الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

وأنت خبير بأن المسألة وإن كانت خالية من النص في هذه الصورة إلا أن مقتضى ما قدمنا نقله عنهم في كتاب النكاح في مسألة ارتداد أحد الزوجين (١) ـ من أنه متى كانت المرتدة المرأة وكان ذلك قبل الدخول انفسخ العقد بينهما في الحال ، وإن كان بعد الدخول كان الفسخ وعدمه مراعى بانقضاء العدة وعدمه ، فإن انقضت العدة ولم ترجع إلى الإسلام فقد بانت منه ـ هو جريان هذا الحكم فيما نحن فيه ، فإنها في العدة وإن كانت زوجته يجوز مراجعتها كما يجوز تزويجها ابتداء ، إلا أنها بالارتداد قد عرض لها ما يوجب انفساخ الزوجية إما في الحال كما لو لم يكن ثمة دخول ، وإما مراعى بانقضاء العدة في صورة الدخول ، فالرجوع إليها في حال الارتداد وإن كان في العدة ، إلا أن الارتداد قد أوجب فسخ النكاح هنا ، كما أوجبه لو لم يكن ذات عدة رجعية بل زوجة أصلية ، إلا أنه يمكن أن يقال بصحة الرجعة لا صحة مستقرة ، بل مراعاة بعدم انقضاء العدة على الارتداد ، بمعنى أنه لو رجعت إلى الإسلام قبل انقضائها استقرت صحة الرجعة ، وإلا تبين فسادها ، كما أنها بالارتداد تنفسخ زوجيتها انفساخا مراعى بانقضاء العدة على الارتداد ، فلو رجعت إلى الإسلام قبل انقضائها بقيت على الزوجية السابقة.

الرابع : لو طلق وراجع فأنكرت الدخول بها أولا وزعمت أن لا عدة عليها ولا رجعة فالقول قولها بيمينها ، لأنها تدعي ما يوافق الأصل ، إذ الأصل عدم الدخول ، وحينئذ فإذا حلفت بطلت رجعته التي يدعيها عليها ولا نفقة لها ولا سكنى ولا عدة عليها ، وجاز لها أن تنكح زوجا غيره في الحال ، وليس له أن ينكح أختها ، ولا أربعا غيرها لاعترافه بأنها زوجته.

بقي الإشكال في المهر ، فإن مقتضى كلام الزوج أن لها المهر كملا ، ومقتضى كلامها أنه إنما تستحق بالنصف خاصة لدعواها عدم الدخول بها ، وحينئذ فإن

__________________

(١) وهي المسألة الثانية من المطلب السادس في الكفر من الفصل الثاني في أسباب التحريم. (منه ـ قدس‌سره ـ). راجع الحدائق ج ٢٤ ص ٢٥.

٣٦١

كانت قد قبضت المهر كملا فليس للزوج مطالبتها بشي‌ء لاعترافه باستحقاقها إياه ، لكن لا يجوز لها التصرف في أزيد من النصف ، ولو لم تقبضه لم يجز لها أن تقبض إلا النصف خاصة.

وكيف كان فينبغي أن يقبض الحاكم النصف الآخر من يدها أو يده ، لأنه مال لا يدعيه أحد ، وحفظ مثل ذلك وظيفة الحاكم الشرعي ، ولا يبعد أن الحكم فيه الصرف في وجوه البر ، وله نظائر عديدة في الأخبار.

ولو انعكس الحكم فادعت المرأة الدخول وأنكر الزوج فالقول قوله بيمينه ، وحينئذ فإذا حلف فلا رجعة ولا سكنى ولا نفقة لها عليه ، وعليها العدة لادعائها الدخول ، ويرجع بنصف الصداق إن كانت قبضته ، ولو لم تقبضه رجعت عليه بالنصف خاصة».

الخامس : المشهور بين الأصحاب أن رجعة الأخرس بالإشارة المفهمة لها كغيرها من عقوده وإيقاعاته ، ونقل عن الصدوقين أنه أخذ القناع من رأسها.

أقول : قال الشيخ علي بن الحسين في رسالته إلى ولده (١) «الأخرس إذا أراد أن يطلق امرأته ألقى على رأسها قناعها يريها أنها قد حرمت عليه ، وإذا أراد مراجعتها كشف القناع عنها يرى أنها قد حلت» ونحو ذلك في كتاب المقنع لابنه ، وهذا القول قد جعله الشيخ وابن البراج رواية ، وكذلك المحقق في النافع أسنده إلى الرواية.

قال السيد السند في شرح النافع : ولم نقف عليها في شي‌ء من الأصول. نعم روى الكليني (٢) عن السكوني عن الصادق عليه‌السلام «أنه قال : طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها فيضعها على رأسها ويعتزلها». ونسب هذا القول في الشرائع إلى الشذوذ.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٣٣ ذيل ح ١ وفيه «يرى أنها قد حرمت عليه».

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٢٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٩٢ ح ٢٣٣ وفيه «عن على بن أبي حمزة» مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٠ ب ١٩ ح ٣.

٣٦٢

ويقرب في البال أن العبارة المنقولة عن الشيخ علي بن بابويه مأخوذة من كتاب الفقه الرضوي (١) على النهج الذي قد عرفت في غير موضع ، إلا أن كتاب الفقه الرضوي الذي عندي لا يخلو من غلط وسقط في هذا المكان ، فإنه عليه‌السلام عد طلاق الأخرس في أفراد الطلاق التي ذكرها في أول الباب وفي مقام التفصيل ، وبيان كل فرد فرد من تلك الأفراد لم يتعرض لطلاق الأخرس بالكلية ، فليلاحظ ذلك من نسخة اخرى.

وكيف كان فينبغي حمل ذلك على ما إذا فهم من ذلك الطلاق والرجعة ، فيرجع إلى ما هو المشهور ، لأن ذلك من جملة إشاراته المعتبرة في ذلك.

