الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

لعلله عليه‌السلام بما علل به سابقه من كونه طلق طالقا ، فإنه أوضح في التعليل وأظهر كما لا يخفى.

وبالجملة فالظاهر أن ما ادعوه من ذلك مجرد توهم نشأ من حكم ابن أبي عقيل ببطلان الطلاق الأخير ، ولا وجه له ظاهرا عندهم إلا ذلك ، حيث إن هذا الوجه الذي علل به الابطال كما في الرواية غريب على قواعدهم ، ولم يقفوا على هذه الرواية بالكلية ، ولم يتعرضوا لها في الكتب الاستدلالية.

وأما قوله عليه‌السلام في رواية أبي بصير السابقة «المراجعة هي الجماع» فالظاهر أن المعنى فيها أن المراجعة الموجبة لصحة الطلاق بعدها هي ما اشتملت على الجماع كما يدل عليه قوله «وإلا فهي واحدة» كما لا يخفى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الجمع بين هذه الأخبار لا يخلو عن أحد وجوه :

الأول : ما ذكره شيخنا في كتابي الأخبار من حمل الأخبار الواردة بالنهي عن تكرار الطلاق بعد الرجعة بدون وطء ، فإن ذلك الطلاق لا يقع على كون ذلك الطلاق للعدة ، لأنه كما تقدم في سابق هذه المسألة مشروط بالرجعة والوطء بعدها عندهم ، وحمل أخبار الجواز على طلاق السنة بالمعنى الأعم ، ونسبه المحقق في الشرائع بعد نقل ذلك عنه إلى التحكم ، وهو القول بغير دليل.

قال في المسالك : ووجهه أن كلا من الأخبار ورد في الرجل يطلق على الوجه المذكور ، ويجيب الامام عليه‌السلام بالجواز أو النهي من غير استفصال ، فيفيد العموم من الطرفين ، ولأن شرط العدي الوطء بعده وبعد الرجعة منه في العدة ، وها هنا شرط في جواز الطلاق ثانيا سبق الوطء ، وسبقه ليس بشرط في طلاق العدة ، وإنما الشرط تأخره ، فيلزم الشيخ أخذ غير الشرط مكانه. ثم قال ـ رحمة الله عليه : ـ وللشيخ أن يجيب بأن الباعث على الجمع التعارض ، فلا يضره عمومها من الطرفين على تقدير تسليمه ، لأن تخصيص العام لأجل الجمع جائز ، خير من إطراح أحد الجانبين ، والوطء الذي جعل معتبرا في الطلاق ثانيا يجعل الطلاق السابق عديا

٣٠١

وليس الحكم مختصا بالطلاق الثاني بل بهما معا ، بمعنى أن من أراد طلاق المرأة للعدة أزيد من مرة فليس له ذلك ، ولا يتحقق إلا بالمراجعة والوطء ليصير الثاني عديا أيضا ، وليصير الثالث بحكمها لتحرم في الثالثة عليه قطعا بخلاف ما لو طلقها على غير هذا الوجه ، فإن فيه أخبارا تؤذن بعدم التحريم لعدم نقضها ، انتهى.

هذا ، وعندي فيما ذهب إليه الشيخ ـ رحمه‌الله ـ من الجمع المذكور نظر من وجوه : (أحدها) ما ذكره في المسالك في بيان أحد وجهي التحكم الذي نسبه المحقق إلى الشيخ من أن الحمل على الطلاق العدي يوجب اشتراطه بسبق الوطء مع أن الشرط فيه إنما هو تأخر الوطء.

وما أجاب به شيخنا الشهيد الثاني عنه ـ من أن الوطء الذي جعل معتبرا في الطلاق ثانيا يجعل الطلاق السابق عديا. إلى آخره ـ ينافي ما صرح به الشيخ من أن مراده بالطلاق العدي هو الثاني لا الأول. فإنه قال في كتاب الاستبصار (١) ـ بعد أن نقل في حيز «أما» صحيحة عبد الحميد الطائي المتقدمة وصحيحة محمد بن مسلم الدالتين على أن الرجعة بغير جماع رجعة ـ ما صورته : فالوجه في هذين الخبرين أنه يكون رجعة بغير جماع ، بمعنى أنه يعود إلى ما كان عليه من أنه يملك مواقعتها ، ولو لا الرجعة لم يجز ذلك ، وليس في الخبر أنه يجوز له أن يطلقها تطليقة أخرى للعدة وإن لم يواقع ، ونحن إنما اعتبرنا المواقعة فيمن أراد ذلك ، فأما من لا يريد ذلك فليس الوطء شرطا له. انتهى ، وهو صريح في أن مراده بالطلاق العدي هو الثاني المسبوق بالمواقعة كما لا يخفى.

وقال أيضا ـ بعد إيراد صحيحة البزنطي وحسنة أبي علي بن راشد المتقدمتين الدالتين على وقوع الطلقة الثانية وجوازها بعد المراجعة من غير جماع ـ ما لفظه : لأنه ليس في هذه الأخبار أن له أن يطلقها طلاق العدة ، ونحن إنما نمنع أن يجوز له أن يطلقها طلاق العدة ، فأما طلاق السنة فلا بأس أن يطلقها بعد ذلك

__________________

(١) الاستبصار ج ٣ ص ٢٨١ بعد الحديث ٣ و ٤.

٣٠٢

... إلخ. فإنه كما ترى قد حمل قوله في صحيحة البزنطي «أيقع عليها التطليقة الثانية» وقوله في حسنة أبي علي «أيجوز له ذلك» على كون ذلك الطلاق الثاني سنيا يعني بالمعنى الأعم لا عديا ، وهو مشعر بأنه لو حصلت المواقعة بعد تلك الرجعة لكان الطلاق الواقع بعد عديا لأن حكمه بكونه سنيا لا عديا إنما هو من حيث عدم تقدم المواقعة وحصول الرجعة خالية عن المواقعة.

