الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

فتزوجها الأول فهي عنده مستقبلة كما كانت ، فقلت لعبد الله : هذا برواية من؟ فقال : هذا مما رزق الله تعالى. قال معاوية بن حكيم : روى أصحابنا عن رفاعة ابن موسى أن الزوج يهدم الطلاق الأول ، فإن تزوجها فهي عنده مستقبلة. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : يهدم الثلاث ولا يهدم الواحدة والثنتين. ورواية رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام هو الذي احتج به ابن بكير» انتهى ما ذكره في الكافي.

وقد تقدم نقل كلام الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (١) كما عبر به الصدوق في الفقيه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الشيخ بعد نقل الرواية الأولى التي رواها ابن بكير عن زرارة أجاب عنها فقال (٢) : فهذه الرواية أوكد شبهة من جميع ما تقدم من الروايات ، لأنها لا تحتمل شيئا مما قلناه ، لكونها مصرحة خالية من وجوه الإضمار إلا أن في طريقها عبد الله بن بكير ، وقد بينا من الأخبار ما تضمن أنه قال حين سئل عن هذه المسألة «هذا مما رزق الله من الرأي ـ ثم قال : ـ ومن هذه صورته فيجوز أن يكون أسند ذلك إلى رواية زرارة نصرة لمذهبه الذي كان أفتى به ، وأنه لما رأى أصحابه لا يقبلون ما يقوله برأيه أسنده إلى من رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام ، وليس عبد الله بن بكير معصوما لا يجوز عليه هذا ، بل وقع عنه من العدول عن اعتقاد مذهب الحق إلى اعتقاد مذهب الفطحية ما هو معروف من مذهبه ، والغلط في ذلك أعظم من إسناده فيما يعتقد صحته بشبهة إلى بعض أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، وإذا كان الأمر على ما قلناه لم يعرض هذه الرواية ما قدمناه ، انتهى.

واعترضه جملة من أفاضل المتأخرين ومتأخريهم ، بأن هذا القدح العظيم في ابن بكير ينافي ما صرح به في فهرسته من توثيقه ، وما رواه الكشي من الإجماع على تصحيح ما يصح عنه ، ويوجب عدم جواز العمل بروايته مع أنهم متفقون على

__________________

(١) فقه الرضا ص ٢٤٢ قوله «سمى طلاق السنة. إلخ».

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٣٥ بعد ذكر حديث ٢٦ وفيه اختلاف يسير.

٢٨١

العمل بها ، بل ترجيحها بما تقدم من الإجماع المذكور على غيرها.

وأنت خبير بأنه لا يخفى على المعترض ـ فيما قدمناه من الروايات عن الكافي المتضمنة لمحاجة الأصحاب لعبد الله المذكور فيما تفرد به وذهب إليه ، وجوابه تارة بالأخذ برواية رفاعة ، مع أن رواية رفاعة إنما تضمنت الهدم بالزوج الثاني ، لا بمجرد استيفاء العدة كما ادعاه ، وجوابه تارة بأن هذا مما رزقه الله من الرأي ، ـ أنه لو كان لهذه الرواية التي نقلها عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام أصل يومئذ لكانت هي الأولى لاحتجاجه وإلجام ألسنة المعترضين عليه ، وحيث لم يحتج بها ولم يذكرها علم أنها مخترعة بعد ذلك ، وأنه لما رأى عدم قبول قوله وما احتج به في تلك الأخبار عدل إلى هذه الرواية لما ذكره الشيخ من الشبهة التي عرضت له.

ومنه يعلم الجواب عما اعترضوا به الشيخ من أن ذلك موجب لعدم جواز العمل برواية عبد الله المذكور ، لأن الشيخ لم يطعن عليه بأنه يعتقد المخالفة في الحكم الشرعي ، وإنما أسند إليه عروض الشبهة في ذلك وأنه بسبب عروض هذه الشبهة وتوهم أنها حق روى عن زرارة هذه الرواية.

والأقرب عندي هو حمل ما ذكره ابن بكير من هذه الأقوال وكذا رواية صحيحة زرارة على التقية وأن ابن بكير كان عالما بالحكم المذكور في كلام الأصحاب ، ولكنه عدل عن القول به وإظهار الإفتاء به تقية ، وعلى هذا يحمل صدر رواية معلى بن خنيس المتقدمة.

وبالجملة فإن شهرة الحكم بين متقدمي الأصحاب ومتأخريهم مع اعتضادها بما قدمناه من الأخبار المتكاثرة ظاهرة في أن ذلك هو مذهبهم عليهم‌السلام ، وأن القول بخلاف ذلك ضعيف.

ومن الأخبار الدالة على مذهب ابن بكير أيضا ما رواه الشيخ (١) في الصحيح

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٣٠ ح ٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٥ ب ٣ ح ١٥.

٢٨٢

عن عبد الله بن سنان قال : «إذا طلق الرجل امرأته فليطلق على طهر بغير جماع بشهود ، فإن تزوجها بعد ذلك فهي عنده على ثلاث وبطلت التطليقة الاولى ، وإن طلقها اثنتين ثم كف عنها حتى تمضي الحيضة الثالثة بانت منه بثنتين ، وهو خاطب من الخطاب ، فإن تزوجها بعد ذلك فهي عنده على ثلاث تطليقات وبطلت الاثنتان ، فإن طلقها ثلاث تطليقات على العدة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره».

وحمله الشيخ على أنه تزوجها بعد العدة وبعد أن تزوجها زوج آخر ، ولا يخفى بعده ، والأظهر حمله على ما حملنا عليه أمثاله ، على أن الرواية المذكورة مقطوعة ، وإنما هي فتوى عبد الله بن سنان فلا تقوم به حجة.

مسائل

الاولى : في طلاق الحامل لا خلاف بين الأصحاب في جواز طلاقها مرة ، وعليه تدل جملة من الأخبار مثل قول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي (١) «لا بأس بطلاق خمس على كل حال : الغائب عنها زوجها ، والتي لم تحض ، والتي لم يدخل بها ، والحبلى ، والتي يئست من المحيض».

