الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

لكن المفهوم من كلام الفضل بن شاذان (١) وكلام الشيخ المفيد على ما نقله المرتضى ـ رحمة الله عليه ـ في كتاب المجالس الذي جمعه من كلام الشيخ المفيد ـ رحمة الله عليه ـ هو إنكار ذلك وتخصيصه بالعامة ، مع أنهم يلزمهم مثل ذلك متى قالوا بسقوط العدة في الصورة المذكورة كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ، وصورة الإلزام الذي ألزم به الفضل بن شاذان من جواز نكاح عشرة لامرأة واحدة في يوم واحد موضعه طلاق الخلع والطلاق البائن ، حيث إن العامة لا يوجبون الاستبراء ويجوزون الطلاق في الحيض ، قال الشيخ المفيد ـ بعد حكاية ما وقع للفضل بن شاذان مع العامة ـ ما صورته : والموضع الذي لزمت هذه الشناعة فقهاء العامة دون الشيعة الإمامية أنهم يجيزون الخلع والطلاق والظهار في الحيض وفي الطهر الذي قد

__________________

تستأنف وهو الصحيح عندنا ، وقال بعضهم لا عدة عليها ها هنا وهو الأقوى عندنا والأول أحوط. وقال ابن البراج في المهذب : فان خالعها ثم تزوجها ثم طلقها استأنفت أيضا العدة ولم يجز لها أن تبنى على ما تقدم ـ ثم قال في المختلف : ـ والوجه ما قاله الشيخ في الخلاف لقوله تعالى «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها» انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(١) أقول : صورة ما حكى عن الفضل في الكتاب المذكور قال : قد ألزم الفضل بن شاذان فقهاء العامة ـ على قولهم في الطلاق أن يحل للمرأة المسلمة الحرة أن يمكن من وطئها في اليوم الواحد عشرة أنفس على سبيل النكاح ، وهذا شنيع في الدين ومنكر في الإسلام.

قال الشيخ : ووجه إلزامه لهم ذلك بأن قال : أخبروني عن رجل تزوج امرأة على الكتاب والسنة وساق إليها مهرها ، أليس قد حل له وطؤها ، فقالوا وقال المسلمون كلهم : بلى ، ، قال : فان كرهها عقيب الوطء أليس يحل له خلعها؟ فما مذهبكم في تلك الحال؟ قال العامة خاصة : نعم ، قال : فان خلعها ثم بدا له بعد ساعة في العود إليها أليس له أن يخطبها لنفسه؟ قالوا : بلى ، قال لهم : فان عقد عليها عقد النكاح أليس قد عادت الى ما كانت عليه من النكاح وسقطت عنها عدة الخلع؟ قالوا : بلى ، قال : فان رجع الى نيته في فراقها ففارقها عقيب العقد الثاني من غير أن يدخل بها ثانية أليس قد بانت منه ولا عدة عليها بنص القرآن من قوله تعالى «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها»؟ فقالوا : نعم ، ولا بد لهم من ذلك مع التمسك بالقرآن ، قال لهم : قد حلت من وقتها للأزواج إذ ليس عليها عدة بنص القرآن ، قالوا : بلى ، قال : فما تقولون لو صنع بها الثاني كصنع الأول أليس يكون قد نكحها اثنان في بعض يوم من غير حظر في ذلك على أصولكم في الأحكام ، فلا بد من أن يقولوا : بلى ، وقال : وكذلك لو نكحها ثالث ورابع الى أن يتم عشرة أنفس وأكثر من ذلك الى آخر النهار أليس يكون جائزا حلالا؟ وهذه من الشناعة بمرتبة لا تليق بأهل الإسلام. قال الشيخ : والموضع الى آخر ما هو مذكور في الأصل ، انتهى.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٨١

حصل فيه جماع من غير استبانة حمل ، والإمامية تمنع من ذلك وتقول إن هذا أجمع لا يقع بالحاضرة التي تحيض إلا بعد أن تكون طاهرا من الحيض طهرا لم يحصل فيه جماع ، فلذلك سلمت مما وقع فيه المخالفون ، انتهى.

وظاهر كلام هؤلاء المشايخ بل الظاهر أنه المشهور هو سقوط العدة عن المختلعة والمطلقة ثلاثا لو عقد عليها الزوج بعد ذلك قبل انقضاء العدة ثم طلقها قبل الدخول ، وأنها يجوز لغيره في تلك الحال التزويج بها لدخوله تحت عموم الآية ، ولم يتفطن هؤلاء الإعلام إلى أن ما ألزموه العامة من هذه الشناعة التي شنعوا بها عليهم لازمة لهم متى قالوا بهذا القول ، وذلك فإنه لو انقضت عدة المستمتعة وتم أجلها أو وهبها ذلك فإنها تبين في الحال ، ولا خلاف في أنه يجوز لزوجها العقد عليها في تلك العدة ، فلو عقد عليها ثم أبرأها قبل الدخول بها فإنه لا عدة عليها لكونها غير مدخول بها ، فيجوز لآخر أن يتمتعها ويعمل بها ما عمل وهكذا حسبما شنعوا به على العامة ، ومنشأ الغلط في هذه المسألة هو أن العدة إنما تسقط بالنسبة إلى الزوج كما تقدم في كلام المحدث المتقدم ، فإنه يجوز له العقد عليها قبل انقضاء العدة لعدم وجوب الاستبراء من مائه الذي هو العلة في وجوب العدة ، وأما بالنسبة إلى غير الزوج فلا تسقط ، وطلاقه لها ثانيا بعد هذا العقد المجرد عن الدخول لا يؤثر في سقوط تلك العدة الاولى ، وإنما يؤثر في عدة هذا الطلاق ، والتمسك بظاهر الآية في المقام مغالطة ، فإنها إنما دلت على سقوط العدة في الطلاق أو الإبراء الثاني ولا نزاع فيه ، ومحل النزاع إنما هو العدة الاولى والإبراء الأول ، والآيات والروايات الدالة على وجوب العدة شاملة لهذه الصورة ، والسقوط إنما ثبت بالنسبة إلى الزوج خاصة بدليل خاص ، وأما غيره فعموم الآيات والروايات دال على وجوبها.

