الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

تطليقتين؟ قال : فإنها ترثه إذا كان في مرضه ، قال : قلت : وما حد المرض؟ قال : لا يزال مريضا حتى يموت وإن طال ذلك إلى سنة».

وعن أبي العباس في الصحيح برواية المشايخ الثلاثة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة في مرضه ورثته ما دام في مرضه ذلك وإن انقضت عدتها إلا أن يصح منه ، قال : قلت : فإن طال به المرض؟ قال : ما بينه وبين سنة».

وعن سماعة برواية الثلاثة (٢) في الموثقة قال : «سألته عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته ، قال : ترثه ما دامت في عدتها ، وإن طلقها في حال إضرار فهي ترثه إلى سنة ، فإن زاد على السنة يوما واحدا لم ترثه» وزاد في الكافي والتهذيب «وتعتد منه أربعة أشهر وعشرا ، عدة المتوفى عنها زوجها». وبهذه الرواية استدل الشيخ على ما قدمنا نقله عنه ، وردها المتأخرون بضعف السند ، وهو غير مرضي ولا معتمد.

وما رواه في الكافي والفقيه (٣) عن أبان عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في رجل طلق امرأته تطليقتين في صحته ، ثم طلق التطليقة الثالثة وهو مريض : إنما ترثه ما دام في مرضه وإن كان إلى سنة». وهذه الرواية مع رواية أبي العباس الثانية ظاهرة الدلالة في أنها ترثه في عدة الطلاق البائن كما قدمنا ذكره ونحوهما ما يأتي في موثقة عبيد بن زرارة.

وما رواه في الكافي والتهذيب (٤) عن الحلبي وأبي بصير وأبي العباس جميعا

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٦ ص ١٢٢ ح ٧ و ٩ ، الفقيه ج ٤ ص ٢٢٨ ح ٢ وج ٣ ص ٣٥٤ ح ٧ و ٥ ، التهذيب ج ٩ ص ٣٨٥ ح ٩ وج ٨ ص ٧٨ ح ١٨٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٤ ب ٢٢ ح ١ و ٤ ، وفي بعضها اختلاف يسير.

(٣) الكافي ج ٧ ص ١٣٤ ح ٦ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٥٣ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٥ ب ٢٢ ح ٣ ، وما في المصادر اختلاف يسير.

(٤) الكافي ج ٧ ص ١٣٤ ح ٦ ، التهذيب ج ٩ ص ٣٨٦ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٧ ب ٢٢ ح ٩.

٣٢١

عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال : ترثه ولا يرثها إذا انقضت العدة».

وما رواه في التهذيب (١) عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يطلق امرأته في مرضه ، قال : ترثه ما دام في مرضه وإن انقضت عدتها».

وعن عبيد بن زرارة (٢) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يطلق امرأته تطليقتين ثم يطلقها الثالثة وهو مريض فهي ترثه».

وما رواه في الفقيه والتهذيب (٣) عن ابن مسكان عن البقباق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته وهو مريض ، قال : ترثه في مرضه ما بينه وبين سنة إن مات من مرضه ذلك ، وتعتد من يوم طلقها عدة المطلقة ، ثم تتزوج إذا انقضت عدتها ، وترثه ما بينها وبين سنة إن مات في مرضه ذلك وإن مات بعد ما تمضي سنة فليس لها ميراث».

ولا منافاة بين هذا الخبر وبين ما تقدم في موثقة سماعة (٤) من أنها تعتد عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا ، فإن المراد من هذا الخبر أنها تعتد بعد طلاقه لها عدة المطلقة ، وهما يتوارثان في العدة كما تقدم ، فإذا انقضت العدة امتنع ميراثه منها لو ماتت ، وبقي ميراثها منه لو مات ، فلو مات قبل السنة ورثته ، واعتدت منه عدة المتوفى عنها زوجها ما لم تتزوج قبل ذلك ، وعلى هذا تحمل موثقة سماعة.

وما رواه في كتاب من لا يحضره الفقيه (٥) عن صالح بن سعيد عن يونس

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٧٨ ح ١٨٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٧ ب ٢٢ ح ١٠.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٨٠ ح ١٩٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٨ ب ٢٢ ح ١٥.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٣٥٣ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٩ ح ١٩٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٧ ب ٢٢ ح ١١ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٢٢ ح ٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٥ ب ٢٢ ح ٤.

(٥) الفقيه ج ٤ ص ٢٢٨ ح ٤ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٣٤ ب ١٤ ح ٧.

٣٢٢

عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته ما العلة التي من أجلها إذا طلق الرجل امرأته وهو مريض في حال الإضرار ورثته ولم يرثها؟ فقال : هو الإضرار ومعنى الإضرار منعه إياها ميراثها منه ، فألزم الميراث عقوبة».

وهذا الخبر صريح فيما ذهب إليه الشيخ مما تقدم نقله عنه ، وهو ظاهر الصدوق بناء على قاعدته المذكورة في صدر كتابه.

وما رواه في التهذيب (١) عن محمد بن القاسم الهاشمي قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا ترث المختلعة والمبارأة والمستأمرة في طلاقها من الزوج شيئا إذا كان ذلك منهن في مرض الزوج وإن مات في مرضه ، لأن العصمة قد انقطعت منهن ومنه».