وقول أبي جعفر عليه‌السلام في رواية إسماعيل بن جابر الجعفي (٢) «خمس يطلقن على كل حال : الحامل المتيقن حملها» الحديث ، وبهذا المضمون أخبار عديدة ، وإنما يجوز تطليق هؤلاء على كل حال ، لأنهن مأمونات من العلوق.

إنما الخلاف بين الأصحاب فيما زاد على المرة ، فقال الصدوقان في الرسالة والمقنع : وإن راجعها ـ يعني الحبلى ـ قبل أن تضع ما في بطنها ، أو يمضي لها ثلاثة أشهر ، ثم أراد طلاقها فليس له ذلك حتى تضع ما في بطنها وتطهر ثم يطلقها. وهو ظاهر في المنع من الطلاق ثانيا ما دامت حاملا ، أو يمضي ثلاثة

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٦ ص ٧٩ ح ٢ و ١، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٦ ب ٢٥ ح ٣ وص ٣٠٥ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

٢٨٣

أشهر أعم من أن يكون للعدة وغيره.

وقال الشيخ في النهاية : وإن أراد أن يطلق امرأته وهي حبلى يستبين حملها فيطلقها أي وقت شاء ، وإذا طلقها واحدة كان أملك برجعتها ما لم تضع ما في بطنها ، فإذا راجعها وأراد طلاقها للسنة لم يجز له ذلك حتى تضع ما في بطنها ، فإذا راجعها أراد طلاقها للعدة واقعها ثم طلقها بعد المواقعة ، فإذا فعل ذلك فقد بانت منه بطلقتين ، وهو أملك برجعتها ، فإن راجعها وأراد طلاقها ثالثة واقعها ، ثم يطلقها ، فإذا طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجها غيره. وتبعه ابن البراج وابن حمزة.

وذهب ابن الجنيد إلى المنع من طلاق العدة إلا بعد شهر ، ولم يتعرض لغيره قال على ما نقله في المختلف : والحبلى إذا طلقها زوجها وقع عليها الطلاق ، وله أن يرتجعها ، فإن أراد طلاقها تركها شهرا من حال جماعة في الرجعة ثم طلقها فإن ارتجعها الثانية وأراد طلاقها طلقها كذلك ، فإذا ارتجعها ثم طلقها كذلك لم تحل له حتى تنكح زوجها غيره.

وذهب ابن إدريس والمحقق وجماعة إلى جواز طلاقها مطلقا كغيرها ، وأنه يجوز طلاقها للسنة كما يجوز للعدة ، إذ لا مانع من إجماع ولا كتاب ولا سنة متواترة ، والأصل الصحة مع عموم «فإن طلقها».

أقول : والأصل في هذا الاختلاف اختلاف أخبار المسألة ، فالواجب أولا نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ثم الكلام فيها بما رزقه الله تعالى فهمه منها.

فمنها ما رواه الشيخ في التهذيب (١) عن الحلبي في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «طلاق الحامل واحدة ، وإن شاءت راجعها قبل أن تضع ، فإن وضعت قبل أن يراجعها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب».

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٧١ ح ١٥٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٠ ب ٢٠ ح ٢ وفيهما «وان شاء».

٢٨٤

وعن إسماعيل الجعفي (١) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «طلاق الحامل واحدة ، فإذا وضعت ما في بطنها فقد بانت منه». ورواه الكليني نحوه.

وما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن الكناني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «طلاق الحامل واحدة وعدتها أقرب الأجلين».

وعن أبي بصير (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الحبلى تطلق تطليقة واحدة».

وما رواه في الكافي (٤) بأسانيد عديدة فيها الصحيح عن إسماعيل الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «طلاق الحامل واحدة فإذا وضعت ما في بطنها فقد بانت منه».

وما رواه الصدوق في الفقيه (٥) عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله ، وطريقه إلى زرارة صحيح في المشيخة.

وما رواه في التهذيب (٦) عن سماعة في الموثق قال : «سألته عن طلاق الحبلى ، فقال : واحدة ، وأجلها أن تضع حملها».

وما رواه في الكافي والتهذيب (٧) عن الحلبي في الصحيح قال : «طلاق الحبلى واحدة وأجلها أن تضع حملها وهي أقرب الأجلين».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٨١ ح ٥ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٠ ح ١٥٣ وفيه «طلاق الحامل واحدة ولأجلها أن تضع حملها.» ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٠ ب ٢٠ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٨١ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٠ ح ١٥١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٠ ب ٢٠ ح ٣.

(٣ و ٤) الكافي ج ٦ ص ٨١ ح ١ و ٥، التهذيب ج ٨ ص ٧٠ ح ١٥٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨١ ب ٢٠ ح ٤ و ١.

(٥) الفقيه ج ٣ ص ٣٢٩ ح ١.

(٦) التهذيب ج ٨ ص ٧١ ح ١٥٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨١ ب ٢٠ ح ٥.

(٧) الكافي ج ٦ ص ٨٢ ح ٨ ، التهذيب ج ٨ ص ٧١ ح ١٥٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤١٩ ب ٩ ح ٦ ، وما في المصادر «وهو أقرب.».

٢٨٥

وما رواه في الفقيه والتهذيب (١) عن محمد بن منصور الصيقل عن أبيه عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يطلق امرأته وهي حبلى ، قال : يطلقها. قلت : فيراجعها؟ قال : نعم يراجعها ، قلت : فإنه بدا له بعد ما راجعها أن يطلقها ، قال : لا ، حتى تضع».