والذي يدل على ما ذكرنا من الاختصاص بالزوج ما رواه في الكافي (١) في

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٥٩ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٧٥ ب ٢٣ ح ٣.

٣٨٢

الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير عمن رواه قال : «إن الرجل إذا تزوج المرأة متعة كان عليها عدة لغيره ، فإذا أراد هو أن يتزوجها لم يكن عليها منه عدة يتزوجها إذا شاء».

وقد وقفت على رسالة في المتعة الظاهر أنها من تصانيف المحقق الفيلسوف العماد مير محمد باقر الداماد ، وقد جنح فيها إلى القول المشهور ولم يتفطن إلى ما فيه من القصور فصرح بأن المستمتعة المحتال في سقوط عدتها بذلك النحو لا عدة عليها لا للعقد الثاني ولا للأول.

وممن أنكر ذلك وصرح ببطلان هذه الحيلة شيخنا البهائي ـ رحمه‌الله عليه ـ في أجوبة مسائل الشيخ صالح الجزائري حيث قال بعد كلام في المقام : أما لو دخل بالمتمتع بها ثم أبرأها ثم تمتع بها وأبرأها قبل الدخول فالذي أعتمد عليه أنه لا تحل لغيره العقد عليها إلا بعد العدة ، ولا فرق بين الإبراء والطلاق ، وما يوجد في كتب الأصحاب من جواز ذلك لانخراطه في سلك المطلقات قبل الدخول لا أعول عليه ولا أقول به ، وللكلام فيه مجال واسع ليس هذا محله ، والله أعلم ، انتهى.

(ومنها) ما لو أراد التوصل إلى حل نظر يحرم عليه نظرها ، ولمس من يحرم عليه لمسها بأن يعقد الرجل بابنه الصغير متعة على امرأة بالغة لأجل أن يحل للأب نظر تلك المرأة المعقود عليها ولمسها ، أو يعقد الرجل بابنته الصغيرة على رجل لأجل أن يكون ذلك الرجل محرما لام البنت وجدتها يحل له نظرهما ولمسهما ونحو ذلك ، والظاهر عندي صحة ذلك وأنه يترتب على هذا العقد ما يترتب على عقود النكاح ، والمقصود منها النكاح ، وإن لم يكن هذا العقد مقصودا به النكاح ، وقد عرفت مما قدمنا نقله قريبا عن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أنه لا يشترط في صحة العقد قصد جميع غاياته المترتبة عليه بل يكفي قصد بعضها ، على أن ما تمسك به من توهم عدم جواز ذلك من أن العقود تابعة للقصود وقصد النكاح هنا غير موجود.

٣٨٣

وفيه (أولا) أنه إن أريد القصد ولو في الجملة فهو حاصل ، وإن أريد القصد إلى كل ما يترتب على ذلك العقد فعلى مدعي ذلك إثباته بالدليل ، مع أن ظاهر الأدلة كما سيظهر لك إنما هو خلاف ذلك.

(وثانيا) أن الظاهر من الأخبار على وجه لا يزاحمه الإنكار وهو انخرام هذه القاعدة وبطلان ما رتبوه عليها من هذه الفائدة كما لا يخفى على من جاس خلال ديار الأخبار والتقط من لذيذ تلك الثمار.

وها أنا أتلو عليك ما حضرني من الأخبار المشار إليها ، فمن ذلك الأخبار الواردة في التخلص من الربا والحيلة في دفعه.

ومنها ما رواه في الكافي (١) عن محمد بن إسحاق بن عمار قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن سلسبيل طلبت مني مائة ألف درهم على أن تربحني عشرة آلاف درهم ، فأقرضتها تسعين ألفا وأبيعها ثوبا أو شيئا يقوم على بألف درهم بعشرة آلاف درهم ، قال : لا بأس».

وما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن محمد بن إسحاق بن عمار أيضا قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يكون له المال قد حل على صاحبه ، يبيعه لؤلؤة تسوى مائة درهم بألف درهم ، ويؤخر عليه المال إلى وقت؟ قال : لا بأس ، قد أمرني أبي عليه‌السلام ففعلت ذلك. وزعم أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عنها فقال له مثل ذلك».

وروى المشايخ الثلاثة (٣) ـ رحمة الله عليهم ـ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألته عليه‌السلام عن الصرف ـ إلى أن قال : ـ فقلت له : أشتري ألف درهم ودينار بألفي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٥ ح ٩ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٧٩ ب ١٢ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٠٥ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ٥٣ ح ٢٨ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٨٠ ب ١٢ ح ٦ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٢٤٦ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ١٠٤ ح ٥١ ، الوسائل ج ١٢ ص ٤٦٦ ب ٦ ح ١ وما في المصادر اختلاف يسير.

٣٨٤

درهم؟ قال : لا بأس ، إن أبي كان أجرأ على أهل المدينة مني ، وكان يقول هذا فيقولون إنما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم : نعم الشي‌ء الفرار من الحرام إلى الحلال». إلى غير ذلك من الأخبار الواردة كذلك.

والتقريب فيها أنهم عليهم‌السلام قد حكموا بصحة بيع هذه الأشياء المذكورة بأضعاف ثمنها الواقعي توصلا إلى الخروج من الوقوع في الربا ، وأصل البيع غير مقصود البتة ، ولهذا أنكرته العامة العمياء ، وإنما المقصود ما ذكرناه ، والشارع قد سوغه وجوزه كما نقله عنه نوابه عليه‌السلام وخلفاؤه عليه‌السلام وبه يظهر أنه لا يشترط قصد جميع ما يترتب على ذلك العقد.