أقول : وفي هذا الخبر ما يشير إلى ذلك ، فإن الأخبار المتقدمة كلها قد اتفقت على ميراثها منه إلى سنة وإن خرجت من العدة ، وهؤلاء إنما خرجوا من الحكم المذكور لأن العلة في الطلاق من جهتهن بالمطالبة بالطلاق دون المطلقة التي لا تطلب ذلك ، بل ربما تكون كارهة له وإن بانت كما ذكره في الاستبصار.

هذا ما حضرني من أخبار المسألة ، وأنت خبير بأنه إذا ضم بعضها إلى بعض ما تقدم وما تأخر من غير رد لشي‌ء منها كما هو قاعدتنا في الكتاب ، فإن الناتج من ذلك هو أنه لا ينبغي للمريض أن يطلق زوجته إضرارا بها ، وهذا هو العلة في المنع الوارد في الأخبار المتقدمة في صدر المسألة.

ثم إنه إن فعل ذلك وخالف فإن طلاقة يكون صحيحا ، فيجوز للمرأة التزويج بعد الخروج من العدة ، فإن تزوجت بعد العدة أو بري‌ء المريض من مرضه أو جاز المرض السنة فلا ميراث بينهما ، وإلا فهي ترثه وإن بانت منه بطلاق بائن أو خروج من العدة الرجعية عقوبة ومقابلة له بضد ما قصده من منعها من الميراث بالطلاق ، وتعتد عدة المتوفى عنها زوجها متى ورثته.

وأما ما ادعاه في المسالك من ورود أخبار دالة على ما ذهب إليه الشيخ من أنه

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ١٠٠ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٩٦ ب ٥ ح ٤.

٣٢٣

يرثها كما ترثه في العدة البائنة ، فليس في الأخبار المذكورة ما يدل عليه وليس غيرها في الباب.

نعم هنا بعض الأخبار الموهمة لذلك ، إلا أنه ليس فيها تصريح بالمرض ، بل ظاهرها إنما هو الصحيح.

ومنها ما رواه في التهذيب (١) عن عبد الرحمن عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته آخر طلاقها ، قال : نعم يتوارثان في العدة».

وعن يحيى الأزرق (٢) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «المطلقة ثلاثا ترث وتورث ما دامت في عدتها». والشيخ قد حملها تارة على ما إذا وقعت الثلاث في مجلس واحد فتحسب بواحدة يملك معها الرجعة ، واخرى على ما إذا وقعت الثالثة في حال مرض الزوج ، فإنه يوجب الإرث وإن انقطعت العصمة.

وأنت خبير بما في هذا الاستدلال مع تعدد الاحتمال من الضعف والقصور ، وبه يظهر قوة القول المشهور كما تقدم ذكره ، والتأويل الثاني إنما يتم لو قام الدليل من خارج على ميراثه منها كما قام على ميراثها منه ، وإلا فإتيانه بمجرد هذه الرواية لا يخفى ما فيه.

تنبيهات

الأول : المشهور أنه كما لا يلحق بالطلاق غيره من أنواع الفسخ اتفاقا كذلك لا يلحق بالمرض غيره مما يشبهه من الأحوال المخوفة ، وقوفا فيما خالف الأصل على موضع اليقين ، ونقل عن ابن الجنيد أنه ألحق الأسير الغير الآمن على نفسه غالبا ، والمأخوذ للقود بحد يخاف عليه ، مثل ما يخاف عليه بالمرض.

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٨٠ ح ١٩١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٨ ب ٢٢ ح ١٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٩٤ ح ٢٣٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٨ ب ٢٢ ح ١٣.

٣٢٤

ونفى عنه العلامة ـ رحمه‌الله عليه ـ البأس ، ولا يخفى أنه مجرد قياس لا يخرج عن ظلمة الالتباس.

الثاني : اختلف الأصحاب فيما لو طلق الأمة مريضا طلاقا رجعيا ، أو الكتابية ، ثم أعتقت الأمة وأسلمت الكتابية في العدة ومات في مرضه ، فقيل بأنهما ترثان في العدة ولا ترثان بعدها ، لانتفاء التهمة ، لأن الأمة والكتابية لا ترثان وقت الطلاق.

وقيل : إنهما ترثان مطلقا ولو بعد العدة ، لوجود المقتضي للإرث ـ وهو الطلاق في المرض ـ وانتفاء المانع ، إذ ليس هنا إلا كونهما غير وارثين وقت الطلاق ، وهو لا يصلح للمانعية ، لأن المعتبر استحقاق الإرث حال الحكم به ، والمفروض أنهما حال الموت حرة مسلمة.

وأنت خبير بأن القولين المذكورين متفرعان على الخلاف المتقدم ذكره من أن الموجب للميراث بعد العدة أو كون الطلاق بائنا هل هو مجرد إطلاق الأخبار الدالة على أن المريض إذا طلق امرأته في حال مرضه ورثته إلى سنة؟ أو أن الموجب إنما هو حصول التهمة بكون طلاقه لها لقصد حرمانها من الميراث؟ فالقول الثاني وهو القول بميراثها مطلقا يتفرع على الأول ، والأول على الثاني.

وقيل في المسألة أيضا قول ثالث ، وهو أنها لا ترث (١) وإن انتفت التهمة وعلل بأنه طلقهما في حال لم يكن لهما أهلية الإرث ، والمفروض كون الطلاق بائنا ، فلم يصادف وقت الإرث أهليتهما له للبينونة ولا وقت الطلاق لوجود المانع وهو الرق والكفر.