وما رواه في الكافي (٢) في الصحيح عن بريد الكناسي وهو مجهول قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن طلاق الحبلى فقال : يطلقها واحدة للعدة بالشهور والشهود ، قلت : فله أن يراجعها؟ قال : نعم وهي امرأته ، قلت : فإن راجعها ومسها ثم أراد أن يطلقها تطليقة أخرى ، قال : لا يطلقها حتى يمضي لها بعد ما مسها شهر ، قلت : فإن طلقها ثانية وأشهد على طلاقها ثم راجعها وأشهد على رجعتها ومسها ، ثم طلقها التطليقة الثالثة وأشهد على طلاقها لكل عدة شهر ، هل تبين منه كما تبين المطلقة على العدة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره؟ قال : نعم ، قلت : فما عدتها؟ قال : عدتها أن تضع ما في بطنها ، ثم قد حلت للأزواج».

وما رواه في التهذيب (٣) عن إسحاق بن عمار في الموثق قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : الحامل يطلقها زوجها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها الثالثة ، قال : تبين منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره».

وعن إسحاق بن عمار (٤) في الموثق عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأته وهي حامل ، ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها ثم طلقها الثالثة ،

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٣١ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٧١ ح ١٥٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨١ ب ٢٠ ح ٧.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٨٢ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٢ ب ٢٠ ح ١١ والصحيح «يزيد الكناسي» مع اختلاف يسير.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٧١ ح ١٥٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨١ ب ٢٠ ح ٦.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ٧٣ ح ١٦١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٢ ب ٢٠ ح ١٠.

٢٨٦

في يوم واحد ، تبين منه؟ قال : نعم».

وما رواه في التهذيب (١) عن ابن بكير عن بعضهم قال : «في الرجل تكون له المرأة الحامل وهو يريد أن يطلقها قال : يطلقها إذا أراد الطلاق بعينه يطلقها بشهادة الشهود ، فإن بدا له في يومه أو من بعد ذلك أن يراجعها يريد الرجعة بعينها فليراجع ويواقع ثم يبدو له فيطلق أيضا ثم يبدو له فيراجع كما راجع أولا ، ثم يبدو له فيطلق فهي التي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره إذا كان إذا راجع يريد المواقعة والإمساك ويواقع».

وعن إسحاق بن عمار (٢) في الموثق عن أبي الحسن الأول عليه‌السلام قال : «سألته عن الحبلى تطلق الطلاق التي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره؟ قال : نعم ، قلت : ألست قلت لي إذا جامع لم يكن له أن يطلق؟ قال : إن الطلاق لا يكون إلا على طهر قد بان ، أو حمل قد بان ، وهذه قد بان حملها».

أقول : لما توهم السائل عدم جواز الطلاق بعد الجماع قبل الاستبراء أجابه عليه‌السلام بأن هذا في غير الحامل المستبين حملها لتكاثر الأخبار كما عرفت بأنها من اللواتي يطلقن على كل حال.

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٣) : «وأما طلاق الحامل فهو واحد ، وأجلها أن تضع ما في بطنها ، وهو أقرب الأجلين ، فإذا وضعت أو سقطت يوم طلقها أو بعده متى كان فقد بانت منه وحلت للأزواج ، فإن مضى لها ثلاثة أشهر من قبل أن تضع فقد بانت منه ، وتحل للأزواج حتى تضع ، فإن راجعها من قبل أن تضع ما في بطنها أو يمضي لها ثلاثة أشهر ثم أراد طلاقها فليس له ذلك حتى تضع ما في بطنها وتطهر ثم يطلقها».

هذا ما حضرني من الأخبار في المقام ، والشيخ قد حمل الأخبار الأولة الدالة

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٨ ص ٧٢ ح ١٦٠ وص ٧١ ح ١٥٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٨٢ ب ٢٠ ح ٩ و ٨ مع اختلاف يسير في الحديثين الأخيرين.

(٣) فقه الرضا ص ٢٤٤ مع اختلاف يسير.

٢٨٧

بظاهرها على انحصار طلاق الحامل في الواحدة على طلاق السنة جمعا بين الأخبار المذكورة وما قابلها ، وهو جيد كما يظهر لك إن شاء الله تعالى.

والسيد السند في شرح النافع لما كان مطمح نظره متعلقا بالأسانيد ، فهو يدور مدار الأسانيد الصحيحة ، رجح العمل بالأخبار الدالة على انحصار طلاقها في الواحدة لكثرة الأخبار الصحاح فيها ، فقال بعد البحث في المسألة : والذي يقتضيه الوقوف مع الأخبار الصحيحة المستفيضة الحكم بأن طلاق الحامل واحد ، لكن المصنف في الشرائع ادعى الإجماع على جواز طلاق الحامل ثانيا للعدة ، ثم نقل الخلاف في طلاقها للسنة ، ونقل عنه أنه قال في بعض تحقيقاته : الوجه الاعراض عن أخبار الآحاد والالتفات إلى ما دل عليه القرآن من جواز طلاقها مطلقا ، ويشكل بأن الأخبار المتضمنة ـ لأن (١) طلاق الحامل واحدة ـ مستفيضة كما عرفت وأسانيدها معتبرة ، وليس لها ما يصلح للمعارضة ، فإطراحها مشكل ، انتهى وهو جيد.

بناء على هذا الاصطلاح المحدث الذي هو عليه فإن الأخبار في هذه المسألة ظاهرة التعارض لدلالة ظاهر أخبار الواحدة على انحصار طلاق الحامل فيها ، وإنها لا تطلق إلا واحدة ، فلو راجعها قبل خروج العدة فليس له أن يطلقها إلا بعد وضع الحمل كما دلت عليه رواية الصيقل وكلام الرضا عليه‌السلام في كتاب فقه الرضوي ودلالة الأخبار الباقية على أنها تطلق ثانية وثالثة وهي حامل بعد المراجعة والمواقعة أو مع عدمها ، ومن قاعدة أرباب هذا الاصطلاح أنهم لا يجمعون بين الأخبار إلا بعد التكافي في الأسانيد ، وأخبار الزيادة على واحدة قاصرة عن المعارضة لضعف أسانيدها ، فيتعين العمل بأخبار الواحدة.

