الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

آخر ، وهذا بحمد الله ظاهر لا سترة عليه.

(وثالثا) أنه من الممكن عدم الترجيح هنا بهذه القاعدة ـ أعني التقية وعدمها ـ فإن طرق الترجيح التي اشتملت عليها مقبولة عمر بن حنظلة مترتبة ، فأولها الترجيح بالأعدل والأفقه والأورع ، ثم بعدها الترجيح بالأشهر والمجمع عليه ، ثم الترجيح بمخالفة العامة ، فالترجيح بمخالفة العامة إنما وقع في المرتبة الثالثة وهو لا يصار إليه إلا مع تعذر الترجيح بما قبله من المراتب.

وقد عرفت أن الترجيح بالمرتبتين الأولتين حاصل لروايات عدم الهدم ، وحينئذ فلا يصار إلى الترجيح بالتقية. فإن قلت : إن جملة من الأخبار قد دلت على الترجيح بمخالفة العامة مطلقا ، قلنا : يجب تقييد ما أطلق بما دلت عليه هذه الأخبار الناصة على الترتيب بين هذه المراتب.

وكيف كان فقد ظهر لك مما حققناه في المقام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام قوة القول بأخبار عدم الهدم ، وأنه هو الذي لا يحوم حوله نقض ولا إبرام.

مسائل

الاولى : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في حصول التحليل بالذمي كالمسلم إذ لم يذكر أحد منهم أن الإسلام شرط في المحلل ، ولا طلاق الآية ، وهي قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» فلو طلق الذمية ثلاثا فتزوجت بعده ذميا ثم بانت منه وأسلمت أو جوزنا نكاح الكتابية ابتداء جاز للأول نكاحها ، ويتصور طلاق المسلم للذمية ثلاثا على تقدير أن رجوعه في طلاقها في العدة ليس ابتداء نكاح فلا يمنع منه ، أو على القول بجواز نكاحها ابتداء ، أو على تقدير طلاقها مرتين في حال كفرهما ، ووقوع الثالثة بعد إسلام الزوج دونها ، فإذا تزوجت ذميا أفاد التحليل لزوجها المسلم إذا أسلمت أو قلنا بجواز نكاحها ابتداء للمسلم.

وقالوا : وكذا لو كان الزوج كافرا أو ترافعوا إلينا حكمنا بحلها له سواء

٣٤١

كان ذميا أم لا ، وكذا لو أسلم الزوج وقد حللها كافر مثلها ، لأن أنكحة الكفار مقرة على حالها كما تقدم في بابه.

الثانية : لا خلاف بين أصحابنا في أن الاعتبار بالتحريم الموجب للمحلل وكون التحريم يحصل بثلاث أو اثنين إنما هو بالنسبة إلى المرأة دون الزوج ، بمعنى أنه لو كان تحته امرأة حرة واستحكمت ثلاث طلقات فإنها لا تحل له إلا بمحلل سواء كان الزوج حرا أو مملوكا ، ولو كان تحته أمة واستكملت اثنين حرمت حتى تنكح زوجا غيره سواء كان زوجها حرا أو مملوكا ، وخالفنا العامة في ذلك ، فجعلوا الاعتبار بحال الزوج ، فإذا كان حرا اعتبر في التحريم الثلاث سواء كان تحته أمة أو حرة ، وإن كان الزوج عبدا اعتبر طلقتان وإن كان تحته حرة ، ومظهر الخلاف في الحر تحته الأمة ، وبالعكس ، وإلا فلا خلاف فيما إذا كان حرا تحته حرة ، أو مملوكا تحته مملوكة للاتفاق على الثلاث في الاولى والاثنتين في الثانية.

وتدل على ما ذهب إليه الأصحاب الأخبار المتكاثرة ، ومنها ما رواه في الكافي (١) في الصحيح عن عيص بن القاسم قال : «إن ابن شبرمة قال : الطلاق للرجل فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : الطلاق للنساء ، وبيان ذلك : أن العبد تكون تحته الحرة فيكون تطليقها ثلاثا ، ويكون الحر تحته الأمة ، فيكون طلاقها تطليقتين».

وعن زرارة (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام في الصحيح قال : «سألته عن حر تحته أمة أو عبد تحته حرة ، كم طلاقهما وكم عدتهما؟ فقال : السنة في النساء في الطلاق فإن كانت حرة فطلاقها ثلاثا ، وعدتها ثلاثة قروء ، وإن كان حرا تحته أمة فطلاقها تطليقتان وعدتها قرءان».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٦٧ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩١ ب ٢٤ ح ١ وفيهما «وتبيان ذلك».

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٦٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٦٩ ب ٤٠ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

٣٤٢

وعن عبد الله بن سنان (١) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «طلاق المملوك للحرة ثلاث تطليقات ، وطلاق الحر للأمة تطليقتان».

وما رواه في الفقيه (٢) عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : إذا كانت الحرة تحت العبد كم يطلقها؟ فقال : قال علي عليه‌السلام : الطلاق والعدة بالنساء». إلى غير ذلك من الأخبار.

الثالثة : قد عرفت أن الأمة تحرم بتطليقتين ، ولا تحل لزوجها الأول إلا بمحلل مستجمع للشرائط المتقدمة ، وهنا مواضع ثلاثة ، ربما كانت مظنة للشبهة ، إلا أنها قد انكشفت عنها بالأخبار الدالة على اندراجها في القاعدة المذكورة.

الأول : ما لو كانت تحته أمة فطلقها تطليقتين ثم إنه اشتراها ، فمقتضى القاعدة المتقدمة عدم جواز نكاحه لها حتى تزوج زوجا آخر متصفا بصفات التحليل.