السادس : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه إذا ادعت الزوجة انقضاء العدة بالحيض في زمان يمكن فيه ذلك ـ وأقله ستة وعشرون يوما ولحظتان (٢) كما سيجي‌ء إن شاء الله تعالى ـ كان قولها مقبولا في ذلك.

ويدل عليه ما رواه ثقة الإسلام (٣) في الصحيح أو الحسن عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الحيض والعدة إلى النساء إذا ادعت صدقت».

وما رواه الشيخ (٤) في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «العدة والحيض إلى النساء».

روى أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (٥) عن الصادق عليه‌السلام في قوله

__________________

(١) فقه الرضا ص ٢٤٨.

(٢) وتوضيحه بأن يطلق وقد بقي من الطهر لحظة ، ثم تحيض أقل الحيض ثلاثة أيام ، ثم تطهر أقل الطهر عشرة ، ثم تحيض أيضا ثلاثة أيام ، ثم تطهر عشرة ، ثم تدخل في الحيض بلحظة ، وبذلك يحصل القدر المذكور وتخرج من العدة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٣ و ٤) الكافي ج ٦ ص ١٠١ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١٦٥ ح ١٧٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤١ ب ٢٤ ح ١ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٥) تفسير مجمع البيان ج ٢ ص ٣٢٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤١ ب ٢٤ ح ٢.

٣٦٣

تعالى «وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ» قال : قد فوض الله إلى النساء ثلاثة أشياء الحيض والطهر والحمل».

وجملة من الأصحاب قد استدلوا بالآية المذكورة بتقريب أنه لو لا قبول قولهن في ذلك لم يؤتمن في الكتمان ، وإطلاق النصوص المذكورة يقتضي عدم الفرق بين دعوى المعتاد وغيره.

وأما ما رواه الصدوق في الفقه (١) مرسلا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام «أنه قال في امرأة ادعت أنها حاضت في شهر واحد ثلاث حيض أنه يسأل نسوة من بطانتها هل كان حيضها فيما مضى على ما ادعت؟ فإن شهدت صدقت وإلا فهي كاذبة». فقد حمله الشيخ في كتابي الأخبار على المتهمة جمعا بين الأخبار ، وهو جيد لما تقدم قريبا من الأخبار المؤيدة لهذه الأخبار الدالة على قبول قولها في أمثال هذه الأمور.

وأما ما قربه الشهيد في اللمعة (٢) من أنه لا يقبل من المرأة دعوى غير المعتاد إلا بشهادة أربع من النساء المطلعات على باطن أمرها ، وادعى أن ذلك ظاهر الروايات فلا أعرف له وجها ، إذ ليس سوى رواية السكوني المذكورة مع معارضتها بما هو أكثر عددا وأصح سندا وأصرح دلالة ، فيتعين حملها على المتهمة كما ذكره الشيخ. هذا كله فيما إذا لم يكن لها مقابل في دعواها ولا منازع فإنه يقبل قولها بغير يمين ويجوز لها التزويج ، أما لو أنكر الزوج ما ادعته من الخروج من العدة فإنه يتوجه عليها اليمين وتخرج المسألة عما نحن فيه كما تقدمت الإشارة إليه.

__________________

(١) الفقيه ج ١ ص ١٠٠ ح ٢٠٧ طبع مكتبة الصدوق ، التهذيب ج ٨ ص ١٦٦ ح ١٧٥ عن السكوني ، الوسائل ج ٢ ص ٥٩٦ ب ٤٧ ح ٣ عن إسماعيل بن أبي زياد ، وما في المصادر اختلاف يسير.

(٢) حيث قال في الكتاب المذكور : وظاهر الروايات أنه لا يقبل منها غير المعتاد إلا بشهادة أربع من النساء المطلعات على باطن أمرها. وهو قريب ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٦٤

قال في شرح النافع بعد أن ذكر نحو ذلك : وهو مقطوع به في كلام الأصحاب ، ولو ادعت المرأة انقضاء العدة بالأشهر فالظاهر أنه إن لم يكن لها مقابل ولا راد لدعواها فإنه يقبل قولها عملا بالأخبار المتقدمة ، وإن أنكر الزوج ذلك فإنه لا يقبل قولها ، والقول قول الزوج بيمينه كما ذكره الأصحاب أيضا.

قال في المسالك : لأن هذا الاختلاف راجع في الحقيقة إلى وقت الطلاق ، والقول قوله فيه كما تقدم قوله في أصله ، ولأنه مع دعوى بقاء العدة يدعي تأخر الطلاق ، والأصل فيه معه لأصالة عدم تقدمه في الوقت الذي تدعيه ، انتهى.

ولو كانت من ذوات الحمل فادعت وضعه قال في المسالك : صدقت أيضا بيمينها مع إمكانه لما تقدم ، ويختلف الإمكان بحسب دعواها ، فإن ادعت ولادة ولد تام فأقل مدة تصدق فيها ستة أشهر ولحظتان من يوم النكاح ، لحظة لإمكان الوطء ولحظة للولادة ، فإن ادعت أقل من ذلك لم تصدق ، وإن ادعت سقطا مصورا أو مضغة أو علقة اعتبر إمكانه عادة.

وربما قيل : إنه مائة وعشرون يوما ولحظتان في الأول ، وثمانون يوما ولحظتان في الثاني ، وأربعون ولحظتان في الثالث ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «يجمع أحدكم في بطن امه أربعون يوما نطفة ، وأربعون يوما علقة ، وأربعون يوما مضغة ، ثم ينفخ فيه الروح». وحيث قدم قولها في ذلك لم تكلف إحضار الولد لعموم الأدلة وجواز موته وتعذر إحضاره ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن ظاهر الأخبار المتقدمة الدالة على أنها مصدقة في العدة هو شمول العدة لجميع أفرادها من كونها بالحيض أو الأشهر أو وضع الحمل ، وحينئذ فلا وجه لاشتراط اليمين هنا في تصديقها دون الفردين المتقدمين ، وطلب اليمين

__________________

(١) وقريب منه ما جاء في الوسائل ج ١٩ ص ٢٤٠ ب ١٩ ح ٨ و ٩ ، والبحار عن النبي (ص) ج ٦٠ ص ٣٦٠ ح ٤٩ ، وجاء لفظ الحديث مع اختلاف يسير في صحيح مسلم بشرح النوري ج ١٦ ص ١٨٩ كتاب القدر ح ١.