هذا حاصل كلامه ـ رحمه‌الله ـ وهذا هو مذهب الصدوقين ، فإن ما نقله الأصحاب عنهما مما قدمنا ذكره في صدر المسألة لم ينقل على وجهه ، ورسالة الشيخ علي بن الحسين بن بابويه ، وإن كانت لا تحضرني الآن لكن المقنع عندي

__________________

(١) والصحيح «بأن» كما يظهر من سياق العبارة.

٢٨٨

موجود ، والذي فيه عين ما ذكر الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي ، وإن فرق بعض ألفاظه عن بعض إلا أن المرجع إلى أمر واحد ، وهذه صورة ما فيه :

واعلم أن أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ، وهو أقرب الأجلين ، وإذا وضعت أو أسقطت يوم طلقها أو بعده متى كان فقد بانت منه فلا تحل للأزواج حتى تضع ، فإن راجعها قبل أن تضع ما في بطنها أو يمضي لها ثلاثة أشهر ثم أراد طلاقها فليس له حتى تضع ما في بطنها ثم تطهر ويطلقها ، وسئل الصادق عليه‌السلام عن المرأة الحامل يطلقها زوجها ثم يراجعها ثم يطلقها الثالثة ، فقال : قد بانت منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وطلاق الحامل واحدة وعدتها أقرب الأجلين ، انتهى.

وأنت خبير بأن المفهوم منه هو ما نقلناه عن كتاب الفقه ، فإنه أفتى فيه بكون طلاق الحامل واحدة وعدتها أقرب الأجلين ، وهو وضع الحمل كما هو مذهبه في المسألة ، وأفتى بناء على ذلك بأنه لو راجعها قبل مضي العدة وهي ثلاثة أشهر أو وضع الحمل فإنه ليس طلاقها إلا بعد وضع الحمل ، وهو ظاهر بل صريح في أنه لا يجوز له طلاقها ثانيا ما دامت حاملا ، ثم نقل عن الصادق عليه‌السلام مضمون ما دلت عليه موثقتا عمار المتقدمتان من جواز الزيادة على طلقة واحدة ، وفي نسبة ذلك إلى الرواية مع إفتائه بخلافه ما يدل على اختلاف الرواية يومئذ عندهم ، ولكن الراجح عنده ما أفتى به اعتمادا على الكتاب الذي أفتى بعبارته ، ومثله كثير قد قدمنا التنبيه عليه ، سيما في كتب العبادات من اعتماد الصدوقين على الكتاب المذكور والإفتاء بعبائره في مقابلة الأخبار الصحيحة الصريحة المتكاثرة الدالة على خلاف ذلك.

ومما شرحناه يظهر لك أن مستند الصدوقين فيما ذهبا إليه إنما هو كتاب الفقه الرضوي كما عرفته في غير موضع مما تقدم من الكتب السابقة ، وأن مذهب الصدوقين هو ما يظهر من السيد السند التعويل عليه ، وليته كان حيا فأهديه إليه.

٢٨٩

نعم يبقى الإشكال في الروايات الأخر وما دلت عليه من جواز التعدد ، والشيخ قد جمع بين أخبار المسألة كملا بحمل ما دل على أن طلاق الحامل واحدة ولا يجوز ما زاد عليها على طلاق السنة بالمعنى الأخص ، وحمل الأخبار الدالة على جواز الزيادة على واحدة على طلاق العدة.

واعترضه الشهيد الثاني (أولا) بأن محل الخلاف إنما هو الطلاق الثاني لا الأول للاتفاق على صحة الأول كما تقدم ، واستفاضة الأخبار به سنيا كان أو عديا ، والطلاق السني بالمعني الأخص لا يقع ثانيا بالنسبة إلى الحامل لأنها بعد الطلاق الأول للسنة ـ الذي شرطه الخروج من العدة ـ لا يجوز العقد عليها إلا بعد وضع الحمل ، وحينئذ لا يكون حاملا ، فلو طلقها والحال هذه لم يدخل في محل البحث.

نعم الطلاق الأول يصدق عليه أنه للسنة متى تركها حتى وضعت حملها ، لكنه ليس محل خلاف ، إنما محله الطلاق الثاني كما عرفت ، وهو لا يتم في الحامل بالكلية.

و (ثانيا) بأن تخصيصه الجواز بالعدي ، فيه أن الأخبار قد دلت على جواز التعدد ، وإن لم يكن عديا كموثقتي إسحاق بن عمار الأولتين من موثقاته الثلاث المتقدمة ، فإن ظاهرهما المراجعة من غير مواقعة ، وهو ليس بعدي ولا سني بالمعني الأخص ، نعم هو سني بالمعنى الأعم.

أقول : يمكن الجواب عما ذكره ـ رحمه‌الله ـ أما عن (الأول) فبأنه وإن كان محل الخلاف إنما هو الطلاق الثاني للحامل كما ذكر ـ رحمه‌الله ـ إلا أن الشيخ لم يلحظ ذلك ، لأن مطمح نظره إلى الجمع بين أخبار المسألة ، وجملة منها قد صرحت بالانحصار في الطلقة الواحدة ، فلا يجوز طلاقها ثانيا ، وجملة منها صرحت بالزيادة على الواحدة ، والشيخ حمل الواحدة في هذه الأخبار وهي التي لم يقع قبلها طلقة على طلاق السنة ، بمعنى أنه إذا أراد أن يطلق الحامل

٢٩٠

طلاق السنة طلقها طلقة واحدة ، وتركها حتى تضع حملها ، ولا يجوز أن يراجعها ويطلقها قبل الوضع طلاقا سنيا ، لأنه مشروط بالخروج من العدة التي هي هنا وضع الحمل ، فطلاق السنة طلاقا ثانيا لا يكون للحامل بالكلية ، فإنها بعد وضع الحمل لو طلقت لم يكن طلاق حامل فيخرج عن محل البحث.

