، والرواية صحيحة باصطلاحهم ، فكيف يمكن هذا مع القول بعدم وجوب الاستبراء على الصغيرة التي لم تحمل مثلها ، وإن تجاوز سنها التسع كما ذكروه.

وتمام تحقيق الكلام في هذا المقام وما يتعلق بدفع هذا الاشكال قد تقدم في

٥٠٠