وبالجملة فحيث كان محل الاختلاف في الأخبار إنما هو بالنسبة إلى وقوع التطليقة الثانية الواقعة بعد الرجعة بغير مواقعة وصحتها ، بل عدم الوقوع والصحة ، فبعض الأخبار دل على صحة ذلك الطلاق وبعضها دل على العدم ، جمع الشيخ بينها بحمل أخبار عدم الصحة على ما إذا قصد بذلك الطلاق العدي فإنه لا يجوز له بذلك ولا يصح منه ، ولا يقع للعدة لعدم المواقعة قبله ، وإنما يقع للسنة خاصة. هذا حاصل مراد الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وصريح عبائره كما لا يخفى وحينئذ فيتوجه عليه ما تقدم إيراده ، ولا يندفع بما اعتذر عنه به في المسالك ، فتأمل وأنصف.

(وثانيها) أن الشيخ قد استند في وجه الجمع الذي ذكره إلى رواية المعلى ابن خنيس (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الذي يطلق ثم يراجع ثم يطلق فلا يكون بين الطلاق والطلاق جماع ، فتلك تحل له قبل أن تزوج زوجا غيره ، والتي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره هي التي تجامع بين الطلاق والطلاق».

وأورد عليه بأنه لا دلالة في هذه الرواية إلا على أن الجماع بين الطلاقين شرط في التحريم الموجب المحوج إلى المحلل ، وأما التفصيل بالسني والعدي واشتراط الجماع بعد الرجوع في العدة خاصة فلا دلالة في الخبر عليه ، على أن في هذا الخبر من الإشكال أيضا ما يمنع من العمل به والاعتماد عليه لدلالته على أن غير الطلاق العدي لا تبين منه في الثالثة. وهو خلاف ما عليه الأصحاب

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٤٦ ح ٦١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٩ ب ١٩ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

٣٠٣

ومنهم الشيخ أيضا ، فهي مخالفة لقواعدهم. نعم ربما أمكن انطباقها على مذهب ابن أبي عقيل.

(وثالثها) أن مقتضى ما ذكره الشيخ من الحمل هو أنه متى راجع ثم طلق من غير مواقعة فإنه يكون الطلاق صحيحا وإن لم يقع للعدة بزعمه وإنما يقع للسنة ، مع أن المفهوم من الأخبار المانعة هو الإبطال رأسا وعدم وقوع الطلاق مطلقا كصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (١) الدالة على النهي عنه ، ورواية المعلى بن خنيس (٢) المصرحة بأنه لا يقع الطلاق الثاني حتى يراجع ويجامع ، ونحوها موثقة إسحاق بن عمار (٣) وحمل هذه الأخبار على الطلاق العدي كما زعمه ، بمعنى أنه لا يقع عديا ، وإن وقع سنيا قد عرفت فساده من الوجه الأول ، فيبقى التعارض بين أخبار الطرفين على حاله كما لا يخفى.

الثاني : ما اختاره جملة من أصحابنا منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وسبطه السيد السند في شرح النافع من حمل النهي على الكراهة ، وأخبار الجواز على أصل الإباحة.

قال في المسالك : ووجه أولوية الجماع البعد عن مذهب المخالفين المجوزين لتعدد الطلاق كيف اتفق ، ليصير الأمران على طرف النقيض ، حيث إن ذلك معدود عند أصحابنا من طلاق البدعة كما سلف ، ثم لو لم يظهر الوجه في الجمع لكان متعينا حذرا من إطراح أحدهما رأسا ، أو الجمع بما لا يقتضيه أصول المذهب كما جمع به الشيخ ، والحمل على الجواز والاستحباب سالم من ذلك وموجب لإعمال الجميع.

وفيه أن ذلك وإن أمكن في بعض الأخبار ، إلا أنه لا يجري في جميعها ،

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٤٤ ح ٥٣.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٤٦ ح ٦٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١٢.

٣٠٤

مثل رواية المعلى الدالة على أنه لا يقع ، فإنه صريح في الإبطال رأسا ، ومثل صحيحة زرارة (١) وصحيحة أبي بصير (٢) فإنها صريحتان في الابطال ، ولكن العذر لمثل شيخنا المشار إليه في ذلك واضح ، حيث إنهم لم يتعرضوا لنقل الروايات المذكورة ولم يقفوا عليها.

الثالث : ما ذهب إليه المحدث الكاشاني في كتاب الوافي والمفاتيح من أنه إن كان غرضه من الرجعة أن يطلقها تطليقة أخرى حتى تبين منه فلا يتم مراجعتها ولا يصح طلاقها بعد المراجعة ولا يحسب من الثلاث حتى يمسها ، وإن كان غرضه من الرجعة أن تكون في حبالته وله فيها حاجة ، ثم بدا له أن يطلقها ، فلا حاجة إلى المس ويصح طلاقها ويحسب من الثلاث ، قال : وإنما جاز هذا التأويل لأنه كان أكثر ما يكون غرض الناس من المراجعة الطلاق والبينونة كما يستفاد من الأخبار ، ويشار إليه بقوله عليه‌السلام وإلا فإنها واحدة ، حتى أنه ربما صدر ذلك عن الأئمة عليهم‌السلام كما مضى في حديث أبي جعفر عليه‌السلام أنه قال «إنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي بها حاجة» ، انتهى كلامه زيد مقامه.

وأشار بحديث أبي جعفر عليه‌السلام إلى رواية أبي بصير (٣) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فقال : أخبرك بما صنعت أنا بامرأة كانت عندي فأردت أن أطلقها فتركتها حتى إذا طمثت وطهرت طلقتها من غير جماع وأشهدت على ذلك شاهدين ، ثم تركتها حتى إذا كادت أن تنقضي عدتها راجعتها ودخلت بها وتركتها حتى إذا طمثت وطهرت ثم طلقتها على طهر من غير جماع بشاهدين ، ثم تركتها حتى إذا كان قبل أن تنقضي عدتها

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٥ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٤٤ ح ٥٤.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٤١ ح ٤٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٨ ب ٤ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

٣٠٥

راجعتها ودخلت بها ، حتى إذا طمثت وطهرت ثم طلقتها على طهر بغير جماع بشهود ، وإنما فعلت ذلك بها لأنه لم يكن لي بها حاجة».