وأما عن (الثاني) فبأن يقال : إنه لا ريب أن أخبار الزيادة على واحدة منها ما هو صريح في طلاق العدة كرواية بريد الكناسي (١) ، وإن اشتملت على الشهر هنا زيادة على ما شرط في طلاق العدة في غير هذا الموضع ، ورواية ابن بكير عن بعضهم.

ومنها ما هو مطلق كموثقتي إسحاق بن عمار الأولتين من الثلاث المتقدمات وطريق الجمع بينها تقييد إطلاق هاتين الروايتين بما دلت عليه الروايتان الأخريان ، والظاهر أن هذا هو الذي قصده الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وإلى ما ذكرناه يشير كلام العلامة في المختلف ، حيث قال بعد البحث في المسألة ما لفظه :

والتحقيق في هذا الباب أن يقول : طلاق العدة والسنة واحد وإنما يصير للسنة بترك المراجعة وترك المواقعة ، وللعدة بالرجعة في العدة والمواقعة ، فإن طلقها لم يظهر أنه للسنة أو للعدة إلا بعد وضع الحمل ، لأنه إن راجع قبله كان طلاق العدة ، وإن تركها حتى تضع كان طلاق السنة ، فإن قصد الشيخ ذلك فهو حق ، وتحمل الأخبار عليه ، انتهى.

أقول : لا ريب أن هذا هو الذي قصده الشيخ ـ رحمه‌الله ـ وإن خرج فيه عن محل البحث ، حيث إن مراده الجمع بين أخبار المسألة وكلام العلامة كما ترى إنما هو بالنسبة إلى الطلاق الأول فهو الذي حمل عليه كلام الشيخ ، وبذلك يعلم اندفاع ما أورده شيخنا المتقدم ذكره على الشيخ ـ رحمة الله عليه.

__________________

(١) والصحيح كما سبق ذكره «يزيد الكناسي».

٢٩١

نعم يبقى الكلام فيما دلت عليه رواية بريد من اعتبار الشهر في طلاق العدة هنا ، والواجب تقييد ما أطلق من الأخبار بها إذ لا معارض لها ـ مع قوة سندها ، فإن رواتها غير الراوي المذكور من الثقات الإمامية ـ إلا إطلاق الأخبار المذكورة ، وهي قابلة للتقييد بها ، وحينئذ فمتى راجع وواقع لم يجز له الطلاق إلا بعد مضي شهر من يوم المواقعة ، ويحتمل بالنسبة إلى موثقتي إسحاق بن عمار العمل بظاهرهما من جواز الطلاق ثانيا بعد المراجعة من غير مواقعة ، وإن لم يكن عديا ولا سنيا بالمعنى الأخص بل بالمعنى الأعم ، ولعله أظهر ، وقد تلخص مما ذكرنا أنه متى أراد الطلاق للسنة وليس له أن يطلقها إلا طلقة واحدة ويتركها حتى تضع حملها وإن أراد الطلاق للعدة ، فإن رجع وواقع فليس له الطلاق ثانيا إلا بعد مضي الشهر ، فإن لم يواقع بناء على ما ذكرنا من الاحتمال فله أن يطلقها متى شاء ، وحينئذ فيثبت للحامل طلاق السنة بالمعنى الأخص وطلاق العدة خاصة بناء على كلام الشيخ ومن تبعه ، وطلاق السنة بالمعنى الأعم بناء على ما ذكرناه من الاحتمال عملا بإطلاق الموثقتين المذكورتين.

ومن ذلك يعلم أنه متى كان محل الخلاف هو الطلاق الثاني ـ كما هو ظاهر كلام الأصحاب وبه صرح في المسالك وغيره ـ في غيره ـ فإنه لا يجري ذلك في طلاق السنة لما عرفت آنفا ، وإنما تطلق للعدة خاصة بقاء على كلام الشيخ ، وللسنة بالمعنى الأعم على ما ذكرناه من الاحتمال ، فما ذكره ابن إدريس ومن تبعه من المتأخرين ـ ومنهم شيخنا في المسالك من جواز تطليقها مطلقا كغيرها ـ لا أعرف له وجها.

قال في المسالك بعد البحث في المسألة ما صورته : والحق الاعراض عن هذه التكلفات التي لم يدل عليها دليل ، والرجوع إلى حكم الأصل من جواز طلاق الحامل كغيرها مطلقا ، بشرائطه وعدم الالتفات إلى هذه الأخبار الضعيفة الاسناد المتناقضة الدلالة ، وما فيها من الصحيح ليس فيه ما ينافي الجواز وحمل أخبار النهي

٢٩٢

عن الزائد على الكراهة ، وجعله قبل شهر آكد ، من غير أن يفرق بين كون الواقع طلاق عدة أو سنة بمعنييه ، وقد ظهر بذلك أن القول بجواز طلاقها مطلقا هو الأقوى. واعلم أنه قد ظهر أن القول بجواز طلاقها ثانيا للعدة وفاقي في الجملة لأن المتأخرين جوزوه مطلقا ، والشيخ خص الجواز به ، وابن الجنيد قيده بعد شهر ، وابنا بابويه أطلقا جوازه بعد ثلاثة أشهر ، وبذلك ظهر صحة ما ادعاه المصنف من جوازه إجماعا ، وإن كان بعضهم يشترط في صحته شرطا زائدا ، لأن ذلك لا ينافي الحكم بجوازه في الجملة. إلى آخر كلامه ـ رحمه‌الله.

وفيه نظر ، أما (أولا) فإنه مع تسليم الاعراض عن الروايات الضعيفة باصطلاحهم فإنه لا يتم ما ذكره من الجواز مطلقا ، قوله «وما فيها من الصحيح ليس فيه ما ينافي الجواز ممنوع ، لما عرفت من أن ظاهرها انحصار صحة طلاق الحامل في الواحدة ، فلا يجوز غيرها ، وهو ظاهر كلام سبطه في شرح النافع كما قدمناه ، ويؤيده تصريح رواية الصيقل وكلام الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه ، وكذا عبارة المقنع بأنه ليس له أن يطلق بعد المراجعة حتى تضع.