وعلى ذلك يدل ما رواه الشيخ (٣) عن بريد بن معاوية العجلي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الأمة يطلقها تطليقتين ، ثم يشتريها. قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره».

وما رواه في الكافي (٤) عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل حر كانت تحته أمة فطلقها طلاقا بائنا ثم اشتراها ، هل يحل له أن يطأها؟ قال : لا».

وعن بريد العجلي (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في رجل تحته أمة

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٦٧ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٤ ب ٢٥ ح ٧.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٥١ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٣ ب ٢٥ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٨٤ ح ٢٠٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٥ ب ٢٦ ح ٣.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٧٣ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٨٤ ح ٢٠٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٥ ب ٢٦ ح ٥.

(٥) الكافي ج ٦ ص ١٧٣ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ٨٥ ح ٢٠٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٦ ب ٢٦ ح ٦.

٣٤٣

فطلقها تطليقتين ثم اشتراها ، قال : لا يصلح له أن ينكحها حتى تزوج زوجا غيره ، وحتى تدخل في مثل ما خرجت منه».

وعن سماعة (١) في الموثق قال : «سألته عن رجل تزوج امرأة مملوكة ثم طلقها ثم اشتراها بعده ، هل تحل له؟ قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره».

أقول : المراد طلاقا بائنا بالمرتين لأنه هو الذي يترتب عليه التحريم.

وأما ما رواه الشيخ (٢) عن أبي بصير قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل كانت تحته أمة فطلقها طلاقا بائنا ثم اشتراها بعد ، قال : يحل له فرجها من أجل شراها ، والحر والعبد في هذه المنزلة سواء».

وقال الكليني بعد ذكر حديث الحلبي (٣) المتقدم : قال ابن أبي عمير : وفي حديث آخر «حل له فرجها من أجل شرائها ، والحر والعبد في ذلك سواء».

ويظهر من ابن الجنيد القول بمضمون هذا الخبر على ما نقله في المسالك ، فقد أجاب الشيخ عنه في كتابي الأخبار بحمل البينونة على الخروج من العدة لا البينونة بطلقتين وقيد إباحة الفرج بالشراء بما إذا تزوجت زوجا آخر واعترض عليه ببعد هذه التأويلات. ومال في الوافي (٤) إلى حمل الأخبار الأخيرة على الرخصة وإن كان على كراهية.

والأقرب حمل الخبر المجوز على التقية كما يشير إليه ما رواه الشيخ (٥) في الصحيح عن عبد الله بن سنان قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت تحته أمة فطلقها

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٧٣ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٨٥ ح ٢٠٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٦ ب ٢٦ ح ٧.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٨٥ ح ٢١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٥ ب ٢٦ ح ٤ وفيهما «شرائها».

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٧٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٦ ب ٢٦ ح ٨.

(٤) الوافي ج ٣ ص ١٦٤.

(٥) التهذيب ج ٨ ص ٨٣ ح ٢٠٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٥ ب ٢٦ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

٣٤٤

على السنة فبانت منه ثم اشتراها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجا غيره ، قال : أليس قد قضى علي عليه‌السلام في هذا؟ أحلتها آية وحرمتها آية ، وأنا أنهى عنها نفسي وولدي».

ورواه الكليني (١) عن عبد الله بن سنان نحوه ، والنهي الذي نسبه إلى نفسه وولده حقيقة في التحريم.

وأما ما زعمه في الوافي من حمل الخبر المذكور على ما قدمنا نقله عنه من الجواز على كراهة فإنه في غاية البعد ، فإن مقتضى القاعدة كما عرفت هو التحريم مع تأيدها بالأخبار المتقدمة.

ومما يدلك على أن المراد بهذه العبارة إنما هو التحريم ما رواه الشيخ في التهذيب (٢) عن معمر بن يحيى بن بسام قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عما يروي الناس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن أشياء من الفروج لم يكن يأمر بها ولا ينهى عنها إلا نفسه وولده ، فقلنا : كيف ذلك؟ قال : أحلتها آية وحرمتها آية أخرى. قلنا : هل تكون إحداهما نسخت الأخرى؟ أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ قال : قد بين لهم إذ نهى نفسه وولده ، فقلنا : ما منعه أن يبين للناس؟ قال : خشي أن لا يطاع : فلو أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ثبت قدماه أقام كتاب الله كله ، والحق كله». وروى ذلك علي بن جعفر في كتابه (٣) نحوه.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٧٣ ح ١ وفيه اختلاف يسير.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٦٣ ح ٦٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٠١ ب ٨ ح ٨.

(٣) أقول : وهو ما رواه في كتابه عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : «سألته عن الاختلاف في القضاء عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في أشياء من الفروج أنه لم يأمر بها ولم ينه عنها الا أنه نهى نفسه وولده ، فقلت : فكيف يكون ذلك؟ قال : أحلتها آية وحرمتها آية ، قلت : هل يصلح أن تكون أحدهما منسوخة؟ أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ قال : قد بين إذ نهى نفسه وولده ، قلت : فما منعه أن يبين للناس؟ قال : خشي أن لا يطاع ، ولو أن أمير المؤمنين عليه‌السلام ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله» الحديث. الى آخره. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

٣٤٥

الثاني : ما لو طلقت الأمة تطليقتين ثم وطأها المالك فإنها لا تحل لزوجها إلا بالتزويج ثانيا بشروط التحليل ، وبذلك صرح الأصحاب أيضا.

وتدل على ذلك رواية الفضيل (١) المتقدمة في الشرط الخامس من شروط التحليل.