٣٦٥

منها إنما هو في مقام ظهور منازع فيما ادعته كما تقدم ، سواء كان في هذا الموضع وغيره ، وأما مع عدمه فقضية الأخبار المذكورة قبول قولها من غير يمين.

بقي التقييد بإمكانه وهو مما لا بأس به ، في هذا الموضع وما تقدم أيضا.

وأما ما نقله من الخبر النبوي فيما إذا ادعت سقطا كاملا أو مضغة أو علقة ، وأن الخبر المذكور دليل للقول الذي نقله ففيه أن الظاهر أن الخبر المذكور ليس من طريقنا لعدم وجوده في أخبارنا ، إلا أن نظيره مما ورد بمعناه قد ورد في الأخبار عنهم عليهم‌السلام ، والظاهر أنه لم يخطر بباله يومئذ وإلا لنقله واستدل به ، بل رجح هذا القول على ما ذكره أولا لدلالتها عليه.

فمن الأخبار الدالة على ذلك ما رواه في الكافي (١) في الموثق عن الحسن بن الجهم قال : «سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما ، ثم تصير علقة أربعين يوما ، ثم تصير مضغة أربعين يوما ، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين» الخبر.

وعن زرارة (٢) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل قال فيه : «فتصل النطفة إلى الرحم فتردد فيه أربعين يوما ، ثم تصير مضغة أربعين يوما» الحديث.

وفي رواية محمد بن إسماعيل (٣) أو غيره عن أبي جعفر عليه‌السلام قال فيها «فإنه أربعين ليلة نطفة وأربعين ليلة علقة وأربعين ليلة مضغة ، فذلك تمام أربعة أشهر ، ثم يبعث الله ملكين خلاقين» الخبر.

وبذلك يظهر لك رجحان القول المذكور لدلالة هذه الأخبار الصحيحة الصريحة عليه دون ما ذكره أولا.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٣ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٣ ح ٤ وفيه «فتردد فيه أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوما ثم تصير.».

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٦ ح ٦.

٣٦٦

فرع

قالوا : إذا ادعت الحمل فأنكر الزوج وأحضرت ولدا فأنكر ولادتها له فالقول قوله لإمكان إقامة البينة بالولادة.

أقول : الفرق بين هذا الحكم وما تقدم من تقديم قولها في الوضع هو الاتفاق ثمة على الحمل وأنه من الزوج وإنما الاختلاف في الولادة ، ولا ريب أن المرجع إليها في ذلك للآية والرواية.

وأما هنا فإن الزوج ينكر الحمل فضلا عن وضعه ، فالقول قوله بيمينه لأصالة عدم الحمل ، ولا فرق بين أن تحضر ولدا أو تدعي ولادته ، فلا يلحق به بمجرد دعواها لجواز التقاطها له ، وإنما يلزمه الاعتراف بما علم ولادته على فراشه لا ما تدعي المرأة ولادته كذلك ، وحينئذ فلا يحكم بانقضاء العدة بذلك بل يفتقر إلى مضي عدة بالأقراء أو الأشهر فيرجع إليها فيها وإن كذبت في الآخر.

السابع : لو ادعى الزوج بعد انقضاء العدة أو بعد أن تزوجت أنه قد رجع فيها في العدة ، قال في المسالك : نظر ، فإن أقام الأول عليها بينة فهي زوجته سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل ، ويجب لها مهر المثل على الثاني إن دخل بها ، وإن لم يكن بينة وأراد التحليف سمعت دعواه على كل منهما. ثم ساق الكلام في صورة الدعوى على الزوجة وما في المسألة من الشقوق وصورة الدعوى على الزوج الثاني وما يترتب على ذلك.

قال شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني في أجوبة المسائل الحسنية : إذا طلقها ورجع وأشهد على الرجعة وأقام بينة شرعية بذلك حكم له بها وإن تزوجت عند الأصحاب كما يستفاد من كلامهم ، وممن صرح بذلك شيخنا الشهيد الثاني ـ ثم قال بعد نقل كلام شيخنا الشهيد الثاني رحمه‌الله عليه بتمامه ـ ما لفظه : وفي الكل إشكال لعدم الظفر بنص في ذلك كله إلا أن أصل

٣٦٧

المسألة ليس بموضع إشكال عندهم كما يعرف من كلامهم ، وإن كان عندي أيضا فيها توقف ، وهذه هي المسألة التي وقع النزاع فيها بين الشيخ الثقة الجليل زين الدين علي بن سليمان القدمي البحراني والشيخ أحمد ابن الشيخ محمد بن علي بن يوسف بن سعيد المشاعي الاصبعي ، وقد حكم الشيخ أحمد بقبول الدعوى مع قبول البينة ، وألحقها بالأول ومنع الثاني ، وخالفه الشيخ علي وحكم بها للثاني ولم يسمع دعوى الأول احتجاجا بأن الرجوع لا بد فيه من الاعلام في العدة ، والنكاح قد وقع صحيحا مطابقا للشرع ، فلا يكفي الرجوع الذي لم يحصل العلم به إلا بعد التزويج ، واستفتيا فيها فقهاء العصر وكتبا فيها إلى سائر البلدان كشيراز وأصفهان ، فصححوا كلام الشيخ أحمد وخطأوا الشيخ عليا ، والحق أن هذا هو ظاهر كلام الأصحاب لأنهم لم يشترطوا في صحة الرجوع الاعلام ، وليس هو من باب عزل الوكيل ـ كما يجي‌ء بيانه ـ وإن كان لي فيها تأمل لعدم النص الصريح في المسألة ، انتهى كلامه.