ونقل عن فخر المحققين أنه استدل على هذا القول بأن النكاح الحقيقي لم يوجب لهما الميراث فكيف الطلاق. واعترضه في المسالك بمنع أن النكاح لا يوجب الميراث ، قال : بل هو موجب له مطلقا ، ولكن الكفر والرق مانعان من الإرث إذ الإسلام والحرية شرط فيه ، وتخلف الحكم عن السبب لوجود مانع

__________________

(١) الظاهر «أنهما لا ترثان» هو الصحيح.

٣٢٥

أو فقد شرط لا يقدح في سببيته ، فإذا فقد المانع أو وجد الشرط عمل السبب عمله كما حقق في الأصول والأمر هنا كذلك ، انتهى.

أقول : والظاهر بالنظر إلى ما قدمنا اختياره من أن الموجب للإرث إنما هو التهمة بقصده الإضرار بها هو القول الأول من الأقوال الثلاثة المذكورة ، وهو اختيار العلامة في المختلف ، ونقله فيه عن ابن الجنيد أيضا وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك بناء على ترجيحه القول بإطلاق الأخبار المتقدمة وعدم صلاحية المخصص للتخصيص لضعف الاسناد اختار الثاني.

الثالث : إذا ادعت المطلقة المريض أن المريض طلقها قبل موته في حال المرض ، وأنكر الوارث ذلك وزعم أنه طلقها في حال الصحة قالوا : إن القول هنا قول الوارث لتساوي الاحتمالين المذكورين ، والأصل عدم التوارث إلا مع وجود سببه.

توضيحه : أن إرث المطلقة هنا لما كان جاريا على خلاف الأصل ومتوقفا على شرط ـ وهو وقوع الطلاق في حال مرض الموت ـ فلا بد في ثبوت الميراث من العلم بوجود الشرط المذكور ، وإلا فالأصل عدم الإرث.

الرابع : قالوا : لو طلق أربعا في مرضه وتزوج أربعا ودخل بهن ثم مات فيه كان الربع أو الثمن بينهن بالسوية ، وإنما قيد تزويج الأربع الجديدات بالدخول لما سيأتي إن شاء الله من أن صحة نكاح المريض مشروط بالدخول. فلو مات قبله فلا ميراث ، وحينئذ فإذا دخل بالأربع الجديدات ورثته بالدخول والزوجية المقتضية لذلك ، وورثته الأربع الأول أيضا لوجود سببه ، وهو الطلاق في مرض الموت المقتضي للإرث وإن خرجن عن الزوجية. وحينئذ فتشترك الجميع في الربع أو الثمن بالسوية كاشتراك الأربع فيه ولا ميراث لما زاد عن الأربع بالزوجية إلا في هذه الصورة ، والله العالم.

٣٢٦

المقصد الثالث

في جملة من الأحكام المتعلقة بالمقصد المتقدم

وفيه فصول :

الأول في المحلل :

ويشترط فيه شروط ، الأول : أن يكون الزوج بالغا ، وفي المراهق خلاف ، والذي قطع به الأكثر العدم ، وقوى الشيخ في المبسوط والخلاف وقوع التحليل بالمراهق ، وهو من قارب الحلم ، فإنه يحصل بوطئه التحليل.

ويدل على المشهور صريحا ما رواه في الكافي (١) عن علي بن الفضل الواسطي قال : «كتبت إلى الرضا عليه‌السلام : رجل طلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فتزوجها غلام لم يحتلم ، قال : لا ، حتى يبلغ. فكتبت إليه : ما حد البلوغ؟ فقال : ما أوجب على المؤمنين الحدود».

وما روي في عدة أخبار عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك». وهو ما فسره في النهاية (٢) وغيرها من كتب اللغة كناية عن لذة الجماع ، وقيل : الانزال ، وهو لا يتحقق إلا في البالغ لأن اللذة التامة إنما تحصل بإنزال المني وإن حصل قبله لذة ما ، ويشير إليه التشبيه بالعسل المشتمل على كمال اللذة ، واستدل للشيخ بظاهر قوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (٣) الصادق ذلك الصغير والكبير ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني ـ رحمه‌الله عليه ـ في المسالك بالميل إلى ما ذهب إليه الشيخ مستندا إلى ظاهر الآية المذكورة ، واستضعافا لسند الرواية المتقدمة ، وحملا للحديث النبوي على ما يشمل المراهق لأن له لذة

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٦ ح ٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٧ ب ٨ ح ١.

(٢) النهاية لابن الأثير ج ٣ ص ٢٣٧.

(٣) سورة البقرة ـ آية ٢٣٠.

٣٢٧

الجماع ، وكذلك المرأة تلتذ به فيتناوله الخبر.

وفيه : أن ما استند إليه من ظاهر الآية يرده أنهم قد صرحوا في غير مقام بأن الإطلاق إنما ينصرف إلى الأفراد الكثيرة المتعارفة دون الأفراد النادرة ، ولا ريب أن نكاح غير البالغ من أندر الفروض النادرة.

وأما رد الرواية بضعف السند فقد عرفت أنه غير مرضي ولا معتمد ، أما عندنا فظاهر ، وأما عندهم فلجبرها بشهرة الفتوى بمضمونها ، حتى أن سبطه الذي هو عمدة المشيدين لهذا الاصطلاح المحدث قد قال بالقول المشهور واستدل بها.

وأما دعوى دخول المراهق في الحديث النبوي فهو بعيد غاية البعد لما أشرنا إليه آنفا.