ونحوها رواية عبد الملك بن أعين (٢) قال : «سألته عن رجل زوج جاريته رجلا فمكثت معه ما شاء الله ، ثم طلقها فرجعت إلى مولاها فوطأها ، أتحل لزوجها إذ أراد أن يراجعها؟ فقال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره».

ونحوه ما رواه أحمد بن محمد بن عيسى (٣) في نوادره عن الحلبي في الصحيح ، وإطلاق الطلاق محمول على المرتين ، لأنه هو الموجب للمحلل كما صرحت به رواية الفضيل المذكورة.

الثالث : ما لو أعتقت الأمة بعد الطلاق مرتين أو أعتق زوجها أو هما معا ، فإن العتق لا يهدم الطلاق ، وكذا لو عتقت بعد تطليقة واحدة ، فإنها تكون عنده على تطليقة أخرى.

ويدل عليه ما رواه الشيخ (٤) عن رفاعة في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العبد والأمة يطلقها تطليقتين ثم يعتقان جميعا ، هل يراجعها؟ قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره فتبين منه».

وعن محمد بن مسلم (٥) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «المملوك إذا كانت تحته مملوكة فطلقها ثم أعتقها صاحبها كانت عنده على واحدة».

وعن الحلبي (٦) في الصحيح قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام في العبد تكون تحته

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٨٧ ح ٢١٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٧ ب ٢٧ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٨٤ ح ٢٠٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٦ ب ٢٧ ح ١.

(٣) الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٧ ب ٢٧ ح ٣.

(٤ و ٥ و ٦) التهذيب ج ٨ ص ٨٧ ح ٢١٦ وص ٨٦ ح ٢١١ و ٢١٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٧ ب ٢٨ ح ١ وص ٣٩٨ ب ٢٨ ح ٢ و ٣.

٣٤٦

الأمة فيطلقها تطليقة ثم أعتقا جميعا ، كانت عنده على تطليقة واحدة».

ورواه الصدوق (١) بإسناده عن حماد عن الحلبي نحوه.

وعن هشام بن سالم (٢) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ذكر أن العبد إذا كان تحته الأمة فطلقها تطليقة فأعتقا جميعا كانت عنده على تطليقة واحدة».

وما ذكرنا من الحكم المذكور هو المشهور. ونقل عن ابن الجنيد أنه ذهب إلى أن الأمة إذا أعتقت قبل وقوع الطلاق الثاني بها انتقل حكم طلاقها إلى حال الحرائر ، فلا تحرم إلا بالثالثة.

وأيده في المسالك بما وقع لهم في نظير هذه المسألة فيما ذكروه في نكاح المشركات إذا أسلم العبد وعنده أربع وأعتق ، وكذا في باب القسم بين الزوجات إذا أعتقت الأمة في أثناء القسم ، وملخص ذلك أنه متى كان العتق قبل استيفاء حق العبودية فإنه يلحق بالأحرار في الحكم ، والمسائل الثلاث مشتركة في ذلك ، فيتجه ما ذكره ابن الجنيد بناء على ذلك.

إلا أن فيه (أولا) أن ما ذكرناه من الأخبار المتكاثرة في هذه المسألة صريحة في رد هذا القول ودفعه.

(وثانيا) أن ما ذكروه في المسألتين المذكورتين ليس إلا مجرد تخريجات قد بنوا اختلافهم عليها في ذينك الموضعين ، ولهذا إنا لم نتعرض لذكر هاتين المسألتين فيما سلف لعدم النص مع كثرة الاختلاف والتخريجات المتدافعة. وبالجملة فالمعتمد هنا هو القول المشهور ، وهو المؤيد بالأخبار والمنصور.

الرابعة : المعروف من كلام الأصحاب وقوع التحليل من الخصي إذا وطأ بالشرائط المتقدمة. لأن التحليل معتبر فيه ما يعتبر في الجماع الموجب للغسل من إيلاج الحشفة أو قدرها من مقطوعها ، والخصاء غير مانع من ذلك ، فإن غاية ما يترتب عليه هو عدم

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٥٢ ح ١٣.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٨٦ ح ٢١٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٨ ب ٢٨ ح ٤ وفيهما اختلاف يسير.

٣٤٧

الانزال خاصة ، حتى أن الشيخ أنكر كونه عيبا محتجا بأن الخصي يولج ويبالغ أكثر من الفحل وإنما لا ينزل ، وعدم الانزال ليس بعيب ، وقد تقدم الكلام معه في ذلك.

وبالجملة فالظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في الحكم المذكور ، إلا أنه قد روى الشيخ (١) في الصحيح عن صفوان عن محمد بن مضارب وهو مجهول في الرجال إلا أنه يفهم من بعض الأخبار (٢) ما يؤذن بمدحه قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الخصي يحلل؟ قال : لا يحلل». وردها المتأخرون بضعف الراوي ، ويمكن حملها على خصي لا يحصل منه الجماع على الوجه المعتبر ، وإلى العمل بالخبر المذكور مال في المسائل فقال : باب أن الخصي لا يحلل المطلقة ثلاثا ، ثم أورد الخبر المذكور ، وأردفه بخبر آخر رواه الشيخ أيضا عن صفوان عن محمد بن مضارب مثله إلا أن فيه «يحل ولا يحل» ولا يخفى ما فيه من الاشكال كما عرفت.