أقول : لا ريب أن ظاهر كلمة الأصحاب الاتفاق على القول بأنه يملك رجعتها متى رجع في العدة وإن لم يبلغها الخبر ، وأنه بالإشهاد على الرجعة يسترد نكاحها لو نكحت غيره مع عدم بلوغها الخبر.

قال في المسالك : الرابع : أن يقع النزاع بعد ما نكحت ، ثم جاء الأول فادعى الرجعة سواء كان عذرهما في النكاح لجهلهما بالرجعة أم نسبتهما إلى الخيانة والتلبيس نظر ، فإن أقام عليها بينة. إلى آخر ما تقدم.

وقال العلامة في القواعد ولا يشترط علم الزوجة في الرجعة ولا رضاها ، فلو لم تعلم وتزوجت ردت إليه ، وإن دخل الثاني بعد العدة ولا يكون الثاني أحق بها. انتهى ، وعبارته وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ثبوت الرجعة وعدمه إلا أن مراده بعد الثبوت بالشهادة لما صرح به قبيل هذا الكلام من قوله «ويستحب الاشهاد» وليس شرطا ، لكن لو ادعى بعد العدة وقوعها فيها لم تقبل دعواها إلا بالبينة.

٣٦٨

وقال في التحرير : ولا يشترط في صحة الرجعة إعلام الزوجة ولا الشهادة بها ، فلو راجعها بشهادة اثنين وهو غائب في العدة صحت الرجعة ، فإن تزوجت حينئذ كان فاسدا سواء دخل الثاني أو لا ، ولا مهر على الثاني مع عدم الدخول ولا عدة ، ومع الدخول المهر والعدة ، وترجع إلى الأول بعدها. إلى غير ذلك من عباراتهم التي يقف عليها المتتبع.

والعجب من شيخنا المحدث الصالح المتقدم ذكره في إنكار النصوص على ما ذهب إليه الأصحاب لعدم اطلاعه عليها في هذا الباب مع أنها موجودة مكشوفة القناع واجبة الاتباع ، وكذا ظاهر ما نقله عن الشيخين الجليلين في القضية التي نقلها والاستفتاء في المسألة إلى البلدان ، مع أن إخبارها واضحة البيان فيما ذكره علماؤنا الأعلام.

والذي وقفت عليه من ذلك ما رواه في الكافي (١) بسند صحيح إلى المرزبان قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل قال لامرأته : اعتدي فقد خليت سبيلك ، ثم أشهد على رجعتها بعد أيام ثم غاب عنها قبل أن يجامعها حتى مضت لذلك شهر بعد العدة أو أكثر ، فكيف تأمره؟ فقال : إذا أشهد على رجعته فهي زوجته».

أقول : ظاهر هذه الرواية كما ترى واضحة الدلالة على أنه بمجرد الاشهاد على الرجعة في العدة تثبت الزوجية كما هو المشهور بلغها الخبر أو لم يبلغها ، تزوجت بعد العدة لعدم بلوغ الخبر أو لم تتزوج ، وليس في سند هذا الخبر من ربما يتوقف في شأنه سوى المرزبان ، وهو ابن عمران بن عبد الله ، وقد ذكر النجاشي (٢) أن له كتابا وهو مؤذن بكونه من أصحاب الأصول ، وروى الكشي (٣) حديثا يشعر بحسن

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٤٣ ح ٤٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٣ ب ١٥ ح ١ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٢) رجال النجاشي ص ٤٢٣ تحت رقم ١١٣٤ طبع مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

(٣) رجال الكشي ص ٤٢٦ تحت رقم ٣٦٦.

٣٦٩

حاله ، ولهذا عد شيخنا المجلسي في الوجيزة حديثه في الحسن.

وما رواه في الكافي (١) عن الحسن بن صالح قال : «سألت جعفر بن محمد عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته وهو غائب في بلدة اخرى وأشهد على طلاقها رجلين ثم إنه راجعها قبل انقضاء العدة وقد تزوجت ، فأرسل إليها : إني كنت قد راجعتك قبل انقضاء العدة ولم اشهد ، قال : لا سبيل له عليها ، لأنه قد أقر بالطلاق وادعى الرجعة بغير بينة فلا سبيل له عليها ، ولذلك ينبغي لمن طلق أن يشهد ، ولمن راجع أن يشهد على الرجعة كما أشهد على الطلاق ، وإن كان قد أدركها قبل أن تزوج كان خاطبا من الخطاب».

والتقريب فيها أن قوله «وادعى الرجعة بغير بينة فلا سبيل له عليها» يدل بمفهومه على أنه لو كان له بينة على الرجعة كان له سبيل عليها مؤكدا ذلك بالأمر لمن راجع أن يشهد على الرجعة كما يشهد على الطلاق حتى يثبت الزوجية في الأول كما ينبغي في الثاني.

وما رواه الشيخ (٢) عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عليه‌السلام «في رجل أظهر طلاق امرأته وأشهد عليه وأسر رجعتها ثم خرج ، فلما رجع وجدها قد تزوجت ، قال : لا حق له عليها من أجل أنه أسر رجعتها وأظهر طلاقها». والتقريب فيه كما في سابقه.

ويؤيد ذلك أيضا إطلاق جملة من الأخبار مثل قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم (٣) «وأن الرجعة بغير شهود رجعة ، ولكن ليشهد بعد فهو أفضل». وقوله عليه‌السلام أيضا في حديث آخر لمحمد بن مسلم (٤) «وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تنقضي أقراؤها». وفي ثالث لمحمد بن مسلم (٥) أيضا

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٨٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٣ ب ١٥ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٤٤ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٤ ب ١٥ ح ٥ وفيهما «عن آبائه عن على».

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٤٢ ح ٤٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧١ ب ١٣ ح ٣.

(٤ و ٥) الكافي ج ٦ ص ٦٤ ح ١ وص ٧٣ ح ٤، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧١ ب ١٣ ح ٤ و ٦.