وأما (ثانيا) فما ادعاه من جواز طلاقها للسنة بالمعنى الأخص فإنه غير مستقيم كما شرحناه آنفا ، وبذلك اعترف أيضا فيما تقدم من كلامه ، حيث قال في الاعتراض على عبارة الشيخ في النهاية : والسني بالمعنى الأخص لا يتحقق في الحامل ، لأنه لا يصير كذلك إلا بعد الوضع والعقد عليها ثانيا ، وحينئذ فلا يكون حاملا ، والكلام في الطلاق الواقع بالحامل. انتهى ، فكيف يدعي هنا جوازه ، ما هذا إلا عجب عجيب من هذا النحرير ، وسهو ظاهر في هذا التحرير.

وأما (ثالثا) فإن ما ادعاه في تشييد دعوى الوفاق على جواز الطلاق العدي ثانيا من أن الصدوقين أطلقا جوازه بعد ثلاثة أشهر ، أشد عجبا مما تقدم ، فإن عبارتهما المنقولة في كلامهم كما قدمنا ذكرها في صدر المسألة صريحة في أن ذكر الثلاثة أشهر إنما هو لصحة الرجعة لا للطلاق ، وهذه صورتها : وإن راجعها

٢٩٣

قبل أن تضع ما في بطنها أو يمضي لها ثلاثة أشهر ثم أراد طلاقها فليس له ذلك حتى تضع ما في بطنها وتطهر ثم يطلقها. وهي صريحة في أن الطلاق ثانيا لا يجوز إلا بعد الوضع والطهارة من النفاس ، والثلاثة الأشهر إنما هي بالنسبة إلى صحة الرجوع ، وذلك لأن الحامل تبين بأقرب الأجلين ، أما الثلاثة الأشهر أو الوضع.

والغرض بيان أن الرجعة وقعت في العدة قبل مضي واحد من الأمرين المذكورين فتكون الرجعة صحيحة ، أما لو أراد الطلاق ثانيا بعد هذه الرجعة فإنه لا يجوز له إلا بعد أن تضع ، ويؤكده ما شرحناه سابقا من بيان مذهب الصدوقين في هذه المسألة. فانظر إلى ما في هذا الكلام من الخلل الظاهر لذوي الأفهام ، والغرض من التنبيه على ما في أمثال هذا المقال من السهو الواضح الناشئ من الاستعجال هو وجوب التأمل وتحقيق الحال ، وعدم الركون إلى من قال ، وإن كان من مجلي حلبة الرهان في ذلك المجال ، وفي المشهور «اعرف الرجال بالحق ، ولا تعرف الحق بالرجال» وبالجملة فالظاهر عندي هو العمل بجملة الأخبار المذكورة ، والجمع بينها ما قدمنا ذكره.

المسألة الثانية : لا خلاف بين الأصحاب في أنه إذا طلق الحامل المدخول بها ثم راجعها وواقعها كما هو طلاق العدة المتقدم فإنه يجوز أن يطلقها ثانيا ، إنما الخلاف فيما إذا طلقها بعد المراجعة الخالية من المواقعة ، سواء كان في طهر الطلاق الأول أو الطهر الذي بعده ، والمشهور بين الأصحاب صحة الطلاق.

ونقل عن ابن أبي عقيل أنه خالف في ذلك وحكم بعدم وقوع الطلاق على هذا الوجه ، سواء كان في طهر الطلاق الأول أو الطهر الذي بعده ، وهذه صورة عبارته على ما نقله عنه غير واحد منهم العلامة في المختلف وغيره.

قال ـ رحمه‌الله ـ : لو طلقها من غير جماع قبل تيسر المواقعة بعد الرجعة لم يجز ذلك ، لأنه طلقها من غيره أن ينقضي الطهر الأول ، ولا ينقضي الطهر الأول

٢٩٤

إلا بتدليس المواقعة بعد المراجعة ، فإذا جاز أن يطلق التطليقة الثانية بلا طهر جاز أن يطلق كل تطليقة بلا طهر ، ولو جاز ذلك لما وضع الله الطهر ، انتهى.

واعترضه شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد نقل عبارته بما هذا لفظه : وإنما ذكرنا عبارته لاشتمالها على الاستدلال على حكمه ، وبه يظهر ضعف قوله مع شذوذه ، فإنا لا نسلم أن الطهر لا ينقضي بدون المواقعة ، للقطع بأن تخلل الحيض بين الطهرين يوجب انقضاء الطهر السابق ، سواء واقع فيه أم لا.

ثم لا نسلم اشتراط انقضاء الطهر في صحة الطلاق مطلقا. وإنما الشرط انقضاء الطهر الذي واقعها فيه ، وهو منتف هنا لأن الطلاق الأول وقع بعده في طهر آخر ، لأنه الغرض فلا يشترط أمر آخر ، انتهى.

أقول : وتحقيق المقام على وجه لا يعتريه النقض والإبرام بما لم يسبق إليه سابق من علمائنا الأعلام ـ رفع الله تعالى أقدارهم في دار السلام ـ قد سبق لي في بعض أجوبة مسائل بعض الطلبة الكرام ، وهو يتوقف على نقل ما ورد من الأخبار في هذا المجال ، ليتضح بذلك حقيقة الحال ، ويظهر ما في كلام جملة من الأصحاب من الاختلال ، فنقول :

من الأخبار الدالة على ما هو المشهور موثقة إسحاق بن عمار (١) عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل طلق امرأته ثم راجعها بشهود ، ثم طلقها ثم بدا له فيراجعها بشهود ، تبين منه؟ قال : نعم ، قلت : كل ذلك في طهر واحد ، قال : تبين منه».

وهي كما ترى صريحة في أن مجرد الرجعة كاف في صحة الطلاق ثانيا وإن كان في طهر الطلاق الأول.