وما ذكره ـ رحمة الله عليه ـ من الجمع لا يخلو عندي من قرب ، ويؤيده ما ورد في تفسير قوله سبحانه «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا» (١) من رواية الحلبي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل «وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا» قال : الرجل يطلق حتى إذا كادت أن يخلو أجلها راجعها ثم طلقها يفعل ذلك ثلاث مرات ، فنهى الله عزوجل عن ذلك».

ورواية الحسن بن زياد (٣) عنه عليه‌السلام قال : «لا ينبغي للرجل أن يطلق امرأته ثم يراجعها وليس له فيها حاجة ثم يطلقها ، فهذا الضرار الذي نهى الله تعالى عزوجل عنه إلا أن يطلق ثم يراجع وهو ينوي الإمساك».

فإن هاتين الروايتين صريحتان في أنه متى كان قصد من المراجعة مجرد البينونة فلا يجوز له ذلك ، ولا يصح طلاقه الثاني لما فيه من الإضرار بها في مدة العدد الثلاث بعدم الجماع ونحوه ، وقد تكون العدة تسعة أشهر مع أن غاية ما رخص به الشارع في ترك الجماع إذا كانت زوجة أربعة أشهر ، فالزيادة على ذلك إضرار محض ، فنهى الله سبحانه عنه ، والظاهر أنه من أجل هذا النهي الموجب للتحريم وبطلان الطلاق كان الامام عليه‌السلام يجامع بعد كل رجعة مع أن قصده البينونة.

وبالجملة فهذا الوجه عندي لما عرفت في غاية القوة ، وعليه يجتمع أكثر أخبار المسألة ، ولعل في قوله في موثقة إسحاق بن عمار الاولى «ثم بدا له فراجعها» إشارة إلى ذلك بمعنى بدا له وظهر إرادة المعاشرة فراجع ، وعلى هذا الوجه يمكن تطبيق الروايات الثلاث الأول التي ذكرناها في أدلة ابن أبي عقيل ،

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٣١.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٢٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٠٢ ب ٣٤ ح ٢.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٣٢٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٠٢ ب ٣٤ ح ١.

٣٠٦

فإنها وإن كانت مطلقة بالنسبة إلى ما ذكر من التفصيل ، إلا أنها بالتأمل في مضامينها والتعمق في معانيها يظهر أنها إنما خرجت من ذلك القبيل.

أما صحيحة عبد الرحمن (١) فإنه إنما سئل عن الرجل إذا طلق فهل له أن يراجع أم لا؟ فأجاب عليه‌السلام «لا يطلق التطليقة الأخرى حتى يمسها». وأنت خبير بأن هذا الجواب بحسب الظاهر غير منطبق على السؤال ، والظاهر أنه عليه‌السلام فهم من السائل بقرينة حالية ، وإن لم ينقل في الخبر أن مراده السؤال عن الرجعة بمجرد إيقاع الطلاق بعدها ، فأجاب عليه‌السلام بالنهي عن هذا الطلاق على هذا النحو ، إلا أن يمسها كما فعل الباقر عليه‌السلام فيما تقدم من حديث أبي بصير ، ومعناها يرجع إلى معنى رواية أبي بصير كما أوضحناه سابقا.

وأما رواية المعلى (٢) فالظاهر أن غرض السائل أنه هل يصح الطلاق من غير رجعة ، بمعنى أنه يترتب عليه ما يترتب على المواقع بعد الرجعة من البينونة ونحوها؟ وغرضه من ذلك استعلام ما لو قصد البينونة بالطلاق على هذا النحو ، فإنه لا ثمرة للطلقة الثانية لو صحت إلا قصد ذلك وحصوله ، فأجاب عليه‌السلام بأنه لا يقع الطلاق الثاني على هذا الوجه إلا مع الجماع بعد المراجعة.

وأما موثقة إسحاق بن عمار (٣) فهي صريحة في ذلك ، فإن إيقاع ذلك في يوم أو في طهر دليل على كون الباعث على تلك الرجعة هو مجرد قصد البينونة ، فلذا نسبه إلى مخالفة السنة.

بقي هنا شي‌ء وهو أن هذا الوجه وإن اجتمعت عليه أدلة القول المشهور وكذا هذه الروايات الثلاث بالتقريب الذي عرفته ، لكن يبقى الإشكال في كلامه ـ رحمة الله عليه ـ من وجهين :

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٤٤ ح ٥٣.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٤٦ ح ٦٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١٢.

٣٠٧

(الأول) قوله «فلا يتم مراجعتها» فإن فيه دلالة على أن المراجعة بدون النكاح بعدها إذا كان قصده مجرد البينونة لا يقع ، وهو موافق لما صرح به غيره من الأصحاب كما قدمنا ذكره ، حيث أوردوا في الاستدلال صحيحة عبد الحميد الطائي (١) ورواية أبي بصير (٢) وقد أوضحنا لك أنه لا دليل على عدم وقوع الرجعة ، وإنما غاية ما يستفاد من الأخبار عدم صحة الطلاق خاصة ، وحينئذ فتبقى بعد الرجعة على حكم الزوجية إذا طلقها ضرارا بغير جماع فيجب لها ما يجب للزوجة.