الخامسة : إذا ارتد المحلل بعد التزويج بها ، فإن كان بعد وطئها في القبل فلا إشكال في حصول التحليل حينئذ ، وإن كان قبله لم يحصل التحليل بالوطء في العدة ، لأنه بارتداده قد انفسخ العقد ، وإن بقي أثره بعوده إليها لو راجع في العدة بالعقد السابق ، ويتصور ثبوت العدة مع عدم الدخول قبلا ، بأن يكون قد وطأها في الدبر فإنه لا يكفي في التحليل كما تقدم ، ويوجب العدة عند الأصحاب ، وكذا لو خلا بها عند جمع منهم ، فإنها لا توجب التحليل وتوجب العدة.

وألحق ابن الجنيد بالخلوة التذاذه بما ينزل به الماء.

أما لو لم يحصل منه ما يوجب العدة من هذه الأمور المذكورة قبل الارتداد فإنها تبين منه ، ويصير في حكم الأجنبي لا أثر لوطئه بالكلية لانفساخ العقد بالردة

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٣٤ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ١٠ ح ١ و ٢.

(٢) وهو ما رواه الشيخ عنه قال : «قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا محمد خذ هذه الجارية تخدمك وتصيب منها ، فإذا خرجت فارددها إلينا». قال شيخنا الشهيد الثاني في حواشيه على الخلاصة : وفيه تنبيه على حسن حاله ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٤٨

وثبوت البينونة بذلك. وعلى هذا فهنا أقسام ثلاثة ، ثالثها الوطء في العدة زمان الردة ، وفائدته جواز الرجوع إليها في العدة لو رجع إلى الإسلام ، وجملة منهم لم يذكروا إلا القسمين الآخرين ، وهو أنه إن كانت الردة قبل الوطء انفسخ النكاح وصار وطء أجنبي لا يحلل قطعا وإن كان بعده حلت بالأول ، وأنت قد عرفت ثبوت قسم ثالث ، ويجري ما ذكر من الحكم في الزوجة أيضا لو كانت هي المرتدة فوطأها في زمان ردتها ثم رجعت إلى الإسلام.

السادسة : المفهوم من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف قبول قول المرأة في موت الزوج وعدمه ، وطلاقه لها والخروج من العدة. وعليه تدل ظواهر جملة من الأخبار ، ويؤيده أن من القواعد المقررة عندهم قبول قول من لا منازع له وبه تضافرت الأخبار في جزئيات الأحكام كما بسطنا الكلام عليه في كتاب الزكاة (١) وما نحن فيه من جملة أفرادها.

ومن أخبار القاعدة المذكورة ما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : عشرة كانوا جلوسا وفي وسطهم كيس فيه ألف درهم فسأل بعضهم بعضا : ألكم هذا الكيس؟ فقالوا كلهم : لا ، وقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو؟ قال : هو الذي ادعاه».

ويؤيده أيضا أن الأخبار الواردة بإثبات الدعاوي بالبينات والأيمان لا عموم فيها على وجه يشمل ما نحن فيه ، وإنما موردها ما إذا كان النزاع بين خصمين مدع ومنكر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لو ادعت المرأة المطلقة ثلاثا أنها تزوجت وحللت

__________________

(١) الحدائق ج ١٢ ص ١٦٥.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٢٢ ح ٥ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٩٢ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٠٠ ب ١٧ ح ١ وما في المصادر اختلاف يسير.

٣٤٩

نفسها لزوجها الأول ، فالمشهور قبول قولها ، وظاهر المحقق في الشرائع والنافع (١) التوقف في ذلك ، وإليه يميل كلام الفاضل الخراساني في كتاب الكفاية ، وأنت خبير بأن مقتضى القواعد المشار إليها هو قبول قولها.

ومن الأخبار الدالة على ذلك أيضا ما في رواية ميسر (٢) وهي صحيحة إليه قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألقى المرأة في الفلاة التي ليس فيها أحد فأقول لها : ألك زوج؟ فتقول : لا ، فأتزوجها؟ قال : نعم ، هي المصدقة على نفسها».

وفي رواية أبان بن تغلب (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله ع : إني أكون في بعض الطرقات فأرى المرأة الحسناء ، ولا آمن أن تكون ذات بعل أو من العواهر قال : ليس هذا عليك ، إنما عليك أن تصدقها في نفسها».

والتقريب فيهما ـ وإن كان موردهما نفي الزوج ـ هو حكمه عليه‌السلام بأنها المصدقة على نفسها الشامل لما نحن فيه ، فإن مقتضاه أن كل ما أخبرت به عن نفسها مما لا يعرف إلا من جهتها فإنها مصدقة فيه.

وبذلك يظهر لك ما في قول صاحب الكفاية ـ بعد إشارته للخبرين المذكورين ـ وللتأمل في عموم الروايتين بحيث يشمل محل البحث مجال. فإن ثبوت التعميم بالتقريب الذي ذكرناه مما لا مجال لإنكاره ، نعم يتم ما ذكره بالنظر إلى مورد الخبرين إلا أن الاعتبار إنما هو بجوابه عليه‌السلام الذي هو كالضابطة الكلية في أنها مصدقة على نفسها في كل ما لا يعلم إلا من جهتها.

قال في المسالك في تعليل القول المشهور : ولأنها مؤتمنة في انقضاء العدة

__________________

(١) حيث قال في الشرائع : ولو انقضت مدة فادعت أنها تزوجت وفارقها وقضت العدة في تلك المدة قيل : يقبل ، لأن في جملة ذلك ما لا يعلم الا منها ، وفي رواية إذا كانت ثقة صدقت. وقال في النافع : ولو ادعت أنها تزوجت ودخل وطلق فالمروي القبول إذا كانت ثقة. والعبارتان كما ترى ظاهرتان في ما ذكرناه. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٤٦٢ ح ٢ و ١، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٦ ب ١٠ ح ١.