وصحيحة عبد الحميد بن عواض ومحمد بن مسلم (٢) «قالا : سألنا أبا عبد الله

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٩٢ ح ٢٣٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٩ ب ١٩ ح ٥ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٤٥ ح ٥٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٨ ب ١٩ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

٢٩٥

عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته وأشهد على الرجعة ولم يجامع ، ثم طلق في طهر آخر على السنة أتثبت التطليقة الثانية من غير جماع؟ قال : نعم ، إذا هو أشهد على الرجعة ولم يجامع كانت التطليقة ثانية». وهي صريحة أيضا في المدعى ، والطلاق الثاني هنا وقع في طهر آخر غير طهر الطلاق الأول.

وصحيحة البزنطي (١) قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته بشاهدين ، ثم راجعها ولم يجامعها بعد الرجعة حتى طهرت من حيضها ، ثم طلقها على طهرت بشاهدين ، أتقع عليها التطليقة الثانية وقد راجعها ولم يجامعها؟ قال : نعم».

وحسنة أبي علي بن راشد (٢) قال : «سألته مشافهة عن رجل طلق امرأته بشاهدين على طهر ، ثم سافر وأشهد على رجعتها ، فلما قدم طلقها من غير جماع ، أيجوز ذلك له؟ قال : نعم ، قد جاز طلاقها». وهما صريحتان أيضا في المدعى.

واستدل جملة من الأصحاب على ذلك أيضا بما ورد من الأخبار دالا على تحقق الرجعة مع عدم الجماع كصحيحة عبد الحميد الطائي (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قلت له : الرجعة بغير جماع تكون رجعة؟ قال : نعم».

وظني أن هذا الاستدلال ليس في محله ، فإنه لا يفهم من كلام ابن أبي عقيل منع حصول الرجعة إلا بالجماع معها ، بل ظاهر عبارته أن مراده إنما هو كون الجماع شرط في صحة الطلاق الواقع بعد الرجعة ، فالرجعة تقع وإن لم يكن ثمة جماع ، ولكن لو طلقها والحال هذه لم تحسب له إلا بالتطليقة الأولى دون هذه.

والذي يدل على ما ذهب إليه ابن أبي عقيل صحيحة عبد الرحمن بن

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٨ ص ٤٥ ح ٥٩ و ٦٠، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٩ ب ١٩ ح ٢ و ٤.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٤٤ ح ٥٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٨ ب ١٨ ح ١.

٢٩٦

الحجاج (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام في الرجل يطلق امرأته ، له أن يراجع؟ قال : لا يطلقن التطليقة الأخرى حتى يمسها».

ورواية المعلى بن خنيس (٢) عن أبي عبد الله «في الرجل يطلق امرأته تطليقة ، ثم يطلقها الثانية قبل أن يراجع ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا يقع الطلاق الثاني حتى يراجع ويجامع».

وموثقة إسحاق بن عمار (٣) عن أبي إبراهيم عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل يطلق امرأته في طهر من غير جماع ، ثم راجعها من يومه ذلك ثم يطلقها ، أتبين منه بثلاث طلقات في طهر واحد؟ فقال : خالف السنة ، قلت : فليس ينبغي له إذا هو راجعها أن يطلقها إلا في طهر آخر؟ قال : نعم ، قلت : حتى يجامع؟ قال : نعم».

هذه الروايات الثلاث صريحة فيما ذهب إليه ابن أبي عقيل ، مع أنه لم ينقلها ، وإنما نقلها الأصحاب له في كتب الاستدلال ، واستدل له في المختلف وتبعه عليه جملة من المتأخرين عنه برواية أبي بصير (٤) عن أبي عبد الله قال : «المراجعة هي الجماع وإلا فإنما هي واحدة».

وفي هذا الاستدلال ما عرفت آنفا ، والظاهر أنهم فهموا من منع ابن أبي عقيل من الطلاق ثانيا بعد الرجعة بدون جماع أن الوجه فيه عدم حصول الرجعة بالكلية ، فيصير الطلاق لاغيا. وأنت خبير بأنه لا دلالة في كلامه على ذلك إذ أقصى ما يدل عليه عدم صحة ذلك الطلاق الأخير خاصة ، وأما أن العلة فيه عدم

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٤٤ ح ٥٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٦ ب ١٧ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٤٦ ح ٦٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٧ ب ١٧ ح ٥ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٧ ب ١٧ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ٤٤ ح ٥٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧٦ ب ١٧ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

٢٩٧

حصول الرجعة ، فلا دلالة فيه عليه.

ويدل على هذا القول أيضا صحيحة زرارة (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنه قال : كل طلاق لا يكون على السنة أو على العدة فليس بشي‌ء». ثم فسر عليه‌السلام طلاق السنة وطلاق العدة بما تقدم ذكره في سابق هذه المسألة ، والتقريب فيها أنه من الظاهر أن الطلاق بعد المراجعة بدون المواقعة غير داخل في شي‌ء من ذينك الفردين فيثبت بموجب الخبر أنه ليس بشي‌ء.

وأجاب السيد السند في شرح النافع بأن قوله «ليس بشي‌ء» يعتد به في الأدلة كما في هذين النوعين ، وفيه من البعد ما لا يخفى.

ويدل على هذا القول أيضا بأوضح دلالة وأفصح مقالة وإن لم ينبه عليه أحد من علمائنا الأعلام صحيحة أبي بصير (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن طلاق السنة ، قال : طلاق السنة إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته يدعها إن كان دخل بها حتى تحيض ثم تطهر ، فإذا طهرت طلقها واحدة بشهادة شاهدين ، ثم تركها حتى تعتد ثلاثة قروء ، فإذا مضت ثلاثة قروء فقد بانت منه بواحدة وكان زوجها خاطبا من الخطاب ـ إلى أن قال : ـ وأما طلاق الرجعة ، فإن يدعها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلقها بشهادة شاهدين ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم ينتظر بها الطهر ، فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على تطليقة أخرى ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم ينتظر بها الطهر فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على التطليقة الثالثة ، فإن طلقها واحدة على طهر بشهود ثم انتظر بها حتى تحيض وتطهر ثم طلقها قبل أن يراجعها لم يكن طلاقه الثانية طلاقا لأنه طلق

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٥ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٦ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٤ ب ١ صدر ح ١ ، وما في المصادر اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٦ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٧ ح ٤٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٥ ب ١ ح ٣ وص ٣٤٩ ب ٢ ح ٢ وما في المصادر اختلاف يسير.