٣٧٠

عنه عليه‌السلام «وقد سئل عن رجل طلق امرأته واحدة ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها ولم يشهد على رجعتها ، قال : هي امرأته ما لم تنقض العدة ، وقد كان ينبغي له أن يشهد على رجعتها فإن جهل ذلك فليشهد حين علم ، ولا أرى بالذي صنع بأسا» الحديث.

إلى غير ذلك مما هو على هذا المنوال ، فهي كما ترى شاملة بإطلاقها لما لو علمت المرأة أو لم تعلم ، تزوجت أو لم تزوج ، فإنها بمجرد الرجعة في العدة تكون زوجته شرعا واقعا ، وإنما الإشهاد على ذلك لدفع النزاع وثبوت الزوجية في الظاهر ، فلو فرضت أن الزوجة صدقته ووافقته على دعواه قبل التزويج بغيره صح نكاحه لها ، فتوقف شيخنا المحدث الصالح ـ رحمة الله عليه ـ في المسألة لعدم النص عجيب ، وأعجب منه حكم شيخنا قدوة المحدثين ورئيس المحققين الشيخ علي بن سليمان المتقدم ذكره بعدم صحة الرجعة لعدم بلوغ الخبر لها في العدة لما ذكره من التعليل في مقابلة الأخبار المذكورة ، وإن أمكن أن يقال : إنه لا ريب أن ما ذكره من التعليل المذكور قوي متين لأن الأحكام الشرعية لم تبن على ما في نفس الأمر والواقع ، والنكاح الذي وقع أخيرا وقع صحيحا بحسب ظاهر الشرع ، وإبطاله بمخالفة ما في نفس الأمر مشكل لما ذكرناه ، إلا أنه لما دلت الأخبار المذكورة على خلافه وجب الخروج عنه.

ولكن يؤيد ما ذكره شيخنا المذكور بل يدل على ذلك صريحا ما رواه في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن الذي لا يقصر عن الصحيح بإبراهيم بن هاشم عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنه قال في رجل طلق امرأته وأشهد شاهدين ، ثم أشهد على رجعتها سرا منها واستكتم الشهود فلم تعلم المرأة بالرجعة حتى انقضت عدتها ، قال : تخير المرأة ، فإن شاءت زوجها وإن شاءت غير ذلك ، وإن تزوجت قبل أن تعلم بالرجعة التي أشهد عليها زوجها فليس للذي طلقها عليها

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٥ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٣ ب ١٥ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

٣٧١

سبيل ، وزوجها الأخير أحق بها».

وهي كما ترى صريحة فيما ذهب إليه شيخنا الشيخ علي المذكور ، ولعل اعتماده فيما ذهب إليه إنما كان على هذه الرواية سيما مع صحتها وصراحتها وضعف ما يقابلها وإن لم ينقل ذلك عنه في الحكاية المتقدمة ، فإن الشيخ المذكور في الاطلاع على الأخبار وما اشتملت عليه من الأسرار كان ممن لا ثاني له ، ولهذا اشتهر في بلاد العجم تسميته بأم الحديث في وقته ، وبذلك يظهر لك بقاء المسألة في قالب الاشكال.

وفي بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا المجلسي المولى محمد باقر على هذا الخبر ما صورته : ظاهره اشتراط علم الزوجة في تحقق الرجعة ، ولم أر به قائلا ويمكن حمله على ما إذا لم يثبت بالشهود ، وهو بعيد ، انتهى.

وأصحابنا لم يتعرضوا للكلام في هذه الأخبار ، أما في كتب الاستدلال كالمسالك ونحوه فإنهم لم يتعرضوا لنقل شي‌ء من الروايات بالكلية وإنما ذكروا الحكم المذكور مسلما بينهم من غير استدلال ، كأنه من قبيل المجمع عليه بينهم ، وفي كتب الأخبار لم يتعرضوا لهذا الاختلاف الظاهر بين روايات المسألة ، وربما أشعر سكوتهم عن ذلك بأن الحكم المذكور اتفاقي نصا وفتوى ، والحال كما عرفت ، فإنه وإن كان ظاهر الفتوى ذلك إلا أن النصوص كما رأيت ظاهرة الاختلاف ، والصحيحة المذكورة صريحة الدلالة في المخالفة لما تقدمها من الأخبار ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة في هذه المسألة ، فلعل الصحيحة المذكورة من حيث الاتفاق على خلاف ما دلت عليه إنما خرجت مخرج التقية.

وفي كتاب سليم بن قيس (١) وهو أحد الأصول المشهورة والكتب المأثورة المعتمد عليها عند محققي أصحابنا كما صرح به شيخنا المجلسي ـ رحمه‌الله ـ في

__________________

(١) سليم بن قيس الكوفي طبع دار الكتب الإسلامية ص ١٣٩ ، البحار ج ١٠٤ ص ١٥٨ ح ٨١ وفيهما «أبا كنف» مع اختلاف يسير.

٣٧٢

كتاب البحار في رواية له عن علي عليه‌السلام يذكر فيها بدع عمر وإحداثه ، قال عليه‌السلام : وأعجب من ذلك أن أبا كيف العبدي أتاه فقال : إني طلقت امرأتي وأنا غائب فوصل إليها الطلاق ، ثم راجعتها وهي في عدتها ، وكتبت إليها فلم يصل الكتاب حتى تزوجت ، فكتب إليه : إن كان هذا الذي تزوجها دخل بها فهي امرأته ، وإن كان لم يدخل بها فهي امرأتك ، وكتب له ذلك وأنا شاهد ولم يشاورني ولم يسألني ويرى استغناءه بعلمه عني ، فأردت أن أنهاه ، ثم قلت : ما أبالي أن يفضحه الله ، ثم لم تعبه الناس بل استحسنوه واتخذوه سنة وقبوله ورأوه صوابا وذلك قضاء لا يقضي به مجنون» الحديث وهو كما ترى غير خال من شوب الاشكال لما تضمنه من الإجمال ، ووجه البطلان في قضائه الذي نفاه عليه أن هذا التفصيل لا وجه له ، لأن جواز الدخول وعدمه تابع لصحة التزويج وعدمها وفرع عليها ، فإن كان التزويج صحيحا فلا معنى لكونها زوجة الأول مع عدم الدخول ، وإن كان باطلا فلا وجه لكونها زوجة الثاني مع الدخول لما عرفت من التبعية والفرعية ، وجهل الرجل المذكور أكثر من تحويه (١) السطور أو يقوم به مداد البحور ، واعترافه في غير مقام غير منكور ، والله العالم.