الثاني : أن يطأها المحلل ، فلا يكفي العقد المجرد عن الوطء ، ولا الخلوة المضاف إليه. ونقل الإجماع على ذلك من الخاصة والعامة إلا من سعيد بن المسيب ، حيث اكتفى بمجرد العقد عملا بظاهر الآية المتقدمة ، لأن النكاح حقيقة في العقد.

وفيه مضافا إلى الإجماع المذكور أن إطلاق الآية مخصص بأخبار العسيلة ، ومنها في خصوص ما نحن فيه ، ما رواه في الكافي (١) عن أبي حاتم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ثم تزوج رجلا لا يدخل بها ، قال : لا حتى يذوق عسيلتها».

وما رواه في التهذيب (٢) عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «في الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يراجعها بعد انقضاء عدتها ، فإذا طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فإذا تزوجها غيره ولم يدخل بها وطلقها أو مات عنها لم تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢٥ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٦ ب ٧ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٣٣ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٢ ب ٣ ح ٩.

٣٢٨

وخبر العسيلة أيضا مروي عندهم كما هو مروي عندنا ، فروى غير واحد منهم (١) «أنه جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : كنت عند رفاعة ، فبت طلاقي ، فزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، فطلقني قبل أن يمسني ـ وفي رواية : وأنا معه مثل هدية الثوب ـ فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أتريدين أن ترجعى إلى رفاعة؟ لا ، حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك».

الثالث : أن يكون الوطء في القبل فلا يكفي في الدبر ، وقال في المسالك : وهو مستفاد أيضا من ذوق العسيلة ، فإنه منتف من الجانبين في غير القبل ، ولأنه المعهود.

أقول : وفي هذا الكلام تأييد لما أوردناه عليه آنفا من استناده إلى ظاهر الآية في تقوية مذهب الشيخ ، مع أنه خلاف المعهود ، واستناده إلى الحديث النبوي في شموله المراهق ، بدعوى حصول اللذة له فإن اللذة أيضا حاصلة بالجماع في الدبر ، ولم يرتكب ذلك فاعله إلا لما يراه فيه من اللذة ، ولكنها لا يبلغ لذة النكاح في القبل ، ودعواه ـ رحمة الله عليه ـ أنه منتف من الجانبين في غير القبل ممنوعة لما عرفت.

الرابع : كون الوطء موجبا للغسل ، وحده أن تغيب الحشفة أو قدرها من مقطوعها ، لأن ذلك هو مناط أحكام الوطء كلها ، قالوا : والفرق بين أن يحصل مع ذلك انتشار العضو وعدمه حتى لو حصل بإدخال الحشفة بالاستعانة ، كفى على ما يقتضيه إطلاق النص والفتوى.

ويشكل ذلك بأخبار العسيلة الظاهرة في حصول اللذة بذلك الجماع ، ومجرد إدخال المقدار المذكور على هذا الوجه لا يترتب عليه لذة كما لا يخفى ، ودعوى اقتضاء إطلاق النص ما ذكروه ممنوع ، فإن الإطلاق إنما

__________________

(١) سنن أبى داود ج ٢ ص ٢٩٤ ح ٢٣٠٩ ، سنن البيهقي ج ٧ ص ٣٧٣ ، النهاية لابن الأثير ج ٣ ص ٢٣٧.

٣٢٩

يحمل على الأفراد الشائعة المتكررة دون الفروض النادرة ، ويؤيد ذلك بأخبار العسيلة المذكورة. وبالجملة فالظاهر عندي ضعف ما ذكروه ، وإن كان ظاهرهم الاتفاق عليه.

الخامس : كون ذلك بالعقد الدائم ، واحترزنا بالعقد عن ملك اليمين والتحليل لقوله تعالى «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» (١) والنكاح حقيقة في العقد ، وعلى تقدير كونه حقيقة في الوطء فلفظ الزوج موجب لخروج النكاح بالملك والتحليل إذ لا يسمى واحد منهما زوجا ، ويدل على ذلك قوله تعالى «فَإِنْ طَلَّقَها» والنكاح بملك اليمين أو التحليل لا طلاق فيه.

ومن الأخبار الدالة على ذلك بالنسبة إلى ملك اليمين ما رواه في التهذيب (٢) عن الفضيل عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «سألته عن رجل زوج عبده أمته ثم طلقها تطليقتين ، أيراجعها إن أراد مولاها؟ قال : لا ، قلت : أفرأيت أن وطأها مولاها أيحل للعبد أن يراجعها؟ قال : لا ، حتى تزوج زوجا غيره ويدخل بها فيكون نكاحا مثل نكاح الأول ، وإن كان قد طلقها واحدة فأراد مولاها راجعها».

والتقريب فيها أن الأمة تحرم بتطليقتين ولا تحل إلا بالمحلل ، وقد منع عليه‌السلام نكاح المولى أن يكون تحليلا موجبا لجواز مراجعة الزوج الأول لها ، وأوجب زوجا غيره مثل التزويج الأول ، ونحوها أيضا رواية عبد الملك بن أعين. (٣)

واحترزنا بالدائم عن نكاح المتعة ، فإنه لا يحصل به تحليل اتفاقا وفتوى ،

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٣٠.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٨٧ ح ٢١٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٧ ب ٢٧ ح ٢.