(الثاني) من جهة صحيحة أبي بصير التي هي كما عرفت معتمد ابن أبي عقيل وصريح عبارته ، فإنها لا تندرج تحت هذا التأويل ، حيث إنه عليه‌السلام قد علل فساد الطلاق الواقع على ذلك الوجه فيها بوجه آخر من كونه لم يقع في طهر الطلقة الاولى ، وعلى هذا فيبقى الإشكال بحاله في المسألة ، لأن الظاهر أنه معتمد ابن أبي عقيل في الاستدلال على ما ذهب إليه إنما هو هذه الرواية كما أوضحناه آنفا ، وهي غير منطبقة على شي‌ء من هذه الوجوه الثلاثة التي نقلناها في الجمع بين أخبار المسألة وما عداها من الأخبار وإن دل بحسب الظاهر على مذهب ابن أبي عقيل ، إلا أنه لم يستند إليه في الاستدلال ولم يصرح به ، ومع هذا فإنه يمكن تطبيقه كما ذكرناه ، وأما هذه الصحيحة فهي صريحة في مدعاه غير قابلة لذلك ، مع كونها مشتملة على ما عرفت من إطلاق الطهر على خلاف ما هو المعهود من معناه في الأخبار وكلام الأصحاب ، ولم أقف على ما تعرض للكلام فيها من المحدثين الذين نقلوها في كتب الأخبار ، ولم ينقلها أحد في كتب الفروع الاستدلالية ، بل لم يستوفوا الأخبار فيها بالكلية ، ولا يحضرني الآن وجه تحمل عليه سوى الرد والتسليم لقائلها ، وإرجاع الحكم فيها لعالم من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٨ ص ٤٤ ح ٥٦ و ٥٤.

٣٠٨

المسألة الثالثة : في حكمين مما يتعلق بطلاق الغائب : (إحداهما) لو طلق غائبا ثم حضر ودخل بها ولم يعلمها ثم بعد ذلك ادعى الطلاق ، فإنه لا تقبل دعواه ، ولو أقام البينة بالطلاق لم تقبل بينته ، ولو أولدها والحال هذه الحق به الولد للحكم في ظاهر الشرع بثبوت الزوجية.

ويدل على ذلك ما رواه ثقة الإسلام (١) عن سليمان بن خالد قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته وهو غائب وأشهد على طلاقها ، ثم قدم فأقام مع المرأة أشهرا لم يعلمها بطلاقها ، ثم إن المرأة ادعت الحبل ، فقال الرجل : قد طلقتك وأشهدت على طلاقك ، قال : يلزم الولد ولا يقبل قوله».

وأيده بعضهم بأن تصرف المسلم مبني على الصحة ، فإذا ادعى بعد ذلك ما يخالفه لا يزول ما قد ثبت سابقا.

وأورد عليه بأن تصرفه إنما يحمل على المشروع حيث لا يعترف بما ينافيه ، ولهذا لو وجدناه يجامع امرأة واشتبه حالها فإنا لا نحكم عليه بالزنا ، لكن إذا أقر أنه زان حكم عليه به ، وعلل أيضا بأن الوجه في عدم قبول بينته أنه قد كذبها بفعله.

وأورد عليه أنه إنما يتم إذا كان هو الذي أقامها ، فلو قامت الشهادة حسبة ، وورخت بما ينافي فعله ، قبلت وحكم بالبينونة.

نعم يبقى الكلام في إلحاق الولد بهما أو بأحدهما ، وهو مبني على ما تقدم في الكلام في الأولاد من اعتبار العلم بالحال وعدمه ، والظاهر هو العمل بالخبر المذكور ، والمفهوم منه أنه لا يقبل قوله وإن أقام البينة. ويمكن الفرق بين ما نحن فيه وبين الاعتراف بالزنا ، بأن الاعتراف بالطلاق مستلزم لدفع أحكام الزوجية الواجبة عليه بظاهر الشرع ، فهو في معنى الاعتراف في حق غيره ، فلا يقبل بخلاف الزنا ، فإنه حق لله سبحانه محضا أو مشتركة في بعض الوجوه.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٨٠ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٤ ب ١٥ ح ٤.

٣٠٩

هذا كله إذا كان الطلاق بائنا أو رجعيا وانقضت المدة قبل فعله المكذب لدعواه ، وإلا قبل ، وكان الوطء رجعة بلا إشكال.

(وثانيهما) ما لو كان غائبا وله أربع نسوة ثم طلق إحداهن ، فإنه قد صرح الأصحاب بأنه لا يجوز أن يتزوج عوضها في حال غيبته إلا بعد مضي تسعة أشهر.

والأصل في هذا الحكم ما رواه ثقة الإسلام (١) عن حماد بن عثمان في الحسن أو الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما تقول في رجل له أربع نسوة طلق واحدة منهن وهو غائب عنهن متى يجوز له أن يتزوج؟ قال : بعد تسعة أشهر ، وفيها أجلان (٢) : فساد الحيض وفساد الحمل».

وجملة من الأصحاب كالمحقق والعلامة وغيرهما قد ألحقوا بذلك الحكم تزويج الأخت ، فصرحوا بأنه إذا طلق الغائب وأراد العقد على أختها في حال غيبته فإنه لا يجوز له إلا بعد تسعة أشهر.

والشيخ في النهاية خص الحكم بتزويج الخامسة تبعا للنص ، واقتفاه ابن إدريس في ذلك فقال : فأما إن كانت واحدة فطلقها طلاقا شرعيا وأراد أن يعقد على أختها في حال سفره ، فإذا انقضت عدتها على ما يعلمه من عادتها فله العقد على أختها ولا يلزمه أن يصبر تسعة أشهر ، لأن القياس عندنا باطل ، وكذا التعليل ، فليلحظ الفرق بين المسألتين.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٨٠ ح ٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٧٩ ب ٤٧ ح ١.