(ومنها) الأخبار الدالة على صحة بيع الآبق (١) مع ضميمة وإن كانت يسيرة والثمار قبل ظهورها أو بلوغ حد الصلاح مع الضميمة (٢) أيضا ، فلو لم يوجد الآبق ولم تخرج الثمار أو خرجت وفسدت كان الثمن في مقابلة الضميمة ، مع أن تلك الأثمان أضعاف ثمن هذه الضميمة واقعا والعقد أولا ، وبالذات لم يتوجه إلى بيع الضميمة بهذا الثمن الزائد البتة ، وهم عليهم‌السلام قد حكموا بصحة البيع فيها بهذا الثمن ، وإن كان الغرض من ضمها إنما هو التوصل إلى صحة بيع تلك الأشياء.

(ومنها) الأخبار الدالة على أن العقد المقترن بالشرط الفاسد صحيح وإن بطل الشرط كما هو أحد القولين في المسألة ، وجمهور الأصحاب وإن كانوا بناء على هذه القاعدة حكموا ببطلان العقد من أصله ، لأن المقصود بالعقد هو المجموع وأصل العقد مجردا عن الشرط غير مقصود فيكون باطلا ، لأن العقود تابعة للقصود

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٩ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٦٩ ح ١٠ ، الوسائل ج ٢ ص ٢٦٢ ب ١١ ح ١ و ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٧٦ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٨٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٩ ب ٣ ح ٢.

٣٨٥

فما كان مقصودا غير صحيح ، وما كان صحيحا غير مقصود ، إلا أن الأخبار ترده في جملة من الأحكام كما في صحيحة محمد بن قيس (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في الرجل يتزوج المرأة بمهر إلى أجل مسمى ، فإن جاء بصداقها إلى أجل مسمى فهي امرأته ، وإن لم يأت بصداقها إلى الأجل فليس له عليها سبيل ، وذلك شرطهم عليه حين أنكحوه ، فقضى للرجل أن بيده بضع امرأته وأحبط شرطهم». ونحوه صحيحته الأخرى أيضا.

وحسنة الحلبي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام الواردة في بريرة وأنها كانت مملوكة لقوم فباعوها عائشة واشترطوا أن لهم ولاءها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولاء لمن أعتق.

وروى الكليني (٣) عن الوشاء عن الرضا عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : لو أن رجلا تزوج امرأة وجعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا ، والذي جعل لأبيها فاسدا».

والسيد السند صاحب المدارك في شرح النافع حيث إنه من القائلين بهذه القاعدة التجأ في الواجب عن صحيحتي محمد بن قيس إلى قصرهما على مورديهما بعد أن حكم أنهما في حكم رواية واحدة ، ولم يعلم أن الدلالة على ما ذكرناه لا ينحصر فيهما ، مع أنه قد اعترف بما ذكرناه في رواية الوشاء المذكورة فقال : ويستفاد من هذه الرواية عدم فساد العقد باشتماله على هذا الشرط الفاسد ، انتهى.

(ومنها) الأخبار الدالة على أن عقد المتعة مع عدم ذكر الأجل فيه ينقلب دائما كما في موثقة عبد الله بن بكير (٤) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن سمى الأجل فهو متعة ، وإن لم يسم الأجل فهو نكاح بات».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٠٢ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٠ ب ١٠ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٧٩ ح ٤ ، الوسائل ج ١٦ ص ٤٠ ب ٣٧ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٨٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٩ ب ٩ ح ١.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٤٥٦ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٦٩ ب ٢٠ ح ١.

٣٨٦

ونحوها رواية أبان بن تغلب (١) ورواية هشام بن سالم (٢) كما تقدم جميع ذلك في المسألة المذكورة.

وقد استشكل جملة من متأخري المتأخرين بناء على هذه القاعدة في العمل بهذه الأخبار ، وهو مجرد استبعاد عقلي في مقابلة النصوص ، فإن الدلالة على هذا الحكم غير مختص لهذه الأخبار لما عرفت مما تلوناه من الأخبار المذكورة ، فإنها صريحة في رد القاعدة المذكورة وبمضمونها قال الأصحاب : فلا وجه لهذا الاستشكال ولا مستند لهذه القاعدة إلا مجرد العقل ، وإن دل بعض الأخبار في بعض الجزئيات على ما تضمنته ، إلا أنه ليس على وجه كلي يوجب كونه قاعدة كلية ، والأحكام الشرعية توقيفية تدور مدار الأدلة الشرعية وجودا وعدما ، وإن اشتهر بينهم ـ رضوان الله عليهم ـ تقديم الأدلة العقلية على الأدلة النقلية حتى أنهم في الكتب الاستدلالية تراهم في جملة الأحكام إنما يبدأون بالأدلة العقلية ثم يردفونها بالأدلة النقلية ، وهو غلط محض كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في جملة من زبرنا.

وبالجملة فإن الظاهر مما تلوناه من الأخبار المذكورة هو عدم الاعتماد على هذه القاعدة ، إلا أن تحمل على ما قدمنا ذكره آنفا من القصد ولو في الجملة ، وبه تنطبق على هذه الأخبار كما لا يخفى على ذوي الأفكار ، وفي هذه المسألة توهمات أخر قد بينا فسادها في كتابنا «الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية» من أحب الوقوف عليها فليرجع إليه.