(٣) وهي ما رواه في التهذيب عن عبد الملك بن أعين قال : «سألته عن رجل زوج جاريته رجلا فمكثت معه ما شاء الله ثم طلقها ورجعت الى مولاها فوطأها ، أتحل لزوجها إذا أراد أن يراجعها؟ قال : لا ، حتى تنكح زوجا غيره». وهي محمولة على ما إذا كان الطلاق مرتين ، لان الطلاق مرة لا يوجب التحريم كما صرحت به الرواية المذكورة في الأصل. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٣٠

ومن الأخبار في ذلك ما رواه في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام «قال سألته عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، ثم تمتع منها رجل آخر ، هل تحل للأول؟ قال : لا».

وعن الصيقل (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فتزوجها رجل متعة ، أيحل له أن ينكحها؟ قال : لا ، حتى تدخل في مثل ما خرجت منه».

أقول : وفي هذا الخبر دلالة على عدم التحليل بشي‌ء من الثلاثة المذكورين فإن الذي خرجت منه إنما هو النكاح بالعقد الدائم ، وهو الذي حصل به التحريم بالتكرر ثلاث مرات ، فلا بد في المحلل الذي تدخل فيه أن يكون كذلك ، فلا يجزي نكاح الملك ولا التحليل ولا المتعة ، وهو ظاهر.

وما رواه الشيخ في التهذيب (٣) عن الصيقل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فيتزوجها رجل متعة ، أتحل للأول؟ قال : لا ، لأن الله تعالى يقول «فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها» والمتعة ليس فيها طلاق».

أقول : ومن هذا الخبر أيضا يستفاد عدم التحليل بملك اليمين والتحليل ، إذ لا طلاق في شي‌ء منهما كما عرفت.

وعن هشام بن سالم (٤) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل تزوج امرأة ثم طلقها فبانت فتزوجها رجل آخر متعة ، هل تحل لزوجها الأول؟ قال : لا ، حتى تدخل فيما خرجت منه». والتقريب فيها كما تقدم في رواية الصيقل الاولى.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢٥ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٨ ب ٩ ح ٢ وفيهما «تمتع فيها».

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٢٥ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٨ ب ٩ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٨ ص ٣٤ ح ٢٢ و ٢١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٩ ح ٤ و ٣.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ٣٤ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٩ ب ٩ ح ٣.

٣٣١

وعن عمار بن موسى (١) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته تطليقتين للعدة ، ثم تزوجت متعة ، هل تحل لزوجها الأول؟ قال : لا : حتى تزوج ثباتا».

أقول : وفي هذا الخبر دلالة على ما ذكرناه من الشرط المذكور الموجب لخروج الثلاثة المذكورة ، فإن ثباتا إما بالثاء المثلثة ثم الباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق ، أو بالباء الموحدة أولا ثم بالتائين المثناتين من فوق من البت بمعنى اللزوم ، والمعنيان متقاربان ، وهما كناية عن العقد الدائم كما وقع التعبير به في غير هذا الخبر أيضا.

ومن أخبار المسألة زيادة على ما ذكر ما رواه في الكافي (٢) عن إسحاق بن عمار قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فتزوجها عبد ثم طلقها ، هل يهدم الطلاق؟ قال : نعم ، لقول الله تعالى في كتابه «حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» وقال : هو أحد الأزواج». وفي الخبر دلالة على التحليل بتزويج العبد كالحر.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن التحليل المذكور إذا استكمل الشرائط المذكورة فإنه لا خلاف في هدمه الثلاث الطلقات إذا وقع بعدها ، وإنما الخلاف في هدمه ما دون الثلاث ، بمعنى أنه إذا طلق الزوجة طلقة واحدة أو طلقتين ثم خرجت من العدة فتزوجت بغيره تزويجا مشتملا على شروط التحليل المتقدمة ثم طلقها أو مات عنها ثم رجعت إلى الزوج الأول بعقد جديد ، فهل تبقى معه على ثلاث تطليقات ، بمعنى أن هذا التزويج قد هدم الطلاق الأول فكأنه لم يطلقها بالكلية ولا يحسب تلك الطلقة أو الطلقتان؟ أو أنها تبقى معه على ما بقي من الثلاث ،

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٣٣ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٤ ب ٦ ح ٥ وفيهما «بتاتا» مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٢٥ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٠ ب ١٢ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

٣٣٢

بمعنى أن التزويج الثاني لم يهدم الطلاق الأول فتبقى بعد عودها إلى الأول على واحدة أو اثنتين؟ قولان ، المشهور الأول ، وقيل بالثاني ، إلا أن القائل به غير معلوم ، وإنما نقله الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا المتأخرين ، وهو الظاهر عندي من الأخبار كما ستمر بك إن شاء الله تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار.

والذي يدل على القول المشهور ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (١) عن رفاعة في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته حتى بانت منه وانقضت عدتها ثم تزوجت زوجا آخر فطلقها أيضا ثم تزوجها زوجها الأول ، أيهدم ذلك الطلاق الأول؟ قال : نعم».

ورواها الشيخ في التهذيب (٢) بسند فيه ضعف عن رفاعة بن موسى قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل طلق امرأته تطليقة واحدة فتبين منه ثم يتزوجها آخر فيطلقها على السنة فتبين منه ثم يتزوجها الأول ، على كم هي عنده؟ قال : على غير شي‌ء. ثم قال : يا رفاعة كيف إذا طلقها ثلاثا ثم تزوجها ثانية استقبل الطلاق ، فإذا طلقها واحدة كانت على اثنتين».