(٢) قوله «وفيها أجلان. إلخ» لا يخلو من غموض ، ويمكن أن يقال : إن مراده عليه‌السلام أن الاعتداد بالتسعة جامع للعدتين ، لأنه ان كان انقطاع الدم لفساد في الحيض فالحكم هو الثلاثة الأشهر ، وهي حاصلة في ضمن التسعة ، وان كان انقطاع الدم لأجل الحمل فهو يعلم بمضي التسعة التي هي أقصى مدة الحمل على المشهور ، وبمضي التسعة خالية من الحمل يعلم فساد الحمل ، فلذا جعل التسعة متضمنة للاجلين ، وعبر عنهما بفساد الحيض الموجب للثلاثة الأشهر ، وفساد الحمل بمضي المدة التي يعلم فيها ذلك وهي التسعة ، والله العالم. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣١٠

واعترضه العلامة في المختلف فقال بعد ذلك عنه : وهو خطأ ، إذ لا فرق بين الأمرين ، وكما تحرم الخامسة كذا تحرم الأخت في العدة ، وكما أوجبنا الصبر تسعة أشهر في الخامسة استظهارا كذا يجب في الأخت ، وقوله «فإذا انقضت عدتها على ما يعلمه من عادتها فله العقد على أختها» يوهم أنه مع علمه بخروج العدة لا يجوز في الخامسة ، وليس بجيد ، بل الصبر إنما يجب في الخامسة مع الاشتباه ، انتهى.

وأورد عليه السيد السند في شرح النافع بأن ما ذكره أولا ـ في توجيه إلحاق الأخت بالخامسة ـ لا يخرج عن القياس ، وما ذكره ثانيا ـ من إيهام كلام ابن إدريس عدم جواز تزويج الخامسة مع العلم بخروج المطلقة من العدة ـ غير واضح ، فإن المراد بالعلم هنا الظن المستفاد من معرفة العادة كما سبق في طلاق الغائب ، وهذا القدر يكفي في جواز تزويج الخامسة ، نعم لو حصل العلم القطعي بخروج المطلقة من العدة جاز له العقد على أختها وعلى الخامسة من غير إشكال ، إلا أن ذلك خلاف ما أراده ابن إدريس.

أقول : لا يخفى أن المفهوم من الأخبار وكلام الأصحاب أن الاعتداد بتسعة أشهر إنما هو فيما لو كانت المرأة مسترابة الحمل ، وإلا فالعدة إنما هي ثلاثة أشهر خاصة مع عدم إمكان الاعتداد بالأقراء.

ومما يدل على الأمرين المذكورين موثقة محمد بن حكيم (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «قلت له : المرأة الشابة التي تحيض مثلها يطلقها زوجها ويرتفع حيضها كم عدتها؟ قال : ثلاثة أشهر ، قلت : فإن ادعت الحبل بعد ثلاثة أشهر؟ قال : عدتها تسعة أشهر ، قلت : فإن ادعت الحبل بعد تسعة أشهر؟ قال : إنما الحبل

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٠١ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٢ ب ٢٥ ح ٢.

٣١١

تسعة أشهر» الحديث ، وبمضمونها أخبار (١) عديدة (٢).

ومما يدل على الثاني الأخبار المستفيضة ، ومنها في خصوص الغائب صحيحة محمد بن مسلم (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قال : إذا طلق الرجل امرأته وهو غائب فليشهد على ذلك ، فإذا مضى ثلاثة أشهر فقد انقضت عدتها».

ومقتضى هذه الرواية أنه بعد انقضاء الثلاثة يجوز تزويج الأخت وتزويج الخامسة ، وأنت خبير بأن ما دلت عليه الرواية المتقدمة من وجوب التربص تسعة أشهر مناف لما دلت عليه هذه الرواية ، من أن العدة إنما هي ثلاثة أشهر لأن موردهما من طلق امرأته وهو غائب ، وكم عدتها ، وإن كان السؤال في الأولى عن طلاق إحدى الأربع وفي هذه الرواية مطلق ، وقد ورد الجواب بالتسعة في الاولى ، والثلاثة في الثانية ، ولا يعلم هنا وجه خصوصية لإحدى الأربع فيستثنى من هذه القاعدة المستفادة من النصوص كما أشرنا إليه ، ولا وجه للجمع إلا حمل الرواية الأولى على المسترابة ، وبذلك يظهر لك قوة ما ذكره العلامة في اعتراضه على ابن إدريس وضعف ما أورده عليه السيد السند ، فإنه إذا كان مقتضى القاعدة المتفق عليها نصا وفتوى أن العدة (٤) فيمن انقطع عنها الحيض إنما هو الاعتداد

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٠١ باب المسترابة بالحبل ، الوسائل ج ١٥ ص ٤١٠ ب ٤ وص ٤٤١ ب ٢٥.

(٢) ومنها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «أمران أيهما سبق بانت منه المطلقة المسترابة : إن مرت بها ثلاثة أشهر بيض ليس فيها دم بانت به ، وان مرت بها ثلاثة حيض ليس بين الحيضتين ثلاثة أشهر بانت بالحيض» الحديث ، ونحوها غيرها. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٦١ ح ١١٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٤٨ ب ٢٨ ح ١١ وفيهما اختلاف يسير.

(٤) واليه يشير كلام العلامة ـ قدس‌سره ـ بقوله استظهارا ، وقوله عليه‌السلام ثانيا مع الاشتباه ، فان جميع ذلك من لوازم الاسترابة بالحمل ، ومع عدم ذلك فالعدة انما هي ثلاثة أشهر كما هو مقتضى الروايات المستفيضة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣١٢

بثلاثة أشهر ، والاعتداد بالتسعة إنما هو مع الاسترابة بالحمل من غير فرق في ذلك بين طلاق الغائب والحاضر كما هو مقتضى إطلاق النصوص المشار إليها ، فلا وجه لما اشتملت عليه رواية حماد (١) من التسعة إلا الحمل على المسترابة ، وإلا فاستثناؤها من هذه القاعدة الكلية والضابطة الجلية مع عدم خصوصية تدل على ذلك مشكل ، وحينئذ فلا فرق بين الخامسة والأخت في الحكم المذكور.