(ومنها) ما لو كان عليه دين قد بري‌ء منه بالأداء إلى صاحبه ، أو إبراء صاحبه من ذلك الدين فادعى عليه وخاف من دعوى الأداء أو الإبراء أن تنقلب اليمين إلى المدعي لعدم البينة فأنكر الاستدانة من رأس ، فإنه يجوز له أن يحلف على ذلك بشرط التورية ليخرج من الكذب على ما صرح به الأصحاب من غير خلاف يعرف.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٥ ص ٤٥٥ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٧٠ ب ٢٠ ح ٢ و ٣.

٣٨٧

والمراد بالتورية بأن يقصد بمدلول اللفظ إلى أمر غير ما يدل ظاهر اللفظ بأن يقصد بقوله «ما استدنت منك» نفي الاستدانة في مكان مخصوص أو زمان مخصوص غير الزمان أو المكان الذي وضعت فيه الاستدانة واقعا ، أو يقصد نوعا من المال غير الذي استدانه فينوي في حال حلفه على أحد هذه الوجوه ما كان الضرورة حيث إنه بري‌ء الذمة واقعا غير مخاطب بالأداء شرعا. هذا إذا كان المدعى عليه مظلوما كما عرفت ، فإن التورية في يمينه لدفع ذلك الظلم حائزة شرعا.

وأما لو كان المدعي محقا فأنكر المدعى عليه وحلف موريا بها يخرجه عن الكذب فإنه لا تفيده التورية هنا ، لأن اليمين هنا على نية المدعي وقصده دون المدعى عليه ، فيترتب على هذه اليمين ما يترتب على من حلف بالله كاذبا من الإثم والمؤاخذة.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام ما رواه في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن عن صفوان قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يحلف وضميره على غير ما حلف عليه ، قال : اليمين على الضمير».

وما رواه في الكافي والفقيه (٢) عن إسماعيل بن سعد الأشعري في الصحيح عن الرضا عليه‌السلام مثله.

وما رواه في الكافي (٣) عن مسعدة بن صدقة قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : وسئل عما يجوز وما لا يجوز في النية على الإضمار في اليمين فقال :

قد يجوز في موضع ولا يجوز في آخر ، فأما ما يجوز فإذا كان مظلوما فيما حلف

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٤٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٥٠ ب ٢١ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٤٤ ح ٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٣٣ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٤٩ ب ٢١ ح ١.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٤٤٤ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٨٠ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٤٩ ب ٢٠ ح ١ وما في المصادر اختلاف يسير.

٣٨٨

عليه ونوى اليمين فعلى نيته ، وأما إذا كان ظالما فاليمين على نية المظلوم.

أقول : وبما دل عليه الخبر الثاني يجب تخصيص الخبر الأول بضمير المظلوم فقوله «اليمين على الضمير» يعني ضمير المظلوم ، وهو خاص بالصورة الاولى من الصورتين المتقدمتين ، ومن الخبر الثاني يظهر أن التورية في الصورة الثانية لا تفيد صاحبها فائدة لأنه عليه‌السلام حكم في هذه الصورة بأن اليمين على نية المظلوم وقصده ، فلا أثر للتورية حينئذ في هذه الصورة من الظالم ، ويظهر من جملة من الأخبار جواز الحلف في مثل هذه المقام والاخبار بغير الواقع وإن لم يرتكب التورية ، وموردها ما إذا لم يكن التوصل إلى حقه أو دفع الضرر عن نفسه إلا بتلك اليمين الكاذبة فإنه يجوز له الحلف والحال هذه ، وما نحن فيه من قبيل الثاني وهو دفع الضرر عن نفسه.

ومن الأخبار المشار إليها ما رواه في الفقيه (١) بطريقه إلى ابن بكير عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : نمر بالمال على العشار فيطلبون منا أن نحلف لهم ويخلون سبيلنا ، ولا يرضون منا إلا بذلك ، قال : فاحلف لهم ، فهو أحلى من التمر والزبد».

وما رواه في التهذيب (٢) في الصحيح عن الوليد بن هشام المرادي ـ وهو مهمل ـ قال : «قدمت من مصر ومعي رقيق ، ومررت بالعشار فسألني ، فقلت : هم أحرار كلهم. فقدمت المدينة فدخلت على أبي الحسن عليه‌السلام فأخبرته بقول العشار ، فقال : ليس عليك شي‌ء».

وما رواه في الفقيه (٣) في الصحيح عن الحلبي قال : «سألته عن الرجل يحلف

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٣٠ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٣٥ ب ١٢ ح ٦.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٨٤ ح ٨ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٨٩ ح ٦٠ ، الوسائل ج ١٦ ص ٧١ ب ٦٠ ح ١ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٢٣١ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٣٥ ب ١٢ ح ٨.

٣٨٩

لصاحب العشور ، يجوز بذلك ماله؟ قال : نعم».

وما رواه في الكافي (١) عن محمد بن مسعود الطائي قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام إن أمي تصدقت علي بدار لها ـ أو قال : بنصيب لها في دار ـ فقالت لي : استوثق لنفسك ، فكتبت إني اشتريت وأنها قد باعتني وأقبضت الثمن ، فلما ماتت قال الورثة : احلف إنك اشتريت ونقدت الثمن ، فإن حلفت لهم أخذته ، وإن لم أحلف لهم لم يعطوني شيئا ، قال : فقال : احلف وخذ ما جعلت لك».

وما رواه في الفقيه والتهذيب (٢) عن محمد بن أبي الصباح قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إن أمي تصدقت علي بنصيب لها في دار ، فقلت لها : إن القضاة لا يجيزون هذا ، ولكن اكتبيه شراء ، فقالت : اصنع من ذلك ما بدا لك في كل ما ترى أنه يسوغ لك ، فتوثقت ، فأراد بعض الورثة أن يستحلفني أني قد نقدتها الثمن ولم أنقدها شيئا ، فما ترى؟ فقال : احلف لهم».