وما رواه في التهذيب (٣) عن عبد الله بن عقيل بن أبي طالب عليه‌السلام في الضعيف قال : «اختلف رجلان في قضية إلى علي عليه‌السلام وعمر في امرأة طلقها زوجها تطليقة أو اثنتين ، فتزوجها آخر فطلقها أو مات عنها ، فلما انقضت عدتها تزوجها الأول ، فقال عمر : هي منك على ما بقي من الطلاق. وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : سبحان الله أيهدم ثلاثا ولا يهدم واحدة».

وأما ما يدل على القول الآخر فظاهر الآية وهي قوله تعالى «فَإِنْ طَلَّقَها

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٧ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٣ ب ٦ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٣١ ح ١١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٣ ب ٦ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٣٤ ح ٢٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٣ ب ٦ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

٣٣٣

فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ» فإن المراد من الآية كما ذكره المفسرون وبه وردت الأخبار أنه إذا طلقها الثالثة ، وهو أعم من أن يتحلل ذلك نكاح زوج غيره أم لا ، إذ المدار في التحريم المتوقف حله على المحلل هو حصول الطلقات الثلاث مطلقا ، وبه أخبار صحاح صراح متكاثرة.

ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن وفي التهذيب (١) في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته تطليقة واحدة ثم تركها حتى قضت عدتها ثم تزوجها رجل غيره ثم إن الرجل مات أو طلقها فراجعها الأول ، قال : هي عنده على تطليقتين باقيتين».

وما رواه في الكافي (٢) عن علي بن مهزيار في الصحيح قال : «كتب عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : روى بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته على الكتاب والسنة فتبين منه بواحدة فتزوج زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها فترجع إلى زوجها الأول ، أنها تكون عنده على تطليقتين وواحدة قد مضت ، فوقع عليه‌السلام تحته : صدقوا. وروى بعضهم أنها تكون عنده على ثلاث مستقبلات ، وأن تلك التي طلقها ليست بشي‌ء لأنها قد تزوجت زوجا غيره ، فوقع عليه‌السلام بخطه : لا».

وما رواه الشيخ (٣) عن أحمد بن محمد بن عيسى عن علي بن أحمد عن عبد الله بن محمد قال : «قلت له : روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته على الكتاب والسنة فتبين منه بواحدة وتزوج زوجا غيره فيموت عنها أو يطلقها فترجع إلى زوجها الأول أنها تكون عنده على تطليقتين وواحدة قد مضت ، فقال : صدقوا».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢٦ ح ٥ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٢ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٤ ب ٦ ح ٦ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٢٦ ح ٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٤ ب ٦ ح ٧ و ٨ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٣٢ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٤ ب ٦ ح ٧ وفيهما اختلاف يسير.

٣٣٤

وما رواه الشيخ (١) في الصحيح عن منصور عن أبي عبد الله عليه‌السلام في امرأة طلقها زوجها واحدة أو اثنتين ثم تركها حتى تمضي عدتها فتزوجها غيره فيموت أو يطلقها فيتزوجها الأول ، قال : هي عنده على ما بقي من الطلاق».

ورواه أيضا بسند آخر في الصحيح عن ابن مسكان عن محمد الحلبي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله.

وعن جميل بن دراج (٣) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة فتزوجت ثم يطلقها فتزوجها الأول ثم طلقها فتزوجت رجلا ثم طلقها ، فإذا طلقها على هذا ثلاثا لم تحل له أبدا».

ونحو روى إبراهيم بن عبد الحميد (٤) عن الحسن عليه‌السلام وفي بعض متون هذا الخبر وهو الذي نقله في المسالك عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام وإبراهيم بن عبد الحميد عن الكاظم عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة فتزوجت ثم طلقها زوجها فتزوجها الأول ثم طلقها فتزوجت رجلا ، ثم طلقها هكذا ثلاثا لا تحل له أبدا».

والتقريب في هذا الخبر أنه لو هدم الزوج المتوسط الطلاق الذي تقدم من الزوج الأول لكان إذا طلقها على الوجه المذكور في الخبر تحل له أبدا لعدم الموجب للتحريم. والظاهر أن المراد بقوله «لم تحل له أبدا» يعني حتى تنكح زوجا غيره.

وما رواه الشيخ (٥) عن الحسين بن سعيد عن صفوان عن موسى بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «أن عليا عليه‌السلام كان يقول في الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يتزوجها بعد زوج : إنها عنده على ما بقي من طلاقها». وليس في سند هذا

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٨ ص ٣٢ ح ١٣ و ١٤، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٥ ب ٦ ح ٩.

(٣ و ٤) الكافي ج ٥ ص ٤٢٨ ح ١٣ و ٧.

(٥) التهذيب ج ٨ ص ٣٢ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٥ ب ٦ ح ١٠ وفيهما «موسى بن بكر».

٣٣٥

الخبر من يتوقف في شأنه إلا موسى بن بكير ، فإنه قيل : إنه واقفي إلا أنه من أصحاب الأصول ، والراوي عنه صفوان الذي قد نقل فيه إجماع العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، فالرواية لا يخلو من الاعتبار في سندها.

وما رواه أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره عن النصر عن عاصم عن محمد بن قيس (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته تطليقة ثم نكحت بعده رجلا غيره ثم طلقها فنكحت زوجها الأول ، فقال : هي عنده على تطليقة».