٢٩٨

طالقا ، لأنه إذا كانت المرأة مطلقة من زوجها كانت خارجة عن ملكه حتى يراجعها ، فإذا راجعها صارت في ملكه ما لم تطلق التطليقة الثالثة ، فإذا طلقها التطليقة الثالثة فقد خرج ملك الرجعة من يده ، فإن طلقها على طهر ثم راجعها فانتظر بها الطهر من غير مواقعة فحاضت وطهرت ، ثم طلقها قبل أن يدنسها بمواقعة بعد الرجعة لم يكن طلاقه لها طلاقا لأنه طلقها التطليقة الثانية في طهر الاولى ، ولا ينقض الطهر إلا مواقعة بعد الرجعة ، وكذلك لا تكون التطليقة الثالثة إلا بمراجعة ومواقعة بعد المراجعة ، ثم حيض وطهر بعد الحيض ، ثم طلاق بشهود حتى يكون لكل تطليقة طهر من تدنيس المواقعة بشهود».

أقول : ويقرب بالبال العليل والفكر الكليل أن هذا الخبر هو معتمد ابن أبي عقيل فيما ذهب إليه ، وإن دلت تلك الأخبار الأخر أيضا عليه ، حيث إن كلامه في التحقيق راجع إلى نقل هذا الخبر بالمعنى في بعض ، وبألفاظه في آخر وحاصل معنى الخبر المذكور أنه لو طلق ثم راجع من غير مواقعة ثم طلقها في طهر آخر لم يكن ذلك طلاقا ، لأنه وقع في طهر الطلقة الاولى ، وقوله «ولا ينقض الطهر. إلخ» في مقام التعليل لذلك ، بمعنى أن الطهر الآخر الذي تصير به الطلقة الواقعة فيه ثانية وتكون صحيحة هو ما وقع بعد الرجعة المشتملة على المواقعة ، ثم الحيض بعدها والطهر منه.

ثم ذكر عليه‌السلام أنه لا تكون التطليقة الثالثة ولا تصح إلا بمراجعة قبلها ومواقعة. إلخ ، والطهر المعتبر في كلامه عليه‌السلام هو الطهر من تدنيس المواقعة الذي هو الجماع ، فكأنه أراد به الطهر من الجنابة ، فإنه ما لم يواقعها مرة أخرى فهي على ذلك الطهر ، ولا يزول ذلك الطهر إلا بمواقعة أخرى ، وهو خلاف ما هو المعروف بين الأصحاب في هذا الباب من كون الطهر عن النقاء من الحيض على الوجوه المقررة ثمة.

ولهذا اعترض شيخنا الشهيد الثاني فيما قدمنا من كلامه على عبارة ابن

٢٩٩

أبي عقيل التي هي كما عرفت إنما أخذت من هذا الخبر ، ولم يدر كلام ابن أبي عقيل إنما هو مأخوذ من هو الخبر ، فإن الإشكال الذي في عبارته إنما نشأ من هنا ، وإن الاعتراض على كلام ابن أبي عقيل اعتراض على هذا الخبر ، فإن الطهر بالمعنى المذكور في كلام ابن أبي عقيل كما هو في هذا الخبر ليس هو المعروف بينهم. (١) وعلى هذا يتم ما ذكره ابن أبي عقيل في عبارته من قوله «وإذا جاز أن يطلق التطليقة الثانية. إلخ».

ويندفع عنه ما أورده عليه شيخنا الشهيد الثاني أيضا هنا ، لأنه إذ فسر الطهر في عبارته بالمعنى المذكور في الخبر فالاعتراض عليه اعتراض على الخبر المذكور ، ولا أراك ترتاب بعد التأمل في مضمون الخبر في صحة ما ذكرناه من كون عبارة ابن أبي عقيل مأخوذة من هذا الخبر وملخصة منه ، ولا تشك بعد معلومية ما شرحناه من معنى الخبر وكلام ابن أبي عقيل في صحة ما قدمنا ذكره من أن ابن أبي عقيل لم يذهب الى اشتراط المواقعة في صحة الرجعة كما توهموه حسبما ينادي به هذا الخبر الذي منه أخذت عبارته ، فإنه عليه‌السلام صرح بأنه لو طلق قبل المراجعة لم يكن طلاقه الثاني طلاقا ، لأنه طلق طالقا ، وعلله بأن المطلقة تخرج عن ملك الزوج ولا تدخل في ملكه إلا بالرجعة ، ثم صرح عليه‌السلام بأنه إذا طلقها ثم راجعها من غير مواقعة ثم طلقها لم يكن طلاقه ذلك طلاقا ، وعلله من حيث وقوع الطلاق في طهر الطلقة الاولى ، مع أن شرط صحة تعدد الطلاق تعدد الأطهار ، وحينئذ فلو كانت الرجعة التي حصلت منه بعد الطلاق من غير جماع غير صحيحة كما يدعونه ـ من أن المرأة باقية على مقتضى الطلاق الأول ـ

__________________

(١) وهو ما كان مشتملا على المواقعة بعد الرجعة ، وحينئذ فلو طلق بعد مراجعات عديدة من غير مواقعة في شي‌ء منها وطلق بعد كل مراجعة وان كان الطلاق بعد النقاء من الحيض فإنها كلها تكون في طهر واحد ، فلو اعتبر هذه الطلقات وصحت لم يكن لاعتبار الشارع الطهر ووضعه مزيد فائدة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٣٠٠