واحتمال تقييد إطلاق هذه الأخبار بالأولة وإن أمكن إلا أن الظاهر أنه لا يخلو من بعد ، ومن أراد الاطلاع على ما يزيد ما ذكرنا من المواضع التي ذكرها الأصحاب في أمثلة الاحتيال فليراجع إلى مطولاتهم.

الفصل الثالث في العدد :

جمع عدة ، وهي على ما ذكره الجوهري (٣) أيام أقراء المرأة. ونحوه في القاموس ، (٤) وزاد أيام حدادها على الزوج. وفي النهاية الأثيرية (٥) عدة المرأة

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٢ ح ١٧ مع اختلاف يسير.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٢٢٨ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٨٧ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٠ ب ٩ ح ٥ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٣) الصحاح ج ٢ ص ٥٠٦.

(٤) القاموس ج ١ ص ٣٢٤ مع اختلاف يسير.

(٥) النهاية لابن الأثير ج ٣ ص ١٩٠.

٣٩٠

المطلقة والمتوفى عنها زوجها ما تعده من أيام أقرائها وأيام حملها ، أو أربعة أشهر وعشر ليال. وعرفها شيخنا الشهيد الثاني في المسالك (١) بأنها شرعا اسم لمدة معدودة تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها أو للتعبد أو التفجع على الزوج ، وشرعت صيانة للأنساب وتحصينا لها عن الاختلاط ، والأصل في وجوب العدة قبل الإجماع الآيات القرآنية والأخبار المعصومية عليهم‌السلام.

قال عز شأنه «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» (٢) «وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (٣) «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» (٤) «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها» (٥).

وأما الأخبار فهي متواترة متكاثرة وستمر بك ـ إن شاء الله تعالى ـ في الأبحاث الآتية.

قال في المسالك (٦) واعلم أن المدة المستدل بمضيها على براءة الرحم تتعلق تارة بالنكاح ووطء الشبهة وتشتهر باسم العدة ، واخرى بملك اليمين ، وإما حصولا في الابتداء أو زوالا في الانتهاء ، وتشتهر باسم الاستبراء ، والنوع الأول منه ما يتعلق بفرقة بين الزوجين ، وهو حي كفرقة الطلاق واللعان والفسوخ ، ويشمله عدة الطلاق لأنه أظهر أسباب الفراق ، وحكم العدة وطء الشبهة حكمها ، وإلى ما يتعلق بفرقة تحصل بموت الزوج وهي عدة الوفاة ، انتهى.

أقول : والكلام في هذا الفصل يقع في مقامات : الأول : أجمع العلماء من الخاصة والعامة على أنه لا عدة على الزوجة الغير المدخول بها ، سواء بانت بطلاق أو فسخ

__________________

(١ و ٦) مسالك الافهام ج ٢ ص ٣٤ مع اختلاف يسير.

(٢) سورة البقرة ـ آية ٢٢٨.

(٣) سورة الطلاق ـ آية ٤.

(٤) سورة البقرة ـ آية ٢٣٤.

(٥) سورة الأحزاب ـ آية ٤٩.

٣٩١

لأن الغرض منها براءة الرحم ، نعم خرج من هذا الحكم المتوفى عنها زوجها للاتفاق نصا وفتوى على وجوب العدة في الحال المذكور.

ومما يدل على نفي العدة في غير الوفاة الآية والأخبار المتكاثرة. قال الله عزوجل «ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها».

ومن الأخبار في ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب (١) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل إذا طلق امرأته ولم يدخل بها ، فقال : قد بانت منه وتزوج من ساعتها إن شاءت».

وما رواه في الكافي (٢) في الصحيح عن زرارة عن أحدهما عليهما‌السلام «في رجل تزوج امرأة بكرا ثم طلقها قبل أن يدخل بها ثلاث تطليقات في كل شهر تطليقة ، قال : بانت منه في التطليقة الاولى واثنتان فضل ، وهو خاطب يتزوجها متى شاءت وشاء بمهر جديد ، قيل له : فله أن يراجعها إذا طلقها تطليقة واحدة قبل أن تمضي ثلاثة أشهر؟ قال : لا ، إنما كان يكون له أن يراجعها لو كان دخل بها أولا ، فأما قبل أن يدخل بها فلا رجعة له عليها قد بانت منه ساعة طلقها».

وعن الحلبي (٣) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فليس عليها عدة تزوج من ساعتها إن شاءت ، وبينهما تطليقة واحدة ، وإن كان فرض لها مهرا فلها نصف ما فرض». إلى غير ذلك من الأخبار.

وأما ما ذكرنا من خروج عدة الوفاة عن هذا الضابط المذكور فستأتي

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٨٣ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٦٤ ح ١٢٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٠٤ ب ١ ح ٦ وما في المصادر «وتزوج ان شاءت من ساعتها».

(٢) الكافي ج ٦ ص ٨٤ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٠٣ ب ١ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٨٣ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٦٤ ح ١٣٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٠٤ ب ١ ح ٤ وما في المصادر «وتبينها» بدل «وبينهما».

٣٩٢

الأخبار الدالة عليه عند ذكر المسألة إن شاء الله تعالى.

بقي الكلام هنا في مواضع بها يتم تنقيح المقام : الأول : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب ـ إذ لم ينقل هنا خلاف في الباب ـ في أن المراد بالدخول الوطء قبلا أو دبرا وطئا موجبا للغسل.

واستدل على ذلك بقول أبي عبد الله عليه‌السلام في حسنة الحلبي (١) في رجل دخل بامرأة «إذا التقى الختانان وجب المهر والعدة». وبهذا المضمون أخبار عديدة.

وصحيحة عبد الله بن سنان (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ملامسة النساء هو الإيقاع».