بقي الكلام فيما لم يكن ثمة بينة ، وقد فصل الكلام في ذلك شيخنا في المسالك بما لم يسلكه قبله سالك ، قال ـ رحمه‌الله ـ : وإن لم يكن بينة وأراد التحليف سمعت دعواه على كل منهما ، فإن ادعى عليها فأقرت له بالرجعة لم يقبل إقرارها على الثاني ، وفي غرمها للأول مهر المثل لتفويت البضع عليه قولان ، تقدم البحث فيهما في النكاح ، وإن أنكرت فهل تحلف؟ فيه وجهان مبنيان على أنها هل تغرم له لو أقرت أم لا؟ فإن لم نقل بالغرم فلا وجه لتحليفه ، لأن الغرض منه الحمل على الإقرار ولا فائدة فيه ، فإن قلنا بالتحليف فحلفت سقط دعوى الزوج ، وإن نكلت حلف وغرمها مهر المثل ولا يحكم ببطلان النكاح الثاني ، وإن

__________________

(١) هكذا ، والصحيح «من أن تحويه».

٣٧٣

جعلنا اليمين المردودة كالبينة لأنها إنما يكون كذلك في حق المتداعيين خاصة.

وربما احتمل بطلان النكاح على هذا التقدير لذلك ، وهو ضعيف ، فإذا انقطعت الخصومة معها بقيت على الزوج الثاني ، ثم إن أنكر صدق بيمينه ، لأن العدة قد انقضت والنكاح وقع صحيحا في الظاهر ، والأصل عدم الرجعة ، وإن نكل ردت اليمين على المدعي ، فإن حلف حكم بارتفاع النكاح الثاني ، ولا تصير المرأة للأول بيمينه.

ثم إن قلنا : إن اليمين المردودة كالبينة ، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني نكاح فلا شي‌ء لها عليه إلا مهر المثل مع الدخول ، وإن قلنا إنها كالإقرار ، وإقراره عليها غير مقبول ، ولها كمال المسمى إن كان بعد الدخول ، ونصفه إن كان قبل ، والأقوى ثبوت المسمى كملا مطلقا ، وإن جعلناها كالبينة لما ذكرناه من أنها إنما يكون كالبينة في حق المتنازعين خاصة ، وإذا انقطعت الخصومة بينهما فله الدعوى على المرأة إن لم يكن سبق بها ، ثم ينظر إن بقي النكاح الثاني ، فإن حلف فالحكم كما ذكر فيما إذا بدأ بها ، وإن لم يبق بأن أقر الثاني للأول بالرجعة أو نكل فحلف الأول فإن أقرت المرأة سلمت إليه ، وإلا فهي المصدقة باليمين ، فإن نكلت وحلف المدعي سلمت إليه ، ولها على الثاني مهر المثل إن جرى دخول ، وإلا فلا شي‌ء عليه كما لو أقرت بالرجعة ، وكل موضع قلنا لا تسلم المرأة إلى الأول لحق الثاني ، وذلك عند إقرارها أو نكولها أو يمين الأول ، فإذا زال حق الثاني بموت أو غيره سلمت إلى الأول ، كما لو أقر بحرية عبد في يد غيره ثم اشتراه فإنه يحكم عليه بحريته ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن جملة من هذه الأحكام يمكن استنباطه من الرجوع إلى القواعد المقررة والضوابط المشتهرة ، وجملة منها لا تخلو من الاشكال لما عرفت من تعدد الاحتمالات ، والاحتياط في أمثال ذلك مطلوب على كل حال.

٣٧٤

تذنيب

إذا ادعى أنه راجع زوجته الأمة في العدة فصدقته وأنكر المولى وادعى خروجها قبل الرجعة فلا خلاف في أن القول قول الزوج ، إنما الخلاف في أنه هل يقبل قوله من غير يمين أم لا بد من اليمين؟

المنقول من الشيخ الأول ، واستنادا إلى أن الرجعة تفيد استباحة البضع ، وهو حق يتعلق بالزوجين فقط ، فمع مصادقة الزوجة على صحة الرجعة ووقوعها شرعا لا يلتفت إلى رضا المولى : ولا موجب لليمين على الزوج ، لأن اليمين إن كانت للمرأة فهي قد صدقته فلا يمين في البين ، وإن كان للمولى فقد عرفت أن رضاه غير معتبر.

وتردد المحقق في ذلك ووجهه الشارح في المسالك بأن حق المولى إنما يسقط زمن الزوجية لا مع زوالها ، وهو الآن يدعي عود حقه والزوج ينكره فيتوجه اليمين ، قال : وبهذا يظهر منع تعلق الحق بالزوجين فقط ، فإن ذلك إنما هو في زمن الزوجية ، إذ قبلها الحق منحصر في المولى وكذا بعدها ، والنزاع هنا في ذلك ، فالقول باليمين أجود بل يحتمل تقديم قول المولى لقيامه في ذلك مقام الزوجة ، وقولها مقدم على الوجه المتقدم ، فلا أقل من اليمين على الزوج ، انتهى.

أقول : والحكم لكونه خاليا من النص موضع توقف وإشكال ، كما عرفت في أمثاله الجارية على هذا المنوال ، والاعتماد على هذه التعليلات العليلة مجازفة في أحكام الملك المتعال.