٣٥٠

والوطء مما لا يمكن إقامة البينة عليه ، وربما مات الزوج أو تعذر مصادقته لغيبة ونحوها ، فلو لم يقبل منها ذلك لزم الإضرار بها والحرج المنفيين.

أقول : ويؤيده أيضا مع دخوله في ضابطة الخبرين المذكورين ما في رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر (١) وغيره قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : الرجل يتزوج المرأة فيقع في قلبه أن لها زوجا ، فقال : ما عليه ، أرأيت لو سألها البينة كان يجد من يشهد أن ليس لها زوج». وهي ظاهرة فيما ذكره شيخنا المذكور.

وتدل على أصل المدعى صحيحة حماد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل طلق امرأة ثلاثا فبانت منه فأراد مراجعتها ، فقال لها : إني أريد مراجعتك ، فتزوجي زوجا غيري ، فقالت : قد تزوجت زوجا غيرك وحللت لك نفسي ، أتصدق ويراجعها؟ وكيف يصنع؟ قال : إذا كانت المرأة ثقة صدقت في قولها».

قال في المسالك : وكما يقبل قولها في حق المطلق يقبل في حق غيره ، فكذا الحكم في كل امرأة كانت مزوجة وأخبرت بموته وفراقه وانقضاء العدة في وقت محتمل ولا فرق بين تعيين الزوج وعدمه ، ولا بين إمكان استعلامه وعدمه. انتهى ، وقد عرفت وجه صحته مما تقدم.

ومما يؤكد الاعتماد على قولها ما دل على كراهة السؤال ولو مع التهمة مثل ما رواه في التهذيب (٣) عن فضيل مولى محمد بن راشد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : إني تزوجت امرأة متعة فوقع في نفسي أن لها زوجا ، ففتشت عن ذلك فوجدت لها زوجا ، قال : ولم فتشت؟». وعن مهران بن محمد (٤) عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قيل له :

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٥٣ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٧ ب ١٠ ح ٥ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٣٤ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٠ ب ١١ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٧ ص ٢٥٣ ح ١٧ و ١٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٥٧ ب ١٠ ح ٣ و ٤ وفيهما اختلاف يسير.

٣٥١

إن فلانا تزوج امرأة متعة فقيل : إن لها زوجا فسألها ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لم سألها؟».

وما رواه في الفقيه (١) عن يونس بن عبد الرحمن عن الرضا عليه‌السلام في حديث قال : «قلت له : المرأة تزوجت متعة فينقضي شرطها ويتزوجها رجل وآخر قبل تنقضي عدتها ، قال : وما عليك إنما إثم ذلك عليها». أقول : المراد أنها تزوجها الآخر جاهلا مع علمها هي بذلك.

بقي الكلام فيما دلت عليه صحيحة حماد من اشتراط كون المرأة ثقة في قبول قوله ، مع أن ظاهر الأخبار وكلام الأصحاب خلافه ، وحمله جملة من المتأخرين منهم شيخنا في المسالك على أن المراد بالثقة من تسكن النفس إلى خبرها ، وإن لم تكن متصلة بالعدالة المشترطة في قبول الشاذة ، وهو جيد.

وكيف كان فهو لا يخلو من منافرة لما دلت عليه الأخبار الأخيرة من كراهة الفحص وإن كان مع التهمة ، ويمكن الجمع بين الأخبار المذكورة بحمل صحيحة حماد على ما هو الأفضل في مقام التهمة من الفحص. والظاهر أن ما دل عليه الخبر من إخبارها بالتحليل عقيب أمره لها بذلك المشعر برغبتها في الرجوع إلى الزوج كان محل التهمة ، فأمر بالتثبت والعمل بقولها بالشرط المذكور ، وحمل الأخبار الأخيرة على الجواز شرعا ، أو العمل بسعة الشريعة وأنه غير مكلف شرعا بالفحص ولا يجب عليه ذلك.

فروع

الأول : قال في المسالك : لو عينت الزوج يعني المحلل فكذبها في أصل النكاح احتمل تصديقها في التحليل ـ وإن لم يثبت عليه موجب الزوجية لوجود المقتضي لقبول قولها مع تكذيبه ، وهو إمكان صدقها مع تعذر إقامة البينة على جميع ما

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٩٤ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٦ ب ١٠ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

٣٥٢

تدعيه ، ومجرد إنكاره لا يمنع صدقها في نفس الأمر ـ وعدمه نظرا إلى تقديم قوله لأنه منكر واستصحابا للأصل ، ولإمكان إقامة البينة على أصل التزويج.

وفيه أنه لا منافاة بين الأمرين ، لأنا لا نقبل قولها إلا في حقها خاصة ، والأصل لو عارض لقدح في أصل دعواها مطلقا ، انتهى.

أقول : الظاهر من الأخبار المتقدمة هو الثاني ، لأن قبول قولها إنما هو في موضع لا يمكن الاطلاع عليه إلا من جهتها ، فإن دعواها لا معارض له ، والمعارض هنا موجود ، والاطلاع على الحال ممكن من غيرها وهو الزوج ، فإنه بإنكاره تزويجها بالكلية قد حصلت المعارضة لدعواها التحليل ، والاطلاع على كذب الدعوى المذكورة بالنظر إلى إنكار التزويج ، وقوله «إن المقتضي لقبول قولها إمكان صدقها» ليس في محله ، بل المقتضي لذلك إنما انحصار الاطلاع على ذلك الأمر المدعى فيها ، فلا يعلم إلا من جهتها سيما مع تعذر اطلاع الغير عليه بالكلية ، ولهذا نسب تكليفها باليمين أو البينة إلى الحرج والعسر. ودعواها التحليل هنا لما عارضها إنكار الزوج المحلل النكاح من أصله خرجت المسألة عما نحن فيه ورجعت إلى سائر الدعاوي المتضمنة لمدع ومنكر ، ووجب فيها ما يجب ثمة ، وبعد ثبوت أحد الأمرين يترتب عليه الحكم المناسب للمقام من تحليل وعدمه ، وهكذا ينبغي أن يحقق المقام.