وفي الصحيح عن عبد الله بن سنان (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سأله أبي وأنا حاضر عن رجل تزوج امرأة فأدخلت إليه فلم يمسها ولم يصل إليها حتى طلقها ، هل عليها عدة منه؟ فقال : إنما العدة من الماء ، قيل له : فإن كان واقعها في الفرج ولم ينزل؟ فقال : إذا أدخله وجب الغسل والمهر والعدة».

وفي الموثق عن يونس بن يعقوب (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : لا يوجب المهر إلا الوقاع في الفرج».

إلى غير ذلك من الأخبار التي من هذا القبيل ، وعندي فيما ذكروه ـ رحمة الله عليهم ـ من شمول الدخول المترتبة عليه هذه الأحكام المذكورة في هذه الأخبار للوطء في الدبر إشكال ، فإنى لم أقف على نص صريح في ذلك سيما مع ما تقدم من الخلاف نصا وفتوى في إيجاب الوطء في الدبر للغسل كما تقدم في كتاب الطهارة مع ترجيح العدم كما تقدم ، والاستناد في ذلك إلى هذه الأخبار

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٦ ص ١٠٩ ح ١ و ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٥ ب ٥٤ ح ٣ و ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٠٩ ح ٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٥ ب ٥٤ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٤٦٤ ح ٦٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٦ ب ٥٤ ح ٦.

٣٩٣

ونحوها لا يخلو من غموض.

قال السيد السند في شرح النافع بعد استدلال الأصحاب بصحيحة عبد الله ابن سنان الثانية : وربما تناول هذه الرواية بإطلاقها الوطء في الدبر ، انتهى.

ويضعف بأنه من المقرر في كلامهم كالقاعدة الكلية عندهم أن الإطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد المتكثرة الشائعة ، فإنها هي التي يحمل عليها الإطلاق ويتبادر إلى الفهم دون الفروض النادرة ، ولا ريب أن الفرد الشائع في الوطء إنما هو الجماع في القبل لأنه هو المندب إليه والمحثوث إليه سيما مع كراهة الآخر ، بل قيل بتحريمه. وبالجملة فالمسألة عندي لا تخلو من توقف وإشكال.

الثاني : نقل عن جمع من الأصحاب أنه لا فرق بين وطء الكبير والصغير وإن نقص سنه ، عن زمان إمكان التولد منه عادة لإطلاق النص.

قال في المسالك : واعلم أنه لا فرق بين وطء الصبي القاصر عن سن من يصلح للولادة له وغيره لوجود المقتضي ، وهو الوطء الذي جعل مناطا لها كوطء الكبير بتغيب الحشفة خاصة من غير إنزال ، ويتغلب جانب التعبد هنا نظرا إلى تعليق الحكم بالوجه المنضبط ، انتهى.

وعندي في المسألة نوع توقف لما عرفت من أن الطلاق في الأخبار إنما تحمل على الأفراد الشائعة المتعارفة المتكررة ، وهي هنا البالغ دون الصغير ، فإنه نادر بل مجرد فرض ، والحمل على البالغ الذي أولج من غير إنزال ـ كما ذكره ودلت عليه صحيحة عبد الله بن سنان الثانية ـ لا يخرج عن القياس.

والأحكام الشرعية كما قدمنا ذكره في غير موضع منوطة بالأدلة الصريحة الواضحة وهي هنا خفية وغير لائحة ، ويمكن الاستئناس لذلك بما تقدم في خبر الواسطي (١) المذكور في صدر الفصل الأول الدال على عدم حصول التحليل بالغلام الذي لم يحتلم حتى يبلغ ، فإن فيه إيماء إلى عدم ترتب الأحكام الشرعية على

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٦ ح ٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٦٧ ب ٨ ح ١.

٣٩٤

نكاح غير البالغ ، التي من جملتها التحليل. وبالجملة فالحكم عندي غير خال من شوب التوقف والاشكال.

الثالث : قد صرح جماعة من الأصحاب منهم شيخنا في المسالك وسبطه في شرح النافع بأنه يلحق بالوطء دخول المني المحترم في الفرج فيلحق به الولد إن فرض ، وتعتد بوضعه ، وظاهرهم عدم وجوب العدة بدون الحمل هنا ، وعندي فيه توقف أيضا لعدم الوقوف على نص يصلح دليلا لهذا الإلحاق.

الرابع : ظاهر كلام الأصحاب ـ وبه صرح في المسالك ـ وجوب العدة على مدخولة الخصي ، فإنه وإن لم ينزل ولكنه يولج فيكون بمنزلة الفحل الذي يولج ولا ينزل ، والمعتبر في هذا الباب هو الإيلاج خاصة كما عرفت ، وعليه دلت الأخبار.

ويدل على ما ذكروه من وجوب العدة هنا ما رواه في الكافي والفقيه (١) عن أبي عبيدة في الصحيح قال : «سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن خصي تزوج امرأة وفرض لها صداقا وهي تعلم أنه خصي ، فقال : جائز ، فقيل : فإنه مكث معها ما شاء الله ثم طلقها ، هل عليها عدة؟ قال : نعم ، أليس قد لذ منها ولذت منه» (٢) الحديث.

إلا أنه قد روى الشيخ في التهذيب (٣) في الصحيح عن أحمد بن محمد بن عيسى

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥١ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٨ ح ٥٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦٠٨ ب ١٣ ح ٤ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٢) وتمام الخبر المذكور «. قيل له : فهل كان عليها فيما كان يكون منه وفيها غسل؟ قال : فقال : ان كانت إذا كان ذلك منه أمنت ، فإن عليها غسلا ، وقيل له : فهل له أن يرجع بشي‌ء من صداقها إذا طلقها؟ فقال : لا».