إلحاق فيه اشقاق

قد جرت عادة جملة من الأصحاب بذكر الحيل الشرعية في هذا المقام ، قال المحقق في الشرائع : يجوز التوصل بالحيل الشرعية المباحة دون المحرمة في إسقاط ما لو لا الحيلة لثبت ، ولو توصل بالمحرمة أثم وتمت الحيلة.

٣٧٥

قال شيخنا في المسالك بعد ذكر ذلك : هذا باب واسع في جميع أبواب الفقه ، والغرض منه التوصل إلى تحصيل أسباب تترتب عليها أحكام شرعية ، وتلك الأسباب قد تكون محللة وقد تكون محرمة ، والغرض من تعليم الفقيه الأسباب المباحة ، فأما المحرمة فيذكرونها بالفرض ليعلم حكمها على تقدير وقوعها ، انتهى.

أقول : لا ريب أن جملة من الحيل المشار إليها قد دلت عليها الأخبار بالخصوص ، وجملة منها وإن لم تدل عليه النصوص إلا أنها موافقة لمقتضى القواعد المتفق عليها بينهم.

(ومنها) ما هو باطل ، وإن توهم كونه حيلة شرعية موجبة لتحليل ما أريد منها كما سيظهر لك إن شاء الله ، إلا أن العمل على ما لم يوجد فيه نص بالخصوص على الإطلاق لا يخلو من إشكال لما يظهر مما حكاه الله تعالى في كتابه عن اليهود في قضية الاصطياد الذي نهوا عنه يوم السبت ، وأنه عزوجل مسخهم قردة بما عملوه من الحيلة في ذلك.

ففي تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام (١) عند قوله تعالى في سورة البقرة «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» (٢) قال : «قال علي بن الحسين عليه‌السلام : كان هؤلاء قوما يسكنون على شاطئ بحر فنهاهم الله وأنبياؤه عن اصطياد السمك في يوم السبت ، فتوصلوا إلى حيلة ليحلوا بها لأنفسهم ما حرم الله ، فخذوا أخاديد وعملوا طرقا تؤدي إلى حياض يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الطرق ، ولا يتهيأ لها الخروج إذا همت بالرجوع ، فجاءت الحيتان يوم السبت جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد وحصلت في الحياض والغدران ، فلما كانت عشية اليوم همت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من صائدها فرامت الرجوع فلم تقدر ، وبقيت ليلتها في مكان يتهيأ أخذها بلا اصطياد لاسترسالها

__________________

(١) تفسير الامام الحسن العسكري (ع) ص ١٣٦ مع اختلاف يسير.

(٢) سورة البقرة ـ آية ٦٥.

٣٧٦

فيه وعجزها عن الامتناع لمنع المكان لها ، وكانوا يأخذون يوم الأحد ويقولون : ما اصطدنا في السبت وإنما اصطدنا في الأحد ، وكذب أعداء الله بل كانوا آخذين بها بأخاديدهم التي عملوها يوم السبت حتى كثر من ذلك مالهم» الحديث.

ويظهر من المحقق الأردبيلي ـ رحمه‌الله عليه ـ التوقف في استعمال هذه الحيل ، ولو كانت بحسب الظاهر جارية على نهج القوانين الشرعية ، ذكر ذلك في غير موضع من شرحه على كتاب الإرشاد ، منها في باب الربا حيث قال ـ في تمثيل المصنف بقوله : مثل إن أراد بيع قفيز حنطة بقفيز (١) من شعير أو الجيد بالرديين وغير ذلك ـ ما لفظه : يبيع المساوي بالمساوي قدرا ويستوهب الزائد ، وهو ظاهر لو حصل القصد في البيع والهبة ، وينبغي الاجتناب عن الحيل مهما أمكن ، وإذا اضطر يستعمل ما ينجيه عند الله ، ولا ينظر إلى الحيل وصورة جوازها ظاهرا ، لما عرف من علة تحريم الربا ، وكأنه إلى ذلك أشار في التذكرة بقوله : لو دعت الضرورة إلى بيع الربويات مستفضلا مع اتحاد الجنس. إلخ ، انتهى كلامه رحمة الله عليه.

ومحصله : أن الفقهاء قد ذكروا جملة من الحيل الموجبة للخروج من الربا كما قدمنا ذكره في كتاب البيع ، ومنها ما ذكر هنا ، وهو أن يبيعه المساوي ويهب له الزائد ، وظاهر المحقق المذكور التوقف في ذلك من حيث عدم القصد إلى الهبة ، وإنما الغرض منها التوصل إلى تحليل ما حرم الله تعالى بالحيل إلا ما ورد به النص وإلا فما ذكره من أن القصد لم يكن للهبة من حيث هي وإنما القصد إلى تحليل الربا يمكن خدشه بأنه لا تشترط قصد جميع الغايات المترتبة على ذلك العقد ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته كما صرح به شيخنا في المسالك وتبعه من تأخر عنه في ذلك حيث قال ونعم ما قال :

ولا يقدح في ذلك كون هذه الأمور غير مقصودة بالذات ، والعقود تابعة

__________________

(١) في شرح الإرشاد «بقفيزين».

٣٧٧

للقصود ، لأن قصد التخلص من الربا إنما يتم مع القصد إلى بيع صحيح أو قرض أو غيرهما من الأنواع المذكورة وذلك كاف في القصد ، إذ لا يشترط في القصد إلى عقد قصد جميع الغايات المترتبة عليه ، بل يكفي قصد غاية صحيحة من غاياته فإن من أراد شراء دار مثلا ليؤاجرها ويكتسب بها فإن ذلك كاف في الصحة ، وإن كان لشراء الدار غايات أخر أقوى من هذه وأظهر في نظر العقلاء ، وكذا القول في غير ذلك من أفراد العقود ، وقد ورد في أخبار كثيرة يدل على جواز الحيلة على نحو ذلك ، انتهى.

والواجب هنا ذكر جملة مما خطر بالبال من الأنواع التي توصل إلى تحليلها بالاحتيال والتمييز بين صحيحها وفاسدها زيادة على ما تقدم سيما في باب الربا من كتاب البيع وكتاب الشفعة.