الثاني : إذا اتفق المحلل والمرأة على الإصابة بعد الدخول فلا إشكال في حصول التحليل للزوج الأول ولو كذبها في ذلك ، قال الشيخ في المبسوط : إنه يعمل الزوج الأول على ما يغلب على ظنه في صدقها وصدق المحلل ، لأن الغرض تعذر البينة والظن مناط الأحكام الشرعية غالبا فيرجع إليه.

وقال المحقق بعد نقل قول الشيخ المذكور : ولو قيل : يعمل بقولها على كل حال كان حسنا ، لتعذر إقامة البينة بما تدعيه.

قال في المسالك : والأقوى ما اختاره المصنف لما ذكره من تعذر إقامة البينة ،

٣٥٣

مع أنها تصدق في شرطه وهو انقضاء العدة ، فكذا في سببه ، ولأنه لولاه لزم الحرج والضرر كما أشرنا إليه سابقا ، وإنما يقبل قولها فيما يتعلق بها من حل النكاح. ونحوه لا في حقه ، ولا يلزمه إلا نصف المهر ، حتى لو أنكر أصل العقد لم يلزمه المهر وإن قبل قولها في التزويج ، انتهى.

أقول ـ وبالله الثقة لبلوغ كل مأمول ـ : إن الظاهر أن الكلام في هذه المسألة كما في سابقتها ، فإن المسألة ـ بحصول المعارض والمنازع في صحة ما تدعيه من الوطء الذي يترتب عليه التحليل ـ قد خرجت عن مدلول الأخبار المتقدمة ورجعت إلى مسائل المدعي والمنكر ، فيجب على المدعي إقامة البينة ، ومع تعذرها فاليمين على المنكر ، والواجب على الزوج اليمين في عدم الإصابة أو الرد ، وكيف كان فإن ثبت ذلك ترتب عليه التحليل ، وإلا فلا تحليل.

وبالجملة فإن مناط قبول قولها الذي دلت عليه الأخبار ليس مجرد تعذر البينة عليها خاصة ، وإلا لاتسع المجال بالنسبة إلى غيرها من أفراد المدعين كما لا يخفى ، بل هو ادعاؤها دعوى لا راد لها ولا مقابل فيها وأنه لا يعلم صحتها إلا من جهتها.

ونظير ما ذكروه ما لو ادعت المرأة أن لا زوج لها وادعى آخر أنها زوجته ، فإن الظاهر أنه لا قائل بجواز تزويجها في هذه الحال بناء على أنها مصدقة في دعوى عدم الزوج ، والحال أن مدعى زوجيتها موجود ، وإنما قبول قولها مع عدم ذلك كما هو ظاهر من الأخبار المتقدمة.

الثالث : لو وطأها المحلل وطئا محرما شرعا كالوطء في الإحرام منه أو منها أو منهما والوطء في الحيض وفي الصوم الواجب ونحو ذلك فهل يحصل به التحليل أم لا؟ قولان :

(أحدهما) العدم ، ذهب إليه الشيخ وابن الجنيد ، واستدل الشيخ بأن التحريم

٣٥٤

معلوم ، ولا دليل على أن هذا الوطء محلل ، ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «حتى يذوق عسيلتها». يدل عليه ، لأنه إنما أراد بذلك ذوقا مباحا ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يبيح المحرم ، وأيضا فإنه محرم عليه هذا الوطء ومنهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، ولأن الإباحة تعلقت بشرطين بالنكاح والوطء ، ثم إن النكاح إذا كان محرما لا يحل للأول ، وكذلك الوطء.

(وثانيهما) ثبوت التحليل بذلك. اختاره العلامة في المختلف وغيره وشيخنا في المسالك ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.

قال في المختلف (٢) : لنا قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (٣) جعل غاية التحريم نكاح الغير ، وقد حصل ، ومطلق النكاح أعم من النكاح في وقت يباح فيه أو يحرم ، والحكم معلق على المطلق ، ولأنه وطء في نكاح صحيح قبلا ، فوجب بأن يحصل به الإحلال كما لو وطأها وقد ضاق ، عليه وقت الصلاة ، ويمنع علم التحريم بعد النكاح الثاني ، وإرادة المباح هو المتنازع ، وتعليق الرجعة على مطلق النكاح الشامل للمحرم لا يقتضي إباحة المحرم ، والنهي إنما يدل على الفساد في العبادات ، والفرق بين تحريم النكاح وتحريم الوطء طاهر للإجماع على اشتراط النكاح الصحيح بخلاف المتنازع ، انتهى.

والحق أن المسألة لخلوها من النص غير خالية من شوب الإشكال ، إلا أنه يمكن أن يقال : إن الظاهر بالنظر إلى إطلاق الأخبار المتقدمة في شروط التحليل هو القول الثاني ، إذ غاية ما يستفاد منها هو التزويج دواما والدخول بها ، وأما أن ذلك الوطء يشترط فيه أن يكون مباحا ـ كأن لا يكون زمن الحيض ولا النفاس ولا الإحرام مثلا ـ فلا ، وورودها في مقام البيان عارية عن اشتراط ذلك ظاهر في

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٠٤ ص ١٤١ ح ٢٠ مع اختلاف في اللفظ.