وقال السيد السند المذكور في الكتاب المشار إليه : ولو علم انتفاء الحمل صبر مقدار ما يمضي فيه ثلاثة قروء على حسب ما يعلمه من عادتها ، أو ثلاثة أشهر ، ويدل على ذلك صحيحة محمد بن مسلم (٢) ـ ثم أورد الرواية المذكورة ثم قال : ـ حكم عليه‌السلام بانقضاء عدتها بذلك بناء على الغائب من أن كل شهر تحصل فيه حيضة للمرأة ومتى انقضت العدة جاز التزويج بالأخت ، والخامسة ، خرج من ذلك ما إذا كان الحمل ممكنا ، فإنه يجب التربص بالرواية المتقدمة ، فيبقى ما عداها مندرجا في هذا الإطلاق ، انتهى.

أقول : لا يخفى أنما ذكره إنما يتم لو دلت الروايتان على ما ادعاه في صحيحة محمد بن مسلم من العلم بانتفاء الحمل ، وفي صحيحة حماد بن عثمان أو حسنته من كون الحمل ممكنا مع أن الروايتين لا دلالة لهما على شي‌ء من الأمرين المذكورين ، وإنما هما بالنسبة إلى ما ذكره مطلقتان ، إذ غاية ما دلتا على أن كلا من الرجلين المذكورين طلق امرأته وهو غائب ، غاية الأمر أن رواية حماد دلت على كون المطلقة رابعة ، وأما أن المرأة مما علم انتفاء الحمل عنها ، أو أن الحمل ممكن فتكون مسترابة فلا دلالة عليه بالكلية كما هو ظاهر ، فلم يبق إلا أن يحمل إطلاق كل منهما على ما ذكره متى كان ذلك ، فلا خصوصية للرابعة بالاعتداد تسعة أشهر كما دلت عليه رواية حماد ، بل ذلك يجري في كل

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٤٧٩ ب ٤٧ ح ١.

(٢) الوسائل ج ١٥ ص ٤١٠ ب ٤ ح ١.

٣١٣

مسترابة إذ العلة في التسعة إنما هي الاسترابة لا خصوصية الرابعة. وبذلك يظهر لك ما في قوله ، فيبقى ما عداها مندرجا في هذا الإطلاق.

وأما صحيحة محمد بن مسلم فهي جارية على ما دلت عليه الأخبار المتكاثرة (١) ـ من أنه متى لم يمكن العدة بالأقراء فإنها تعتد بالشهور الثلاثة ـ لا يحتاج إلى حمل ولا تأويل ، وبذلك يتضح لك ما قدمنا ذكره من أنه بذلك يظهر لك قوة ما ذكره العلامة.

المسألة الرابعة : قد صرح الأصحاب بأنه يكره للمريض أن يطلق ، ولو طلق كان طلاقه صحيحا ، وأنه يرث زوجته إذا ماتت في العدة الرجعية ، ولا يرثها في البائن ولا بعد العدة ، وترثه هي سواء طلقها بائنا أو رجعيا ما بين الطلاق وبين السنة ما لم تتزوج أو يبرأ من المرض الذي طلقها فيه.

أقول : تحقيق الكلام في هذا المقام يقع في مقامات :

الأول : ما ذكر من كراهة الطلاق للمريض زيادة على ما ورد من كراهته الطلاق مطلقا مما تكاثرت به الأخبار ، بل ربما دل بعضها بظاهره على التحريم ، ولهذا نقل القول بالتحريم عن ظاهر عبارة الشيخ المفيد في المقنعة ، والمشهور الكراهة.

ومن الأخبار الواردة في المقام ما رواه في الكافي (٢) عن عبيد بن زرارة في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يجوز طلاق المريض ، ويجوز نكاحه».

وما رواه في الكافي (٣) وفيه عن زرارة في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «ليس للمريض أن يطلق وله أن ينكح».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٨٩ باب عدة المطلقة وأين تعتد.

(٢ و ٣) الكافي ج ٦ ص ١٢٢ ح ٤ و ٨، التهذيب ج ٨ ص ٧٧ ح ١٧٧ و ١٧٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٤ ب ٢١ ح ٣ و ٤.

٣١٤

وعن عبيد بن زرارة (١) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن المريض ، إله أن يطلق امرأته في تلك الحال؟ قال : لا ، ولكن له أن يتزوج إن شاء ، فإن دخل بها ورثته ، وإن لم يدخل بها فنكاحه باطل».

وما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن زرارة في الصحيح عن أحدهما عليهم‌السلام قال : «ليس للمريض أن يطلق وله أن يتزوج ، فإن هو تزوج ودخل بها فهو جائز ، وإن لم يدخل بها حتى مات في مرضه فنكاحه باطل ولا مهر لها ولا ميراث».

وإنما حملت هذه الأخبار على الكراهة مع ظهورها في التحريم لما سيأتي إن شاء الله من الأخبار الدالة على صحة طلاقه لو طلق في هذه الحال ، وسيأتي أيضا إن شاء الله تعالى ما هو الوجه في الكراهة.

الثاني : ما ذكر أنه يرث زوجته إذا ماتت في العدة الرجعية ، وهو مجمع عليه بين الأصحاب كما نقله في المسالك.

وأما أنه لا يرثها في البائن ولا بعد العدة الرجعية فلانقطاع العصمة بينهما خرج ميراثها منه بالنصوص الآتية وبقي ما عداه على مقتضى القاعدة ، ويعضده بعده النصوص الدالة على ذلك أن المطلقة رجعية بمنزلة الزوجة ، فتثبت لها أحكام الزوجة التي من جملتها الحكم المذكور ما دامت في العدة ، وينتفي إذا بانت بأحد الوجهين المذكورين.