(ومنها) ما اشتهر في هذه الأوقات من أنه إذا كان في ذمة الرجل ألف درهم من وجه الخمس أو الزكاة فإنه يبيع سلعة قيمتها مائة درهم على فقير بألف درهم ثم يحتسب عليه الثمن بما في ذمته من وجه الخمس أو الزكاة ، وهذا البيع بحسب القواعد الشرعية صحيح إذا وقع بالتراضي من الطرفين ومعرفة المبيع من الجانبين ، ولكن إذا نظرت إلى الواقع وأنه لم يدفع في الحقيقة من تلك الألف إلا مائة درهم خاصة حصل الإشكال في حصول البراءة من الزائد بهذه الحيلة ، وكانت قريبة من حيلة اليهود في إسقاط ما حرم الله عليهم.

ولا يبعد أن يقال إن الذمة مشغولة بهذا المبلغ بيقين ، ولا تبرأ إلا بيقين دفعه كملا ، وحصول الدفع بهذه الحيلة غير معلوم يقينا على أنه يمكن أن يقال : إن في صحة هذا البيع إشكالا ، لأنه وإن صح البيع في أمثاله بزيادة على الثمن الواقعي أضعافا مضاعفة إلا أنه مخصوص بقصد المشتري الى دفع الثمن ورضاه بالمبيع بهذا الثمن ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ، فإن المشتري إنما رضي بالشراء بهذا الثمن من حيث علمه بأنه لا يؤخذ منه ، وإلا فمن المجزوم به أنه لا يرضى بدفع هذا الثمن في مقابلة هذا المبيع اليسير كما هو المفروض.

٣٧٨

وبالجملة فإنه من الظاهر أن المشتري لم يقصد دفع الثمن ، مع أن الثمن أحد أركان المبيع كما تقدم في كتاب البيع فهو في قوة أنه اشترى بلا ثمن ، ولا خلاف في بطلانه لما عرفت. وكيف كان فالجزم ببراءة الذمة عندي في هذه الصورة محل توقف وإشكال.

(ومنها) ما لو خافت المرأة من تزويج زوجها بامرأة معينة فحملت ولدها على أن يتزوج بها قبل أبيه ، أو أمة يريد شراءها الأب فاشتراها الابن ، أو حملت الام ابنها على الزنا بتلك المرأة التي يريد أبوه تزويجها أو الأمة التي يريد شراءها بناء على نشر الحرمة بالزنا ، فإنه وإن أثم من حيث حرمة الزنا إلا أن الحيلة تحصل به.

(ومنها) ما لو كرهت المرأة زوجها وأرادت انفساخ العقد بينهما فارتدت انفسخ النكاح وبانت منه إن كان قبل الدخول ، ولو كان بعده توقف البينونة على انقضاء العدة قبل رجوعها ، فإن أخرت إلى انقضائها بانت منه ، فإذا رجعت بعد ذلك إلى الإسلام قبل وتمت الحيلة ، كذا ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ولا يخلو من إشكال ، فإن مقتضى هذا الكلام أن إظهار الارتداد لم يقع عن تغير في الاعتقاد للإسلام واعتقاد الكفر ، والكفر الموجب للفسخ إنما مناطه الاعتقاد لا مجرد الإظهار ، ومجرد الإظهار إنما يوجب الفسق لا الكفر.

وبالجملة فإنه لا يظهر في صحة هذه الحيلة على وجه ينفسخ بها النكاح إذ مرجعها إلى إظهار الكفر من غير زوال اعتقاد الإسلام وهو غير موجب للارتداد شرعا.

(ومنها) ما عدوه في هذا الباب من الحيل المبيحة (١) لنكاح جماعة امرأة في

__________________

(١) أقول : قال في المختلف : قال الشيخ في الخلاف : إذا تزوج امرأة ثم خلعها ثم تزوجها وطلقها قبل الدخول بها لا عدة عليها. وقال في المبسوط : إذا خلعها ثم تزوجها ثم طلقها ثم راجعها ثم خالعها قبل الدخول قال قوم تبنى ، وقال آخرون

٣٧٩

يوم واحد بأن يتزوجها أحدهم ويدخل بها ثم يطلقها ، ثم يتزوجها ثانية ويطلقها من غير دخول ، فإنه يجوز للآخر أن يتزوجها في تلك الحال لسقوط العدة حيث إنها غير مدخول بها. هكذا ذكر في المفاتيح ثم قال : وهو غلط واضح لأن العدة الأولى لم تسقط إلا بالنسبة إلى الزوج الأول الذي هو صاحب الفراش حيث لا يجب الاستبراء من مائه ، وأما بالنسبة إلى غيره فما العلة في سقوطها ، وإنما الساقط العدة الثانية فقط ليس إلا ، انتهى.

أقول : لا ريب أن ما أورده عليهم ظاهر الورود كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى ، إلا أن كلامه أيضا لا يخلو من سهو وغفلة ، فإنه قد فرض المسألة في نكاح قوم لامرأة واحدة في يوم ، وهذا لا يتم فيما فصله وأوضحه من أنه يتزوجها أحدهم ويدخل بها ثم يطلقها. إلخ ، فإن الطلاق بعد الدخول لا يصح عندنا إلا بعد الاستبراء بحيضة أو ثلاثة أشهر ، وحينئذ فكيف يمكن ما فرضه من وقوع نكاح القوم في يوم واحد ، اللهم إلا أن يكون مراده الرد على العامة القائلين بجواز الطلاق في الطهر الذي واقع فيه من غير حاجة إلى الاستبراء ، وإن كان الظاهر من كلامه إنما هو الرد على من ذهب من أصحابنا إلى صحة هذه الحيلة.

ثم إن من ذهب من أصحابنا إلى ذلك وجوزه فإنما يفرضه في المتعة حيث إنها تبين بمجرد انقضاء المدة أو هبتها.

٣٨٠