(٢) مختلف الشيعة ج ٢ ص ٥٩٣ وفيه اختلاف يسير.

(٣) سورة البقرة ـ آية ٢٢٩.

٣٥٥

عدم الشرط المذكور ، والشروط الخمسة المتقدمة حاصلة في صورة هذا الوطء المنهي عنه ، فيحصل به التحليل حينئذ.

وبالجملة فإن إطلاق الأخبار المذكورة شامل لهذا الوطء فيحصل به التحليل ، وتقييدها يحتاج إلى دليل وليس فليس.

الفصل الثاني في الرجعة :

والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً» (١) أي بردهن إلى النكاح ، والرجعة فيهن في زمان العدة والتربص إن أرادوا بالرجعة إصلاحا لما بينهن ، ولم يريدوا المضارة لهن.

وقوله تعالى «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (٢) والإمساك بالمعروف الرجعة وحسن المعاشرة ، والتسريح بإحسان التطليقة الثالثة بعد المراجعة كما في الحديث النبوي ، أو أن لا يراجعها حتى تخرج من العدة وتبين منه.

وقوله سبحانه «وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» (٣) أي قاربن بلوغ الأجل «فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» أي راجعوهن بقصد المعاشرة بالمعروف والقيام بواجبهن من غير طلب ضرار بالمراجعة ، أَوْ «سَرِّحُوهُنَّ» أي خلوهن حتى تنقضي عدتهن فيكن أملك بأنفسهن «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً» أي لا تراجعوهن بقصد الإضرار بهن من غير رغبة فيهن.

وروى في الفقيه (٤) قال : «سئل الصادق عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات ، فنهى الله عزوجل عن ذلك».

وأما الأخبار فهي مستفيضة ، وستأتي جملة منها في أثناء المباحث الآتية

__________________

(١ و ٢ و ٣) سورة البقرة ـ آية ٢٢٨ و ٢٢٩ و ٢٣١.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٣٢٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٠٢ ب ٣٤ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

٣٥٦

إن شاء الله تعالى.

وأما الإجماع فقد نقله غير واحد ، وكيف كان فتفصيل الكلام في هذا الفصل وتحقيق ما اشتمل عليه يقع في مواضع :

الأول : لا خلاف في أن الرجعة تقع بالقول والفعل ، والأول إجماعي من الخاصة والعامة ، والثاني إجماعي عندنا ، ووافقنا عليه بعض العامة ، والقول إما صريح في معنى الرجعة كقوله راجعتك وارتجعتك ، وأصرح منه إضافة قوله إلى نكاحي.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ـ بعد أن ذكر هذه الألفاظ الثلاثة وأنها صريحة في الرجعة ـ ما لفظه : وفي معناه رددتك وأمسكتك لورودهما في القرآن ، قال الله تعالى «وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ». «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (١) ولا يفتقر إلى نية الرجعة لصراحة الألفاظ ، وقيل : يفتقر إليها في الأخيرين لاحتمالهما غيرهما (٢) كالإمساك باليد أو في البيت ونحوه ، وهو حسن.

قال سبطه السيد السند في شرح النافع بعد نقل ذلك عنه : أقول قد بينا فيما سبق أنه لا بد من القصد إلى مدلول اللفظ الصريح وقصد المعنى المطلوب في غيره ، وإنما يفترقان في أن التلفظ بالصريح يحكم عليه بقصد مدلوله من غير احتياج إلى إخباره بذلك ، والتلفظ بغيره لا يحكم عليه بقصد المعنى المطلوب منه إلا مع اعترافه بذلك أو وجود القرينة الدالة عليه ، فقوله إنه لا يفتقر مع الإتيان براجعتك إلى نية الرجعة لا يخلو من تسامح. انتهى ، وهو جيد ، لأن الإتيان بالألفاظ في الرجعة أو غيرها مجردة عن نية المعنى المراد منها ، وقصده لا يقع إلا من عابث أو ساه أو نائم ، وإلا فالعقلاء إنما تورد الألفاظ في كلامهم ومحاوراتهم مقرونة بقصد معانيها المرادة منها. نعم ، فهم السامع تلك المعاني المرادة قد لا يتوقف على شي‌ء وراء مجرد ذلك اللفظ ، وهو الصريح في معناه الذي

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٢٨ و ٢٢٩.

(٢) والصحيح «غيرها».

٣٥٧

لا يحتمل غيره ، وقد يتوقف على أمر آخر من ضم قرينة في الكلام أو اعترافه بذلك ، وهذا يكون في غير الصريح مما يحتمل معنيين أو أكثر.

وكيف كان فكل ما دل على قصد الرجل في النكاح من الألفاظ بنفسه أو ضم شي‌ء من خارج فهو مفيد للرجوع بلا خلاف ولا إشكال.

وأما الرجوع بالفعل كالوطء والتقبيل واللمس بشهوة فهو موضع وفاق ، وربما كان أقوى في الدلالة على الرجعة من القول ، إلا أنه لا بد من أن يقصد به الرجوع لأنه في حد ذاته أعم من ذلك ، فلا عبرة بما وقع منه سهوا أو بقصد عدم الرجعة أو لا بقصدها فإن ذلك لا يفيد الرجوع ، وإن فعل حراما في غير صورة السهو والغفلة لانفساخ النكاح بالطلاق وإن كان رجعيا ، ولو لا ذلك لم تبن بانقضاء العدة ، إلا أنه لا حد عليه وإن كان عالما بالتحريم لعدم خروجها بعد عن حكم الزوجية رأسا ، فغاية ما يلزم هو التعزير على فعل المحرم إلا مع الجهل بالتحريم.