ومن الأخبار الدالة على الحكمين المذكورين ما رواه في الكافي (٣) عن زرارة

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٢١ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٧ ح ١٧٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٣ ب ٢١ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٢٣ ح ١٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٧ ح ١٨٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٣ ب ٢١ ح ١.

(٣) الكافي ج ٧ ص ١٣٤ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٣٠ ب ١٣ ح ٤.

٣١٥

في الموثق قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يطلق المرأة ، قال : ترثه ويرثها ما دام له عليها رجعة».

وما رواه في الفقيه (١) في الصحيح عن الحسن بن محبوب عن ابن رئاب عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل امرأته توارثا ما كانت في العدة ، فإذا طلقها التطليقة الثالثة فليس له عليها رجعة ، ولا ميراث بينهما». إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة (٢) الدالة على ثبوت التوارث في العدة الرجعية ، وانتفائه مع البينونة.

وبذلك يظهر ما في كلام صاحب الكفاية تبعا للسيد السند في شرح النافع من المناقشة في الحكم الأول. قال في الكفاية : ويرث زوجته في العدة الرجعية عند الأصحاب ، ونقل غير واحد منهم الإجماع عليه لكن إطلاق الصحيحة المذكورة ينافيه ، وأشار بالصحيحة المذكورة إلى ما قدمه من صحيحة الحلبي (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه سئل عن الرجل يحضره الموت فيطلق امرأته ، هل يجوز طلاقها؟ قال : نعم ، وإن مات ورثته ، وإن ماتت لم يرثها».

والسيد السند بعد أن ذكر الحكم المذكور في كلام الأصحاب اعترضه بأن مقتضى صحيحة الحلبي المتقدمة أن الزوج لا يرثها مطلقا ، وحمل الروايات على الطلاق البائن ينافيه قوله عليه‌السلام قبل ذلك «فإن مات ورثته» والمسألة محل إشكال.

أقول ـ وبالله التوفيق ـ : لا إشكال بحمد الملك المتعال فإن إطلاق الصحيحة المذكورة يجب تقييده بالروايات المستفيضة الدالة على التوارث في العدة الرجعية مطلقا صحيحا كان أو مريضا ، وقد عرفت بعضها ، وأما الصحيحة المذكورة فالمراد منها إنما هو ما لو طلق المريض زوجته وخرجت عن العدة ، فإن مات ورثته ،

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٢٢٨ ح ١ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٣٢ ب ٢٣ ح ١٠ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ٣٨٣ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٣٠ ب ١٣.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٢٣ ح ١١ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٣٤ ب ١٤ ح ٦ وفيه اختلاف يسير.

٣١٦

وإن ماتت لم يرثها على التفصيل الاتي إن شاء الله تعالى ، وما ذكر من أن الزوج لا يرثها في البائن هو المشهور بين الأصحاب خصوصا المتأخرين ، وبه قطع الشيخ في الخلاف محتجا بإجماع الفرقة وأخبارهم ، إلا أنه قال في النهاية وتبعه فيه جملة من أتباعه : إذا طلق الرجل امرأته وهو مريض فإنهما يتوارثان ما دامت في العدة ـ ثم قال : ـ ولا فرق في جميع هذه الأحكام بين أن تكون التطليقة هي الأولى أو الثانية أو الثالثة ، وسواء كان له عليهما رجعة أم لم يكن ، انتهى (١).

ومرجعه إلى ثبوت التوارث بينهما في العدة مطلقا رجعية كانت أو بائنة. واختصاص الإرث بعد العدة بالمرأة ، دون العكس إلى مدة السنة كما سيأتي ، ولا ريب في ضعفه ، لأن الطلاق البائن موجب لانقطاع العصمة بين الزوجين الموجب سقوط التوارث ، استثني من ذلك إرثها منه بالنص والإجماع ـ كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى ـ وبقي الباقي.

ومن الأخبار الدالة على القول المشهور إطلاق موثقة زرارة وصحيحته (٢) المتقدمتين ونحوهما غيرهما ، والتقريب فيهما أنهما خصا التوارث من الجانبين بما إذا كانت في العدة الرجعية ، ومتى خرجت من العدة أو كانت العدة بائنة فلا توارث خرج منه بالنص والإجماع إرث المرأة من الزوج إذا طلقها وهو مريض ، فإنها ترثه في العدة البائنة وبعد العدة الرجعية إلى سنة كما سيأتي إن شاء الله تعالى وسيأتي في الأخبار الآتية ما يدل على ذلك.

__________________

(١) أقول : هذا القول الذي ذهب إليه في النهاية على طرف النقيض من القول الذي ذهب اليه صاحب الكفاية وشرح النافع ، فإنهما ذهبا الى عدم التوارث في العدة الرجعية مع بقاء الزوجية ، والشيخ ذهب الى ثبوته في العدة البائنة مع انقطاع العصمة بالكلية فيها على طرفي الإفراط والتفريط. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الكافي ج ٧ ص ١٣٤ ح ٢ وج ٦ ص ١٢٣ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٣٠ ب ١٣ ح ٤ وج ١٥ ص ٣٨٣ ب ٢١ ح ١.

٣١٧

ومن أظهر الأدلة (١) أيضا ما سيظهر لك إن شاء الله من أن المقتضي لإرث الزوجة في صورتي العدة البائن وبعد الخروج من العدة الرجعية إنما هو التهمة بمنعها من الإرث ، وهذه العلة منتفية من جانب الزوج كما لا يخفى.

واعلم أنه قد احتج في المسالك للقول المشهور بموثقة زرارة المتقدمة ، ثم قال في تقريب الاستدلال بها : وقيد الرجعة لا يصلح في ميراثها إجماعا لثبوته مطلقا فيبقى في ميراثه وللقرب ، وإذا انتفى القيد انتفى الحكم تحقيقا لفائدته. ثم استدل له بحسنة الحلبي التي تقدم وصفها بصحيحة الحلبي (٢) ، ثم قال : وليس ذلك في الرجعي لاتفاقهما في الحكم فهو في البائن ، ثم قال : وحجة الشيخ وأتباعه روايات تدل بظاهرها على ثبوت التوارث بينهما من غير تفصيل ، والأخبار من الجانبين غير نقية ، والأولى الرجوع إلى حكم الأصل ، والوقوف على موضع الوفاق ، وهو دال على الأول ، انتهى.