أقول : ما دلت عليه من تخصيص وجوب الغسل عليها بحصول الأمناء منها دون مجرد الإيلاج كما هو القاعدة الكلية لا يخلو من التأمل لاستفاضة الأخبار بأنه إذا أدخله فقد وجب عليه الغسل والمهر والرجم. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٧٥ ح ٨٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٢ ب ٤٤ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

٣٩٥

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : «سئل الرضا عليه‌السلام عن خصي تزوج امرأة على ألف درهم ثم طلقها بعد ما دخل بها ، قال : لها الألف الذي أخذت منه ولا عدة عليها».

وجمع المحدث الكاشاني في الوافي (١) والمفاتيح بين الخبرين بحمل العدة في الخبر الأول على الاستحباب.

وفيه أن وجوب العدة هو مقتضى القواعد الشرعية والضوابط المرعية المستفادة من الأخبار المعصومية لما عرفت من دلالة الأخبار (٢) على أن مناط العدة هو الإيلاج وإن لم يحصل إنزال ، وإطلاق الأخبار شامل للخصي وغيره ، مؤيدا ذلك باتفاق الأصحاب على الحكم المذكور ، وتخرج صحيحة أبي عبيدة المذكورة شاهدة على ذلك ، فالواجب جعل التأويل في جانب الرواية الثانية المخالفة لتلك القواعد المذكورة ، لا الاولى.

ولو كان الرجل مجبوبا ـ وهو مقطوع الذكر وسليم الأنثيين ـ فالمشهور أنه لا عدة على المرأة لعدم حصول الدخول الذي هو مناط ذلك.

__________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٨٠ ب ١٨٧.

(٢) ومنها ما في حسنة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل دخل بامرأة ، قال : إذا التقى الختانان وجب الغسل والعدة».

وفي حسنة حفص بن البختري عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا التقى الختانان وجب المهر والعدة والغسل».

وفي حسنة داود بن سرحان عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا أولجه فقد وجب الغسل والجلد والرجم ووجب المهر».

وهذه الاخبار ونحوها كلها متعاضدة للدلالة على ترتب هذه الأشياء على الدخول من أى فرد كان من أفراد الرجال ، فلا وجه للفرق في ذلك بين العدة ووجوب المهر كما تضمنته صحيحة البزنطي المذكورة ، وبذلك يظهر أيضا ما في صحيحة أبي عبيدة مما قدمنا ذكره في الحاشية السابقة من جعل مناط الغسل الأمناء من المرأة دون مجرد الإيلاج. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٩٦

ونقل عن الشيخ في المبسوط وجوب العدة محتجا بإمكان المساحقة. ورد بأن مجرد الإمكان غير كاف في الوطء الكامل.

والحق في الجواب أن الحكم بالوجوب يتوقف على الدليل ، وغاية ما دلت عليه الأخبار هو إدخال الذكر على الوجه المتقدم ، وهو غير حاصل. نعم لو ظهر بها حمل لحقه الولد ، واعتدت حينئذ بوضعه كما ذكره الأصحاب.

وأما الممسوح الذي لم يبق له شي‌ء ولا يتصور منه دخول فقد صرح الأصحاب بأنه لو أتت منه بولد لم يلحقه على الظاهر ، ولا يجب على زوجته منه عدة ، وربما قيل : حكمه حكم المجبوب ، وهو بعيد.

الخامس : لا عدة للحامل من الزنا : بلا خلاف ، فيجوز لها التزويج قبل الوضع ، وأما مع عدمه فالمشهور أنه كذلك ، لأن الزنا لا حرمة له ، وبه علل الأول أيضا وأثبتها العلامة في التحرير. قال في المسالك : ولا بأس به ، حذرا من اختلاط المياه وتشويش الأنساب.

أقول : وهذا القول وإن ندر فهو المختار لما دل عليه من الأخبار ، ومنها ما رواه في الكافي (١) عن إسحاق بن جرير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : الرجل يفجر بالمرأة ثم يبدو له في تزويجها ، هل يحل له ذلك؟ قال : نعم إذا هو اجتنبها حتى تنقضي عدتها باستبراء رحمها من ماء الفجور فله أن يتزوجها ، وإنما يجوز له تزويجها بعد أن يقف على توبتها».

وما رواه الحسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول (٢) عن أبي جعفر محمد بن علي الجواد عليه‌السلام «أنه سئل عن رجل نكح امرأة على زنا ، أتحل له أن يتزوجها؟ فقال : يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره ، إذ لا يؤمن منها أن يكون

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٥٦ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٣٠ ب ١١ ح ٤ وج ١٥ ص ٤٧٦ ب ٤٤ ح ١.

(٢) تحف العقول ص ٤٥٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٧٦ ب ٤٤ ح ٢.

٣٩٧

قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه ، ثم يتزوج بها إذا أراد ، فإنما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراما فأكل منها حلالا».

وبذلك يظهر لك ما في قولهم إن الزنا لا حرمة له ، وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك (١) ويأتي إن شاء الله في المباحث الآتية ما يشير إليه أيضا.

السادس : المشهور أنه لا تجب العدة بالخلوة ، ونقل عن ابن الجنيد القول بالوجوب حيث قال على ما نقله عنه السيد السند في شرح النافع : الأغلب في من خلا بزوجته ، ولا مانع له عنها وقوع الوطء إن كانت ثيبا ، والالتذاذ بما ينزل به الماء إذا كانت بكرا ، وإن كان زمان اجتماعهما يمكن ذلك فيه حكم عليه بالمهر ، وعليها بالعدة إن وقع الطلاق ، إلا أنه ربما عرض أمور لا يمكن إشهادة على إيقاعه والإنسان على نفسه بصيرة.

أقول : قد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام في بحث المهور في كتاب النكاح (٢) وملخصه أن الموجب للمهر والعدة إنما هو المواقعة دون مجرد الخلوة إلا في مقام التهمة بأن يخلو بها ، وتدل القرائن على الوقاع ، ومع هذا يعترف الزوجان بعدمه ، فإنه لا يقبل قولهما لقيام التهمة.