ومما يدل على وقوع الرجعة بالوطء ما رواه الصدوق (١) عن الحسن بن محبوب في الصحيح عن محمد بن القاسم قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من غشي امرأته بعد انقضاء العدة جلد الحد ، وإن غشيها قبل انقضاء العدة كان غشيانه إياها رجعة». وإطلاق الخبر يشمل ما ذكرناه من الصور المستثناة ، إلا أن الظاهر تقييده بما عداها ، فإن الأحكام صحة وبطلانا وثوابا وعقابا دائرة مدار القصود والنيات كما تقدم تحقيقه في بحث النية من كتاب الطهارة (٢).

ومما يقع به الرجعة أيضا إنكار الطلاق ، قال في شرح النافع : وهذا مذهب الأصحاب لا نعلم فيه مخالفا.

وقال في المسالك : وظاهرهم الاتفاق على كونه رجوعا. وعلله المحقق في الشرائع بأنه يتضمن التمسك بالزوجية ، قال في المسالك : ولأنه أبلغ من

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٨ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٨ ص ٤٠٠ ب ٢٩ ح ١ وفيهما «رجعة لها».

(٢) الحدائق ج ٢ ص ١٧٠.

٣٥٨

الرجعة بألفاظها المشتقة منها وما في معناها لدلالتها على رفعه في غير الماضي ودلالة الإنكار على رفعه مطلقا.

أقول : والأولى الرجوع إلى النص الوارد في المقام ، وهو ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (١) عن أبي ولاد الحناط في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن امرأة ادعت على زوجها أنه طلقها تطليقة طلاق العدة طلاقا صحيحا ـ يعني على طهر من غير جماع ـ وأشهد بها شهودا على ذلك ، ثم أنكر الزوج بعد ذلك ، فقال : إن كان إنكار الطلاق قبل انقضاء العدة فإن إنكاره للطلاق رجعة لها ، وإن أنكر الطلاق بعد انقضاء العدة فإن على الامام أن يفرق بينهما بعد شهادة الشهود بعد ما يستحلف أن إنكاره الطلاق بعد انقضاء العدة وهو خاطب من الخطاب». وهي صحيحة صريحة مؤيدة بعمل الأصحاب ، فلا مجال للتوقف في الحكم المذكور.

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٢) «وأدنى المراجعة أن يقبلها أو ينكر الطلاق فيكون إنكار الطلاق مراجعة».

الثاني : يستحب الاشهاد في الرجعة ولا يجب اتفاقا ، وعليه تدل جملة من الأخبار.

منها ما رواه في الكافي (٣) عن زرارة ومحمد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إن الطلاق لا يكون بغير شهود ، وإن الرجعة بغير شهود رجعة ولكن ليشهد بعد فهو أفضل».

وعن الحلبي (٤) في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الذي يراجع ولم يشهد قال : يشهد أحب إلي ، ولا أرى بالذي صنع بأسا».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٤ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٤٢ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٢ ب ١٤ ح ١ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٢) فقه الرضا ص ٢٤٢ ، المستدرك ج ٣ ص ١٤ ب ١٢ ح ١ وفيهما «إنكاره للطلاق».

(٣ و ٤) الكافي ج ٦ ص ٧٣ ح ٣ وص ٧٢ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧١ ب ١٣ ح ٣ و ٢.

٣٥٩

وعن محمد بن مسلم (١) قال : «سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته واحدة ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها ولم يشهد على رجعتها ، قال : هي امرأته ما لم تنقض عدتها ، وقد كان ينبغي له أن يشهد على رجعتها ، فإن جهل ذلك فليشهد حين علم ، ولا أرى بالذي صنع بأسا ، وأن كثيرا من الناس لو أرادوا البينة على نكاحهم اليوم لم يجدوا أحد يثبت على الشهادة على ما كان من أمرهما ، ولا أرى بالذي صنع بأسا ، وإن يشهد فهو أحسن».

وفي صحيحة محمد بن مسلم (٢) «وإنما جعل الشهود لمكان الميراث» إلى غير ذلك من الأخبار.

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٣) «فإن أراد مراجعتها راجعها ، وتجوز المراجعة بغير شهود كما يجوز التزويج ، وإنما تكره المراجعة بغير شهود من جهة الحدود والمواريث والسلطان». انتهى.

الثالث : لو طلقها طلاقا رجعيا فارتدت ، فهل يصح مراجعتها في حال الردة؟ المشهور المنع ، فكما أنه لا يصح ابتداء الزوجية فكذا استدامتها ، ويؤيد ذلك أن الرجوع تمسك بعصم الكوافر المنهي عنه في الآية نهي فساد لقوله «وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ» (٤). وعلل أيضا بأن المقصود من الرجعة الاستباحة ، وهذه الرجعة لا تفيد الإباحة فإنه لا يجوز الاستمتاع بها ولا الخلوة بها ما دامت مرتدة.

وعلل الجواز بأن الرجعية زوجة ، ويؤيده عدم وجوب الحد بوطئها ، ووقوع الظهار واللعان والإيلاء بها ، وجواز تغسيل الزوج لها وبالعكس فهي بمنزلة الزوجة.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٦ ص ٧٣ ح ٤ و ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٢ و ٣٧١ ب ١٣ ح ٦ و ١ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) فقه الرضا ص ٢٤٢ ، مستدرك الوسائل ج ٣ ص ١٤ ب ١١ ح ١.

(٤) سورة الممتحنة ـ آية ١٠.

٣٦٠