هذا ما حضرني من روايات هذا القول ولا يخفى على الناقد البصير ضعف معارضة روايتي القول المشهور لهذه الأخبار ، بل التحقيق أنه ليس للقول المشهور إلا رواية رفاعة ، لأن رواية عبد الله بن عقيل لم تستند إلى إمام ، وإنما استندت إليه ، فهي ليست بدليل شرعي ، ولا سيما مع معارضتها برواية الباقر عليه‌السلام عن علي عليه‌السلام خلاف ما دلت عليه كما عرفت ، فلم يبق إلا رواية رفاعة ، والعمدة في ترجيحها إنما هو شهرة القول بها ، فانحصر الدليل في الشهرة ، ولهذا أن جملة من المتأخرين قد ترددوا في المسألة ، واستشكلوا فيها من حيث صحة أخبار القول الثاني وتكاثرها ومن حيث شهرة القول الأول حيث لم يظهر له مخالف منهم ، ومنهم العلامة في التحرير والسيد السند في شرح النافع والفاضل الخراساني في الكفاية ، ونسبه المحقق في كتابيه إلى أشهر الروايتين ، ومثله العلامة في القواعد والإرشاد إيذانا بالتوقف فيه.

والشيخ قد أجاب عما نقله من أدلة هذا القول بوجوه : (منها) أن الزوج الثاني لم يدخل بها ، أو كان تزوج متعة ، أو لم يكن بالغا ، فإن في جميع هذه المواضع لا يحصل التحليل كما تقدم ذكره ، أو الحمل على التقية محتجا بأنه مذهب عمر كما دلت عليه رواية عبد الله بن عقيل ، ولا يخفى بعد الجميع.

قال السيد السند في شرح النافع بعد ذكر محامل الشيخ : ولا يخفى بعد

__________________

(١) البحار ج ١٠٤ ص ٦٩ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٥ ب ٦ ح ١١.

٣٣٦

هذه المحامل ، والمسألة محل تردد ، والقول بعدم الهدم لا يخلو من قوة ، إلا أن المشهور خلافه ، ومن ثم اقتصر المصنف على جعل رواية الهدم أشهر مؤذنا بتوقفه فيه وهو في محله ، انتهى.

وقال جده في المسالك بعد ذكر جملة من أدلة هذا القول : ولا يخفى عليك قوة دليل هذا الجانب لضعف مقابله ، إلا أن عمل الأصحاب عليه ، فلا سبيل إلى الخروج عنه ـ ثم نقل محامل الشيخ الثلاثة الأول ، وقال عقيبها : ـ وما أشبه هذا الحمل بأصل الحجة.

أقول : لا يخفى عليك ما في التمسك بعمل الأصحاب في مقابلة هذه الأخبار الصحاح الصراح المستفيضة من المجازفة ، فإنه لا ريب أن المأخوذ على الفقيه في الفتوى بالأحكام الشرعية إنما هو الأخذ بما أنزل الله سبحانه مما ورد في الكتاب العزيز والسنة المطهرة. ولا سيما الخبر المستفيض من الخاصة والعامة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما». لا ما ذكره غير ، من العلماء وإن ادعوا الإجماع عليه.

وبذلك اعترف هو نفسه ـ رحمة الله عليه ـ في مسألة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية من كتاب الوصايا ، وقد قدمنا كلامه في كتاب الوصايا إلا أنه لا بأس بنقل ملخصه هنا.

قال ـ رحمة الله عليه ـ : ولا يقدح دعواه الإجماع في فتوى العلامة بخلافه ، لأن الحق أن إجماع أصحابنا إنما يكون حجة مع تحقق دخول قول المعصومين عليهم‌السلام في جملة قولهم ـ إلى أن قال : ـ وبهذا يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع إذا قام عنده الدليل

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ١٩ ح ٩ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٥١ ب ١٣ ح ٧٧ وص ١٩ ب ٥ ح ٩ ، مسند أحمد بن حنبل ج ٣ ص ١٤ و ١٧ وما في المصادر اختلاف يسير.

٣٣٧

على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، لكن زلة المتقدم متسامحة عند الناس دون المتأخرين ، انتهى.

فانظر إلى ما بينه وبين هذا الكلام المنحل الزمام من الغفلة مما حققه في ذلك المقام ، الذي هو الحقيق بالأخذ به والالتزام ، ثم إنا لو نزلنا عن القول بمقتضى قواعدهم من أنه لا يجمع بين الأخبار إلا بعد تحقق المعارض بينها ، وقلنا بثبوت التعارض بين روايات القول الآخر وموثقة رفاعة ، فالواجب الرجوع إلى طرق الترجيح الواردة في مقبولة عمر بن حنظلة (١) ورواية زرارة ونحوهما ، ومن الطرق المذكورة الترجيح بالأعدل والأفقه والأورع.

(ومنها) الترجيح بالشهرة ، ولا ريب في حصول الترجيح بهاتين الطريقتين لروايات القول الآخر (٢) دون رواية رفاعة ، فإن روايات عدم الهدم قد رواها كثير من فقهاء أصحابهم عليهم‌السلام كزرارة وعلي بن مهزيار ومنصور بن حازم وجميل بن دراج وعبد الله بن علي بن أبي شعبة وأخيه محمد ، فتكون روايات عدم الهدم بذلك أشهر رواية وأعدل وأفقه وأورع رواة والمراد بالشهرة التي هي أخذ طرق الترجيح إنما هي الشهرة في الرواية ، لا العمل كما حقق في محله ، وكذا المجمع عليه ، وهو حاصل لروايات عدم الهدم خاصة.