وأما الأخبار الدالة بظاهرها على ثبوت ذلك بمجرد الخلوة فسبيلها الحمل على التقية دون ما ذكره أصحابنا من التأويل فإنه بعيد كما أوضحناه ثمة.

المقام الثاني : في المستقيمة الحيض ، وهي تعتد بثلاثة أقراء ، وهي الأطهار على الأشهر الأظهر إذا كانت حرة سواء كانت تحت حر أو عبد. وتفصيل هذا الإجمال على وجه يتضح به الحال يقع في مواضع :

__________________

(١) أقول : تقدم ذلك في التنبيهات ـ التي بعد الإلحاق ـ المشتملة على جملة من أحكام الزنا من المقام الثاني من المطلب الثالث فيما يحرم بالمصاهرة من كتاب النكاح. (منه ـ قدس‌سره ـ). راجع الحدائق ج ٢٣ ص ٥٠٢.

(٢) الحدائق ج ٢٤ ص ٥٠٥ ـ ٥١١.

٣٩٨

الأول : القرء ـ بالفتح والضم ـ يجمع على أقراء وقروء ، سواء كان بمعنى الطهر أو الحيض ، ونقل عن بعض أهل اللغة أنه بالفتح الطهر ويجمع على فعول كحرث وحروث وضرب وضروب ، والقرء بالضم الحيض ويجمع على أقراء مثل قفل وأقفال.

قال في المسالك (١) بعد نقل ذلك : والأشهر عدم الفرق بين الضم والفتح وأنه يقع على الحيض والطهر جميعا بالاشتراك اللفظي أو المعنوي.

أقول : في كتاب المصباح المنير (٢) للفيومي : والقرء فيه لغتان : الفتح وجمعه قرء وأقراء مثل فلس وإفلاس وأفلس ، والضم ويجمع على أقراء مثل قفل وأقفال ، قال أئمة اللغة : ويطلق على الطهر والحيض ، وحكاه ابن فارس أيضا. انتهى ، وهو ظاهر في القول المشهور كما أشار إليه شيخنا المذكور.

وكيف كان فقد اختلفوا في إطلاق هذا اللفظ عليهما فقيل : إنه حقيقة في الطهر مجاز في الحيض ، فإن القرء بمعنى الجمع والطهر هو الذي يجمع الدم في بدنها ويحبسه في الرحم ، وقيل بالعكس لأن المرأة لا تسمى من ذوات الأقراء إلا إذا حاضت ، وقيل : الأشهر الأظهر أنه مشترك بينهما كسائر الأسماء المشتركة ، ورجح الأولان بأن المجاز خير من الاشتراك ، ويرده نص أهل اللغة على الاشتراك كما عرفت من عبارة المصباح المنير ، ولا رجحان للمجاز عليه بعد ثبوته.

الثاني : المراد بالمستقيمة الحيض هي من كان الحيض يأتيها على عادة النساء في كل شهر مرة ، وفي معناها من كانت تعتاد الحيض فيما دون الثلاثة أشهر ، فإن حكمها الاعتداد بالأقراء كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وفسرها شيخنا في المسالك (٣) بأنها معتادة الحيض وقتا وعددا ، وفي حكمها

__________________

(١) مسالك الافهام ج ٢ ص ٣٥.

(٢) المصباح المنير ج ١ ص ٦٨٧ مع اختلاف يسير.

(٣) قال قدس‌سره : المراد بمستقيمة الحيض معتادة الحيض

٣٩٩

معتادته وقتا خاصة وأورد عليه بأنه غير واضح ، لأن من اعتادت الحيض فيما زاد على ثلاثة أشهر لا تعتد بالأقراء وإن كانت لها عادة وقتا وعددا ، انتهى وهو جيد.

الثالث : لا خلاف بين العلماء من الخاصة والعامة في أن الحرة المطلقة المدخول بها ومن في معناها إذا كانت على الوجه المتقدم تعتد بثلاثة أقراء كما قال عز شأنه «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ» (١) وهو خبر في معنى الأمر.

وإنما الخلاف في المراد من الآية وأنه أي المعنيين الطهر أو الحيض؟ لما عرفت من إطلاقه عليها ، والمعروف من مذهب الأصحاب أنه الطهر : وعليه تدل جملة من الأخبار ، وقيل : إنه الحيض ، وعليه تدل جملة منها أيضا.

فمن الأخبار الدالة على الأول ما رواه في الكافي (٢) عن زرارة في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قلت له : أصلحك الله رجل طلق امرأته على طهر من غير جماع بشهادة عدلين ، فقال : إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها وحلت للأزواج ، قلت له : أصلحك الله إن أهل العراق يروون عن علي عليه‌السلام أنه قال : هو أحق برجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة ، فقال : كذبوا».

وعن زرارة (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام في الصحيح قال : «المطلقة إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة فقد بانت منه».

وعن زرارة (٤) في الموثق بأسانيد عديدة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أول دم رأته

__________________

وقتا وعددا ، وان استحيضت بعد ذلك فإنها ترجع في الحيض الى عادتها وتجعل ما سواها طهرا وفي حكمها المعتادة وقتا خاصة لأنها بحسب أوله مستقيمة الحيض ، وانما يلحق بالمضطربة في آخره. انتهى (منه ـ قدس‌سره ـ).

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٢٨.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٨٦ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١٢٣ ح ٢٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٢٦ ب ١٥ ح ١ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٣ و ٤) الكافي ج ٦ ص ٨٧ ح ٢ و ٦، الوسائل ج ١٥ ص ٤٢٨ ب ١٥ ح ٧ و ٩.

٤٠٠