أقول : أما تقريب الاستدلال بموثقة زرارة كما ذكره فهو إنما يتم لو كان موردها طلاق المريض ليترتب عليه صحة قوله ، وقيد الرجعة لا يصلح في ميراثها إجماعا لثبوته مطلقا ، مع أن الرواية كما عرفت مطلقة شاملة للصحيح والمريض ، فلا يتم ما ذكره ، وكذا التعليل بالقرب إنما يتجه على كون موردها المريض ، وإلا فهو لغو ، فالحق أن الاستدلال بها إنما هو بالتقريب الذي قدمناه ، وأما استدلاله بحسنة الحلبي ، ففيه أنه لو حمل قوله «وإن ماتت لم يرثها على الطلاق البائن» لنافى قوله «وإن ماتت ورثته» كما تقدمت الإشارة إليه في كلام سبطه

__________________

(١) واستدل في شرح النافع على ذلك أيضا بصحيحة الحلبي المتقدمة بحملها على الطلاق البائن ، مع أنه قد اعترض ذلك في صدر كلامه بأنه ينافيه قوله فيها «فان مات ورثته» والأظهر انما هو حمل الصحيحة المذكورة على الخروج من العدة كما ذكرناه في الأصل ، فلا يكون من محل الاستدلال في شي‌ء. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٢٣ ح ١١.

٣١٨

السيد السند ، بل الأظهر في معنى الخبر إنما هو ما قدمنا ذكره.

وأما قوله «إن حجة الشيخ وأتباعه روايات تدل بظاهرها على ثبوت التوارث بينهما من غير تفصيل» ففيه : إنا لم نقف على شي‌ء من هذه الأخبار في طلاق المريض بالكلية ، وستمر بك إن شاء الله مذيلة ببيان ما اشتملت عليه من الأحكام.

الثالث : ما ذكره بقوله «وترثه سواء طلقها بائنا أو رجعيا. إلى آخر الكلام» والوجه فيه أنه لا خلاف نصا وفتوى في أن مطلقه المريض ترثه في العدة البائنة بعد انقضاء العدة الرجعية إلى سنة ما لم يبرأ من مرضه ذلك أو تتزوج هي قبل انقضاء السنة.

وإنما الخلاف في أن وجوب الإرث لها في هاتين الصورتين الخارجتين من القواعد المقررة هل هو لمجرد إطلاق النصوص الدالة على ذلك أعم من أن يكون السبب الداعي إلى الطلاق من جهته أو من جهتها؟ أو أن العلة إنما هي التهمة بالإضرار بها ومنعها من الميراث ، فقوبل حينئذ بنقيض مطلوبه من توريثها في المدة المذكورة ما لم تتزوج أو يبرأ أو تزيد على السنة؟ أو يكون السبب من جهتها ، ويكون الحكم هنا كما في القاتل وحرمانه من الإرث ، مقابلة له بضد مطلوبه؟ المشهور الأول ، وإلى الثاني ذهب الشيخ في الاستبصار والعلامة في المختلف وجملة من متأخري المتأخرين كالمحدث الكاشاني والمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي وغيرهما ، وهو الأظهر.

وها أنا أتلو عليك أخبار المسألة زيادة على ما تقدم منها بحيث لا يشذ منها شي‌ء إن شاء الله.

ومنها ما رواه في الكافي (١) عن أبي العباس في الصحيح أو الحسن عن أبي

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٢٢ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦٣ ب ٦ ح ١.

٣١٩

عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة في مرضه ورثته ما دام في مرضه ذلك ، وإن انقضت عدتها إلا أن يصح منه ، قال : قلت : فإن طال به المرض؟ فقال : ما بينه وبين سنة». دلت هذه الرواية على تحديد المدة بالسنة ، فلا ميراث بعدها ، وعلى الإرث في السنة مع استمرار المرض وإن كان الطلاق بائنا أو بعد العدة الرجعية.

وما رواه في الكافي والفقيه (١) عن الحذاء وأبي الورد كلاهما عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا طلق الرجل امرأته تطليقة في مرضه ثم مكث في مرضه حتى انقضت عدتها فإنها ترثه ما لم تتزوج ، فإن كانت تزوجت بعد انقضاء العدة فإنها لا ترثه».

وما رواه في الكافي (٢) عن عبد الرحمن بن الحجاج في الموثق عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل طلق امرأته وهو مريض ، قال : إن مات في مرضه ولم تتزوج ورثته ، وإن كانت قد تزوجت فقد رضيت بالذي صنع ، فلا ميراث لها». وهما دالان على أنه بالتزويج يزول الإرث.

وعن عبيد بن زرارة (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته وهو مريض حتى مضى لذلك سنة ، قال : ترثه إذا كان في مرضه الذي طلقها فيه لم يصح من ذلك». ومفهومه دال على ما ذكره الأصحاب من أنه لو صح لم ترثه.

وما رواه في الكافي والتهذيب (٤) عن أبي العباس في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته وهو مريض تطليقة وقد كان طلقها قبل ذلك

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٢١ ح ٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٥٣ ح ٣ وفيه اختلاف يسير ، التهذيب ج ٨ ص ٧٧ ح ١٨١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٦ ب ٢٢ ح ٥.

(٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٦ ص ١٢٢ ح ٣ و ٥ و ٦ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٨ ح ١٨٢ و ١٨٣ و ١٨٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٦ ب ٢٢ ح ٦ و ٧ و ٨ مع اختلاف يسير.

٣٢٠