وبالجملة فالترجيح بهاتين الطريقتين مما لا إشكال في اختصاصه بالروايات المذكورة.

(ومنها) الترجيح بموافقة الكتاب ، وهو أيضا مخصوص برواية عدم الهدم

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٦٧ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٨ ص ٧٥ ب ٩ ح ١.

(٢) ومقتضاها هو طرح رواية رفاعة بالكلية لعدم نهوضها بالمعارضة سندا وعددا ، إلا أنا لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بمعارضتها فلنا أن نقول أيضا ما عرفت في الأصل.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٣٨

بالتقريب الذي قدمناه ، وقد استفاضت الأخبار بالرد إلى الكتاب (١) ، وأن ما خالف كتاب الله زخرف.

(ومنها) الترجيح بالاحتياط كما تضمنته مرفوعة زرارة (٢) وهو أيضا مخصوص بالرواية المذكورة.

(ومنها أيضا) الأخذ بقول الأخير من الإمامين عليهما‌السلام (٣). وهذه القاعدة ذكرها الصدوق في كتابه ، وهو أيضا حاصل الروايات المذكورة.

وبيانه : أن صحيح علي بن مهزيار قد اشتمل على عرض القولين المذكورين على أبي الحسن الهادي عليه‌السلام فصدق روايات القول الآخر ، وبقي روايات القول المشهور.

أما الترجيح بالتقية فهو أقوى ما يمكن أن يتمسك به لترجيح خبر رفاعة.

وفيه (أولا) أنه مبني على ثبوت ذلك ، وهو غير معلوم ، فإن المستند بكونه حكم عمر إنما هو رواية عبد الله بن عقيل ، وهي غير مستندة إلى الامام عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٦٩ ، الوسائل ج ١٨ ص ٧٥ ب ٩.

(٢) مستدرك الوسائل ج ٣ ص ١٨٥ ب ٩ ح ٢ من أبواب صفات القاضي.

(٣) ومن أخبار هذه القاعدة ما رواه في الكافي عن الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «لو حدثتك بحديث العام ، ثم جئتني من قابل فحدثتك ، بأيهما كنت تأخذ؟ قال : قلت : كنت آخذ بالأخير ، فقال لي : رحمك الله».

وعن المعلى بن خنيس عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما آخذ؟ فقال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : انا والله لا ندخلكم الا فيما يسعكم».

والصدوق ـ رحمة الله عليه ـ أشار الى هذه القاعدة في باب الرجل يوصى لرجلين حيث نقل فيه خبرين يتوهم أنهما مختلفان فقال : ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه‌السلام. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٣٩

بل المخبر بذلك إنما هو عبد الله المذكور ، وقوله ليس بحجة شرعية ، سيما مع معارضة خبر زرارة الدالة على أن عليا عليه‌السلام كان يقول إنها على ما بقي من الطلاق ، وهي صريحة في أن مذهب علي عليه‌السلام هو القول بعدم الهدم ، والراوي عنه ابنه الباقر عليه‌السلام ، ولا تعارضه رواية عبد الله بن عقيل عنه عليه‌السلام خلافه.

(وثانيا) أن العامة مختلفون في المسألة أيضا على ما نقله الشيخ في الخلاف (١) ، والقول بالهدم منقول عن أبي حنيفة وأبي يوسف وابن عمر ، وليس حمل أخبار عدم الهدم على التقية كما ذكره الشيخ بأولى من حمل رواية رفاعة الشاذة النادرة عليه ، سيما مع ما علم من كتب السير والتواريخ من شيوع مذهب أبي حنيفة في زمانه وقوته ، وهو في عصر الصادق عليه‌السلام المروي عنه القول بالهدم ، وحينئذ فلا يبعد حمل رواية رفاعة الدالة على الهدم على التقية.

ويؤيده أن المنقول في كتب السير والأخبار أن شهرة هذه المذاهب الأربعة إنما كان قريبا من سنة خمس وستين وستمائة ، واستمر الأمر إلى هذا الزمان وأما في الأعصار السابقة فإن المعتمد في كل زمان على من اعتنت به خلفاء الجور وقدموه للقضاء والفتيا وإليه يرجع الحكم في جميع البلدان ، وكان المعتمد في زمن أبي حنيفة على فتاويه ، وفي زمن هارون الرشيد وهو في عصر مولانا الكاظم عليه‌السلام على فتاوي أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة ، قالوا : قد استقضاه الرشيد واعتنى به حتى لم يقلد في بلاد العراق والشام ومصر إلا من أشار إليه أبو يوسف ، وفي زمن المأمون كان الاعتماد على يحيى بن أكثم القاضي ، وفي زمن المعتصم على أحمد ابن أبي داود القاضي ، وإذا كان الأمر كذلك فيجوز أن يكون المشهور في عصر مولانا الصادق عليه‌السلام الذي عليه عمل العامة ، وإليه ميل قضاتهم وحكامهم هو القول بالهدم بل هو الواقع ، لأن اعتماد العامة في وقت الصادق عليه‌السلام كان على أبي حنيفة القائل بالهدم ، فالتقية منه لشيوع مذهبه في تلك الأيام ، وإن كان نادرا في وقت

__________________

(١) الخلاف : ج ٣ كتاب الطلاق «مسألة ٥٩».

٣٤٠